المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لئام يتهافتون على مائدة أيتام



مصطفى الزايد
16/09/2013, 11:07 AM
لئام يتهافتون على مائدة أيتام


«الديموقراطية» هدف المنظرين و«الدينية» هدف المقاتلين.

أمريكا تزعم أنها تريد مسلمين «معتدلين» بينما تريدهم «مُعَدَّلين» في مصانع الفكر الصهيوني.

معاداة الإسلام حتى من أبنائه تحقيق لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «بدأ الإسلام غريباً وينتهي غريباً».


لعلي أكون في أول المنظرين الذين يتكئون في ظل السقوف منتشياً بهواء المكيف والماء المثلج، وأتكلم عن الثورة وكأنها ميراث أهلي، فأحدد نوع الحكم المستقبلي لدولة ما تزال افتراضية، أرضها لم تحرر، وشعبها ما زال يرزح تحت وطأة القصف أو الاعتقال.
وبينما يضحي المقاتلون وهم يرفعون شعارات إسلامية ويعلنون أن ثورتهم نصرة لدين الله وأن هدفهم إقامة حكومة إسلامية تنشر العدل والمساواة وتنصف المظلوم وتحفظ ثروات البلد وتقسمها بالسوية، نرى المنظرين القابعين في الخارج وهم يقرؤون ويتابعون أخبار القتل والدمار والتشريد فلا تنزل من عين أحدهم دمعة لمنظر طفل ممزق ولا يتمعر وجهه لرؤية قصف أسقط البيوت على ساكنيها، ومع ذلك يعتبرون أنفسهم سدنة الثورة وراسمي مستقبل البلد بعد التحرير! بدءاً من شبه الأمي وانتهاء بأعلى درجة تثقيف سياسي أو اجتماعي أو فكري، فنجدهم يقررون بكل ما أوتوا من قوة: «لا نريد دولة إسلامية»، وبعضهم يغلف كلامه بنوع من التأدب كي لا يخرجه السامع من حظيرة الإسلام، فيقول: «الشعب السوري متعدد الثقافات، ولذلك لا يمكن إقامة حكومة على أساس ديني»! وما علاقة الحكومة الدينية بتعدد الثقافات؟ آه إذاً المقصود متعدد الديانات وليس الثقافات! لا تضللونا هداكم الله. وكم نسبة من يدينون بغير الإسلام؟ هل هم الربع؟ ألثلث؟ لن يبلغوا النصف في حال من الأحوال، وعليه فالفئة العظمى هم المسلمون، وللعلم فالمسلمون يشكلون نسبة 85 في المئة من دون أن يدخل فيها النصيريون الذين يشكلون ثمانية في المئة، ولا الدروز والإسماعيليون الذين يشكلون أقل من ثلاثة في المئة، بينما نسبة النصارى (المسيحيين) أربعة في المئة.
وأما الماكرون فيلتفون التفافاً فيقولون: «نريد حكماً ديموقراطياً تعددياً»! أي أنهم لا يقولون بصراحة: «لا نريد حكماً إسلامياً»، لكنه مضمن في معنى القول إذ لا يمكن الجمع بين الاثنين، ومن يختار منهجاً فلا بد أنه يرفض الآخر مهما حاول فلسفة المسألة.

ولا أعجب من صدور مثل هذه العبارات من غير المسلمين لأنهم لو أيقنوا بصحة منهج الإسلام لاتبعوه. ولكن العجب ممن يدّعون الإسلام ويتكلمون بمثل هذا وكأنهم لم يقرؤوا قوله تعالى: «أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنونَ» (المائدة:50). ولم يسمعوا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تَبَعاً لِما جِئْتُ به»، فهل أصبحت أهواؤنا وأمانينا تدور حول ما جاء به أعداء ديننا بعيدة عما أنزل الله وجاء به نبيه؟

ولو تساءلنا: أليس لنا طموح بالعيش في ظل حاكم كالملك فيصل أو السلطان عبد الحميد أو محمد الفاتح أو صلاح الدين الأيوبي أو نور الدين زنكي أو المعتصم بالله أو هارون الرشيد أو عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب؟ وأيُّنا لا يفخر بهؤلاء الرجال؟ وأيّنا لا يتنهد بحسرة حين يقرأ شيئاً من سيرهم؟ ومع ذلك نجد بعضنا لا يريد رجالا مثلهم وإن زعم في تبرير وجهة نظره أن النساء عقمن أن يلدن مثلهم، متغافلاً عن بشارة النبي عليه الصلاة والسلام بالمهدي الذي لن يكون مهدياً وحده وإنما حوله مؤمنون هم خير أهل زمانهم قلوبهم كقلوب الصحابة، وإلا كيف يقاتلون الدجال مع ما عنده من القوة والأتباع والخوارق والمال والفتن التي تبهر العقول؟! فهل شخصياتنا سويّة سليمة من الانفصام؟ ألا نرى أننا في هذا كما يقول مظفر النواب:
«قتلتنا الردة ..
قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده»؟
هل نحمل في نفوسنا أضدادنا؟ أي ردة هذه وأي تنكر باطن لظاهر وظاهر لباطن هذا الذي نعانيه؟!
ألم نر نتائج الحكم الشيوعي على الإسلام والمسلمين في روسيا؟
ألم نعش أربعين عاماً في ظل حكومة لا تعترف بالإسلام إلا في مظاهره، بينما حاربت أهل السنة والجماعة من العلماء والدعاة فترة بمسمى إخوان مسلمين وفترة بمسمى وهابية، وحاصرت المسلمين في أسوار المتابعة والاستدعاءات المخابراتية والاعتقالات؟
وهل نتوقع أن تقيم العدل وتحفظ الحقوق وتصون أمن البلاد والعباد حكومة غير إسلامية، بينما الحكومة الإسلامية تمنع ذلك كله؟ «ما لكم كيف تحكمون».

