المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سوبر ستار الشعر العربي!



غالب ياسين
04/05/2007, 09:22 AM
ولا تلقوا الصخور علي قبري
ألم يكف همّا في الحياة حملته
فأحمله بعد الموت صخرا علي صخر؟
تلك، كما يروي، من أواخر كلمات أحمد شوقي بعد أن شعر ان الموت الذي اختطف منافسيه وأحبته صار يحوم حوله كذئب جريح، فذهب، وهو الذي كان يخشي الموت والسفر والمرض، الي ملاقاته في الاسكندرية، متسلحا بقصيدة أخيرة أشبه ما تكون بوصية، أو بكلمات علي شاهدة ضريح.
لم يكن أحمد شوقي، أمير شعراء عصره الملكي، يفكر، أغلب الظن، عندما كتب كلماته تلك إلاَّ بثقل التراب والحجارة التي ستلقي علي جثته (مع أن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها) غبَّ مواراته باطن الارض.
أقول إنه لم يكن يفكر، ربما، إلاّ بثقل اللحد الذي يختم به، عادة، الجسد العائد الي منبته الاول، لكن شوقي كان يتنبأ، من حيث لا يدري، بصخور أخري أشد قسوة سترمي علي قبره، بل علي بيته الرمزي: الشعر.
بعد ثمانين عاما علي مبايعة أحمد شوقي إمارة الشعر العربي في حفل تتويج أقيم في القاهرة، شارك فيه شعراء عصره المصريون والعرب، تبتذل فكرة إمارة الشعر (البطريركية بحد ذاتها) علي يد أسوأ تجليات البترودولار العربي وجشع شركات الانتاج التلفزيوني، التي تبتز اموال الناس (الغلابي) من خلال مسابقات تلفزيونية تتناسل في الأثير العربي كالنبت الشيطاني.
لم يكف (هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث)التي ارتكبت، بكل فخر، برنامج شاعر المليون ، الذي حرك جمار النزاعات القبلية المتأصلة في شبه الجزيرة العربية، تلك الفضيحة التي كشفت عن عمق الخواء الثقافي للمشرفين عليها وغيبوبتهم الكاملة حيال مسيرة الحداثة العربية التي شقت طريقها، بآلام وكآبات واعتقالات آلاف المثقفين العرب، حتي تطالعنا اليوم بفضيحة اخري تسمي: أمير الشعراء.
في البدء كان شاعر المليون النبطي.
وهذا اختيار أقرب الي حقيقة ثقافة النخب العائلية الحاكمة في بلدان الخليج العربي، اقرب الي تسلياتها في دواوينها العابقة برائحة القهوة والتمر والمضاربات في البورصة.
الآن جاء دور شاعر المليون الفصيح. وهذه محاولة للقول ان القوم لا يصدرون من جهل، أو تنكر لـ (ديوان العرب) ولغتهم التي تحتضر، اليوم، علي يد ابنائها، وها هم يخصونها بمسابقة مليونية اخري.
كان يمكن للهيئة التي تتعامل مع الثقافة علي طريقة مسابقات الترفيه وبرامج تلفزيون الواقع، في نسختها العربية الرديئة، ان تكتفي بغزوتها النبطية المظفرة، رغم انها تتنكر (ان لم أقل تحتقر) مساعي عشرات المثقفين الخليجيين في تحديث الشعر والفن التشكيلي والقص والمسرح، ولكن هيئة ابوظبي للثقافة تأبي، بهمة مستشاريها عديمي الخيال، إلا ان تصل الفضيحة بالفضيحة، والضحالة بضحالة أنكي.
