المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشعرة



شكري الميدي
18/10/2013, 01:36 PM
" الشعرة ".



إلى رفاقي من الجامعة
عبد المالك، بكري، منصور بلة.

كروائي يبحث عن مادة لكتابتها، في رأسي تخمرت فكرة عظيمة أرعشتني من الداخل: أن أكتب بكل ما املك في رصيدي من الكلمات عن ما يحدث بين أهلي: التيدا، عائلتي الكبيرة. في ذهني حررت نفسي من سلطة الوهم، كنت قررت أن أنقل تلك القصص التي سمعتها منذ الصغر إلى عالم الكلمات.

عالمي.

معضلتي كانت فهم كلماتي، جملي المترجمة من لغتي إلى لغتي الأخرى، كنت خائفاً من الضياع عبر الكلمات.
في محطة في بنغازي، يوم الأربعاء – نوفمبر2007، كانت ساعتي تشير إلى الخامسة والنصف بالتوقيت الشتائي، الشمس تكاد تغرب تماماً وراء المباني، كنت من مكاني أرى بعض المسافرين الذين نفذ صبرهم في انتظار الانطلاق، السور الأخضر بدا لي رائعاً تتبعته حتى وقعت عيني على محل لبيع الجرائد، قمت من مقعدي تاركاً حقيبتي الصغيرة في مكانها، ليس فيها سوى دفتر يومياتي وكاميرا صغيرة لتصوير الفوتوغرافي مع بعض من أقلام التحبير التي يستخدمها طلبة في الثانويات الهندسية مقاس 0.5 كنت أعجبت بسلاستها، قميص بني وسروال رمادي، اللونين الذين اعتمدتهما أخيراً عندما بلغت الرابعة والعشرين من عمري، قبل شهرين. في المحل وجدت مصرياً لم استطع إن احدد عمره، سلمت عليه فرد على بحفاوة أراحتني تماماً، فلي حادثة محزنة – حدثت معي صباح اليوم – في إحدى مكتبات بنغازي عندما استقبلني البائع بخشونة. خرجت من مكتبته مقرر عدم دخول أية مكتبة أخرى في هذه المدينة، يبدو أنني لم استطع مقاومة سحر المثير للمكتبات والكلمات. من حظي أن المصري كان مسرورا على ما اعتقدت لشيء يخص مبيعاته. اشتريت منه عددين من مجلة العربي وخرجت بهدوء. جلست على مقعدي، سحبت دفتري من الحقيبة، كتبت بخط دقيق عن شرائي لعددين من العربي ثم أعدته إلى الحقيبة.

انتهيت من قراءة مقالة ممتعة عن أمل دنقل. أغرقتني المقالة في التفكير حول روايتي الأولى التي أزمع كتابتها. ففي المدن التي زرتها لم استطع أن أكتب أية كلمة أو أن أجد محفزاً واحداً للكتابة. أحاديث التي أجريتها مع بعض المسنين كانت تدور حول التاريخ، ولكني لم أكن من أنصار أي تاريخ، سجلت بعضها بصمت مقرراً عدم كتابتها مطلقاً. العجوز المدعو يونس يملك قصصاً رائعة عن نساء عرفهن عبر رحلة حياته، الوحيد الذي لفت انتباهي هناك بطريقته الساخرة في سرد قصصه الشخصية، حديثه عن حماقاته والأمور المشينة التي قام بها تبعث في ذهني أفكاراً قوية عن شخصية رافضة لتعنت، رافضة للتأثر بسبب ما يقترفه من هفوات، يضحك، يمر بهدوء وسخرية دون أن يضطر إلى تحطيم ذاكرته. فيما عدا هذا العجوز لم أجد ما أفعله سوى الخروج كل يوم لالتقاط الصور عن الحياة هناك. الحياة اليومية بكل بساطتها، فتيات في وقت العصر الذهبي يسرن في عمق الظلال إلى منازل الأقارب والصديقات في زيارات صغيرة منعشة. عطورهن المثيرة لا تظهر في صوري ولكنها عالقة في ذهني إنها قمة ذكرياتي، أجساد هادئة لجنوبيات مفعمات بحب الحياة. في صوري التي أظهرتها في معمل بيروت ثمة ضحكات هائلة البساطة، جمال أسطوري لليبيا منذ القرون السحيقة.

كنت أفكر منذ أشهر في قصة مصمم رقصات ايطالي مهووس بالرقص الهندي، كان ذات مرة في رحلة للبحث عن الأفكار عبر الصحراء الليبية برفقة دليل طارقي. أراه بكل أمانة العيون الصحراوية والواحات المختبئة خلف الكثبان والرسومات القديمة منذ الآلاف السنين كما أخبره عن دقائق الساحرة للحياة هناك. بدا الأمر بالنسبة للإيطالي غاية في الروعة. عبر التلفاز بعد حوالي عشرين سنة من تلك الرحلة أعلن عن رقصة جديدة أستوحها من رحلة قام بها عبر ليبيا منتصف الثمانينات.

