المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ابن رشد وفن الشعر (فصل من كتابى الجديد: "ابن رشد- نظرة مغايرة")



إبراهيم عوض
14/01/2015, 04:04 AM
ابن رشد وفن الشعر
د. إبراهيم عوض

لأرسطو، كما هو معروف، كتاب عن "فن الشعر"، يتحدث فيه عن الملحمة والمسرحية الشعرية، وإن كان التركيز فيه على المسرحية، محللا طبيعة فن المأساة متخذا من مسرحية سوفوكليس: "أوديب مَلِكًا" نموذجًا أساسيًّا. وكان أرسطو يعتقد أن المأساة تؤثر على المشاهِد عن طريق إيقاظ عاطفتي الشفقة والخوف ثم تنقيته وتطهيره منهما. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى العربية لأول مرة على يد متى بن يونس المتوفى سنة 328هـ، وتناوله ابن رشد بعد ذلك بأكثر من قرنين فشرحه مستقيا كثيرا من أمثلته من الشعر العربى، ومطبقا ما فهمه من أرسطو على الشعر العربى. وقد وقع من المترجم خطأ فادح أدى إلى أن يضل ابن رشد طريقه تماما فى تلخيصه لكتاب الفيلسوف الإغريقى وشرحه له، فكتاب "الشعر"، كما قلنا، يتناول فن المأساة فى المسرح مع بعض الالتفات إلى الملحمة، لكن مترجم الكتاب إلى العربية وهم أن الحديث فيه يدور حول فن الشعر كما تَعْرِف العربُ الشعرَ، وبالتحديد فن المديح، أى الشعر الغنائى، فكلما قرأ ابن رشد شيئا عن المأساة قلب الكلام إلى المديح ذاهبا فى وادى الأوهام كل مذهب ومستشهدا بالشعر العربى فيما لا مدخل للشعر العربى فيه. وذلك كله تبعا للوهم الأول الذى وقع من مترجم كتاب الفيلسوف اليونانى.
ولكننى لن آخذ ابن رشد بذنب غيره، بل إننى لا آخذ المترجم الواهم أخذا شديدا، فمن الظلم أن نحمّله خطأ فهم نص يتحدث عن شىء لا توجد لديه أية فكرة عنه، وهو فن المسرح، وبالذات فن المأساة. لكن هذا لا يمنعنى من استغراب موقف كل من المترجم وابن رشد، إذ من الواضح أن النص لا يتمشى مع فن الشعر كما تعرفه العرب، فضلا عن أن ما فهمه ابن رشد منه لا قيمة له تذكر، لأن ما هو موجود فى كتب النقد العربى حتى ذلك الوقت الذى كتب فيه ابن رشد تلخيصه لكتاب أرسطو أفضل وأفيد ألف مرة لشعرنا وشعرائنا مما قدمه لنا ابن رشد بفهمه الخاطئ. ليس هذا فحسب، بل إن كثيرا من فقرات الكتاب غامض غموضا شديدا جراء عدم اتساقه مع شعرنا، الذى لا يكف ابن رشد ولو لحظة واحدة عن تطبيق كلام أرسطو عليه بثقة يحسد عليها.
وكان ينبغى أن يبحث ابن رشد، ومترجم الكتاب قبله، عن شخص أو أكثر له صلة بتاريخ الأدب والشعر اليونانى حتى يشرح له ما هو غامض فى الكتاب، فضلا عما لا يتسق مع الشعر العربى. وهذا هو المحير فى الأمر، إذ من الطبيعى أن يخطئ أى منا فى فهم نص من النصوص أو كتاب من الكتب. لكن من غير الطبيعى أن ينفق فيلسوف كبير زمنا من عمره فى تلخيص كتاب لا يفهمه، أو على الأقل: لا يمشى مع الشعر الذى يظن أنه يدور حوله، ثم لا يفكر فى الاستعانة بمن يأخذ بيده. هذا ما لا يمكن التغاضى عنه مع ابن رشد، وبخاصة أن الرجل فى شروحه لكتب أرسطو كثيرا ما ينسى نفسه وينطلق إلى السماوات العلا متصورا أنه يعرف على وجه اليقين جغرافيتها وسكانها، مفتيا فى كل شىء، غير معط نفسه فرصة للمراجعة والتشكك شأن كبار المفكرين، قائلا أثناء ذلك كلاما يخالف، فى بعض الأحيان، العقل والمنطق ونصوص القرآن والحديث وروح الإسلام.
يقول د. عبد الرحمن بدوى: "الصفة البارزة فى تلخيص ابن رشد محاولتُه تطبيق قواعد أرسطو على الشعر العربى. وقد أضلته ترجمة متى للتراجيديا بأنها المديح، وللكوميديا بأنها الهجاء، فخال له أن الأمر كما فى الشعر العربى. ومن هنا أكثرَ من الشواهد المستمدة من الشعر العربى، ومعظمها فاسدة لأنها تقوم على أساس فاسد هو تلك الترجمة الخطأ. وهو نفسه قد شعر بإخفاق هذه المحاولة، فكان يعتذر عنها كلما التاث عليه الأمر والتوى به التطبيق . ولم يفلح إلا حينما أراد أن يلخص الفصول الخاصة بـ"المقولة"، فقد واتاه القول وصح لديه إجراء التطبيق وعقد المقارنات. ومن هنا كان يعدل عن الشواهد اليونانية التى يوردها أرسطو إلى شواهد يستمدها من الشعر العربى على ما فى هذا أحيانا من تعسف بل وتزييف لرأى أرسطو. فنتج عن هذا كله تلخيص لا هو يساير الأصل ولا هو بمفيد فى تيسير الانتفاع بمعانى أرسطو" . وهو ما قاله د. بدوى من قبل فى بداية تصديره للكتاب، إذ أكد أن تلخيص ابن رشد لكتاب أرسطو: "فن الشعر" هو "تليخص فاسد لا يفيد مطلقا فى إيضاح فكر أرسطو، بل يبتعد عنه كل الابتعاد" .
وهناك موضوع آخر هام جدا، وهو يتعلق بعدم فهم المترجمين والشرّاح العرب لما قاله أرسطو فى كتابه: "الشعر" عن الملهاة والمأساة فى عالم الإبداع المسرحى، إذ جاء فى شرح ابن سينا مثلا لذلك الكتاب عن أنواع الشعر عند الإغريق ما يلى: "وكان لكل غرضٍ وزنٌ يختص به: فمنها نوع يسمى: "طراغوذيا" له وزن لذيذ يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانية، ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك يُغَنَّى بين أيديهم بهذا الوزن، وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملك للنياحة والمرثية. ومنها نوع يسمى: "ديثرمبي"، وهو كــ"طراغوذيا" ما خلا أنه لا يخصّ به مدحة إنسان واحد أو أمة معينة بل الأخيار على الإطلاق. ومنها نوع يسمى: "قوموذيا"، وهو نوع تُذْكَر فيه الشرور والرذائل والأهاجي، وربما زادوا فيه نغمات ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر الحيوان". ومع إبقاء ابن سينا على المصطلحات الإغريقية الخاصة بالشعر المسرحى لم يفهم، فيما هو واضح، أن المقصود هو فنا المأساة والملهاة. أما ابن رشد فقد استخدم لهذين المفهومين (أى مفهومَىِ التراجيديا والكوميديا) مباشرةً مصطلحَىْ "مديح" و"هجاء" بالمعنى الذى نعرفه فى شعرنا العربى، وهو شعر غنائى كله، مما لبَّس الأمر على القراء والمثقفين العرب طوال تلك العصور... إلى أن تنبهنا فى العصر الحديث إلى الغلطة التى وقع فيها هؤلاء القدامى بسبب عدم وجود نص مسرحى مترجَم يمكن على نوره فهم الكلام النظرى الذى خلَّفه أرسطو فى ذلك الموضوع.
