المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقال بعنوان (( الجريمة والجنون بين المحيط والوراثة ))



تميم فخري الدباغ
04/09/2013, 09:21 AM
الجريمة والجنون بين .... المحيط والوراثة (1970 مجلة علوم )
يقول فرانسيس بيكون: "إذا بدأ الانسان بما هو اليقين ..ز فسينتهي الى الشك .. أما اذا رضي أن يبدأ بما هو موضع الشك فأنه لا محالة واصل الى اليقين ..." ويصح هذا دائماً في البحث العلمي الحديث في شتى ميادينه وصوره، فالشك هو الذي يدفع الإنسان الى البحث عن اليقين – عن الحقيقة العلمية-. وعن طريق البحث المتواصل غيَّر الإنسان كثيراً من مفاهميه القديمة أو أدخل عليها التعديلات بالإضافة أو الشذب. وعلم الوراثة الحديث دائب البحث والتنقيب عن أسرار الصفات الكامنة في الجينات والكروموسومات والحق أنه اكتشف كثيراً من الأمراض التي ترجع الى مجرد إضطراب وشذوذ في شكل وعدد الجينات.
والمعضلة العريقة تتجدد الآن على مسرح الفكر وميدان علم النفس والقانون: صفة الشر والخير .. الإرادة الحرة والجبرية، الوراثة والاكتساب وهي المسألة الشائكة التي تعبت واستنفرت جهود وادمغة الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والفقهاء – هل الطبع يقلب التطبع؟. وهل يتوفر للتطبع والتعلم والمحيط أن يحور أو يطمر الصفات الوراثية؟ وما يهم المجتمع وعلم النفس والاجرام هو كيف نفسر السلوك البشري، وعلى أية اسس نستند في إدانة المجرمين والجانحين والمنحرفين ... سواءً أكانت الادانة في قاعة المحاكم أو كانت في ضمائرنا وعلى ضوء التزاماتنا الاخلاقية وتربيتنا الثقافية ومعضلة الطبع والتطبع محك وتمرين عسير لعشاق المنطق والجدل والاخلاق والبحث العلمي التجريبي. وفي العقود الاخيرة من النصف الاول للقرن العشرين كادت المعضلة ان تصل الى قالب وقرار عام يوصي بأن الوراثة وإن قررت الصفات البيولوجية للإنسان والقابليات الفكرية من ذكاء وما شابه فإن الوسط والبيئة الإجتماعية والعادات المكتسبة تحور كثيراً من اتجاهات الفرد وسلوكه وعلى هذا الاتجاه سار علماء النفس والاجتماع فأعطوا للوراثة فاعلية تتراوح بين 20%-30% وللمحيط فاعلية 70%-80%. وكانت الادلة على ذلك التقسيم كثيرة وخاصة فيما يتعلق بالذكاء، لكنها –أي الادلة- تضعف تدريجياً عندما يكون الموضوع يتعلق بالسلوك المعقد.
ولنأخذ مثالاً بسيطاً، الذكاء الفطري لدى طفل قروي ولد في محيط بائس فقير: إن مستقبله غامض جداًن فقد يترعرع الطفل راعياً ساذجاً جاهلاً لا يدخل المدرسة وقد يصاب بأمراض البلهارزيا والديدان وفقر الدم وسوء التغذية، فإذا الشعلة الذكية النشيطة في خلايا دماغه تهمد وتتباطأ .. واذا بذلك الدماغ المتحفز للإبداع بتضائل الى حدود الدماغ البيولوجي لإنسان يقارب مستوى الحيوان. وقد تتكاتف التظروف والصدف مع طفل ذكي آخر بأن تكون والدته أو والده أو أخوه فطناً أو متفتحاً أو متعلماً .. فيدفع بالطفل الى المدرسة وقد يرعاه معلم ذو روح تربوية هادفة .. وقد يلقى العناية الصحية الكفوءة من دولته الحريصة على الخدمات الريفية... وقد يندفع في التعلم والتتبع الى مستوى الدراسة الجامعية، فالحياة العلمية والانتاج العبقري ... وهكذا تفعل الظروف بالإنسان بالرغم من ذخيرته الوراثية. انها لا تبدل لون عينيه ولا طول قامته ولا لون بشرته، لكنها تفعل أعمق وأخطر من ذلك قد تجعل إنساناً فعالاً ذكياً أو بشراً خاملاً يأكل ويشرب وينام، وقد تجعله مجرماً خطيراً أو مصلحاً إجتماعياً يشار اليه بالبنان. وما حدث من اكتشافات حديثة في علم الوراثة يستحق اعادة النظر قليلاً في دور الوراثة والمحيط الى حد ما. ولكن لا يزال للمحيط نفوذه الحركي الدينامي المستمر، فلكل انسان كروموسومات اعتيادية وكروموسوم جنسي واحد انثوي وعلامته (XX) أو ذكري وعلامته (XY). وقد تحدث اضطرابات في شكل الكروموسومات أو في عددها في الخلية الواحدة مما يؤدي الى ميول نفسية غير طبيعية أو تغيرات جسمية أو عقلية.
