المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشّتم والشّتائم



حسين أحمد سليم
29/03/2014, 07:03 AM
الشّتم والشّتائم
فنون وجنون في السّبّ واللعن

بقلم: حسين أحمد سليم (آل الحاج يونس)
كاتب ناقد وفنان تشكيلي باحث, من بقاع لبنان الشّمالي, قرية النّبي رشادة, نجمة هلال بلدات غربي بعلبك...

الشّتم فنون لفظيّة نابية, مستهجنة ومرفوضة وليس لها مشروعيّة أدبيّة وأخلاقيّة وقانونيّة ودينيّة, ومن فنون الشّتم أنواع وأنواع من العجائب والغرائب, والشّتائم أشكال وفي أشكال الشّتائم إبداع سلبيّ على إبداع سلبيّ, والسّبّ ألوان وفي ألوان السّباب أطياف قاتمة فوق أطياف أقتم, واللعن درجات وفي درجات اللعن مستويات وأوزان على قدر الملعون بها واللعين, ما أنزل الله بها من سلطان... وجميعها محرّمة أدبا وأخلاقا ودينا وقانون, ولا يجوز إستخدامها لأنّه تعكس إنحطاطا في الوعي والعرفان والإستنارة والإلتزام وحفظ كرامة الإنسان...
ففنون الشّتم وأشكال السّبّ وسيمفونيات اللعن كثيرة في بيئة جميع المجتمعات وحدّث ولا حرج, وإهانة الإنسان الآخر في كلّ مجتمع فنٌ يتّقنه ويمارسه أصحابه, ويطوّرون في تعابيره, ويُحدّثون في تراميزه, ويحسّنونه في محارفه وألفاظه, ويجتهدون في إستنباط تشكيلاته من وحي ما يتراءى لهم, وذلك وفق متطلّبات وقائع الحال...
أفراد المجتمع على إختلاف مشارهم وثقافاتهم, يرثون فنون الشّتم من الأمس للحاضر, ويورّثونها من الحاضر للغد, يعلّمونها لأطفالهم كما يعلّمونهم القراءة والكتابة، لينشؤون عليها صفة في شبابهم, ودائما يحاسب الواحد منّا نفسه, إن قصّر في ردّ الإساءة بإساءة أقوى منها، أو إذا عفا الفرد منّا للإساءة عن مقدرة يحملها، أو إذا سامح لإساءة ما عن إرادةٍ حرّة لا عن عجز، أو إذا تجاوز الإساءة عن رغبةٍ ومحبة, أو إذا تناساها عن عظمة في الأخلاق الكريمة...
ففي أعماق دواخلنا, يسكن شيطاننا الّذي لا يرعوي عن حقن صدورنا بالحقد والكراهية, لنا يوسوس ما شاء له الوسوسة في عقولنا, حيث لا مكان في خفايا نفوسنا للصّفح الجميل، وليس على طرف لساننا من مكان للكلمة الرّقيقة، ولا مكان على ثغرنا للإبتسامة الجميلة، ولا في ومض طرفنا من لفتة حلوة ترفل لها العين بالمحبّة، وميزتنا الّتي نتماهى بها, أن لا قدرة عندنا على حركة الإستيعاب للغير, ولا فعل لنا في كظم الغيظ في نفوسنا, ولا لنا القدرة الذّاتيّة للمبادرة بالعفو عن النّاس...
إذا غضبنا ولو لأتفه الأمور, فغضبنا يتفجّر ثائرا كما البركان المتفجّر بشواظ الحمم، نتشظّى بحمم شتائمنا ذات اليمين وذات اليسار, وسبابنا يحرق دون رحمة, ولعننا يدمّر دون رأفة, وشتمنا يخرّب ولا همّ عندنا... بركان شتائمنا يثور فجأة، وعلى حين غفلة من ذاتنا, ولا يخمد أبدا, وتتصاعد حممه بسرعة مزهلة عند فعل الغضب، وتعلو ألسنة شتائمنا كالشّياطين، وتتوزّع لسعات لساننا كما رشقات البنادق الآلية، ومدافعنا الشّتائميّة سريعة الطّلقات والقصف, توزّع رشقاتها في كلّ الإتّجاهات و لا تتوقّف ولا تتعثّر، ولا تستريح ولا تستكين، وأبالسة شياطيننا حاضرة دائما، بكامل جهوزيّتها وإستعداداتها, نختارها من مردة فواجر الإنس وننتقيها من جلاوزة الجنّ الأحمر والأسود, والغاية في منظومتنا الشّتائميّة تُبرّر الوسيلة...
