المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السّياحة الدّينيّة في لبنان



حسين أحمد سليم
03/04/2014, 06:52 PM
السّياحة الدّينيّة في لبنان
وأضواء على مزارات ومقامات ومشاهد بقاعيّة بعلبكيّة بين الواقع والإفتراض

بقلم: حسين أحمد سليم (آل الحاج يونس)
كاتب مفكّر وناقد, فنان تشكيلي متجدّد, مؤرّخ موثّق وباحث, مخترع مبتكر ومبدع, عربي لبناني من قرية النّبي رشادة البقاعية, نجمة هلال بلدات غربي بعلبك الشّمالي...

تُعتبر السّياحة بشكل عام من المؤثّرات في حركة فعل إثراء النّفس الإنسانيّة بالإطمئنان, لما تزيد فيها من رؤى مشهديّات ومعالم تاريخيّة وطبيعيّة وأثريّة وموروثات متنوّعة, تحمل المُشاهد لها على صهوات أجنحة الخيال الوجدانيّ لترود به حقب الأمس القريب والبعيد, كاشفة له من خلال بقاياها سيرة الماضي ورجالاته في مختلف العصور السّالفة...
والسّياحة الدّينيّة يُمكن إعتبارها جزءًا مهمًّا من السّياحة الشّاملة, ولهذه السّياحة الدّينيّة تأثيرها الفاعل والمميّز في عمليّة إذكاء النّفحات الرّوحيّة في كوامن النّفس المؤمنة, ولها بالغ الأثر في تقوية العلاقة بالله تعالى, وذلك من من خلال زيارة وإرتياد الأماكن الّتي لها إرتباط روحي ديني سماوي, أو من خلال إنتسابها لله عزّ وجلّ مباشرة كأماكن العبادة, أو إذا كانت تشتمل القبور والأضرحة والأجداث الطّاهرة للأولياء من الأنبياء وأوصيائهم، إضافة لقبور العلماء والأولياء المؤمنين والصّالحين ممّن خلّدهم تاريخهم الإيماني وفعلهم لله تعالى...
والأرض اللبنانيّة المعروفة حاليّا وبشكل عام, عُرفت ما قبل الدّعوة الإسلاميّة, بأنّها ملجأ وموطن الكثير من الأنبياء والرّسل, وما بعد الدّعوة الإسلاميّة, غدت منبعًا ومقصدًا للعلم والعلماء، ومع تعاقب الأيّام والأعوام إنتشرت في ربوعها القبور الكثيرة الّتي تعود إلى بعض الأنبياء والأصفياء والعلماء, وكثرت فيها المزارات والمقامات والمشاهد المنسوبة تحبّبًا وتبريكًا إليهم...
ولقد حظيَت أرض بلادي ووطني لبنان ببركة زيارة وطيب إقامة بعض الأنبياء والرّسل، ووفاة بعضهم على أرضه ودفنهم في ترابه، وإقامة القبور والأضرحة والمقامات والمزارات والقبب لهم, والإستدلال على ذلك واضح وجليٌّ بقبورهم وآثارهم المتفرّقة في إمتدادات الأرض اللبنانيّة...
فأينما حمل ذاته سياحة وإستطلاعًا وإستكشافًا, وتلفّت الزّائر في إمتدادات أرض بلادي ووطني لبنان, سيجد المعالم الكثيرة والمشهديّات السّاحرة, من الآثار الرّائعة الّتي ما زالت قائمة الهياكل, تتعملق فوق الأرض تتحدّى صلف الأيّام, لتبقى تتماهى حيث هي وتدلّ على حضارة لبنان وقدمه, بدءً من العهود القديمة ومرورا بكافّة الحقب التّاريخيّة, وصولاً لحاضرنا... وأين يمّم الزّائر وجهه وإلى أيِّ جهةٍ ذهب في المناطق والقرى والبلدات والمدن اللبنانيّة, فسوف يجد المراقد الشّريفة للأنبياء والمرسلين والأولياء والصّالحين, فكلّ بقعة من بقاع لبنان في البقاع والشّمال والجنوب والسّاحل والجبل, تقف شاهدة على مدى أهمّيّة هذا البلد الجغرافيّ الصّغير في رقعة المساحة, الكبير والغنيّ والمكتنز تاريخيًّا بإرثه الحضاري وموروثه التّاريخي ومعالمه الدّينيّة والرّوحيّة, لجميع الأديان الرّوحيّة السّماويّة ومتفرّعاتها الإجتهاديّة...

هذا, وتُعتبر الآثار الدّينيّة معالم موروثة ذات طابع خاصّ مميّز له خصوصيّاته, وتحديدًا منها المراقد الشّريفة المنسوبة لأنبياء الله وأوليائه, وهي جميعها تُوصّفُ من إحدى أبرز السّمات الجليلة, الّتي تكرّمت بها السّماء لأرض لبنان ولبست من خلالها ثوب الطّهارة المقدّس, لإحتوائها في طيب ثراها مدافن تلك الأجساد الطّاهرة والّتي تعبق بهم قداسة وطهارة على غيرها...
إلى هذا, فقد أُحيطت المزارات والمقامات والقبور والأضرحة, عبر الحقب التّاريخيّة المتعاقبة, بكثير من الرّعاية الخاصّة والإهتمام المميّز من قبل البعض ممّن يهمّهم الأمر من المؤمنين في كلّ جيل, فبذلوا ما بذلوه من حركة فعل التّشييد والتّجديد والتّحديث, دلالة عمّا عرفوه عن سيرة أصحابها أو لما لمسوه من كرامات تجلّت لهم في الزّمان والمكان, أو لما تراءى لهم من ألطاف وإستجابة أدعية ببركة الإستشفاع لهم وبهم... ولقد برزت الإنعكاسات الإيجابيّة على الكثير من المؤمنين, فتجسّدت فعليّا بالمساهمات المتنوّعة, ومن أهمّها وفرة بذل المال من النّذور والأوقاف والصّدقات في هذا السّبيل للبعض منها... ورغم هذّا الإهتمام, فلم تنل جميع المقامات حقّها من نفس الإهتمام, وبقيت بعض القبور والأضرحة لبعض الأنبياء أو الأولياء وقد غلب عليها الإهمال أو غمرها النّسيان, بسبب الظّروف الّتي مرّت بها المنطقة المحيطة بها, من الحروب ونحوها ومن الأوضاع الأمنيّة الّتي ساهمت قسرا على حجب ومنع النّاس عن الوصول إلى هذه الأماكن لزمن ما, ممّا تسبَّب بإضاعة معالم حقيقتها, وأغفل عبر المتاهات وزاد في مجهوليّة قيمتها... هذا الوضع الّذي ساد ردحا من الزّمن الّذي مضى في الإهمال وعدم الإهتمام, زاد من ضياع المعالم والمعلومات الحقيقيّة, وهو ما برز في عمليّات التّوصيف والتّنسيب, بحيث تسبّب الإهمال غير المقصود لقبر نبيّ بتنسيبه خطأ, وهو ما تسبّب أيضًا بتنسيب قبر عبد صالح على أنّه من قبور الأنبياء...
ورغم كلّ الفقر والحيف الّذي تعاني منه مناطقنا, النّاتج عن الإهمال واللاّمبالاة لغالبيّة مناطقنا وبعض بلداتنا وقرانا ومدننا في البقاع والجنوب والشّمال, نتيجة سياسة مديدة من الحرمان واللاّإهتمام والإهمال وحتّى الاضطّهاد, فهناك علامات فارقة تتميّز بها هذه المناطق، سيّما بلدات وقرى ومدن البقاع الأوسط والشّمالي في لبنان, بحيث يلاحظ الزّائر مدى عمق الإيمان المتجذّر في نفوس أبناء هذه المناطق, وما هذا الإيمان الفطري إلاّ دليلاً على مدى تعلّق هؤلاء النّاس الكبير, وإرتباطهم الوثيق بالدّيانات السّماويّة وما أتت به على مرّ العصور...
البعض من كتب التّاريخ تذكر في بطونها روايات كثيرة, تُفيد أنّ أوّل أرض إستقرّ فيها آدم بعد نزوله من الجنّة كانت أرض بعلبك في البقاع الشّمالي اللبناني، وأنّ بعلبك تُعتبر أوّل مدينة تُبنى على هذه الأرض... وتُؤكّد الدّراسات التّاريخيّة أنّ (قابيل) أو كما يُسمّونه (قايين) وبعد أن قتل أخاه (هابيل) بوسوسة من الشّيطان, أصابه الخوف وسكنه الهلع، فبنى لنفسه, طلبًا للأمان, هيكلاً في بعلبك, سكنه وإتّخذه حصنًا له، ومن ثمّ رزق الله آدم إبنًا ثالثًا سمّاه (شيث)، وله ضريح يُنسب إليه، قائم حتى الآن في بلدة مُسمّاة على إسمه "النّبي شيث" والّتي تقع في البقاع الأوسط على هضبة من سلسلة جبال لبنان الشّرقيّة, إلى الشّرق من مدينة زحلة, تحيط بها بلدات سرعين الفوقا وسرعين التّحتا والخريبة والخضر ويحفوفة وجنتا عند الحدود السّوريّة...
وليس مقام النّبي شيث في بلدته وفي البقاع اللبناني الأوسط, وتحديدا جنوبي شرقي منطقة بعلبك سوى أحد الشّواهد التّراثيّة البارزة من الآثار الحيّة, الّتي تؤكّد ما لهذه المنطقة بشكل عام من إرتباط وثيق بالدّيانات السّماويّة منذ الزّمن السّحيق، إذ لا تخلو قرية أو بلدة أو قمّة جبليّة من مقام أو مزار أو معلم أو آثار مقام لنبيّ من الأنبياء، أو وليّ من الأولياء الصّالحين، وبعض هؤلاء بلغ تعظيم النّاس لهم حدًّا كبيرا, ممّا جعلهم يرفعونهم إلى مرتبة الأنبياء, مبالغة في تقديرهم وتكريمهم ومحبّتهم لهم...
فقِلّة الدّراسات التّاريخيّة المعمّقة, وندرة الأبحاث الموضوعيّة التّوثيقيّة, سيّما العلميّة منها والميدانيّة والإجتماعيّة حول موضوع المقامات والمزارات زالمشاهد والأضرحة وغيرها... أفسحت المجال واسعًا ورحبًا, أمام الإجتهادات والتّحليلات والمقاربات والتّكهّنات والإستنتاجات, وحتّى أمام الكثير من الشّائعات والتّقديرات الخاطئة, وما يتراءى لبعض النّاس والعامّة من النّاس، خاصّة في تعريفهم وتوصيفهم العاطفي الإيماني, لبعض أصحاب المقامات أو المزارات بأنّهم من جمهرة الأنبياء, رغم أن وفاتهم حصلت منذ بضع مئات من السّنين، ومردّ ذلك إلى الإفتقار لوجود المراجع التّاريخيّة التّوثيقيّة ونرتها, ولقلّة المعرفة والتّدقيق من جهة, وإلى مشابهة أسماء بعض الأولياء والمتصوّفين والمؤمنين والمتعبّدين بأسماء بعض الأنبياء, الّذين وردت أسماؤهم في القرآن الكريم من جهة ثانية، كإطلاق اسم النّبي سليمان على مقام في بلدة "يونين" مثلاً، وهو في الحقيقة لسليمان بن مهدي اليونيني وكان أحد المتصوّفة, وله زاوية قرب نبعة ماء حسب ما ورد في كتاب "مرآة الزمان" وهو المكان نفسه حيث المقام الآن، وقد عاش هذا المتصوّف في القرن السّابع الهجري، وقد إتّخذ هذه الزّاوية بعد عمّه, الّذي كان أيضًا من المتصوّفين وقد دفن الإثنان فيها، وإختلط الأمر على النّاس مع الزّمن, فإعتبر هذا المقام مقامًا للنّبي سليمان الوارد ذكره في القرآن الكريم...
وهكذا بالنّسبة للمقام المتصوّف عيسى اليونيني الّذي يُطلِق عليه النّاس إسم النّبي عيسى, ظنًا منهم أنّه السّيّد المسيح... وربّما يكون الحال كذلك بالنّسبة لكثير من المقامات والأضرحة المنتشرة في المنطقة...