المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في حضرة موتي ـ قصة ـ



عبدالسلام المودني
04/05/2007, 06:01 PM
في حضرة موتي


أذكر عندما كنت أحتضر وجوهاً مشوهة تقف قبالتي هنا في باحة الاستراحة، ترقبني بعيون مترددة، تود الاستعاضة عن صمت السنين الماضية، وقول الكثير دفعة واحدة، بيد أنها لا تفصح عن شيء مبين. حاجز سميك يفصل بيننا في جلوسي بمحطة الانتظار الباردة. خدر لعين يصيب حواسي كلها مخلياً لي صوراً ضبابية، ووشوشات بعيدة ورائحة عرق مقرفة.

بين الفينة والأخرى أرقب السماء التي لا تحمل جديداً. كنت دوماً أربط موتي بالمطر الذي شهد ولادتي حسب أمي. ولست أعترض على شمس خريفية محتشمة. إذاً فقد كان الجو محفزاً على الموت، كما أني كنت في كامل أناقتي.


صمتهم كان رهيباً يذكرني بالموت، وعبوسهم المصطنع أعادني للحياة. في برزخي بينهما تمتطيني الحيرة وتنض عني أردية الاختيار. والاختيار بينهما كان أمراً شاقاً.
فالموت شيء مغر، لم أجربه من قبل.
والحياة بدأت تريني فتنتها.
فرحت جداً لما خلصت أنه بإمكاني أن أقرر الآن. لم أفعل ذلك طبعاً يوم مولدي، ولو خيرت آنذاك إذن لفضلت يوماً مثل هذا حيث شمس خريفية محتشمة، ولجئت في كامل أناقتي.
فكرت قليلاً. عندما أموت هل سأصاب بنفس مصاب يوم مولدي، حيث ظللت، كما روت أمي، ممعناً في صمتي، محتجاً أنهم أتوا بي من عالمي الآخر الجميل، هناك حيث لم أقابل شراً ولا حقداً، ولم يصفعني أحد كما فعلت أمي مراراً وأبناؤها دوماً. لكني لا أعتقد أني سأبقى دون كلام. إذا اخترت علي تحمل نتائج اختياراتي كاملة.

أحس أحدهم يقصد النافذة ليغلقها بإحكام وبعصبية واضحة، كأنه يعبر عن استيائه من تأخر موظف الموت. صحيح، لا ذوق له. كيف يتركني هكذا بكامل زينتي أنتظر قدومه بينما يمعن في تأخره؟
يساورني شك مخلوط بقلق أهوج من كونه في مهمة خاصة في بلاد بعيدة، ولم يجد وسيلة نقل ملائمة ليصل في موعده المحدد. الفضائيات تتحدث دوماً عن إضراب عمال النقل و ما يثيره ذلك من فوضى في أجندات الناس ومواعيدهم. أتساءل بحنق: ألا يملك معاوناً في مدينة الأحياء الصدئة التي أنتمي إليها

ليقوم بعمله أثناء انشغاله مع زبون آخر، أو في مضاجعة زوجته، أو في إضرابه عن العمل؟
مهما يكن الأمر، فقد أغلق أحدهم النافذة بإحكام وبعصبية، وما عليه حين حضوره إلا أن يقصد الباب ويقرع جرسه بكل أدب.


سرب من الطيور المهاجرة يشد عنايتي وناظريّ إلى السماء. تلك الطيور اختارت الرحيل أيضاً. فكرت، لو أننا نملك خيار الرحيل الجماعي مثلها إذن لفقد الموت بهجته وجديته.


أحد المشيعين الغاضبين، ولا أعرف صلتي أو درجة قرابتي به، يعبر هو أيضاً عن رفضه لهذا الصمت. يشير لهم دون أن يقول كلمة بأن يضعوا شريطاً لترانيم مقدسة أو لأي شيء آخر مقدس. قدّر أن موظف الموت تائه في حينا المزدحم، و كأنه بذلك يريد أن يمنحه إشارة تدله على البيت المقصود، عله ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ يأتي على عجل، ليخلص الجميع من هذا الانتظار الذي بدأ يفقد الموت سحره.
يسبني في سره، وتلعنني نظراته لما اكتشف أني لا أملك شرائط مما يريد في خزانتي الصوتية. أخجل فعلاً أن غبياً مثل هذا ـ و لا أعرف صلتي أو درجة قرابتي به ـ أتى ليشيعني، وخجلت أكثر أنه نزع القداسة عن ليليات شوبان، وموت بتروشكا سترافنسكي، وآهات الست، وكل فاطنة بنت الحسين*.


