المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرحيل



نصرالله مطاوع
08/01/2014, 02:31 AM
قصة قصيرة

الرحيل

قبل عشرين عاما ...أي عندما كنت في الرابعة من عمري ...سألت والدي سؤالا ما زلت أذكره ...قلت لوالدي : أرى الشمس تغيب خلف ذلك الجبل ألها بيت مثلنا ؟

أطرق والدي قليلا قبل أن يجيب ....شعرت أنني أرهقته بسؤالي ...ذلك أني رأيت دمعتين تنحدران من عينيه ...التفت نحوي وقال : عندما يكون لنا بيت يكون للشمس بيت ....

منذ ذلك السؤال أصبحت الشمس صديقتي ...أرقب شروقها كل صباح ...وأودعها حينما تتوارى ...شيء جواني يشعرني بأنها لأجلي لا تريد أن تغيب ....

بيوتنا الهاجعة خلف الجبل تلمح إلى رحيل قادم ...ذلك أن السيل العرم لا يرحم والغيوم بدت تحشد قواها منذرة بشتاء قاس ....

كل من حولنا اقتلع أوتاد خيمته ورحل... سوى والدي والحاج سالم وابنته الوحيدة عائشة ...ماتت أمها قبل خمس سنين ...يومها بكت بحرارة وبكيت لبكائها ....تكبرني بعامين ...جميلة ...تشدني حينما تلفظ حروف اسمي ..ن ...ص ..ر....
أظل طوال اليوم ألهو وعائشة قرب المرعى ...نجمع سنابل القمح ونجري نحو النبعة القريبة من بيوتنا ...نرشق بعضنا بقطرات من الماء نضحك ...نتعارك بود ...نتسابق ..ثم إذا اقترب المساء نعود لبيوتنا هاجعين ...
كانت طقوس المساء أكثر سحرا وقربا من الروح ...يوقد أبي النار ويتحولق السهارى حولها ...كانت حكاياتهم جميلة وضحكاتهم معتقة ...يجلس الحاج سالم قبالة والدي يحدثه عن بلادنا و الهجرة والسنين العاتيات بينما أجلس وعائشة في خباء أمي ...نستمتع ونلعب ونستمع لتلك الحكايات التي يسردها سالم والحاضرون ...تضع أمي طبقا من البزينة بيننا فنظل نأكل حتى نشبع ....كنت أقول يارب أطل هذا الليل كي نبقى سويا ...أعشق النجوم وأعدها...واحدة ..اثنتين ...ثلاثة ... تقاطعني عائشة قائلة : النجوم لك والقمر لي وحدي ...هكذا تقول أمي قبل موتها ...انت قمر يا ابنتي ...أوافق على قسمتها وتستمر هي بعد نجومي فأوكزها ضاحكا ...هي لي ألم نتفق ...؟
هكذا نمضي ليلنا نستمع للحكايات بشغف وفي الصباح نلهو سويا مع أغنامنا قرب البيوت ...
أمضينا وقتا جميلا ننسج من أحلامنا شعاع للحب والأمل والحياة ...حتى جاء ذلك اليوم ...كنت وقتها أجلب لأمي الحطب كي تطهو لنا الطعام وكان أبي والحاج سالم يتحادثان ...سمعته يقول لوالدي ...غدا سأرحل وأبنتي إلى مكان أكثر أمنا لنا ولأغنامنا فالسيل لا يرحم وأخشى أن يجرفنا ...قاطعه والدي قائلا : لو غيرنا بيوتنا إلى مكان أعلى قليلا سنتفادى السيل ولا حاجة لنا بالرحيل ...رد الحاج سالم ...بل سأرحل هناك اوجاع تداهمني وأخشى على عائشة لو حدث لي شيء ...أستمعت لهذا الحديث الذي يشبه الصاعقة ...لم أكد أصدق أنني سأبقى وحيدا دونها ولماذا يريد السيل أن يحرق فرحي ويغرق بهجتي ...ماذا فعلت له ...لا أريد أن أبقى هنا بعدها ....كان حوارها أشد مرارة من العلقم ...كرهت الحاج سالم وكرهت الرحيل وكرهت السيل ...
هذا المساء لم تأت عائشة ...من يعد النجوم معي ...من يأكل طبق البزينة معي ...من من ..اسئلة تحرق فرحي وبهجتي ...أطلقت ساقي للريح وتوجهت نحو التلة القريبة أستجدي الغيوم أن ترحل ...رجوتها كثيرا ...أقسمت عليها أن ترحل وتدعني وشأني .سال دمعي وعيني صوب الغيوم ...
في الصباح كان ضعن عائشة يمشي الهوينا أمام عيني ...كنت أراقب ضعنهم ممسكا بثوب أمي متواريا خلفها أخفي دموعي ...
رحلت عائشة ....ورحلت الغيوم ...بينما داهمتني سيول الوجع فأغرقتني ...