حضور بديهتنا سربعة جدّا في حركة الفعل, ولا مثيل لها في إستنباط أنواع وأنواع من الشّتائم, وفكرنا متحفّذ دائما لإختيار الأقذع الأقذع من الشّتائم, فما أجرأنا على بعضنا بعضا؟!... حيث لا يطيب لنا الإطمئنان في حلّ مشاكلنا, إلاّ في حركة فعل جنون التّباري فيما بيننا ومع الآخرين, أيّنا الأسرع غضبا وثورة وحنقا, ومن منّا الأشدّ شتما ولعنا, ومن فينا الأقسى ضربا سبابيّا ووجعا, ومن يكون بيننا الأفعل ألما وإيلاما وتجريحا...
قاموسنا الشّتائمي مستدام التّنامي في ألفاظه والتّحديث في كلماته, وهو دائما غنيّ بكلماته وثريٌّ بسبابه وزاخر بلعناته، محارفه لا تُعدّ ولا تحصى, مفرداته كثيرة المعاني وغزيرة التّعابير، وقرائحنا محشوّة بالكثير الكثير, وفوّارة سيّالة دفّاقة, لا تنضب من كلمة شتائميّة جديدة, ولا تجفّ ينابيعها عن لفظة لعنيّة مستحدثة، وقدراتنا فائقة على الإبتكار والإبداع والخلق وعالية الجودة في الرّسم والتّشكيل لفنون الشّتم واللعن والسّبّ، ولدينا الميزة والسّمة في القدرة على فعل التّركيب لفنون شتائمنا, وحركة التّبديل في جودة سبابنا, وحذاقة التّغيير في مضامين لعناتنا، لتكون الشّتائم واللعنات والمسبّات الّتي نتداولها في يوميّاتنا, بليغةً جدّا وقاسية أكثر، غريبةً في فحواها, عجيبة في منطوقها، لاذعة وجارحة وقادحة وساحقة, ولا من يجاريها...
الشّتائمٌ والسّباب واللعنات الّتي نستخدمها في معتركات عيشنا اليوميّ مع بعضنا ومع الآخرين, لم ولن ولا يعرفها ربّما أجدادنا السّابقون في بيئة مجتمعاتهم، وهي شتائم ومسبّاتٌ ولعنات غريبة عجيبة, ترتعد لهول وقعها الأبالسة والشّياطين, وربّما لم ولن ولا وردت على آذان كثير من السّامعين، يستنكرها ولا يرضى عنها من حالفهم النّضوج والوعي والعرفان والإستنارة من الكبار، ويحفظها عن ظهر قلب الصّغار الّذين سمعوها عن آبائهم وأمّهاتهم ورفقاء السّوء لهم في الشّارع وفي الزّقاق والزّاموق، وربّما في المدرسة أيضا, تطال كلّ شيء ولا تثتثني شيء, فللأبّ منها ما تيسّر وللأمّ منها أكثر، ولا يسلم منها الشّرف والعرض، ولا تُجنّب فيها الزّوجة والأخت، وبعضها من إنتاج محلّي تقني ومن الواقع البيئي المعاش في المجتمع, وبعضها الآخر نستحضره ونستورده من الخارج, عبر العرض والطّلب, والبعض الآخر نحمله معنا من بيئة إلى بيئة, فيما البعض إستهويناه من تعامل وألفاظ بعض الأجانب, أو استوردناه من الغربة الّتي إرتحلنا إليها زمنا, والبعض من هذه الشّتائم إقتبسناه من الوافدين إلى مجتمعنا أو أولئك السّائحين, ومن الشّتائم ما نقلناه عن الإعلام الأصفر والثّورة المعلوماتيّة الرّقميّة... فجاءت شتائم مركّبة وهجينة, وكانت سبابات مزيجة من هنا وهناك, ولعنات متماذجة بين كلمات شتائمنا وسباباتنا ولعناتنا...
