المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قطعان للموت



شكري الميدي
11/02/2014, 06:22 PM
قطعان للموت

1

كنا نتحدث حين ذكر تلك القصة، أحد شهود العيان وقد كانوا قلة. نظرتُ إليه بدا ثملاً بعض الشيء، فهو من كثرة الشرب، يلوح ثملاً على الدوام حتى لو لم يقرب المشروبات الروحية. كان في منتصف الأربعينيات. عينيه ضيقتين، بشرته رمادية، يقول بأن كونه حرسا للحدود الليبية السودانية أمر أنهكه تماماً. فالحياة في تلك البقاع بين الجبال الصحراوية ومع الوحوش التي تسرح ليلاً، سببت له خللاً في التفكير، الشرب عند المنافذ أمر ضروري كالشرب في شتاء باريس.

التقينا في ليمو شمالي باريس بـ 150 كم بمقاطعة ماين دو اللور. كان قد قدم أوراق اللجوء، قابل محامي بارع، أما أنا فقد طلبتُ مترجماً فجلبوا لي مغربياً، يلوح مسناً، وهو بدوره عليه علامات الثمالة، التي بدأت أراها في وجوه الجميع، هززت رأسي وقلت بأنني في خطر، كانوا يعرفون. تعاطفوا معي، انحنت علي سيدة مسنة، بيضاء البشرة، لدرجة تسبب التوتر، قالت بأنها لا تحبذ الحروب، وإنهم الأوروبيون لا يحتملون مشاهد الحروب، فقد عاشوها في تاريخهم بفظاعة، وإنني هنا بأمان تام. في الخارج كان صديقي ينتظرني، برفقة رجل من دارفور، قفز على متن قارب صغير من طرابلس، مع مائة وخمسة عشرة مهاجراً أخرين. وصل للبر الأوروبي خمسة والعشرين منهم فالباقي قضوا على متن قارب مساحته سبعة أمتار، كانت مليئة بهم أو ابتلعهم المتوسط.

" هل كنت تعرف البحر؟ ".
" لا ".

قال مبتسماً بملل مفتعل، في عينيه شغف.

" لو كنت تعرف هل كنت لتصعد على ظهره؟ ".
" أبداً، لن أفعل ".

كنت متأكداً بأنه سيصعد. مع إنني وصلت بالطائرة للأراضي الأوروبية إلا إنني شعرت بالخطر على نحو غامض. هو كان أشبه بشخص فقد متعة الحياة. جميعنا فقدنا متعة الحياة، وضعنا أنفسنا في دائرة صغيرة، كنا نشعر بها، حول أعناقنا، في أصابعنا، حول معاصمنا، كشخص يجس نبضنا على الدوام.

نظرت لصديقي ونحن نقتعد الحديقة الغير المفهومة، مجموعة إرتيريين، خرجوا من مبنى البارفيكتيور- المحافظة، نظروا إلى، كانت معهم بعض الصبايا، النحيلات بجمال صبياني، رقيق، أعينهن كبيرة، متسعة، وفيها حزن واضح، بدون جميلات، اقتربت واحدة منهن ثم تحدثت بلغة الأمهرية، لم اكن افهمها، فابتسمت بلا رد، فبدأت تبدي عدم الفهم من ضحكات صديقي.

" لا أفهم ".

قلت بالفرنسية، فهزت راسها مبتسمة ثم غادرتْ بهدوء.

" كان عليك أن تدعها تتحدث ".
" لم أكن افهمها ".
" أظنها كانت تعرف ".
" حقا؟ ".
" ربما ظنتك اريترياً وربما أرادت أن تتعرف، جميلة ها؟ ".

لم أجب، لذا أخذت أنظر للحديقة، التماثيل عند الساحة، الأحصنة المتجمدة، الأشجار بجذوع ضخمة عالية، المقاهي المشمسة، الموظفون الذين يستغلون الوقت لشرب القهوة والتدخين وأكل الشطائر مع أكواز العصائر التي تبرق في وهج الشمسي الدافئ. كنا جالسين نستمع لرنات اللغة البهيجة والخافتة كطلاسم سحرية، من عجائز متأنقات، وشبان يلوح عليهم التعب والارهاق، رومانيين. كان الدارفوري انتهى من شطيرته وشرع يدخن حين سألته:

" كيف ماتوا؟ ".