وما قاله هذان الفيلسوفان العربيان يدل على تهافت الرأى القائل بأن العرب لم يترجموا المسرح اليونانى نظرا لما فيه من وثنية تنزل بالآلهة إلى مرتبة البشر الفانين الضعفاء الشهوانيين، إذ إن العرب لم يطَّلعوا أصلا على ما أبدعه الإغريق فى هذا الميدان. والدليل على ذلك هو أن كبار مترجمينا وفلاسفتنا فى القديم لم يستطيعوا، كما رأينا، أن يفهموا طبيعة الشعر الذى كان أرسطو يتحدث عنه فى كتابه، بل قاسوه على ما كانوا يعرفونه من شعر عربى. والواقع أن لهم عذرا كبيرا فى ذلك، فإنّ فَهْم الشىء فرع من تصوره. وكيف كان بمستطاعهم ذلك التصور، وهم لم يقرأوا شيئا من مسرح اليونان: لا فى لغتهم ولا فى لغته، فضلا عن أن يكونوا قد شاهدوا بعض تلك المسرحيات؟ ولو كانوا عرفوا فعلاً هذا اللون من الشعر عند الإغريق واستنكروه لأعلنوا هذا الاستنكار ونصّوا على الأسباب التى نفّرتهم منه وجعلوه موضع انتقادهم وتهكمهم. أمّا، وإنهم لم يذكروا ولو مجرد ذكرٍ أسماءَ شعراء المسرح لدى الإغريق، فليس لهذا من معنى إلا أنهم لم يقرأوا لهم شيئا أصلا. وقد سبق أن تناولت هذا الموضوع فى الفصل الأول من كتابى: "دراسات فى المسرح" .
ومما يدل على أن التعلل بالوثنية فى المسرح اليونانى هو تعلل غير مقنع أن بعض الكتاب العرب القدامى قد تحدّث بصراحة تامة عن مثل تلك الاعتقادات لدى أمم أخرى فلم تحجزه هذه التحرجات المُفْتَرَضة على الإطلاق، كما هو الحال مثلا فيما كتبه ابن النديم فى "الفهرست" عن بعض العقائد والعبادات الوثنية لدى طائفة من الأمم وتصوّر أصحابها لآلهتهم، من مثل قوله فى الكلام عن بعض أعياد الحَرّانيّين (تحت عنوان "معرفة أعيادهم"): "أول سنتهم نيسان: أول يوم من نيسان والثاني والثالث يضرعون لآلهتهم بلثى، وهي الزُّهَرة، يدخلون في هذا اليوم إلى بيت الآلهة جماعة جماعة متفرقين ويذبحون الذبائح ويحرقون الحيوان أحياء. ويوم السادس منه يذبحون ثورا لإلههم القمر ويأكلونه آخر النهار. ويوم الثامن منه يصومون ويفطرون على لحوم الخراف ويعملون في هذا اليوم عيدا للسبعة الآلهة والشياطين والجن والأرواح، ويحرقون سبعة خرفان للسبعة الآلهة، وخروفا لرب العميان، وخروفا للآلهة الشياطين. ويوم الخامس عشر منه يعملون سر الشمال وقربان تشميس وذبائح وإحراقات ويأكلون ويشربون. ويوم العشرين منه يخرجون إلى دير كادى، وهو دير على باب من أبواب حَرّان يسمى: "باب فندق الزيت"، ويذبحون ثلاثة زبارخ، والزبرخ فحل البقر: واحدا لقرنس الآلهة، وهو زحل، وواحدا لأريس، وهو المريخ، وهو الإله الأعمى، وواحدا للقمر، وهو سين الإله. ويذبحون تسعة خرفان: سبعة للسبعة الآلهة، وواحدا لإله الجن، وواحدا لرب الساعات، ويحرقون خرفانًا ودِيَكَةً كثيرةً. وفي يوم ثمانية وعشرين يخرجون إلى دير لهم في قرية تسمى: "سبتى" على باب من أبواب حَرّان يقال له: باب السراب، ويذبحون ثورا كبيرا لهرمس الإله، ويذبحون تسعة خرفان للسبعة الآلهة ولإله الجن ولرب الساعات، ويأكلون ويشربون، ولا يحرقون في هذا اليوم شيئا من الحيوان".
ليس هذا فقط، بل إن الكتب الإسلامية مفعمة بالكلام عن عقائد الوثنيين والمشركين العرب دون أدنى تحرج. فما الذى كانوا سيتحرجون منه فى المسرحيات الإغريقية إذن، وليس فيها شىء جديد عليهم؟ ولنفترض أنهم كانوا سيتحرجون من ترجمتها، فهل كانوا سيتحرجون من قراءتها وإنكار ما فيها وتفنيده؟ واضح أن ما يقال فى هذا الصدد تعليلا لصمت العرب عن مسرحيات الإغريق هو كلام غير مقنع. ويضاف إلى هذا أنه ليست كل المسرحيات الإغريقية تتحدث عن آلهة اليونان وعقائدهم الوثنية. فلماذا لم يترجم المسلمون هذا الضرب من المسرحيات التى لا تتعارض مع عقائد التوحيد؟
وفى هذا السياق ينبغى الإشارة إلى ما قاله د.عبد الرحمن بدوى من أن "المرء لا يخرج من قراءته للتلخيصات التى وضعها الفارابى وابن سينا وابن رشد (لكتاب "فن الشعر") إلا بشعور أليم بخيبة الأمل فى أن يكون العرب قد أفادوا منه كما أفادت أوربا فى عصر النهضة وكما أفادوا هم أنفسهم من سائر مؤلفات أرسطو فى إخصاب الفكر العربى. ويخيل إلينا أنه لو قدر لهذا الكتاب أن يُفْهَم على حقيقته وأن يُسْتَثْمَر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ لَعُنِىَ الأدب العربى بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، وهى المأساة والملهاة، منذ عهد ازدهاره فى القرن الثالث الهجرى ولتغير وجه الأدب العربى كله. ومن يدرى؟ لعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغير طابعه الأدبى كما تغيرت أوربا فى عصر النهضة" .
لكن هل كان العرب بالضرورة سيترجمون مآسى اليونان وملاهيهم لو كانوا قد تعرفوا إليها؟ لقد كانوا معتزين بتراثهم الأدبى والشعرى إلى الحد الذى ربما لم يكونوا ليهتموا معه بتلك الترجمة أصلا. لكن كان يمكن أن يستفيدوا مما كتبه أرسطو فى كتابه: "فن الشعر" عن العناصر المسرحية المشتركة بين المسرح والفن القصصى كالضوابط التى ينبغى مراعاتها هنا وهناك فى تصوير الشخصيات وفى كتابة الحوار، بالإضافة إلى ما كتبه عن ذلك الموضوع فى فن الملحمة، ذلك الفن الذى يمثل خطوة من الخطوات على طريق الحكاية الطويل. وربما كان هذا يؤدى إلى نشوء نقد قصصى جنبا إلى جنب مع النقد الشعرى، الذى يكاد نقدنا القديم ينحصر داخله. وليس معنى ذلك أن أجدادنا لم يعرفوا الفن القصصى. لقد عرفوه وخلفوا لنا كثيرا جدا من روائع هذا الفن، إلا أنهم كانوا يعتمدون على سلائقهم ومواهبهم القصصية وحدها دون أن يرفدها تراث نقدى للأسف.