قال:
" لا يوازي الرقص الهندي في الاعتماد على الجسد المجرد إلا الرقصات الأفريقية ".

عندما قرأت هذه القصة سعيت للبحث عن هذا المصمم عبر الانترنت. لم تكن أفكاري واضحة تماما، على اليوتيوب وجدت رقصات هندية غاية في القوة، كانت النيران، الدماء والقسوة في الأحاسيس تحكي عن حضارات معذبة. فتاة هندية صغيرة السن ترقص على حطام الزجاج في ليالي مضأة بالنيران في قلاع قديمة. فتاة هندية محاطة بالنمور ومخدوشة الذراعين بفعل ضربات السوط التي يكيلها الأغنياء الساديون المفعمون بالشغف المريض. بدا لي الأمر وقتها كقصة رائعة، سوف أتتبع أعمال مصمم رقصات وهمي مات في مبنى التجارة العالمي أوائل سبتمبر من عام 2001. في ذهني تخمرت الفكرة بشكل دافق وغزير إلا إني لم أكن مصدقاً للأمر تماماً. كانت كل فكرة قائمة بذاتها،

جنوبيان من التيدا،

فتى وفتاة يستطيع المصمم أقناعهما لكي يتدرباً لديه، لتقديم أروع ما يستطيع الفكر البشري انتاجه عبر جسديهما، الرقص العنيف على الرمال، قصة تطويع الأفكار والواقع من خلال الفن الجسدي. ليس الأمر مجرد استعراض ضخم يعتمد على الجسد بل رؤية عميقة عما يستطيع ذلك الشيء المادي أن يقدمه لروح. في تصوري كانت القصة لتكون وقوفاً حقيقياً ضد دعاة الزهد السخيف.

جالسا في المحطة فكرت في نفسي: ربما بسبب هذا الأوروبي المزعوم أقضي وقتي عابراً المدن بحثاً عن الإلهام. فأنا لا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي يربط التصوير الفوتوغرافي والحياة في الجنوب بمصمم رقصات أوروبي مهووس بالأجساد ورقصات الهندية العنيفة.
في ذهني كانت أفكاري تصل إلى قمة تبعثرها. غريب أن أجعل روايتي الأولى نابعة من ذهن ايطالي طموح، ربما كان أخر جيل من الهيبيز الضائعين في الأحلام الثورية عن الأجساد. هل من الممكن أن يكون هيبي تاه في الطريق، وصل إلى ليبيا لسبب ما متعلق بالأفكار القديمة حول الزهد والسياحة؟

فبعض صفحات التاريخ تخبرنا عن أفكار غريبة لرجال هاجروا المدن الأوروبية العظيمة طلباُ للزهد في صحاري أفريقيا، فتحولوا إلى نوع من المهووسين الساعين للامتلاك المجنون بدل الزهد نفسه. في ذهني تذكرت – خير مثال على ذلك – الشاعر الفرنسي رامبو، الضائع الأبدي. فتبادر إلى ذهني السؤال الذي أحرجني حتى الصميم:
" هل من الممكن أن يكون الايطالي اليوم مثل الفرنسي القديم؟ ".

لم أجد إجابة على تساؤلي، فكل الاحتمالات واردة، فأنا نفسي الليبي أسعى وراء خطوات ايطالي غامض، لم يكن ليحدث هذا مع جدي أو حتى والدي. ابتسمت في جلستي، أخذت المجلة لأقرأ قليلا تلك المقالة عن أمل دنقل، فانا رغم كل رغبتي وشغفي بالفن الأوروبي كنت أمتلك جانباً لهذا الرجل. قصائده كانت تفريغاً عظيماً لم لا استطيع تحمله في العالم:

وأنا كنت بين الشوارع وحدي!
وبين المصابيح وحدي!
أتصبب بالحزن بين قميصي و جلدي
قطرة، قطرة، كان حبي يموت
وأنا خارج من فراديسه، دون ورقة توت !! - أمل دنقل - قصيدة سفر ألف دال

ذهنية غريبة لرجل لم أستطع أن أقرأ عنه الكثير. كانت المقالة رائعة، فهمتها تماماً. هل هي قصة كلمات التي ربطتني به؟
بأمل دنقل.

في المحطة الصاخبة وجدت فكرة مؤداها بأن الكلمات هي عالمي الحقيقي. ستكون روايتي دليلاً على ذلك.