قد لا تكون مسابقة شاعر المليون النبطي تركت أثرا يتعدي محيط شبه الجزيرة العربية. فذلك شأن (خليجي) هم احرار فيه رغم انه، كما اسلفت، لا يعكس، ابدا، شعر تلك البلاد الحقيقي ولا علاقة له، البتة، بشعرائها الحقيقيين الذين ضحوا بالتلقي السهل من اجل قصيدة عربية حديثة تعكس انتماءهم الي فضاءات اوسع من القيم القبلية البائدة والمجال الاجتماعي شبه المغلق. لذلك لم تنل مسابقة شاعر المليون النبطي، في بقية العالم العربي، ما نالته من متابعة واهتمام في عقر دار (الشعر النبطي)، لكني اشك ان أمر مسابقة أمير شعراء الفصحي سيظل حبيس أبراج ابوظبي وما جاورها من بلدان.
فهذا أمر، لو يعلمون، جلل.
انهم، بذلك، يضعون اصابعهم في عش الدبابير.
لم يحظ فن تعبيري، في العالم العربي، بصراعات وسجالات طاحنة، كما حظي الشعر. لا تزال تسمع في اربعة ارجاء الدنيا العربية اصداء معارك قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وقبلها معركة الشعر التقليدي مع الشعر الحر، التي حسمت، بسرعة، لصالح قصيدة تشبه الحياة والزمن اللذين تكتب فيهما.
افتحوا أي صحيفة، أي مجلة، أي موقع علي شبكة الانترنت، ستسمعون الرجع المدوي لتلك المعارك التي لم يبق كبير أو صغير، ممن رفعوا راية الشعر فوق أي راية لم يخض فيها. معارك طاحنة انخرطت فيها مئات الاسماء: من منتصف القرن الماضي في بغداد الي مؤتمر الشعر العربي في القاهرة قبل اسابيع.
الشعر العربي أسال حبرا أكثر، ربما، مما أسالته فلسطين، وانقسم الخائضون في شأنه شيعا ومللا، بقدر لا يقل عما فعلته قضية العرب الكبري.
هذه ليست تسلية. ليست سوبر ستار الاغنية. في الغناء والموسيقي والرقص وكرة القدم، قد تكون المسابقة عاملا لاكتشاف مواهب لم تقيض لها ظروف الانتاج ومنابر الاعلام في بلادها الظهور. لا احد احتج علي برنامج (سوبر ستار) الا من زاوية تغليب رأي الجمهور وانحيازاته لمتسابقي بلاده علي حساب الموهبة الحقيقية. وقد حصل هذا الامر اكثر من مرة. كانت القوة التصويتية، التي تعني قدرة مالية او هوسا جماهيريا، تقهر الموهبة وتخرجها من اللقب. اظن ان هذا هو الاحتجاج الوحيد علي صيغة البرنامج.
لكن كيف يمكن ان تجري مسابقة لاختيار شاعر؟ بل، والادهي، امير للشعر العربي.
xxx
قبل اكثر من عقد ونصف تسلم شاعر ومثقف اماراتي شاب يدعي محمد السويدي رئاسة المجمع الثقافي في ابوظبي. كانت هناك مطامح ثقافية عالية لهذا الصرح الثقافي وصلت، حسب ناقدي السويدي، الي حد اليوتوبيا والتحليق في الفضاء.
لكن ماذا كانت تلك اليوتوبيا المنتقدة؟
اصدارات بلغت الالاف لأعمال ادبية وتراثية وتاريخية، من بينها امهات كتب في العربية والتراث الانساني، حفلات موسيقية لأفضل الفرق العربية والغربية، عروض سينمائية في بلد لم تكن فيه صالة سينما واحدة، موقع للتراث علي الانترنت يعتبر، بشبه اجماع، الافضل علي هذا الصعيد، الكتاب المسموع في الشعر والحكايات التراثية، معرض الكتاب الذي كان جنة الناشرين.
هذا عدا عن استقطاب المجمع لعدد كبير من المثقفين العرب في مختلف حقول الثقافة والبحث والابداع.
تلك كانت جناية محمد السويدي.
