المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشــــاعر الصغير ( قصّة قصيرة للأطفال)



جمال عبد القادر الجلاصي
09/05/2007, 06:06 PM
الشــــاعر الصغير
(التوأم المختلف)

بمجرّد أن انتهى بيرم ونورهان من مراجعة دروسهما حتى استأذنا أمهما للذهاب إلى لقاء "عمي البحر" من أجل حكاية جديدة...
اصطحب الأخوان أختهما روزا واتجها نحو "عمي البحر" الذي كان متكئا كعادته في أريكته الزرقاء العجيبة... رحّب بالأطفال ورقصت موجاته الصغيرة فرحا بهم.
- كيف حالك "عمي البحر"؟ قالت روزا الصغيرة
- أكاد أطير شوقا للقائك يا عروسي الجميلة، وقلبي يخفق كجناحي عصفور ملائكي كلّما رأيتك تقبلين نحوي كغزال رشيق...
- ما أجمل كلماتك يا "عمي البحر"، كأنّك تقول شعرا!!! قالت نورهان باسمة.
- آه! نعم، يا صبيّتي، فحكاية اليوم عن شاعر قديم جدّا عاش في ربوع خضرائنا المعطاء...
- لكنك قلت في المرّة السابقة أنك ستحكي لنا عن القراصنة! علّق بيرم الذي يفضّل حكايات المغامرات والحروب...
- مازال لديّ آلاف القصص، وأكيد أنك ستشبع من قصص القراصنة والمعارك، أما اليوم فقد تذكرت قصّة مشوّقة عن التوأم المختلف...
- ماذا؟؟؟ توأم مختلف!!! صاح الأطفال بدهشة.
- نعم، لقد وقعت أحداث هذه القصّة في مدينة "أوذنة" التي أسسها الإمبراطور الروماني من أجل ابنته المريضة... فقد نصحه الأطباء باختيار مكان ذي طبيعة خلاّبة وهواء نقي ينعش الفؤاد... فاستشار الإمبراطور قوّاده ووزراءه فنصحوه بتلك الربوة بين مدينة زغوان والعاصمة، فهي تشرف على البحر وتنبت في أرجائها أجمل الأزهار والنباتات العطرية... لقد بنيت المدينة سريعا بفضل آلاف العمال البربر والقرطاجيين، وهم من البنّائين المهرة...
وكان كبير المهندسين "تومرت" من أم بربرية وأب قرطاجي، وكان لديه ابنان توأمان، في العاشرة من عمرهما، كان أحدهما اسمه رائد والثاني رامز.
- أين الشاعر؟؟؟ سألت روزا الصغيرة.
- يجب ألاّ تقاطعي شخصا يتكلّم! همست نورهان لأختها مؤنبّة.
- دعيها وشأنها، قال "عمي البحر". لقد أطلت في المقدّمة...
وكان الولدان يشبهان بعضهما حدّ التماثل، حتى أمهما كانت تضع لأحدهما عصابة زرقاء والآخر عصابة حمراء كي تميّزهما عن بعضهما، وكثيرا ما كان يعبثان بتبادل العصابتين...
كان هذا التشابه في الملامح والقامة يخفي اختلافا كبيرا في الطباع والميول: كان رائد طفلا كثير الحيوية والنشاط، لا يكفّ عن الشغب والركض خلف الحيوانات التي تعتني بها أمه من دجاج وأرانب واللعب مع أطفال المدينة الآخرين، بينما كان رامز محبّا للوحدة والهدوء لا يكاد يتكلّم مع أحد إلا مضطرا للرد على تحيّة أو سؤال. كان رائد محبوبا من الجميع سريع الاستجابة لأي طلب من أمه أو من إحدى الجارات، بينما كان رامز لا يجيب نداء أمه إلا بعد وقت طويل لأنه كثيرا ما يشرد وهو يتأمّل زهرة صغيرة أو قبيلة نمل أو سربا من العصافير التي تعبر سماء المدينة البديعة.
- غريب أمر هذا الطفل، تقول الأم لزوجها شاكية، عليّ أن أعرضه على كاهن المدينة أو الحكيم، لعله يشكو من علّة ما...
- اتركي الولد وشأنه، إنه لا يشكو من شيء، هو مختلف ليس إلا... يقول الأب مهدّئا من روع الأم الخائفة على طفلها.
- لكن ألا ترى انشغاله الدائم وهذا الشرود المتواصل؟
عندما ينهض الأب صباحا، يجد ابنه المختلف جالسا في أعلى الربوة متأملا الشمس التي بدأت تظهر من أقصى الشرق وهي ترسل أشعّتها الرقيقة على الكائنات، وتلوّن الأشياء بفرشاتها السحرية...
ينتبه الطفل بعد وقت طويل لأبيه يتأمله فيبتسم له ويخفض رأسه، ثم يسأله بهدوء:
- أبي أين تقضي الشمس ليلتها؟
- ماذا؟ يقول الأب مستغربا.
- سألتك، أين تقضي الشمس ليلتها؟
- آه! في البحر، إنها تنام في البحر، كل الناس تعرف هذا الأمر...
- لا يمكن! هذا أمر مستحيل!
- كيف ذلك يا بنيّ؟ يقول الأب حائرا.
- الشمس كرة عملاقة من النار، كيف يمكن لها أن تغطس في البحر دون أن تنطفئ؟
- كرة من النار!!! من أخبرك بذلك؟
- لا أحد، ولكني فكّرت طويلا فيها مادامت تضيء الأرض وتدفئ الكون فهي نار...
ينهي الطفل كلماته بهدوء، ثم يخفض بصره متأمّلا عشبة خضراء تفتّح فوقها برعم أصفر، في حين يقف الأب حائرا منتظرا بقية التفسير...
يكبر الولدان بسرعة ككل أطفال الحكايات... ويبدو التميّز على رائد الذي يحفظ كل قواعد الهندسة الفرعونية ويبرع في العمليات الحسابية الأربع، كما يحفظ كل أعضاء الجسم ووظائفها... في حين لا يحظى رامز إلا بشفقة المعلمين الذين يحترمون أباه باعتباره عضوا في مجلس المدينة، لكن الفتى المختلف كان مقلقا كثير الأسئلة الغريبة... لا يقنع بأيّ جواب حتى يفكّر فيه طويلا، وأحيانا يصمت غير راض لكنه يعود بعد يوم أو يومين، أو حتى أشهر ليثير نفس المسألة...
- انظري أمّاه! ما أجمل ذلك القوس الملوّن...
- إنّه عقد "عشتار" آلهة الخصب، تزيّن به جيدها.
- وأين جيدها؟ يقول رامز بعد فترة من الصمت. إن الألوان الخلابة تظهر فقط بعد نزول المطر وظهور الشمس...


