محمد المهدي السقال
09/05/2007, 03:21 PM
قصة قصيرة
شمس الخريف
محمد المهدي السقال
تطل الشمس من عباءة ما تبقَّى من ليل خريفي ، كأنها خجلى من مواجهة غموق هذه الأرض الكئيبة ، تخترق خيوطها الباردة شقوق واجهة الفاصل القصديري ، فيتحرك '' علال '' محاولا صد امتدادها نحو وجهه البارد ، يهمس لنفسه مشبها صباحاته بتلك التي عاشها في الزنزانة المجهولة العنوان ، أتعبه الصحو مبكرا بلا معنى،يؤرقه السؤال حول تمنع الشمس عن اختراقه ، وهو الذي لم ينفك يشرع جاهدا صدره يبغي بعض الدفء لأوصاله ،
وتكتفي بالتسلل إلى عينيه تمنع عنه الاستغراق في صحبة حلم لا يذكر تفاصيله ، قبل العودة من جديد إلى الاختفاء ، تحجبها غيوم تلبدت بالسماء، سيمضى يوماً لا يختلف عن ثلاث سنوات في هذا الجحر، يخرج إلى سقَّاية الحي اليتيمة ، يقف في مؤخرة طابور الانتظار، متأملا كعادته تعاقب نفس الوضعية التي يغمض عليها جفنيه ، يتفقد وجود '' الغالية ''، وحدها ظلت تعطي طعما لهذا الفراغ المتكرر ، يحدث أن تتخلف عن موعد ورود الماء ، فيستدرك المنع الذي تتعرض له ، يتألم لتحرك حمية أخيها في مواجهة القيل والقال ، مازحتها يوما بهمس :
- ليتك كنت تفعلين شيئا خارجا عن الطريق ، على الأقل كنت ستجدين عذرا لقساوته معك .
تدعو على أخيها بأن تأخذه طيارة ، فأدعو عليه وعليّ ، بأن تأخذنا معا طيارة من هذه الأرض الملعونة بسادتها ، يبدو أنه في لحظة ما ، كانت باب السماء مفتوحة ، إذ استجابت لدعائي عليه ، لكنها تخلت عني و تركتني أرقب اكتمال الشمس بحسرة مميتـة ، رحل ، لكن من غير طيارة ، فقد أبلغت عائلته بغرقه ضمن ضحايا قوارب الموت ، لم يعثر على جثته، أسرت لي'' الغالية '' بأن أخاها كان ضمن الناجين إلى الضفة الأخرى ، تحاشيت سؤالها عن التضارب في الخبر ، رغم تناسله في ذهني ، كيف تغفل عنه عيون المخزن التي تعلم كل صغيرة وكبيرة ؟ لم ترد عليّ ، اكتفت بابتسامة نمَّتْ عن ثقتها فيما تحكيه ، لم أهتم كثيرا ، كنت منشغلا بما كنت أعانيه في حضوره قدر انشغالي بغيابه و ما يمكن أن يكون فيه ، هاجس رغبتي في اللحاق به، صار يكبر ، من يدري، ربما يأتي يوم تكون فيه تلك السماء مفتوحة ، فتحملني أمواج عرض البحر مع '' الغالية '' إلى هناك ، لعلِّي أضرب - كما يقال - عصفورين بحجر واحد ، أتخلص من هذه البدينة التي أسرع إليها الهرم قبل الأوان ، و أغنم بقضيب الخيزران المبلل القدمين شبه الحافيتين ، لكني أعود إلى وجودي المعتل بجميع المقاييس ، شلل في الذات وشلل في الموضوع.
لن يكون اليوم إلا كسابقه ، بعد هجرة '' الغالية '' إلى المدينة، أمست كل الصباحات واحدة ، ستوقظني الزوجة للالتحاق بالسقاية قبل تكدس الواردين، لأقف متأففا من محنة هذا الوجود المر لأكثر من ساعة ، مداعبا حرقة التبول بافتعال حركات ألفتها مخرجا من ضيق اشتداد الحاجة ، لم أعد أرغب في استحضار وجه '' الغالية'' أمامي ، أتعذب لفراقها عذابي من التفكير فيما تعانيه خادمة لدى بعض اليهود المغاربة ، سعيت إلى جر لسان زوجتي كي تحدثني عما تكون قد صارت إليه ، فاكتشفت كيف نزل عليها فراق '' الغالية '' بردا وسلاما، ظللت أحسب أنها آخر من يعلم ، و بدأت تعدد النعيم الذي تعيشه مع هؤلاء اليهود ، ثم ختمت بما معناه أنها معززة مكرمة ، شاجبة حظ زواجها المبكر ، لغتها مفضوحة مهما دارت كي لا تصرح بما تكابده مع هذا '' المزلوط '' (1) العاطل.