وللتدليل على اعتزاز العرب بفنهم الشعرى وتصورهم أنهم فاقوا الأمم الأخرى فيه، وفى الخطابة أيضا، ليس علينا إلا أن نقرأ مثلا ما كتبه الجاحظ عن ذلك فى القرن الثالث الهجرى وما كتبه الصفدى فى القرن الثامن. يقول الجاحظ فى "البيان والتبيين": "وجملة القول أنا لا نعرف الخطبَ إلاّ للعرب والفُرْس. فأما الهندُ فإنما لهم معانٍ مدونة، وكتُبٌ مخلّدة، لاتضاف إلى رجلٍ معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنّما هي كتبٌ متوارثة، وآدابٌ على وجه الدَّهر سائرةٌ مذكورة. ولليونانيِّين فلسفةٌ وصناعةُ منطقٍ، وكان صاحبُ المنطقِ نفسُه بَكِيَّ اللسان، غيرَ موصوفٍ بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه. وهم يزعمون أنّ جالينوس كان أنطَقَ الناس، ولم يذكروه بالخطابة، ولا بهذا الجنس من البلاغة. وفي الفُرْس خُطَباء، إلاّ أنّ كلَّ كلامٍ للفُرْس، وكلَّ معنىً للعجم، فإنّما هو عن طُولِ فكرة وعن اجتهاد رأي، وطُول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طُول التفكُّر ودِراسة الكتُب، وحكايةِ الثاني علمَ الأول، وزيادةِ الثالث في علم الثاني، حتَّى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخِرِهم. وكلُّ شيءٍ للعرب فإنّما هو بديهةٌ وارتجالٌ، وكأنّه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرفَ وهْمَه إلى الكلام، وإلى رجَزِ يومِ الخصام، أو حين يمتَح على رأس بئر، أو يحدُو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صِراع أو في حرب. فما هو إلاّ أن يصرف وهْمَه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرِّسه أحدا من ولده. وكانوا أُمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعِين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أظهرَ وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهَر، وكل واحدٍ في نفسه أنطَق، ومكانُه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجَد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفُّظ، ويحتاجوا إلى تدارُس. وليس هم كمن حفِظ علمَ غيرِه، واحتذى على كلام مَن كان قَبْلَه، فلم يحفظوا إلاّ ما عَلِق بقُلوبهم، والتحم بصدورهم، واتّصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفُّظ ولا طلب. وإنّ شيئًا هذا الذي في أيدينا جزءٌ منه لَبِالمقدار الذي لا يعلمه إلاّ مَن أحاط بقَطْر السَّحابِ وعدد التُّراب. وهو اللَّه الذي يحيط بما كان، والعالِمُ بما سيكون.
ونحن، أبقاك اللَّه، إذا ادّعينا للعرب أصنافَ البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعَنا العلم أن ذلك لهم شاهدٌ صادق من الدِّيباجة الكريمة، والرَّونق العجيب، والسَّبْك والنَّحت، الذي لا يستطيع أشعَرُ الناس اليومَ، ولا أرفعهُم في البيان أن يقول مثلَ ذلك إلاّ في اليسير، والنَّبْذ القليل. ونحن لا نستطيع أن نَعْلَم أنّ الرسائل التي بأيدي الناس للفُرس أنها صحيحة غيرُ مصنوعة، وقديمةٌ غير مولَّدة، إذْ كان مثل ابن المقفَّع وسهل بن هارون وأبي عُبَيد اللَّه وعبد الحميد وغَيْلان يستطيعون أن يولِّدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر. وأخرى أنّك متى أخذتَ بيد الشُّعُوبيّ فأدخلتَه بلادَ الأعراب الخُلَّص ومعدِن الفصاحة التامّة، ووقَفْتَه على شاعرٍ مُفْلِق أو خطيب مِصْقع، عَلِمَ أنَّ الذي قلتَ هو الحقُّ، وأبصَرَ الشاهد عِيانًا. فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم".
ويقول أيضا من نفس الكتاب: "وقد ذكرنا أنَّ الأمم التي فيها الأخلاقُ والآداب والحِكَم والعلم أربع، وهي: العرب، والهند، وفارس، والروم... والدَّليل على أن العرب أنطقُ، وأن لغتَها أوسع، وأن لفظَها أدلُّ، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثالَ التي ضُرِبت فيها أَجْوَد وأَسْيَر، والدَّليل على أن البديهة مقصورةٌ عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاصٌّ فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمِّيه الرُّوم والفرس: "شعرا"، وكيف صار النَّسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يُصَاب في غير العرب إلاّ القليلَ اليسير، وكيف صارت العرب تقطّع الألحانَ الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونا على موزون، والعجمُ تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسُط حتّى تدخل في وزن اللحن فتضعَ موزونا على غير موزون".
ثم تمر خمسة قرون، فنجد ذات الاعتزاز بل أشد حتى إن صلاح الدين الصفدى لم يطق صبرا على ما خطته يد ابن الأثير فى "المثل السائر" من أنه لا يَحْسُن فى الذوق العربى أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعانى ويستوفى الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، وأن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معانٍ مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتى بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مَرْضِيّ. والكاتب لا يُؤْتَى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله. وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يَفْضُلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنَّفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بـ"شاه نامه"، وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس. وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه. وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر".
نعم لم يطق الصفدى صبرا على هذا الكلام، فانبرى للرد العنيف عليه مسفِّها كل ما جاء فيه. وهذا نص ما كتبه، وهو متاح فى كتابه: "نصرة الثائر على المثل السائر": "ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال مَعْمَر بن المثنَّى ولا سهل بن هارون ولا ابن غَرْسِيَه في رسالته مثل هذا. وقد وُجِد في أهل اللسان العربي مَنْ نظَم الكثير أيضا. وإنْ عَدّ هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة: منهم من نَظَم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب "كليلة ودمنة" في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضا. وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي (عُرِف بـ"ابن الدجاجية") نظَم كتاب "المهذَّب" قصيدةً علي رَوِيّ الراء سماها: "البديعة في أحكام الشريعة"، انتهى. قلت: و"المهذب" في أربع مجلدات.
وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدةٍ عِدّتها ثمانية عشر ألف بيت. ولابن الهبارية كتاب "الصادح والباغم" في ألفي بيت، كل بيت منها قصرٌ مَشِيد، ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها "لو" ولا "ليت". وأما من نَظَم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما "الشاطبية" وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:
جلا الرُّعَيْنِيّ علينا ضحًى
عروسه البِكْر، ويا ما جلا!