إزميل سؤال رجني وجعلني أشكك في كل شيء: ماذا لو أتى القطار فعلاً وصعدته لأكتشف بعد حين أنني على الرحلة الخطأ؟ جمعت حقائب عزمي إن حدث أمر مثل ذلك أن أطالب باستعادة حق التذكرة بعد اعتذار رسمي من المدير شخصياً.

من هنا، أستطيع أن ألمح وجهه، وأخمن أنه الوفي الوحيد الذي يتمنى لي رحلة هانئة ممتعة. أعلم ذلك! وأعلم أنه يملك من الحجج والوثائق ما يجعله يضغط على ورثتي الأعزاء، ليحصل منهم على ما لم تسعفني الأيام بدفعه له. إرثي ثقيل ووازن. سيقتسمون كل ذلك بالشرع والعرف والقانون، وفي الأخير سيكون كل شيء على ما يرام. هو سيتوصل بمستحقاته، وهم لن يخسروا من رواتبهم الهزيلة إلا القليل، بحجم الربع فقط حسب معتوه حديث العهد بالموت، ورياضي سيء مثلي.



عندما كنت صغيراً ضربتني أمي بقسوة حين بلغتها شكوى معلمي، يخبرها بتقاعسي في دروسي. صورتي وأنا أبكي لا تزال عالقة بذاكرتي الشحيحة. تزحف واطئة رائحة بخور قوية. لا شك أن صاحب فكرة إشعال البخور يمقتني. كلهم يعلمون أني لا أطيقها. ربما نسوا الأمر في خضم غضبهم على موظف الموت، أو أنهم يرسلون له دعوة عاجلة أخرى، أو ... أضحك فعلاً. لمَ لا؟ ربما فعلت شيئاً تحتي.
أتساءل خائفاً: هل ستضربني أمي هذه المرة أيضاً؟
لا أشم إلا رائحة البخور المقيتة، ربما فعلها أحدهم وألقى بكل شيء علي. هكذا هم الأحياء، أنذال ملاعين. لو استطاع أحدهم سماع صوتي الآن لطلبت منه سيجارة. لكني أخشى أن يراني معلمي الجديد. لمن سيشكي سوء سلوكي، لأمي وهي في العالم الآخر أم لمديره الأكبر؟
إذا فعل سأرد له صفعته بأحسن منها. وأشكو تأخره وتماطله، ربما مر إلى إحدى الحانات، أو اغتصب طفلة في قبو مدينة مهجورة.


يصلني عطر زوجتي الرخيص. هي أيضاً هنا. تعطرت كعادتها وأكاد أجزم أن وجهها يرتدي اليوم بهاء الأرامل. لا شك أنها ستكون أرملة جميلة. هي تشبه أمي حد التطابق ـ كانت تضربني أيضاً ـ كانتا صديقتين جداً قبل زواجنا، خشيتا العنوسة فركبتا قطار أول عابريِِِِْن، و أقيم لنا عرس واحد.
تزوجت أمي بأبي، وهي بي، وكانت ليلة.
أكاد أصاب بالغثيان كلما تذكرت تلك الليلة. أفضل ممارسة العادة السرية على جماعها، كما أرى أن رائحة البخور المقرفة أرحم على حواسي المحتضرة من عطرها الرخيص.
أستطيع الآن أن أقدر الفرق بينها و بين ماري. لا فرق بينهما البتة.
ماري قطعة من حلم عشتها وعاشتني، وهذه... آه لو تستطيع أن تبعد قليلاً !
أحببتها صغيراً. كنت أشعرها نسيماً يهدهد قلبي. اختفت ماري فجأة. قالوا أنها ماتت بحادثة. لم يضيفوا تفاصيل أكثر، ربما لصغر سني. كنت راشداً في الحب وقاصراً في أعينهم. لم تنتظر ماري موظف الموت كما أفعل أنا. خمنت طويلاً في الحادثة التي تسببت في موتها. توقعت أن شيئاً ما دهسها، ذُبابة مثلاً.