و عند عودتي ، سأجدها قد أعدت فطورنا اليومي شايا و زبدة مع ما تبقى من خبز البارحة ، أدخن سيجارتي الأولى على الريق، ممددا رجلاي على الحصير حتى ملامسة قدميها ، في البداية ، كنا نبتسم للاحتكاك ، تتحرك فينا رغبة الوصال بسرعة البرق ، أما الآن ، فقد صرنا نتحاشى مثل هذه الحركات الصبيانية، وقبل شروعي في تناول ما قسم الله هذا الصباح ، ستكون على أهبة الاستعداد للحاق بعربة '' با حمو '' ، ينقل النساء إلى '' حجرة الموقف '' (2)، لعرض خدماتهن على الزبناء من الناس الكبار ، ثم يعود بهن بعد الغروب إلى أوكارهن ، و'' باحمو مُولْ الكارُّو '' (3) عليم بما يصرن إليه ، قبل خروج زوجتي إلى التصبين في الديار ، كنت أستملح حكاياته عنهن ، حين يأخذ في رواية ما يتعرضن له اختيارا أو اضطرارا ، من اغتصاب يطال كل جهات أجسادهن ، ثم لم يعد يحكي في حضوري ، لكن عيونه النزقة ، ظلت تفصح عن معاني كثيرة ، ثم أخرج إلى باب '' البراكة ''، يسبقني دخان السيجارة الثانية ، فتحضن مؤخرتي نفس الصخرة التي أقتعدها منذ ثلاث سنوات ، أستطيع تذكر كم برحتها من مرة بعد خروجي من السجن، كنت أظن صدود '' الحاج الوردي '' عني بسبب سوابقي ، حتى همس في أذني'' با حمو '' بعائق عاهتي، في البناء لا أصلح لأي شيء، و يدي اليسرى شبه مشلولة ، أحسست برغبة عارمة في معاندة إصرار أشعة الشمس على طعن جسدي من الخلف.
********************
محمد المهدي السقال
هوامش :
(1)'' المزلوط '' : الفقير المعدم
(2) '' حجرة الموقف '' : مكان تتجمع فيه النساء انتظارا لفرصة عمل يومي
(3) '' باحمُّو مُول الكارو '' : با حمو صاحب العربة
*********************
شمس الخريف
محمد المهدي السقال
تطل الشمس من عباءة ما تبقَّى من ليل خريفي ، كأنها خجلى من مواجهة غموق هذه الأرض الكئيبة ، تخترق خيوطها الباردة شقوق واجهة الفاصل القصديري ، فيتحرك '' علال '' محاولا صد امتدادها نحو وجهه البارد ، يهمس لنفسه مشبها صباحاته بتلك التي عاشها في الزنزانة المجهولة العنوان ، أتعبه الصحو مبكرا بلا معنى،يؤرقه السؤال حول تمنع الشمس عن اختراقه ، وهو الذي لم ينفك يشرع جاهدا صدره يبغي بعض الدفء لأوصاله ،
وتكتفي بالتسلل إلى عينيه تمنع عنه الاستغراق في صحبة حلم لا يذكر تفاصيله ، قبل العودة من جديد إلى الاختفاء ، تحجبها غيوم تلبدت بالسماء، سيمضى يوماً لا يختلف عن ثلاث سنوات في هذا الجحر، يخرج إلى سقَّاية الحي اليتيمة ، يقف في مؤخرة طابور الانتظار، متأملا كعادته تعاقب نفس الوضعية التي يغمض عليها جفنيه ، يتفقد وجود '' الغالية ''، وحدها ظلت تعطي طعما لهذا الفراغ المتكرر ، يحدث أن تتخلف عن موعد ورود الماء ، فيستدرك المنع الذي تتعرض له ، يتألم لتحرك حمية أخيها في مواجهة القيل والقال ، مازحتها يوما بهمس :
- ليتك كنت تفعلين شيئا خارجا عن الطريق ، على الأقل كنت ستجدين عذرا لقساوته معك .