لو رامها مبتكرٌ غَيْرُهُ
قالت قوافيها له الكل: لا

وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كنظم "الوجيز" و"منظومة الحنفية" وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم فكثير جدا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضَّل اللغة العربية. برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي وبندار وأبا حاتم والزمخشري وغير هؤلاء لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها هاموا بها وكَلِفوا بمحاسنها، وأَفْنَوُا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أَقْيِستها وغرائب فنونها. ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأَفْنَوْا مدة العمر، وهي ما لا يُخْلَف، في شيء هو دون غيره، والأَوْلَى بهم وبكل عاقلٍ الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم. ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها "أفعل التفضيل" ما عرَّجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم. ومن الكَلِم النوابغ للزمخشري: "فَرْقك بين الرُّطَب والعجم فَرْقُك بين العرب والعجم". ومنها: "العرب نَبْعٌ صُلْب المعاجم، والغَرَب مثلٌ للأعاجم". فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رُطَبا والعجم عجما، و"العَجَم" بتحريك الجيم هو النوى، وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صُلْب تُتَّخَذ منه القِسِيّ، وجعل العجم مثل شجر الغَرَب، وهو خَوّار. قال المتنبي:
فلا تَنَلْك الليالي، إنّ أيديَها
إذا ضربْن كَسَرْن النبع بالغَرَبِ

فإن قلتَ: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلتُ: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم إنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها؟ ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك
الملكة كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها لاشتباك العلوم بعضها ببعض واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها. ولا يضع اللغة إلا حكيم. ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك؟ وهذا أمر غير خاف. وأما قوله إن "كتاب "شاه نامه" ستون ألف بيت كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب"، فإن هذه الدعوى لا تُسْمَع مجردةً عن البرهان الذي يؤيدها. ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ، والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه؟ هذا ليس في قُوَى البشر في لغة من اللغات.
سلّمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب. كما تقول: القمر أشد نورا من النجوم، والشمس أشد نورا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلا.
وكلٌّ له فضله، والحُجُو
ل يوم التفاضل دون الغُرَرْ

فهل جيّد العجم مِثْل جيّد العرب، كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر؟ أو كجيّد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نُوَاس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي؟
ألم تر أنّ السيف ينقص قيمةً
إذا قلت: إنّ السيف أمضى من العصا؟

وإنما قلّ الجيّد في الشعر لأن البلغاء وعلماء الأدب انْتَقَوُا الجيّد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يُحْذَى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم، فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر. ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه إلى غير ذلك من أنواع البديع، وهو ما يقارب المائة نوع؟ هيهات! ما بينهما صيغة "أفعل". وذكر الحصري في "زهر الآداب" أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: "الشعر للعرب. وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أُمِّه رَجُلٌ منا". انتهى. وقد أنصف ابن خلف في قوله: "وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان".
وأما دعواه أن الشاعر لا يُحْسِن في الأكثر فالعذر في ذلك ظاهر لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية، وهما الوزن ولزوم الرَّوِيّ الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مُخَلًّى ونفسه: إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروّجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وكيف، ولم يزل للشعر ماءٌ
يرفّ عليه ريحان القلوب؟

وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على "المثل السائر"، وقد سامحته في كثير سِقْطُه فيه ظاهر".
على أن تقصير ابن رشد لا يتوقف عند هذا الذى أخذناه عليه آنفا، بل يتعداه إلى الخطإ فى فهم المصطلحات وتصور المفاهيم والأوضاع المتعلقة بشعرنا العربى، وهو ما لم أتصور لحظة واحدة أنه يمكن أن يقع فيه. لكن هذا الذى لم أتصوره قد وقع، ووقع على نطاق واسع، مما سوف يتضح من الشواهد التى سوف أسوقها فى الفقرات التالية، تاركا الحكم النهائى للقراء أنفسهم.
فمن أخطائه فى فهم المصطلحات وتصور المفاهيم والأوضاع المتعلقة بالشعر العربى تقريره (ص56) ، نقلا عن ترجمة مترجم كتاب "الشعر"، أن الشعر لا يخرج عن أن يكون مديحا أوهجاء. ورغم أن الترجمة قد اجترحت هنا خطأ قاتلا لا يُسْأَل عنه ابن رشد لقد كان يبغى أن يعلق ابن رشد على هذا الكلام بما معناه أن الشعر لا ينحصر ولا يمكن أن ينحصر فى هذين الغرضين وحدهما. فهناك الوصف، وهناك الغزل والنسيب، وهناك الخمر، وهناك الابتهال، وهناك القصص، وهناك الحماسة، وهناك التاريخ... إلخ. ولا علاقة لهذا بإغريق أو عرب أو فرس، إذ هكذا يقول العقل العام الذى لا صلة له بقومية أو دين أو طائفة أو غير ذلك. وعلى أية حال إن هذا كله موجود فى الشعر العربى تحت بصر ابن رشد. وأغرب من ذلك أن يقول فيلسوفنا إن هذا بين باستقراء الأشعار، وبخاصة أشعارهم. فمتى استقرأ ابن رشد أو غير ابن رشد الأشعار؟ وهل هو يصدّق فعلا أن ينحصر شعر الإغريق أو أية أمة أخرى فى هذين الغرضين؟ كيف؟ ولسوف نراه (ص67) يأتى على ذكر النسيب والفخر والوصف والوعظ والنصح فى شعر العرب. فأين كان ذلك هنا؟ واضح أنه لا يرى إلا ما هو أمامه فى النص المترجم فيردده رغم لامنطقيته ورغم بعده عن واقع الحياة، وبخاصة حياة العرب، التى يعرفها ابن رشد أو من المفترض أن يعرفها.
كذلك نراه (ص58) يسمى "كأن" و"إخال" وأمثالهما بـ"حروف التشبيه"، وكان ينبغى أن يستعمل بدلا من ذلك مصطلح "أدوات التشبيه"، إذ ليست كلها حروفا، بل فيها أفعال كـ"إخال" و"يشبه" و"يماثل" و"يضارع"، وفيها أسماء كـ"مِثْل" و"شبيه"، فضلا عن "الكاف" و"كأن"، وهما حرفان. ولكل أداة وضعها حسبما نقرأ فى كتب البلاغة بغض النظر عن موافقتنا أو لا على هذه التقسيمات ومصطلحاتها، التى يرددها طلاب المدارس ترديدا نائما دون أن يحسوا بحلاوة التشبيه البليغ الـمُنْشِى أو رداءة التشبيه الركيك المتهافت. إِنْ هى إلا أسماءٌ يحفظها أغلبهم حفظًا دون فهم أو تذوق.
وفى حديثه (ص58) عن أصناف التخييل والتشبيه الثلاثة يقول عن الصنف الثانى منها إنه أَخْذ الشبيه بعينه بدل الشبيه، وهو الذى يسمى:"الإبدال" فى هذه الصناعة، ثم يمثل لذلك بقوله تعالى: "وأزواجه أمهاتهم"، وقول الشاعر: "هو البحر من أى النواحى أتيته". والواقع أن هذين المثالين لا ينطبق عليهما ما قاله عن "الإبدال"، فنحن هنا لم نبدل شيئا بشىء، بل أبقينا على الطرفين جميعا، وإن كنا أسقطنا أداة التشبيه. وإسقاط أداة التشبيه لا يخرج العبارة عن أن تكون تشبيها، بل تظل تشبيها محذوف الأداة، وهو ما يعده البلاغيون "تشبيها مؤكدا"، ثم إذا زادوا فحذفوا معه وجه التشبيه قالوا: "تشبيه بليغ"، وكأننا إزاء عملية آلية وليس خلقا وإبداعا. فقد يكون التشبيه فى الغاية من البلاغة والروعة دون أن يحذف منه شىء، وقد يكون فى النهاية من الرداءة رغم الاستغناء عن الأداة ووجه الشبه. وكان ينبغى أن يتنبه ابن رشد لذلك ويمثل للإبدال بالاستعارة التصريحية كقول الواحد منا مثلا: "أمهات المؤمنين لهنَّ منّا كل التجلة والاحترام" و"من أى النواحى أتيت محمدا وجدت البحر هائلا"... وهكذا.
ورغم أن ابن رشد قد سبق أن ذكر "الإبدال" بمعناه الذى ناقشناه وأخذنا عليه فيه ما أخذناه نجده (ص59) يعود فيقول إن القسم الثانى من التخييل هو "أن يبدل التشبيه" كقولك: "الشمس كأنها فلانة"، موقعا القارئ هكذا فى الحيرة والاضطراب. وكان بمستطاعه أن يقول: "التشبيه المقلوب" أو "المعكوس". يقول السيد أحمد الهاشمى: "قد يُعْكَس التشبيه فيُجْعَل المشبَّه مشبَّها به وبالعكس، فتعود فائدته إلى المشبَّه به لادعاء أن المشبَّه أتم وأظهر من المشبَّه به فى وجه الشَّبَه. ويسمَّى ذلك بـ"التشبيه المقلوب أو المعكوس"، نحو "كأنّ ضوء النهار جبينه" ونحو "كأنّ بِشْر الروض حُسْن سيرته" ونحو "كأنّ الماء فى الصفاء طباعه"، وكقول محمد بن وُهَيْب الحِمْيَرِىّ:
وبدا الصباح كأن غُرَّتَه
وَجْهُ الخليفة حين يُمْتَدَحُ

شبه غُرَّة الصباح بوجه الخليفة إيهاما منه أنه أتم منها فى وجه الشبه. وهذا التشبيه مظهر من مظاهر الافتنان والإبداع، وكقوله تعالى حكاية عن الكفار: "إنما البيع مثل الربا" (البقرة/ 275) فى مقام أن الربا مثل البيع. عكسوا ذلك لإيهام أن الربا عندهم أحلّ من البيع، لأن الغرض الربح، وهو أثبت وجودا فى الربا منه فى البيع، فيكون أحق بالحل عندهم" . فهذا هو المصطلح الذى تعرفه البلاغة العربية رغم أنى لا أراه مقلوبا ولا معكوسا، إذ ليس المقصود هو تشبيه فلانة بالشمس، وإلا لقلنا مباشرة: "فلانة كالشمس" دون أن نقلبها أو نفكر فى قلبها، بل المقصود هو القول بأنها أبهى من الشمس حتى لتشبَّه الشمس بها. وليس فى هذا أدنى مبالغة كما يظن الناس، إذ إن العاشق الولهان يرى معشوقته أبهى لا من الشمس فحسب بل من الدنيا كلها.
كذلك ينفى ابن رشد عن أشعار العرب أنها كانت تعرف الألحان الموسيقية (ص61). كيف؟ لا أدرى. ذلك أن كثيرا من الشعر العربى منذ الجاهلية كان يغنَّى وتصحبه الآلات الموسيقية والألحان. وهو نفسه بعد قليل سوف يقول إن الموشحات الأندلسية تجمع بين اللحن والرقص والوزن. فهل تنفرد الموشحات بالتلحين؟ بطبيعة الحال لا. وحتى لو انفردت بالتلحين أليست من الشعر العربى؟ فكيف يا ترى يزعم ابن رشد أن الشعر العربى، هكذا بإطلاق، لم يكن يعرف الألحان الموسيقية؟ وهناك كتب متعددة فى الأدب العربى تتحدث عن الأغانى والألحان، وأشهرها كتاب أبى الفرج الأصفهانى المسمى بـ"الأغانى"، وموضوعه الحديث عن الشعر العربي الذي غناه المغنون، منذ بدء الغناء العربي وحتى عصره، مع نسبة كل شعر إلى صاحبه، وذِكْر نُبَذ من طرائف أخبار الشاعر، وتسمية واضع اللحن وطرق الإيقاع والإصبع الذي ينسب إليه ولون الطريقة ونوع الصوت وكل ما يتصل بذلك، ثم ميز مائة صوت كانت قد جُمِعَتْ لهارون الرشيد وعُرِفَت بـ"المائة المختارة"، وافتتح كتابه بالكلام عنها وعن ثلاث أغانٍ اخْتِيرَتْ من المائة، وذكر من سبقه إلى التأليف في الأغاني، كيحيى المكي وإسحق الموصلي ودنانير وبذل، وترجم فيه لكثير جدا من أعلام الشعر والغناء. وفى الشعر العربى ذاته كثيرا ما تقابلنا أشعار يصف فيها صاحبها مجالس الشرب والغناء بدءا من الأعشى وغير الأعشى فى الجاهلية وانتهاء بما لا أدرى مَنْ، لأن ذلك شىء لا نهاية له.
ومن أخبار الغناء ما جاء فى "الأغانى" عن هريرة التى نُسِب بها الأعشى: "كانت هريرة وخليدة أختين قينتين كانتا لبشر بن عمرو بن مرثد، وكانتا تغنيانه النَّصَب، وقَدِم بهما اليمامة لما هرب من النعمان". وفى"الأغانى" أيضا أن "النابغة دخل يثرب فهابوه أن يقولوا له:"كان النابغة يقول: إن في شعري لعاهةً ما أقف عليها. فلما قدم المدينة غُنِّيَ في شعره، فلما سمع قوله: "واتَّقَتْنا باليدِ"، و"يكاد من اللطافة يُعْقَدُ"، تبين له لما مُدَّتْ "باليدِ" فصارت الكسرة ياء، ومُدَّتْ "يُعْقَدُ" فصارت الضمة كالواو، ففطن فغَيَّره وجعله: "عنم على أغصانه لم يُعْقَدِ". وكان يقول: وردتُ يثرب، وفي شعري بعض العاهة، فصدرت عنها وأنا أشعر الناس". والكلام هنا عن بيتيه التاليين فى وصف المتجردة زوجة النعمان بن المنذر:
سَقَط النصيفُ، ولم تُرِدْ إسقاطهُ
فتناولتْه واتَّقَتْنا باليدِ

بمخضَّبٍ رَخْصٍ كأن بنانه
عَنَمٌ على أغصانه لم يُعْقَدِ

وفى أسباب نزول الآية الثالثة من سورة "لقمان" فى القرآن الكريم يورد بعض الرواة حديثا يقول إن النضر بن الحارث كان يغرى من يقرأ الرسول عليهم القرآن من أهل مكة بقينة أحضرها لتغنيهم وتمتعهم حتى ينصرفوا عن النبى إليها فلا ينشغلوا بما يتلوه عليهم من آيات الله فلا يؤمنوا به. وبغض النظر عن أن ذلك هو السبب فى نزول الآية المذكورة أو لا فإن دلالة الحديث واضحة لا تخطئها العين، وهى أنه كانت هناك قينات مغنيات فى ذلك الوقت يتغنَّيْن بالأشعار. وفى الحديث الشريف عن عائشة رضى الله عنها "أن أبا بكر دخل عليها، والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَها يومَ فطر أو أضحى، وعِندَها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصار يومَ بعاث، فقال أبو بكر: "مزمار الشيطان؟" مرتين. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : دعهما يا أبا بكر. إن لكل قوم عيدا، وإن عيدنا اليوم".
وفى"أخبار الزجاجى" للزجاجى: "كان رجل من آل أبى جعفر يعشق مغنية، فطال عليه أمرها وثقلت مؤونتها، فقال يوما لبعض إخوانه: إن هذه قد شغلتني عن كثير من أموري، فامض بنا إليها لأكاشفها وأتاركها، فقد وجدت بعض السُّلُوّ. فلما صار إليها قال لها: أتغنين قول الشاعر:
وكنتُ أحبكم، فسَلَوْتُ عنكم
عليكم في دياركمُ السلامُ؟

ولكني أغني قول القائل:
تحمَّلَ أهلُها منّي فبانوا
على آثار مَنْ ذَهَب العَفَاءُ!