الإسلام دين ودولة، لم يخلق ليعيش في «تابو»، وما أنزله الله للعبادة فحسب، وإنما هناك تشريع لنمط حياة مثلى وأحكام تقام وممارسة عملية لتعاليمه في المجتمع، وما المجتمع إلا دولة مؤلفة من شعب وسلطة تحميه ويحميها وليس بينهما حواجز أو تضاد.

ولكننا من خلال ملاحظة التناقض بين طموح الداخل الذي صنع الثورة وجعل من أبنائه وقوداً لها، وبين تنظير الخارج الذي وقف إزاءها فترة من الزمن يراقب بصمت حذر، حتى إذا صرّح اللبن ولاحت تباشير الفجر أخذ يتحرك على استحياء في البداية ثم صار يتعرض للواجهة، حتى (عاش الدور) فأصبح ينازع الداخل المضحّي ويسعى إلى التحكم في مسار الثورة ومنهجها بل ويريد رسم مستقبلها تبعاً لهواه غير عابئ بهم في نشوة حلمه وكأنهم خدم لسيادته أوقدوا له الثورة وضحوا بدمائهم وأبنائهم فضلاً عن أموالهم، وتعرضوا للاعتقال والتعذيب والتشرد والجرح والإعاقة ليقدموا له السلطة على طبق من ذهب، فيدخل البلد بعد التحرير دخول الفاتحين فيلتف الناس من حوله يفدونه بهتافاتهم وكأنهم رعاع ليس لديهم وعي أو فكر، نستطيع أن ندرك الفرق بين الشجاع المضحي الذي لم يخش قوة الدولة فخرج وتظاهر وحمل السلاح وجاهد، وبين مقتنص الفرص الذي لم يضح بشيء وأولها رفضه الاعتراف بأحقية من ضحى وقدم وجعل دمه وقود الثورة في تحقيق ما ضحى من أجله، وأن نلمس الأنانية المعبأة بثوب الفكر والغيرة على مصالح الطوائف (الثقافات المتعددة) حتى إنهم رفضوا دينهم من أجل هذه الطوائف ليس حباً بهم ولا حرصا على إشراكهم بالحكم، وإنما هي محاولة اقتناص الثورة؛ إذ عرفوا أن الغرب وعلى رأسه أمريكا سيرفضون الإسلامي (السني) أياً كان شكله، ولذلك لن يتركوا المجاهدين يصلون إلى ثمرة الثورة، وإنما سيبحثون عن ثوريين مسلمين متخاذلين (مُعَدَّلين) في مصانع الفكر الصهيوني الذي زرع في نفوس الناس على مدى عقود فكرة ارتباط الإسلام بالإرهاب، تعبؤوا بالفكرة وتشربوها، فكان أقصر طريق – في رأيهم – الوقوف في وجه الطموح الإسلامي، ليقع عليهم الاختيار بأن يكونوا خليفة النظام في حكم البلد والاستمرار في محاصرة الإسلام على النموذج النصيري.

هذا بالنسبة للغوغاء «الهمج الرعاع الذين يتبعون كل ناعق ولم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق». أما متقدموهم وقاداتهم في هذا التوجه من الملاحدة فهم وضعوا أيديهم بأيدي أعداء الأمة وارتبطوا معهم بمعاهدات ومصالح مشتركة.
ولكن ألا يعي هؤلاء المخدوعون أو المتخادعون أن أمريكا والغرب ليسوا رباً يتحكم في الأرض وإن نجحوا في العراق فقد فشلوا في الهند وفي فيتنام بسبب صمود الشعوب وثباتها على مبادئها وإصرارها على بلوغ مرادها، وأنهم إن نجحوا في بلادنا فهم سيكونون من أول أسباب نجاحهم؟ فما تؤتى الثورات إلا من فساد في داخلها، ومن تضعضع أبنائها في التمسك بمبادئهم، ونزاعهم على أساسيات وأولويات الثورة، والله سبحانه هو رب الكون المتصرف به، و«إن ينصركم الله فلا غالب لكم» لا أمريكا ولا العالم مجتمعين.

ولعلي أختم المقال برسالة من مجاهدي الداخل غير المعدَّلين في مصانع الصهيونية: «لم تؤازرونا حين قاتلنا، ولم تنصرونا حين قتلنا، فأنصفونا فليس من العدل أن نحرم خيركم ويقع علينا شركم، وليس من الإنصاف أن تتركونا عند الفزع وتتهافتون عند الطمع، ولا من الوجدان أن نضحي نحن ثم تحاربوننا على ثمرة نصر سقينا شجرته بدمائنا، وأمددنا عمرها من أعمارنا. ومن أراد أن يشارك في رسم مستقبل البلد فلينزل إليه ويقاتل كما نقاتل ليكون صاحب حق في ذلك فالخيار لمن في ظلال السيوف لا السقوف، وأقبح الناس هم لئام يتهافتون على مائدة أيتام».
مصطفى الزايد