ومن الشّتائم والسّباب واللعنات تلك الّتي نتجرّأ بها على من فوقنا في السّماء, ونتتطاول بها كفرا وإلحادا على الذّات الإلهيّة، ونتجنّى بها على حرمات المقدّسات الدّينيّة، ونعتدي بها زورا وبهتانا على الحرمات والمقدّسات، ولا نستثني فيها قيمةً من قيم الأديان, إلاّ وننبشها من مخبئها, ونشتمها ونسبّها ونلعنها، ومن شتائمنا المتداولة بين بعضنا تلك الّتي تنال إهانة من الرّسل والأنبياء, وتطال كرامات الخلفاء والأئمّة والقادة الكبار ورجال الدّين, ولا تستثني زوجاتهم وأمّهاتهم والمؤمنات، والطّاهرات العفيفات، وتمتد الشّتائم واللعنات والسّبابات لتشمل أصحاب الكتب الدّينيّة والرّسالات السّماويّة، من لدن آدم, وصولاً إلى خاتم الرّسل والأنبياء...
قواميس شتائمنا وسبابنا ولعننا, والّتي تزخر بها صدورنا وعقولنا ووجداننا وقرائحنا وألسنتنا, ليس فيها من حرمة وإحترام لرجلٍ متقدّم في السّنّ والعمر أو عجوز، وليس فيها من حرمة لكبير وقور, ولا حساب فيها لمعالم هيئات الإحترام, ولا وقوف لها عند مشهديّات أشكال الوقار, وليس فيها من إحترام وتقدير لمن تظهر على وجوههم هيبات الإحترام والتّقدير، وليس فيها من حرمة لميّتٍ تحت التّراب, ولا كرامة فيها لحيّ يجري على التّراب، ولا رحمةً لضعيفٍ أو مريض أو سقيم أو فاقد الوعي والرّشد، ولا حرص فيها على طفلٍ صغير أو قاصر أو يتيم أو فقير أو معوز أو متسوّل...
وفي قاموس شتائمنا, المكتنز بالسّباب واللعنات, المفتقر لكلّ الألفاظ الرّقية الكريمة, ليس فيه من خجل على أو من إمرأةٍ أو سيّدة, ولا وجل فيه من فتاة أو أنثى، صغيرةً كانت أو كبيرة، ولا مراعاة لحشمةٍ, أو الوقوف عند عيبٍ ما، ولا حياء من أخت، ولا خوف من أم، ولا حرص على مشاعر المرأة، بل سعيٌ حثيثٌ لخدشِ كرامتها، وفعل عن سابق تصميم لإهانةِ مشاعرها، والقصد في الإساءة لنفسها وثلم أنوثتها وكرامتها، واعتداءٌ فاضح عليها، وتطاولٌ على مكنون وحرمات ومفاتن جسدها...
كُلُّنا شتّامون وكُلُّنا سبّابون ووأغلبنا لاعنون, إلاّ من رحم ربّي وهم قليل, فالشّرطيّ يمارس فعل الشّتم من الفجر إلى النّجر، والموظّف يرفع صوته بالشّتم ويصخب بالسّبّ، ورجل الأمن يسبّ ويلعن، ويهدّد ويتوعّد، والطّفل الصّغير في الشّارع يشتم ويسبّ ويلعن، ويرفع صوته بغريب الشّتائم ولا يخاف، والسّائق يصرخ ويشتم ويلعن, إذ لا رادع يردعه, ولا وجدان يضبطه, وليس هناك من يحاسب الشّتّام أو يحاسبه, ولا الموظّف من مسؤول يطالبه، ولا الصّغير تؤنّبه أمّ، ولا يعنّفه أبّ، ولا إبن الشّارع يمنعه أو يعاقبه قانون...