تدعو على أخيها بأن تأخذه طيارة ، فأدعو عليه وعليّ ، بأن تأخذنا معا طيارة من هذه الأرض الملعونة بسادتها ، يبدو أنه في لحظة ما ، كانت باب السماء مفتوحة ، إذ استجابت لدعائي عليه ، لكنها تخلت عني و تركتني أرقب اكتمال الشمس بحسرة مميتـة ، رحل ، لكن من غير طيارة ، فقد أبلغت عائلته بغرقه ضمن ضحايا قوارب الموت ، لم يعثر على جثته، أسرت لي'' الغالية '' بأن أخاها كان ضمن الناجين إلى الضفة الأخرى ، تحاشيت سؤالها عن التضارب في الخبر ، رغم تناسله في ذهني ، كيف تغفل عنه عيون المخزن التي تعلم كل صغيرة وكبيرة ؟ لم ترد عليّ ، اكتفت بابتسامة نمَّتْ عن ثقتها فيما تحكيه ، لم أهتم كثيرا ، كنت منشغلا بما كنت أعانيه في حضوره قدر انشغالي بغيابه و ما يمكن أن يكون فيه ، هاجس رغبتي في اللحاق به، صار يكبر ، من يدري، ربما يأتي يوم تكون فيه تلك السماء مفتوحة ، فتحملني أمواج عرض البحر مع '' الغالية '' إلى هناك ، لعلِّي أضرب - كما يقال - عصفورين بحجر واحد ، أتخلص من هذه البدينة التي أسرع إليها الهرم قبل الأوان ، و أغنم بقضيب الخيزران المبلل القدمين شبه الحافيتين ، لكني أعود إلى وجودي المعتل بجميع المقاييس ، شلل في الذات وشلل في الموضوع.
لن يكون اليوم إلا كسابقه ، بعد هجرة '' الغالية '' إلى المدينة، أمست كل الصباحات واحدة ، ستوقظني الزوجة للالتحاق بالسقاية قبل تكدس الواردين، لأقف متأففا من محنة هذا الوجود المر لأكثر من ساعة ، مداعبا حرقة التبول بافتعال حركات ألفتها مخرجا من ضيق اشتداد الحاجة ، لم أعد أرغب في استحضار وجه '' الغالية'' أمامي ، أتعذب لفراقها عذابي من التفكير فيما تعانيه خادمة لدى بعض اليهود المغاربة ، سعيت إلى جر لسان زوجتي كي تحدثني عما تكون قد صارت إليه ، فاكتشفت كيف نزل عليها فراق '' الغالية '' بردا وسلاما، ظللت أحسب أنها آخر من يعلم ، و بدأت تعدد النعيم الذي تعيشه مع هؤلاء اليهود ، ثم ختمت بما معناه أنها معززة مكرمة ، شاجبة حظ زواجها المبكر ، لغتها مفضوحة مهما دارت كي لا تصرح بما تكابده مع هذا '' المزلوط '' (1) العاطل.
و عند عودتي ، سأجدها قد أعدت فطورنا اليومي شايا و زبدة مع ما تبقى من خبز البارحة ، أدخن سيجارتي الأولى على الريق، ممددا رجلاي على الحصير حتى ملامسة قدميها ، في البداية ، كنا نبتسم للاحتكاك ، تتحرك فينا رغبة الوصال بسرعة البرق ، أما الآن ، فقد صرنا نتحاشى مثل هذه الحركات الصبيانية، وقبل شروعي في تناول ما قسم الله هذا الصباح ، ستكون على أهبة الاستعداد للحاق بعربة '' با حمو '' ، ينقل النساء إلى '' حجرة الموقف '' (2)، لعرض خدماتهن على الزبناء من الناس الكبار ، ثم يعود بهن بعد الغروب إلى أوكارهن ، و'' باحمو مُولْ الكارُّو '' (3) عليم بما يصرن إليه ، قبل خروج زوجتي إلى التصبين في الديار ، كنت أستملح حكاياته عنهن ، حين يأخذ في رواية ما يتعرضن له اختيارا أو اضطرارا ، من اغتصاب يطال كل جهات أجسادهن ، ثم لم يعد يحكي في حضوري ، لكن عيونه النزقة ، ظلت تفصح عن معاني كثيرة ، ثم أخرج إلى باب '' البراكة ''، يسبقني دخان السيجارة الثانية ، فتحضن مؤخرتي نفس الصخرة التي أقتعدها منذ ثلاث سنوات ، أستطيع تذكر كم برحتها من مرة بعد خروجي من السجن، كنت أظن صدود '' الحاج الوردي '' عني بسبب سوابقي ، حتى همس في أذني'' با حمو '' بعائق عاهتي، في البناء لا أصلح لأي شيء، و يدي اليسرى شبه مشلولة ، أحسست برغبة عارمة في معاندة إصرار أشعة الشمس على طعن جسدي من الخلف.
********************
محمد المهدي السقال
هوامش :
(1)'' المزلوط '' : الفقير المعدم
(2) '' حجرة الموقف '' : مكان تتجمع فيه النساء انتظارا لفرصة عمل يومي
(3) '' باحمُّو مُول الكارو '' : با حمو صاحب العربة
*********************