" حسنا، لقد تهنا في البحر أسبوعاً، قل الماء، زاد عطشنا، بعضهم جنوا، أرادوا أن يشربوا غصباً فقمنا بإلقائهم في البحر. تركناهم يغرقون، كنا نراهم يصارعون المياه، تابعناهم بصت وهم يغيبون ثم يظهرون مرة اخرى خلال الساعات اللاحقة، ففي اليوم الثاني من ضياعنا، كونا مجموعة من الحراس، جعلناهم يؤدون عمل الشرطة، فرضنا نظاماً على متن القارب، الصغير، كل من يرفض الأوامر نقوم بإلقائه من المركب، سرعان ما يختفي بين الأمواج، جميع الجثث نلقي بها، أطفال، نساء، رجال، كانت دوماً تعود لتصطدم بالمركب، كنت خبيراً في الجي بي اس، كما إنني اتكلم الانجليزية، أعطوني اللا سلكي لكي أجيب لدى أول التقاط لأية اشارة، كنت نتجه ناحية اليونان، كما أخبرنا العسكري الليبي في ضواحي طرابلس، لكننا تهنا، كان على الجي بي اس شاب مغربي، تم القاءه في البحر بسبب خطئه. كدنا نموت جميعاً، في اليوم السابع في عرض البحر، حين رأيت جداراً ضخماً يقترب، حجب الشمس، ثم أطلق بوقاً عالياً، كانت سفينة ايطالية، ألقوا إلينا بقناني المياه، ثم غادرتْ، بعدها بساعات جاءت مراكب التابعة للخفر السواحل الايطالية، رشونا بالمياه، بعد ذلك اخذونا إلى جزيرة لامبيدوزا ".

افترقنا عند نهاية الحديقة، صديقي كان صامتاً طوال الوقت، حين وصلنا البيت، نظر إلى بحزن أشعل سيجارته.

سألته:

" ما بك؟ ".
" لا تسألهم عن طريقة مجيئهم ".
" لماذا؟ ".
" لا تفعل، الأمر مؤلم، أنت لا تفهم ".

لم أتكلم نظرتُ إليه فقط، حين اضاف:

" لكي يصلوا عاشوا الموت عشرا المرات، فقدوا أصدقاء، أهاليهم، اشياء مريعة مروا بها، يتحدثون عنها بإسهاب، ثم يغرقون ليلاً بالشراب حتى الثمالة، لينسوا ما تذكروه، لذا لا تسأل أحد عن كيفية مجيئه، إنه أمر مُعذب ".

جلست بالقرب منه وقلت:

" لن أفعل مجدداً ".

2

نظر إلي وقال:

" قبل سنوات كنت حرساً للحدود بين ليبيا والسودان ".

هززت رأسي مستمعاً.

" ذات مرة، جاء تجار ماشية، بستة الآلاف رأس من الأبقار، عبروا بها الصحراء الشاسعة، حين وصلوا إلى الحدود الليبية، تلقينا أمراً بعدم السماح بإدخال أية ماشية من السودان. كانت هناك مشاكل سياسية بين الدولتين، فقمنا بمنع دخولها، أحد المسؤولين عن القطيع، طلب منا أن نسمح لهم بدخول الحدود حتى يقوموا بسقاية الماشية ومن ثم سيخرجون. لكننا رفضنا تماماً السماح لهم بالدخول أرجعناهم إلى أعماق الصحراء، ثم تمركزنا واسلحتنا مصوبة ناحيتهم، كنا نضحك بسادية ".

انحنى، وأخرج لفافة أخرى، أشعلها، ثم نفث دخاناً كثيفاً في سماء الغرفة، سعل على اثرها وارتسمت على وجهه علامات الانهاك.

" على مدى ايام رأينا القلق يدب بين الماشية، أصحابها جاءونا أكثر من مرة يتوسلون السماح لهم، لكننا كنا نرد بعدم قدرتنا على ذلك، إنها الأوامر. ذات صباح، كنت نائماً حين سمعت وقع أقدام متتالية وهائلة، على الأرض، كزلزال متموج، يقترب ثم يبتعد ليقترب مرة أخرى. نهضت مسرعاً كالملسوع، سألت أحد الشباب المسلحين في وقفة جامدة:

ماذا هناك؟
أنظر.

نظرتْ فوجدت القطيع وقد هاج في الخلاء. الآلاف من الأبقار العطشى، تركض بجنون في الخلاء الواسع، تطلق أصواتاً مجنونة، تبصق زبداً، وتثير الغبار، تتساقط، ثم تقف، تصطدم رؤوسها بتلك القرون الهائلة، على صخور الجبال، ثم تعود في اتجاهات مختلفة، طوال يومين وثلاث راقبنا الأمر بحزن شديد، كنا نضحك في البداية، ثم ما عدنا قادرين حتى على الضحك، لم نعد نقدر على الضحك، فالموت عطشاً كان بشعاً، حتى للحيوانات. مرعباً. لا زلت أتذكر منظرها وهي تطيش في تلك الصحراء القذرة. لا زلت تلك الأعين الواسعة التي تجف، لا زلتُ أكره الحكومات التي تسببت بهذا وتتسبب به حتى للبشر. أبداً لا يمكن نسيان هذا، كما لا يمكن الحديث عنه دون ثمن ".

" ماذا فعل التجار؟ ".

سألته ببلاهة لا تليق بما كان يعانيه، لكنه قال:

" إنهم تجار، خسروا المال ربما، لكنهم سيظلون تجاراً خسروا بعض المال، إنهم يتاجرون بالبشر والحيوانات على سواء ".

كنا في الدور الرابع، وقد فتحت النافذة، لألتقط الهواء البارد، كان الأفق مليئاً بالمباني ومن بعيد تظهر محطة القطار، استدرت دخلت المطبخ، شربت كمية كبيرة من المياه لأتغلب على العطش المفاجئ.


تمت



شكري الميدي أجي
ديسمبر 2013
بنغازي