نوّار عطرجي
08/01/2014, 08:42 PM
أتراه قدرا أم قرارا ؟!!!! على كل ما أقسى الرحيل !!!! استهلال بارع وحروف تستدعي بعضها البعض لتصب جداولها في نهر القلب :hat:

نصرالله مطاوع
08/01/2014, 10:07 PM
هو القدر بلا شك
أشكر مرورك وتوقيعك الجميل أستاذة نوار

نايف ذوابه
08/01/2014, 10:33 PM
قصة قصيرة

الرحيل

قبل عشرين عامًا...أي عندما كنت في الرابعة من عمري ...سألت والدي سؤالاً ما زلت أذكره ...قلت لوالدي: أرى الشمس تغيب خلف ذلك الجبل ألها بيت مثلنا؟

أطرق والدي قليلاً قبل أن يجيب ....شعرت أنني أرهقته بسؤالي ...ذلك أني رأيت دمعتين تنحدران من عينيه ...التفت نحوي وقال: عندما يكون لنا بيت يكون للشمس بيت ....

منذ ذلك السؤال أصبحت الشمس صديقتي ...أرقب شروقها كل صباح ...وأودعها حينما تتوارى ...شيء جواني يشعرني بأنها لأجلي لا تريد أن تغيب ....

بيوتنا الهاجعة خلف الجبل تلمح إلى رحيل قادم ...ذلك أن السيل العرم لا يرحم والغيوم بدت تحشد قواها منذرة بشتاء قاس ....

كل من حولنا اقتلع أوتاد خيمته ورحل... سوى والدي والحاج سالم وابنته الوحيدة عائشة... ماتت أمها قبل خمس سنين ...يومها بكت بحرارة وبكيت لبكائها ....تكبرني بعامين ...جميلة ...تشدني حينما تلفظ حروف اسمي ..ن ...ص ..ر....
أظل طوال اليوم ألهو وعائشة قرب المرعى ...نجمع سنابل القمح ونجري نحو النبعة القريبة من بيوتنا ...نرشق بعضنا بقطرات من الماء نضحك ...نتعارك بود ...نتسابق ..ثم إذا اقترب المساء نعود لبيوتنا هاجعين ...
كانت طقوس المساء أكثر سحرًا وقربًا من الروح ...يوقد أبي النار ويتحولق السهارى حولها ...كانت حكاياتهم جميلة وضحكاتهم معتّقة ...يجلس الحاج سالم قبالة والدي يحدثه عن بلادنا و الهجرة والسنين العاتيات بينما أجلس وعائشة في خباء أمي ...نستمتع ونلعب ونستمع لتلك الحكايات التي يسردها سالم والحاضرون ...تضع أمي طبقًا من البزينة بيننا فنظل نأكل حتى نشبع....كنت أقول: يارب أطلْ هذا الليل كي نبقى سويًّا ...أعشق النجوم وأعدها...واحدة ..اثنتين ...ثلاثة ... تقاطعني عائشة قائلة: النجوم لك والقمر لي وحدي ...هكذا تقول أمي قبل موتها ...أنت قمر يا ابنتي ...أوافق على قسمتها وتستمر هي بعدّ نجومي فأوكزها ضاحكًا ...هي لي ألم نتفق ...؟!
هكذا نمضي ليلنا نستمع للحكايات بشغف وفي الصباح نلهو سويًّا مع أغنامنا قرب البيوت...
أمضينا وقتًا جميلاً ننسج من أحلامنا شعاع للحب والأمل والحياة ...حتى جاء ذلك اليوم ...كنت وقتها أجلب لأمي الحطب كي تطهو لنا الطعام وكان أبي والحاج سالم يتحادثان ...سمعته يقول لوالدي ...غدا سأرحل وابنتي إلى مكان أكثر أمْنًا لنا ولأغنامنا؛ فالسيل لا يرحم وأخشى أن يجرفنا ...قاطعه والدي قائلاً: لو غيّرنا بيوتنا إلى مكان أعلى قليلاً سنتفادى السيل ولا حاجة لنا بالرحيل ...ردّ الحاج سالم ...بل سأرحل، هناك اوجاع تداهمني وأخشى على عائشة لو حدث لي شيء ...استمعت لهذا الحديث الذي يشبه الصاعقة ...لم أكد أصدق أنني سأبقى وحيدًا دونها ولماذا يريد السيل أن يحرق فرحي ويغرق بهجتي ...؟! ماذا فعلت له ...لا أريد أن أبقى هنا بعدها ....كان حوارها أشد مرارة من العلقم ...كرهت الحاج سالم وكرهت الرحيل وكرهت السيل ...
هذا المساء لم تأت عائشة ...من يعدّ النجوم معي ...من يأكل طبق البزينة معي ...من من ..أسئلة تحرق فرحي وبهجتي ...أطلقت ساقي للريح وتوجهت نحو التلة القريبة أستجدي الغيوم أن ترحل ...رجوتها كثيرًا ...أقسمت عليها أن ترحل وتدعني وشأني .سال دمعي وعيني صوب الغيوم ...
في الصباح كان ظعن عائشة يمشي الهوينا أمام عيني ...كنت أراقب ظعنهم ممسكًا بثوب أمي متواريًا خلفها أخفي دموعي ...
رحلت عائشة ....ورحلت الغيوم ...بينما داهمتني سيول الوجع فأغرقتني ...