ففي سنتي الجامعية الأولى قابلت فتاة بدت لي مريضة. قالت بأنها أساساً من سبها، كنت وقتها مولعاً بقراءة كازانتزاكي. أخبرتني بأنها تقرأ لإيزابيلا الليندي وكاتبة أخرى قالت بأن اسمها دانيل ستيل، لم تكن فتاة عادية، هذا أمر اكتشفته في أول رؤيتي لها، كانت تتحدث مع صديق أخر عن عاداتها اليومية في التعامل مع ذوي العقلية البسيطة، كانت ترى أهلها بسطاء بشكل مؤذي. إنها تتعامل معهم كما تتعامل مع ألعابها في الصغر. قالت وقتها بشكل لا أعتقد أبدا بأني أخطأت في سماعها وهي تخاطب صديقي:

" أمر مؤلم أن تعامل من تحب كلعبة ".

لم أفهم وقتها إن كان الأمر بالنسبة لها مجرد تألم عابر أو أنه فعلاً مشكلة عويصة تعقد حياتها. على كل حال منذ ذلك الوقت قررت أن أحتك بها. في يوم أذكره جيداً وجدتها جالسة لوحدها بعيدة عن كل المجموعات تطالع كتاباً عرفت بأنه " ابنة الحظ " سلمت عليها مترددا، لم أكن متأكداً مما أواجه، لدهشتي البالغة بدت لي رائعة، لطيفة في ردها، بكل لباقة ثم طالبتني بالجلوس، مبتسمة. وافقت مندهشاً. قلت لها فيما أذكر

" رواية؟ ".
" أجل، ألا تحب الروايات ؟ ".
" إنها عماد فكري، إني مدين لكازانتزاكي لم أشعر به من فكر ".
" لهذه الدرجة؟! ".
" نعم ، أرى بأنك تقرئين لإيزابيلا ".
" إنها عماد فكري أنا ". ابتسمت بشيء من السخرية المحببة. شعرت بأن الأمور جرت على نحو جيد، لأننا غرقنا بشكل هادئ في حديث مسهب عن كتابنا المفضلين. كان رأيي أن الكلمات لها سحر غريب. عندما صرحت عن هذا قالت بأفضل مما حدث لي يوماً:
" إن الكتابات بالنسبة لي تمثل أحلاماً حقيقية إنها تؤثر في بشدة، نهاية سيئة في رواية قد تعني نهاية سيئة لي في الواقع. تجربة سيئة أقرأها تؤثر في وكأني عشتها مراراً ".

كان كلاماً غريباً، مثيراً جعلني أغرق لدقائق في ما تعينيه. بدا لي بأنها كلمات تحمل أموراً كثيرة بالفعل، كافية لأن تقولها فتاة مثلها. بعد سنوات في محطة في الكفرة – تازر ركبت مع دكتور جامعي قال بأنه يُدرس في سبع جامعات ليبية. قال بأنه يشعر بأن مستوى الطلاب أمر مخزي، أخبرني قصصاً عن الزمن القديم قائلاً بان التعليم كان في السابق، أما الآن فأن الأمر لا يعدو كونه ركض سنوات فارغة، كان في حدود الخمسينات من عمره، خصلة كبيرة تستلقي على جبهته، منحته مظهر فنان، أكثر من مدرس للكتابة الإبداعية. كنت قد قابلته في الجامعة مراراً دون أن أتحدث معه، على الحافلة وجدت فرصة لأن أفتح له موضوع التأثر ذاك، كان رده رائعاً –

" أجل – قال – الكلمات قد تبدو غير أخلاقية في كثير من الأحيان، أذكر بأني قرأت مرة لمصطفى محمود كتابه " 55 مشكلة حب " وقتها كنت في الخامسة عشرة من عمري، في ذلك الكتاب قصص كثيرة تحمل معلومات عن أناس غير أخلاقيين، أحدهم يتحدث عن السير عارياً في غرفته الخاصة فقط لكي يغوي الفتيات في البنايات الأخرى، غالباً ما كان ينجح وإن كان يتلقى بعض الإهانات. شخص أخر أحاول أن أنساه كان يقول بأنه يملك قدراً عظيماً أو هو يشعر بأنه قائد منذ الصغر، أضاع حياته سدى، وقصة فتاة تزوجت برجل تكتشف لاحقاً بأنه يقيم علاقة مع والدتها. هذه القصص جعلتني لسنوات أعاني من انقسام مريع بين رغبات عدة لا افهمها حتى الآن ".
فكر الدكتور ثم اضاف –