- تتكوّن الزهرة ، يقول معلّم الطبيعيات، من ساق وأوراق وتويج وبتلات...
- سيّدي، والعطر؟
- ماذا؟ ما به العطر، يا رامز؟
- العطر من مكوّنات الزهرة...
- لا. من أخبرك بذلك؟ العطر ليس من مكونات الزهرة...
- ولكن سيدي، الزهرة لا تكون زهرة أبدا دون عطرها...
هكذا ظل رامز تلميذا مقلقا وطفلا غريبا، لم يرغب أبدا في تعلّم الهندسة ولا ركوب الخيل واستعمال الأسلحة التي برع فيها أخوه...
حتى كان اليوم الذي رأى الحكيم بيرام الأوراق التي لا تفارق الشاب وطلب منه أن يطلع عليها... مدّ رامز الأوراق بخجل كبير وتردّد لأنه لا يمكن أن يعصي للحكيم أمرا... اتسعت عينا الحكيم وهو يقرأ الكلمات المنتقاة بعناية، والأسئلة التي لم يتوصل، هو الحكيم إلى طرحها فما بالك بالإجابة عنها:
النهر الرّاكض بلا قدمين
والحبّة الصغيرة إذ تخرق الصخر
والطير الذي يعرف طريق العودة إلى العش...
المطر النازل من سحاب كالقطن
وخفقان قلب الأم
وكذلك البرق الذي يمزق جسد الفضاء
...
كلها وأكثر تعبر خاطري
حينما تمرّ "ريما " أمامي
في طريقها إلى المعبد.
...

العصفور الذي يخشى الصيادين
ويرهب الثعابين النائمة بين الأغصان
ويخاف الرعد والبرق
العصفور الذي يؤثر راحة القفص
على مغامرة الحرية
كان يجب أن يبقى في البيضة.
....

عطر الزهرة لا علاقة له بالأشواك
صهيل الخيول لا ينتمي للفارس الذي يمسك سيفا
وهدير الأمواج غناء البحر لبحّارة كبروا
دون رؤية عروس البحر...
انظر إلى النمل وتعلّم:
كلما التصقت بالأرض كلما باحت لك بأسرارها.

- ما هذا يا بنيّ؟ صاح الحكيم ببهجة.
- لا شيء أيها الحكيم الجليل... مجرّد خواطر أدوّنها من حين لآخر وأنا أجلس أمام البحر أرنو له ينتقل من الهدوء إلى الهياج وأعجب لعظمته وغموضه.
- ستكون مساعدي ومستشاري منذ اليوم، أيها الفتى الشاعر...
- شاعر؟؟؟
- نعم شاعر... الشاعر هو ضمير هذا الكون والمتحدث باسم جميع الكائنات...