تلك كانت اليوتوبيا التي لم يستطع الجيل الحاكم الجديد في ابوظبي، علي ما يبدو، احتمالها.
الغريب ان محمد السويدي، وهو شاعر بالمحكية المحلية، لم يقم مسابقة لهذا الشعر، ولم يحتف به علي حساب الشعر العربي الفصيح، ولم يهتم الا بجانبه التراثي. اي باعتباره ارث تلك المنطقة وماضيها وليس حاضرها وما تتطلع اليه.
لا اعرف الاسباب التي ادت الي انهاء دور المجمع الثقافي في ابوظبي لصالح ما يسمي بـ(هيئة ابوظبي للثقافة والتراث) التي جاءت بأشخاص من نوادي القنص الي سدة صرح ثقافي عربي مميز، ولا تهمني تلك الاسباب، لكن ما يهمنا، هنا، ان تلتزم الهيئة بهوايات ومعارف المشرفين عليها. فلا احد منا كان سيحتج علي اجرائها مسابقات وجوائز للقنص والصقور او الهجن. فذلك نشاط جميل ومرغوب في تلك المنطقة العربية، ولكن ان تتصدر للشعر العربي بتشجيع من شركة انتاج تلفزيونية لا يهمها الا دراهم وقروش المتصلين الخليجيين والعرب، فذلك ما لا ينبغي للمثقفين العرب، والشعراء خصوصا، السكوت عليه.
xxx
في الاسبوع الماضي تحدثت عن الشعر العربي واسمائه الكبيرة. ليس جابر عصفور من (عيّن) ادونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف شعراء كبارا. انهم شعراء كبار بانجازهم الشعري علي امتداد نحو نصف قرن.
فماذا سيحل بهؤلاء الشعراء العرب الكبار بعد ان تنصّب، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، اميرا عليهم؟
من سيكون اميرهم واميرنا القادم؟
بل من هو احمد شوقي العرب الجديد؟
ألم يتفطن القائمون علي تلك الهيئة، التي لم يسمع احد بنشاط مهم لها، الي هذا الوضع المحرج؟
اعتقد، والله اعلم، انهم لم يسمعوا لا بأدونيس ولا بمحمود درويش ولا بالماغوط ولا بسعدي يوسف ولا بحجازي ولا بشعراء الخليج من امثال قاسم حداد، عبد الله الصيخان، محمد العلي، محمد جبر الحربي، محمد الثبيتي، سعد الحميدين، علي الشرقاوي، حبيب الصايغ، علي (ومحمد) الدميني، سيف الرحبي، محمد الحارثي، ميسون صقر، احمد راشد ثاني، زاهر الغافري، احمد الملا، غسان الخنيزي، ظبية خميس، حمدة خميس، عبد الله الريامي، عادل خزام، ابتسام المعلا، خالد بدر، عارف الخاجة، كريم معتوق، نجوم الغانم، ابراهيم الملا.. وغيرهم وغيرهم.
xxx
مسابقة (أمير الشعراء) ليست سوي تعبير عن تحالف الضحالة المعرفية والجشع المالي. هكذا، علي ما يبدو، صار حال المجمع الثقافي في ابوظبي: من الرصانة الي الركاكة، من الجدية الي الهزل، من محاولة استكشاف فضاءات معرفية جديدة، الي انعدام الخيال. سيكون هناك مليون درهم اماراتي لـ (امير الشعر العربي الجديد) ولكن ستصب ملايين اخري في حساب شركة الانتاج التلفزيوني التي تديرها المذيعة التلفزيونية المصرية نشوي الرويني. عين مشرفي هيئة ابوظبي للثقافة والتراث علي الصيت وعين نشوي الرويني علي التصويت.
سقي الله ايامك يا محمد السويدي.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\03z19.htm&storytitle=ffسوبر%20ستار%20الشعر%20العربي!fff&storytitleb=أمجد%20ناصر&storytitlec=