" حسنا لنرى، حكاية عن قتل عنيف أو حالة اغتصاب، تقرأها وحيداً تسمع، ترى وتشعر بالقتل، أحيانا يتم بالضمير المتكلم، تعترف بما لم ترتكبه قط، تتقبل ذهنياً ما تقرأه، تعيشه تقتل أو يقتل أمامك. تكون شاهداً على عملية انتهاك كاملة ثم تنهض كأن شيئاً لم يكن. أرى بأن الكلمات أحياناً تحمل بلادة غريبة، غير مفهومة. التأثر بلا شك يتم على كل النواحي، فقد عانيت لسنوات لكي أسيطر على تفكيري. إنها مسألة مبالاة من الدرجة الأولى، إن سألتني أيضاً أقول بأن بعض القتلة تأثروا بمشاهد قرؤها أو شاهدوها، من ثم طبقوها بكل حذافيرها، في هذه الأيام نسمع بأن ألعاب الفيديو أيضاً تخلق عقولاً قابلة للقتل ".
أذكر جيداً بأن الدكتور صمت قليلاً، أشعل سيجارة، قال لي من وراء الدخان المتطاير عبر الحافلة:
" السؤال هل يمكن للكلمات أن تكون غير ما تبدو؟ هل يمكن أن تكون الكلمات سلاحاً للقتل عن بعد؟ ".
نظر إلى ثم أضاف ملوحاً بأصابعه المفرودة –
" اليوم نسمع عن بعض الأشرطة الفيديو الملعونة. هل تعتقد بأننا نتجاهل قوة الخيال؟ قدرة أن تدفع أحدهم إلى الأزمة الأخلاقية في حين يسعى هو إلى المتعة والترفيه؟ ".
لم يجب الدكتور قط، بل قرر النوم يومها. لم أنم، فكرت طوال الأيام اللاحقة في تلك الفتاة التي كانت تدرس القانون.
هل ستجد يوماً قدرة السيطرة على ذاتها؟.
ذهنياً، كنت أخشى أن أضيع تماما كما حدث مع الدكتور أو فتاة القانون.
" على أن أحفر طريقي على مهل .. قلت لنفسي .. فأنا لا أبحث عن الكلمات لأجل الترفيه كما يفترض الدكتور ولا أبحث عنها لأجل أن اثبت قدراتي الفكرية ".

الكلمات عالمي الحقيقي، أفهم الزمن من خلالها. الروائح، الأحلام، الأضواء والأجساد، كلها أعرفها من خلال الكلمات. سأعمل بهدوء على كتابة روايتي لكي أمنح عالمي مجالاً أوسع. كأني أهدم جدراني العالية. البحث عن الفكرة، إن بنغازي لا تمنح هذه الفكرة بسهولة، قدرتي على النفاذ إليها ضعيفة، الجنوب فيه حكايات عظيمة، لكنها تحتاج إلى الكثير، أحياناً اسأل نفسي:
" هل أنا قادر على استيعاب هذا القدر من الحكايات؟ ".
أجيب نفسي في لحظات درامية مشحونة:
"أجل، إنها عالمي ".

ثمة موسيقى تمنحني المزيد من القوة: الطائر الأبيض، فيروز، الموسيقى المروكية والراب. سأكتب عن ما أعرفه. غالباً ما أقضي حلماً يستغرقني حتى أسهو عما يحدث حولي.

هذه المرة كنت قادراً على التميز ما يحدث بجواري. الشمس غربت تماماً، العجوز مكتنزة فقدت صبرها فقررت أن تصعد الحافلة في غياب السائق، تسحب قفة كبيرة فيما انهمك أحد العاملين في محاولة إقناعها عبثاً، قال:
" لقد ألغيت رحلة اليوم يا حاجة ".

فأبدى الكثير من المسافرين غضبهم. عرفتُ بان الأمر محسوم تماماً حملت حقيبتي وذهبت لأعيد التذكرة، كنت أزمع السفر إلى طرابلس لأخذ بعض اللقطات لمدونتي عن البناءات الجديدة هناك، الأبراج والكدح، لكني قررت أن أبقى في بنغازي لأيام ربما لأسابيع أخرى، أعرف بأني لن أكتب شيئاً في هذه الفترة، سأقضى وقتي في التصوير، كما فعلت في الجنوب. متابعة دقيقة للحياة اليومية، ربما وجـدت فكرة واحـدة تعيـدني من ضياعي. فكرة واحدة لتكتمل قصة المصمم الأوروبي.

فكرة من كل مكان أربط بها حكايتي.



النهاية

شكري الميدي أجي
ليبيا \ بنغازي
نوفمبر 2007

نوّار عطرجي
01/12/2013, 07:04 PM
:emot130::emoflower: