المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صف



عبدالرحيم التدلاوي
20/05/2014, 08:21 PM
صف
لأمر ما أجلسني المعلم في الطاولة الأولى ، و الحال ، أن من يجلس في هذا المكان هم من أبناء السلالة الكريمة. كنت مقابلا بشكل مباشر للجانب الأيسر من السبورة السوداء الممتلئة بنص عن " العلاقة الجدلية بين الطغيان و الفساد " ؛ و كانت قبالتي خارطة بلدي الحبيب ، و إلى جانبي ، و على الطاولة المباركة نفسها ، يجلس تلميذ مسبل الجفنين حتى إنه ليخيل إليك أنه نائم ، لكنه ليس كذلك ، كما أنه ليس من أولئك الذين يجلبون الصواعق، فقد كان وجهه باسما باستمرار ، لا يجعلك محايدا تجاهه ، و لا راغبا في إيذائه ، بل يدفعك دفعا إلى أن تحبه ؛ بخلافي ، إذ كنت أرى وجهي عابسا رغم أنفي و ضد إرادتي ،و رغم أني بذلت الكثير من الجهد لجعله ينشرح ، فالنتيجة كانت الخسران المبين، إذ لم يصر طلقا كما وددت ، و من هنا رأيت أن كل مساعي من أجل هاته الغاية ستفضي إلى الفشل الذريع ، و أنا أدرك ، في قرارة نفسي ، أن بداخلي طفلا بريئا و مرحا ، يعشق اللعب ، و يحب الناس ، و لا ينتظر إلا فرصة الانطلاق للتعبير عن ذاته ، لكن عوائق مجهولة أبت إلا أن تضيق عليه و تبقيه سجين ذاتي المتيبسة. و هذا جعلني أدرك سر عزلتي و فشلي في تكوين أصدقاء دائمين.
الفصل ضيق ، بجدران رمادية كالحة ، و سقف واطئ يكتم الأنفاس ، و نوافذ لا تحب أشعة الشمس ، تكره النور كما لو برمجت على محبة السواد.

أنظر إلى المعلم بطرف خفي ، و القلب قد نبتت فيه طيور مبللة ،
فأجده قصيرا و نحيفا ، بقسمات صارمة ، و عيون تجول في الفصل باستعلاء ، و كأنه عقاب بانتظار فريسة ، يحمل قضيب زيتون للسع الغافلين ،و غير الغافلين ، إلا من رحم ربك . يطلب منا إعراب النص الطويل كهذا الزمن الذي أبى ان ينصرم رفقا بي ، فالشمس لم تبارح مكانها ، أتابع أشعتها بلهفة عساها تبلغ جناح السبورة ، ليعلن الجرس انتهاء الحصة ، لكن الجرس ظل يرن في داخلي محذرا إياي من معبة السقوط في كمين عيني المعلم المتسلط ، و هما تجولان في هذه الحجرة الضيقة و قد ضمت رؤوسا قد أينعت ، كانت بعدد النجوم لا تسمح للهواء بأن يتجدد ، تمنيت لو كانت إحدى نوافذه تطل على حديقة ما ، إذن ، لصار الهواء منعشا ، و لسمعنا أصوات الطيور ، و لتكسر زجاج الغم من قلبي الأسيان ، لكن ، هيهات ، النوافذ لا تطل إلا على الداخل ، لا تجعلك تبصر إلا الحيطان الرمادية.
كم أكره العربية ، لقد نفرني منها هذا الوغد اللئيم .
تذكرت تلك المعلمة الجميلة التي درستني أول ما التحقت بالمدرسة ، و هي تسألنا بصوتها الناعم كالحرير على إيقاع خطواتها الراقصة و هي تجوب القسم ؛ توزع علينا ابتسامتها العذبة بالتساوي ، ماذا نريد أن نكون في المستقبل ؟
لا أريد أن أكون لا طبيبا و لا مهندسا و لادركيا حتى ، أريد أن أصاحب أبي إلى حقله ، أغرس الأشجار و أحرث الأرض مثله، فذلك يشعرني بالمتعة و الفائدة.
ما كان يرعبني ، أن يشر إلي بأصبعه التي تشبه رمحا مسننا ، و يقول :
أنت ، ما إعراب هذه الجملة ؟
لو فعل لكنت بللت سروالي ! و هو بالمناسبة ، سروال خيط لي من ثوب أحد جلابيب أبي القديمة.
انصرفت إلى الخريطة ألاعب صديقي و يلاعبني ، و نحن نطرح بيننا بصمت أسئلة حول معالم الخريطة و ما تحويه من أسرار ، حذرين من أن يكشفنا المعلم ، و كنت أدعو الله أن يصيرني غير مرئي ، أو على الأقل ، كالسمسمة ، حتى أتلذذ بمعرفة دقائق وطني ، و أعرف مكان أرض أبي..و بمجرد ما دق الجرس وجدت نفسي قد جمعت أدواتي بسرعة و انسللت هاربا من سطوة القضيب الحاد؛ انطلقت ثملا فلم أهتم لا باصطدامي بالباب ، و لا بسخرية التلاميذ.
حين بلغت الشارع شعرت بتحسن كبير ، و بانتعاش ، جعلاني أرقص فرحا ، و أمشي مرحا لا لخرق الأرض و لا لبلوغ الجبال طولا، و لكن للتعبير عن خلاصي من بسطة رجل أظنه يعشق تعذيب الأطفال.
في الطريق أبصرت أناسا فزعين ، تبدو على بعضهم أمارات الخوف ، و البعض منهم كان يصرخ هلعا . أطلقت ضحكة عالية الصوت لما تبينت السبب. فأر ضخم كان يجوب المكان باعتزاز ..
جريت نحوه ،
و قد تمثل لي وجها أعرفه ، و بقذفة من رجلي ، المنتعلة لحذاء بلاستيكي ، لا يأتيها إلا أمهر لاعبي كرة القدم ، طوحت به عاليا ، فارتطم بجدار مخفر شرطة ، ثم سقط أرضا . انتفض قليلا ثم أسلم الروح.
لم أبال بنظرات الناس ، تابعت مرحي و طريقي ،لا أبغي إلا الوصول إلى منزلنا لأنام و أستريح ، و بذا ، أتخلص من كابوس المدرسة.