فاستحيا الفتى وأطرق وازداد بها عجبًا وكَلَفًا. قال لها: أتغنين قول القائل:
وأخضع للعُتْبَى إذا كنت ظالمًا
وإن ظَلَمَتْ كنتُ الذي يتنصَّلُ؟

قالت: نعم، وقول القائل:
فإن تُقْبِلي بالودّ نُقْبِلْ بمثلهِ
وإن تُدْبِــــــــري أذهبْ إلى حـــــــــــالِ بَالِيَـــــــــــا
فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين، ولم يشعر بهما أحد".
ولابن الرومى قصيدة بارعة فى وصف وحيد المغنية والافتتان بصوتها الذى كان يشغف به. ومنها:
يا خَلِيلَيَّ، تَيَّمَتْني وَحيدُ
فَفُؤادي بها مُعَنًّى عَمِيدُ

غادةٌ زانها من الغُصْن قَدٌّ
ومن الظَّبْي مُقْلتان وجِيدُ

فَهْيَ برْدٌ بخدِّها وسلامٌ
وهي للعاشقين جُهْدٌ جَهِيدُ

ما لما تصطليه من وجنتَيْها
غير تَرْشافِ رِيقِها تَبْريدُ

ظبيةٌ تسكن القلوب وتَرْعا
ها، وُقمْرِيَّةٌ لها تغريدُ

تتغنَّى كأنها لا تُغَنِّي
من سكونِ الأوصالِ، وهي تُجِيدُ

لا تَراها هناك تَجْحَظُ عينٌ
لك منها ولا يَدِرُّ وريدُ

من هُدُوٍّ، وليس فيه انْقِطاعٌ
وشُجُوٍّ، وما به تبليدُ

مَدَّ في شأو صوتها نَفَسٌ كا
فٍ كأنفاس عاشقيها مَديدُ

وأَرَقَّ الدلالُ والغُنْجُ منهُ
وبَراهُ الشَّجا، فكاد يبيدُ

فتراه يموت طَوْرا ويحيا
مُسْتَلَذًّا بَسِيطُهُ والنَّشِيدُ

فيه وَشْيٌ، وفيه حَلْيٌ من النَّغْـــــــ
ـــــمِ مَصُوغٌ يختال فيه القصيدُ

طاب فُوها وما تُرَجِّعُ فيهِ
كلُّ شَيْءٍ لها بذاك شهيدُ

ثَغَبٌ يَنْقَعُ الصَّدَى، وغِناءٌ
عنده يوجد السرورُ الفقيدُ

وَتَرُ العَزْفِ في يَدَيْها مُضَاهٍ
وَتَرَ الزَّحْف فِيهِ سهمٌ شَديدُ

وإذا أنْبَضَتْهُ للشَّرْبِ يومًا
أيقنَ القومُ أنها ستَصِيدُ

مَعْبَدٌ في الغناء وابن سُرَيْج
وَهْيَ في الضَّرْبِ زَلْزَلٌ وعَقيدُ

عَيْبُها أنَّها إذا غَنَّتِ الأحْــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــرَارَ ظلُّوا وهُمْ لديها عَبيدُ

واستزادتْ قلوبَهم من هواها
بِرُقَاها، وما لَدَيْهِمْ مَزيدُ"

وفى "الإماء الشواعر" لأبى الفرج: "كانت لابن كناسة جاريةٌ شاعرةٌ مغنية يقال لها: دنانير، وكان له صديق يكنى: أبا الشعثاء، وكان عفيفا، مَزّاحا، وكان يدخل إلى ابن كناسة يسمع غناء جاريته، ويعرّض لها بأنه يهواها، فقالت فيه هذه الأبيات:
لأبي الشعثاء حبٌّ ظاهرٌ
ليس فيه مطعنٌ للمتهِمْ

يا فؤادي، فازدجرْ عنه، ويا
عَبَثَ الحبِّ، به فاقعدْ وقُمْ

راقني منه كلامٌ فاتنٌ
ورسالاتُ المحبين الكَلِمْ

قانصٌ تَأْمَنُه غِزْلانُهُ
مثلما تأمن غزلانُ الحرَمْ

صَلِّ، إن أحببت أن تُعْطَى الـمُنَى
يا أبا الشعثاء، لله وَصُمْ

ثم ميعادك يوم الحشر في
جنة الخلد إِنِ اللهُ رَحِمْ

حيث ألقاك غلامًا ناشئًا
يافعًا قد كملتْ فيك النِّعَمْ"

ومن مُغَنِّى الأندلس المشاهير الفنان زرياب، وقصته معروفة. كما أن ابن حزم الظاهرى قد فاق أى عالم آخر فى الدفاع عن حِلِّيَّة الغناء ما دام لا يخرج على قيم الدين. ويقول عبد الله عفيفى فى كتاب "المرأة العربية فى جاهليتها وإسلامها": "كتب كوند مجملا عمن كتب من مؤرخي العرب عن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، قال: كان هذا الخليفة وسط ما يحيط به من بدائع "الزهراء" وعجائبها يسرّه أن يستمع الغناء مما كانت تصوغه جاريته وصاحبة سره: "مُزْنَة" من الأناشيد العذبة الرقيقة. ومن أولئك الناهضات النابهات... خديجة، وهي التي جمعت، إلى عذوبة المنطق وروعة الشعر، رخامة الصوت والذهاب في فنون الغناء... وقمر البغدادية، وهي قَيْنةٌ مغنيةٌ من أنواع قِيَان بغداد وأصنعهن في الغناء وأعرفهن بفنون الكلام. سمع بها إبراهيم بن حجاج صاحب أشبيلية في أخريات القرن الثالث، فوجه إلى بغداد بأموال عظيمة اشْتُرِيَتْ بها، حتى إذا قدمت الأندلس ازدرى بها نساء العرب لأنهن لم يألفن جارية ذات مكانة، وأخذن يتهامسن إذا مرت ويتغامزن إذا غنت، فقالت هي في ذلك:
قالوا: أتتْ في زي أطمارِ
من بعد ما هتكتْ قلبًا بأشفارِ