الأديب والقاص الرائع الأستاذ نصر الله مطاوع .. سرْد جميل مؤثر ولغة مشحونة بالمشاعر والعواطف التي تلامس شغاف القلب .. هزّتني القصة أحداثها ولغتها الرفيعة ..



التفت نحوي وقال: عندما يكون لنا بيت يكون للشمس بيت ....

كنت أقول يارب أطلْ هذا الليل كي نبقى سويًّا

هذا المساء لم تأت عائشة ...من يعدّ النجوم معي

ولماذا يريد السيل أن يحرق فرحي ويغرق بهجتي ...؟! ماذا فعلت له ...لا أريد أن أبقى هنا بعدها

رحلت عائشة ....ورحلت الغيوم ...بينما داهمتني سيول الوجع فأغرقتني

عبارات شدّتني وحلقت بالقصة عاليًا وأكسبتها أبعادًا جمالية وبيانية .. وإنسانية


أهنئك على هذه البراعة في امتلاك أداة فنك ..

كرهك للرحيل مبرر وتعلقك بعائشة يستدعي التعاطف ولكن كرهك للعم سالم ضبابية وخطأ في توجيه البوصلة ..


على الرغم مما يكابد البدو من معاناة في الترحال ينتجعون مساقط الغيث والكلأ وحياة الاستقرار لكنها حياة مفعمة بالعزيمة والإرادة وينشأ معها الأبناء رجالا أشداء يواجهون لأواء الحياة وقسوتها بعزيمة لا تلين ..

أنا فلاح أعشق هذه الأجواء وأطرب لها وأتمنى أن أختم حياتي في شعف الجبال أرعى الغنم مستمتعًا بصحبتها لأنها غنيمة كما يقال .. وصحبتها أنس من وحشة صحبة الناس وخاصة في هذا الزمان الصعب الشديد الذي لوث كل شيء وأفسد علينا حياتنا ..

تحياتي لك أيها المبدع .. دققت بعض الكلمات حتى يتكامل هذا الجمال وهي هنات لا تنتقص من جماله شيئا ..

من قال إن الشعر ملك الجمال وسيد الفنون .. هناك نثر فني وفنون نثرية تنافس الشعر وتتسيد عليه ..

صلاح حسين
08/01/2014, 11:52 PM
كم هي رائعة تلك الكلمات الصادقة التي حركت في النفس أوجاع كنا قد نسيناها في ظل مايستجد من أوجاع / حركت مشاعرنا صوب الزمن الجميل ليتها دامت أيامه - سامحك الله ايها الرائع الجميل أستاذ/ نصر الله بن المطاوع / القاص الجميل كم هو جميل العزف بالكلمات - تحياتي

نصرالله مطاوع
09/01/2014, 12:40 AM
الأستاذ نايف ذوابه
أثلج صدري حقا مصافحتك لنصي المتواضع وسعدت بكل حروفك التي قرأتها بتأن ففيها الكثير الكثير من الأشياء والجماليات التي جعلتني اعود لنصي مرة أخرى وأقرأه ...
حروفك وشهادتك هي وسام على صدري ...أشكرك حقا ...

نصرالله مطاوع
09/01/2014, 12:43 AM
الأستاذ الجميل صلاح حسين
سرني كثيرا مرورك الجميل...تتوق أرواحنا لذلك الزمن الجميل
أشكر حسك وحضورك الأنيق دائما ...

علي العبودي
15/06/2014, 02:16 PM
نص جميل يستحق الاهتمام