عدّل "عمّي البحر" من جلسته ونفخ بعض الزّبد الفضّي وواصل: هكذا أصبح الفتى المختلف مستشارا لأعظم شخصية في مدينة "أوذنة" العظيمة وأبدى حكمة كبيرة في حل المشاكل التي تطرأ بين المتساكنين ، أو بين المدينة والمدن المجاورة. حتى أن الإمبراطور نفسه استشاره في بعض المسائل المتعلّقة بشؤون الدولة ووجد عنده النصيحة والرأي السديد.
ورغم الحروب التي خاضها "رائد" والانتصارات التي حقّقها فإن اسمه نادرا ما يذكر، لكن أخاه التوأم ظل ذكره دائما بفضل حِكمه المنقوشة على جدران المعابد، وكذلك بفضل القصائد التي تتغنى بالجمال والخير والعدالة وقد رآها الآلاف تغنّى على مسارح "قرطاج" و"أوذنة" و"الجمّ ". لأن الكلمة الطيّبة هي ما يتبقى حينما نرحل جميعنا.

بديعة بنمراح
10/05/2007, 05:14 PM
:vg:
قصة جميلة لغة و أسلوبا و حبكة .استمتعت و أنا هنا في رحاب الحرف البديع
أسجل إعجابي . مع كل الود

هري عبدالرحيم
10/05/2007, 08:21 PM
قصة جميلة صيغت بأسلوب جميل.
فيها من الخيال ما يُبهر القاريء ويتركه متابعا عملية الحكي دون ملل أو سأم.
تحيتي لك أيها الرائعُ إبداعه.

زهير الترابي
11/05/2007, 01:15 AM
الجميل جمال هنا
امر للتحية
محبتي لك ولتونس الخضراء
هشام

جمال عبد القادر الجلاصي
11/05/2007, 05:04 PM
بديعة:

شكرا لأنك دوما هنا،
شكرا لحضورك البهيّ وكلماتك الرقيقة
ودّي

عمرو عبدالرؤوف
12/05/2007, 12:55 AM
الشاعر هو ضمير هذا الكون والمتحدث باسم جميع الكائنات...

*******
لأن الكلمة الطيّبة هي ما يتبقى حينما نرحل جميعنا.


الله الله الله
:fl: :fl: :fl:

قصة حِكميّة جميلة مثلك سى جمال عبدالقادر

كم انت رائع

تقبل خالص محبتى وقديرى

جمال عبد القادر الجلاصي
12/05/2007, 03:11 PM
شكرا صديقي المبدع هنري
على مرورك وكلماتك المشجعة
احترامي ومودتي

جمال عبد القادر الجلاصي
28/05/2007, 01:10 PM
بديعة

يبدو أن الطفلة فيك

لا تنام ابدا

محبتي وتقديري

عامرحريز
28/05/2007, 01:33 PM
رائع..
أتأذن لي بقراءتها على أبناء وبنات أخواتي؟

جمال عبد القادر الجلاصي
28/05/2007, 08:12 PM
أخي عامر

القصة ملك لكل طفل

وأظن أن الطفل داخلك لا ينام

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
24/11/2007, 11:01 AM
الشاعر هو ضمير هذا الكون والمتحدث باسم جميع الكائنات...

*******
لأن الكلمة الطيّبة هي ما يتبقى حينما نرحل جميعنا.


الله الله الله
:fl: :fl: :fl:

قصة حِكميّة جميلة مثلك سى جمال عبدالقادر

كم انت رائع

تقبل خالص محبتى وقديرى

شكرا صديقي عبد الرؤوف

مرورك رائع دوما

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
22/04/2008, 11:51 AM
:vg:
قصة جميلة لغة و أسلوبا و حبكة .استمتعت و أنا هنا في رحاب الحرف البديع
أسجل إعجابي . مع كل الود


شكرا لك بديعة

على هذه الكلمات الرقيقة

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
13/05/2008, 05:36 PM
قصة جميلة صيغت بأسلوب جميل.
فيها من الخيال ما يُبهر القاريء ويتركه متابعا عملية الحكي دون ملل أو سأم.
تحيتي لك أيها الرائعُ إبداعه.

المبدع هنري:

مرورك دوما يسعدني

محبتي

جمال عبد القادر الجلاصي
02/09/2008, 12:56 PM
رائع..
أتأذن لي بقراءتها على أبناء وبنات أخواتي؟

أخي عامر

طلبك يشف عن روح طفلة

محبتي لك

جمال عبد القادر الجلاصي
16/05/2009, 12:13 PM
قصة جميلة صيغت بأسلوب جميل.
فيها من الخيال ما يُبهر القاريء ويتركه متابعا عملية الحكي دون ملل أو سأم.
تحيتي لك أيها الرائعُ إبداعه.

أخي هري:

في ردّك من الكلمات ما يفرح قلبي

محبتي