الرّجال تشتم وتسبّ وتلعن، والنّساء ترفض أن تكون أقلّ من الرّجال فتلعن، وتسبّ وتشتم، وتباري الرّجال بكلماتها وألفاظها، وتنافسهم بمخزون مفرداتها، إذ لديها أكثر من الرّجال، وعندها ما يميّزها كأنثى، تصرخ وتمارس العويل وترفع من صوتها, وتمارس فعل الافتراء والإدّعاء والإتّهام, وأحياناً استخداماً للحذاء الّذي تنتعل أو تجد بين يديها...
المثقّف في مجتمعاتنا العربيّة كما الجاهل يستويان في الشّتم ولا يختلفان في اللعن والسّبّ، كلاهما يمارس اللعن والشّتم والسّبّ ولا يرعويان, والمتعلّمون على شاكلة الأمّيّين, يتساوون في أوقاتٍ ما، ويتطابقون في ساعات معيّنة، فتتلاشى الفروقات بينهم، وتسقط الفوارق عندهم، فيتباريان أيّهم أسرع غضباً، وأشدّ سبّاً ولعناً وشتماً...
مظاهر غريبة وأشدّ غرابة في بيئة مجتمعاتنا, ومشهديّات عجيبة وأشدّ عجبا في لغة التّبادل الشّتائمي بين أفرادنا، وهي مستنكرة أشدّ الإستنكار ومدانة بقوّة وشدّة، ومرفوضة جملة وتفصيلا وغير مقبولة، وهي وإن لم تكن ظواهر عامّة وسائدة في كلّ مكان في أرحبة المجتمعات، وشائعة وسائدة في كلّ بيئة، إلاّ أنّها في نفس الوقت موجودة بيننا، شئنا أم أبينا, لا نخفيها عن الآخرين ولا ننكرها في المكان والزّمان، ولا نفترض في البعد الخيالي وندّعي عدم وجودها وأنّها ليست قائمة، ولا يجوز لنا أن نخفّف من وقع فعلها الأسوأ, ولا علينا رغبة منّا في التّجميل أن نقلّل من أخطارها ومساوئها في بيئتنا ومجتمعنا...
ففي الوقت الّذي لا نستطيع فيه علاجها, مهما بذلنا من تربية وتوجيه وهدي، ولا ننجح في محاربتها مهما تصرّفنا بقساوة أو حتّى بليونة، فعلينا أن نتصرّف بكثير من الحكمة والدّراية, وإعداد الأجيال الصّالحة الّتي لا تحمل في كينونتها إلاّ الكلمة الطّيّبة واللفظة الجميلة واللغة الأنيقة... لأنّ مثل هذه المظاهر تتعارض مع المناقب الرّفيعة والعالية, وتتعاكس مع مكارم الأخلاق وسموّها, وتخالف منظومات الشّرع الدّيني في كلّ الرّسالات والأديان السّماويّة, وتتعارض مع كلّ قيم الحضارة والمدنيّة والمذاهب والفلسفات الوضعيّة، وتتناقض مع الذّوق واللباقة وبلوماسيّة السّياسة، وتتنافي مع الحسّ المرهف والشّعور الإنساني، ولا تتطابق مه ميّزات الخلق النّبيل، وتتعارض كثيرا مع درجات الثّقافة والعلم والفنون... وهو ما يوجب علينا محاربتها وإزالتها من دواخلنا وفي أنفسنا أوّلاً, قبل مطالبة الآخرين بالإمتناع عنها، ونبذ التّعامل بها والتّواصل بها والتّداول بها, وبالتّالي العمل الفعلي لإرشاد وتوعية الآخرين للتّوقّف عن استخدامها واللجوء إليها ومهم كانت الأسباب والمسبّبات...