كوة بعيدة تعفو عن ضوء شارد. طيف يقصدني بخطوات وئيدة. ربما أنا الآن أمام موظف الموت ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ أحبس أنفاسي، وأستعد. أحاول أن أغني. تفر الكلمات والألحان. يشط بي

انفعالي إلى الظن أنه قد يسألني: ما آخر رغبة لك في الدنيا؟ أقرر أن أجيبه بأن أحضر المباراة النهائية لكأس العالم في كرة القدم لسنة 20000028. أخمن أننا قد نفوز بها إذا تغيرت مقاييس الكرة الأرضية. من يدري؟
يدنو الطيف مني، جالباً الضوء معه. يقف قبالتي. تنحسر ملامحه أمامي. أصاب بالدهشة. أحس نسيماً يهدهد قلبي. أيعقل أن تكون هي؟
ماري أتت بنفسها لاستقبالي. لا تزال تحتفظ بسحر بسمتها. مدت يدها لي، أمسكتها بحنو، لا أريد مفارقتها. تأخذني معها والضوء يرقص حولنا، معنا.
أمسك يدها بحنو، لا أريد مفارقتها. تغزوني رائحة عطر رخيص، وعرق مقرف أعرف صاحبته. أفتح عينيّ. رأيت الخيبة تعتلي وجوهنا كلنا. كانوا ينظرون إليّ كما أخطر في وجوههم البلهاء. أبحث عن وجه ماري التي لم تكن هناك.
كانت زوجتي. أصطدم بوجهها العابس تقول بحنق:
- من كانت تلك التي كنت تهذي باسمها؟
أردت أن أقول: قاتلتي. لكني عدت لأغمض عينيّ علّ موظف الموت ـ أو أحد أعوانه العاطلين ـ يعيدني إلى الحياة.


فاطنة بنت الحسين*: مطربة شعبية مغربية.
سلا مارس 2006
عبدالسلام المودني

ريمه الخاني
05/05/2007, 12:05 PM
تسجيل قراءة وروح جديدة في منتدانا
تحية لقلمك

صبيحة شبر
06/05/2007, 06:50 PM
المبدع العزيز عبد السلام المودني
قصة جميلة تمزج بين الحقيقة والحلم ، بين التمنيات
وبين الواقع الاليم
البطل كان غنيا يطمع الاخرون في تركته لهذا حضروا وفاته
ينتقل بنا القاص الممتع بين مراسم الموت الحتمي
وبين حلم يعيش مع البطل بان ملك الموت قد يكون موظفا
معرض للخطأ ككل الموظفين الذين نعرف
اللغة جميلة والالفاظ متوهجة بالجمال
والمشاعر تسيطر على الموقف
قصة رائعة ابدعها قلم جميل

عبدالسلام المودني
12/09/2007, 01:36 PM
العزيزة ريمة الخالي:

ألف شكر للحضور البهي وللطفك.

محبتي الصافية..
عبدالسلام المودني.

سعدية اسلايلي
14/09/2007, 03:56 PM
كعادتك، تمتع وتحير وتعلق علامات الاستفهام على شرفات الكلام.
تحياتي لقلمك المبدع.

د.زكى الشربينى
14/09/2007, 05:23 PM
الكاتب المبدع عبد السلام المودنى اشكر لك كل لحظة قضيتها وانا اقراء قصتك هذة حقا لقد استمتعت بفكرتك واسلوبك وحتما ساكون باذن اللة من عشاق كتاباتك وفقك اللةألف مبروك .. لقد سعدت بهذا الخبر

عبدالسلام المودني
09/02/2009, 01:55 AM
العزيزة صبيحة

شكراً لأنك مررت من هنا ذات يوم.
محبتي الصافية
عبدالسلام المودني

عبدالسلام المودني
09/02/2009, 01:57 AM
العزيزة سعدية..
ممتن لبهاء حضورك من هنا.

وردة بلون قلبك.
محبتي الصافية
عبدالسلام المودني

عبدالسلام المودني
09/02/2009, 01:58 AM
العزيز زكي..
أهلا بك في كل وقت.
وأعتذر منك تأخري في الرد.

محبتي الصافية..
عبدالسلام المودني