فمثلاً وجد أن الاشخاص السايكوياتيين الاعتدائيين يحمل غالبيتهم على جين (Y) اضافي على العدد الطبيعي، أي يصبح كروموسومهم كما يلي (XYY) بدلاً من (XY) لبقية الناس ويمتاز هؤلاء أيضاً بطول القامة غير الطبيعي، أما الذكاء فإعتيادي. والاكتشاف المهم الثاني هو أن زيادة عامل أنثوي (X) في الأنثى أو الذكر بحيث يصبح الكروموسوم هكذا (XXX) أو (XYX) موجود في ذوي المرضى العقليين ونزلاء المستشفيات العقلية بنسبة تزيد عن نسبتها في الناس الطبيعيين، وقد ثبت ذلك الإستعداد للإصابة بالمرض العقلي في بحوث أجريت في امريكا واسكتلندا واسكندنافيا، ومن جملة النظريات التي تفسر تأثير الـ(X) الاضافي هو حدوث تغير هرموني في داخل الجسم أو انخفاض جزئي في ذكاء الشخص المصاب الذي يمهد للمشاكل الحياتية فحدوث استعداد للمرض أو الاضطراب العقلي – السلوكي، وكلا المثالين أي وجود (X) أو (Y) اضافية يدل على حدوث استعداد للأضطراب العقلي. أن تلك الاكتشافات بحاجة الى مزيد من الابحاث والدراسات، فالمدافعون عن تأثير المحيط في السلوك البشري لا يزالون يعتقدون أن شذوذ الكروموسومات يمهد الطريق للتحول السلوكي أي أنه يجعل من تركيب الشخصية ذات انفعال خاص تجاه المحيط وأن العامل الحاسم الاخير هو الظروف التي تقرر ذلك والأدلة على ذلك كثيرة: ففي دراسة لـ(دوكلاس) أجراها على 2300 صبي ولدوا في الاسبوع الاول من آذار سنة 1946 ولغاية 1968 وجد أن 288 منهم أصبحوا جانحين وكان أغلبهم قد ترعرعوا في بيوتات محطمة وأسر مفككة بالطلاق والافتراق أو في أسر إنحط فيها مستوى عناية الأم وحنانها بالإضافة الى البطالة والفقر وازدحام السكنى.
كذلك يبين البروفسور (برودهرست) في إنكلترا أن بالإمكان تربية وتنشئة الجرذان الى مستويات عالية أو واطئة من الانفعال دون تدخل عامل الوراثة الذي يمكن تعيينه من خلال عملية التزاوج والتكاثر. واستعرض (جون باول) أهمية الروابط العاطفية بين الابناء والآباء بصورة أعمق وبين أن السلوك الشاذ أو الإكتئاب يسبقها اضطراب مبكر في تلك الروابط العاطفية. والحقيقة أن عزل مقومات السلوك البشري إلى محيطية ووراثية ليس بالمهمة السيرة، وكما اوضح الدكتور (كارتر) أن كثيراً من علماء البيئة يصرون على أن الوراثة لا تأثير لها يذكر على السلوك، كما أن علماء الوراثة لا ينكرون عامل المحيط قطعاً الا انهم يدعون إلى مزيد من الاستقصاء والبحوث في عالم الكروموسومات والجينات. أن أشد المتحمسين لمفعول المحيط كان مؤسس المدرسة السلوكية الأول الدكتور (واتسون) الذي قال في العقد الثالث للقرن العشرين أنه إذا قدم له أي طفل بشري فبإستطاعته إذا يحكم في بيئته ومحيطه أن يسيطر على النمو العقلي لذلك الطفل ويجعل منه موسيقاراً أو عالماً أو أي شيء آخر. وهو رأي متطرف دون شك، إلا أن الشك والبحث هو الذي أدى الى اكتشاف المزيد من اضطرابات وشواذ الصفات الوراثية في الكروموسومات والجينات في النصف الثاني من القرن الحالي، ولا تزال بانتظار المزيد.
وينتظر معنا أيضاً رجال القانون، فتأكيد العلاقة بين شذوذ الكروموسومات وشذوذ السلوك سيغير من نظرة القانون الى الجريمة وسيغير من الأحكام الصادرة بحق بعض المجرمين، وربما لا يطول هذا الانتظار إلا بضع سنين.