تمشي على وَجَلٍ، تغدو على سَبَلٍ
تشقّ أمصار أرضٍ بعد أمصارِ

لا حُرّةٌ هي من أحرار موضعها
ولا لها غير ترسيلٍ وأشعارِ

لو يعقـــــــــــلون لما عابــــــــــــــوا غريبتــــــــــهم لله مِنْ أَمَةٍ تُزْرِي بأحرارِ

ما لابن آدمَ فخرٌ غير همتهِ
بعد الديانة والإخلاص للباري

دعني من الجهل لا أرضى بصاحبهِ
لا يخلص الجهل من سَبٍّ ومن عارِ

لو لم تكن جنةٌ إلا لجاهلةٍ
رَضِيتُ من حُكْم ربّ الناس بالنار"

... إلخ إن كان لهذا من آخر! فكيف ينسى ابن رشد ذلك كله؟
ونحن الآن لدينا عشرات الأصوات الرجالية والنسائية لا تكف عن غناء الشعر: فصيحا وعاميا ليل نهار. بل لدينا أكثر من إذاعة وقناة تلفازية مخصصة للأغانى، وكثير منها شعر فصيح. وفى العصر الحديث كتب كل من شوقى والعقاد ورامى مثلا شعرا فى صوت أم كلثوم. وهناك شعر أبى عقيل الظاهرى الأديب والعالم السعودى المعروف فى نجاة الصغيرة، وقد طبعه مع أغانيها فى كتاب وأتى إلى القاهرة وطرق بابها وسلمه إياها بنفسه، وكان يطمع أن تختار من شعره فيها شيئا تغنيه، بيد أنها اعتذرت بحجة أنها لا تستطيع أن تغنى شعرا قيل فى التغزل بها، وهو ما لم يقنعه، إذ قد غنت قبلا قصيدة كامل الشناوى التى نظمها فيها وفى الحديث عن خيانتها له، وهى قصيدة "لا تكذبى"، فعاد بخُفَّىْ حُنَيْن.
وبالمثل فات ابن رشد (ص63) أن يستعمل مصطلح "النَّظْم" للكلام الموزون المقفى الخالى من الخيال والعاطفة، واستعمل بدلا منه كلمة "أقاويل"، وهى كلمة فضفاضة تصلح للنظم والنثر والشعر جميعا. ويُسْتَخْدَم النَّظْم فى الشعر التعليمي، وهو الأراجيز والمنظومات التاريخية والعلمية. ولسوف نكتفى هنا بإيراد أسماء بعض المنظومات التعليمية فى الأندلس بلد ابن رشد ذاته: فمن الأراجيز التاريخية أرجوزة يحيى بن الحكم الغزال (ت250هـ) في فتح الأندلس، وأرجوزة تمام بن عامر بن علقمة (ت283هـ) في فتح الأندلس أيضا وحكامها وحروبها، وأرجوزة ابن عبد ربه في مغازي عبد الرحمن الثالث، وأرجوزة أبي طالب عبد الجبّار (القرن الخامس الهجري) في الوصف والحرب والتاريخ، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ): "رَقْم الـحُلَل في نظم الدول" في تاريخ دول الإسلام في المشرق والأندلس. ومن الأراجيز العلمية أرجوزة ابن عبد ربه في العَرُوض، وأرجوزة الشاطبي (ت590هـ) في القراءات وعنوانها "حرز الأماني"، وألفية ابن مالك (ت672هـ) في النحو، وأرجوزة لسان الدين بن الخطيب: "المعتمدة في الأغذية المفردة"، وأرجوزة أبي بكر محمد بن عاصم (ت829 هـ) في القضاء: "تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام". ومن الشعر التعليمي أيضا منظومة حازم القرطاجني (ت684هـ) الميمية في النحو، وبديعية ابن جابر الضرير (ت780هـ) في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحُلَّّة السِّيَرا في مدح خير الوَرَى".
وجاء ضمن كلام ابن رشد عن محاكاة الفضائل والرذائل قوله: "يجب... ضرورةً أن يكون المحاكون للفضائل، أعنى المائلين بالطبع إلى محاكاتها، أفاضل، والمحاكون للرذائل أنقص طبعا من هؤلاء وأقرب إلى الرذيلة. ومن هذين الصنفين من الناس وُجِد المديح والهجو، أعنى مدح الفضائل وهجو الرذائل. ولهذا كان بعض الشعراء يجيد المدح، ولا يجيد الهجو، وبعضهم بالعكس. أعنى: يجيد الهجو، ولا يجيد المدح" (ص65). وبطبيعة الحال إنما يتكلم أرسطو عن فن المسرح وعن المأساة والملهاة لا عن المديح والهجاء كما فهم متى بن يونس، وفهم وراءه بالتبعية ابن رشد. لكن هذا لا يقوم عذرا لابن رشد فيما قال، إذ من ذا الذى يستطيع أن يقول للمادح: إما أن تكون رجلا فاضلا وإلا فلتسكت ولا تفتح فمك بمديح؟ أو من ذا الذى يا ترى يمكنه أن يقول للهاجى: إما أن تكون رجلا رذلا أو فلتمسك عليه لسانك؟ بل من ذا الذى يجرؤ على أن يواجه أى شاعر بأنه رجل ثقيل رذيل أصلا؟ بل من قال إن المادح لا يحسن المديح إلا إذا كان رجل فضيلة، أو إن الهاجى لا يمكنه أن يتقن الهجاء إلا إذا كان رجل رذيلة؟ وقد عاد فيلسوفنا إلى هذه النقطة كرة أخرى (ص71) فقال إن "النفوس التى هى فاضلة شريفة بالطبع هى التى تنشىء صناعة المديح، أعنى مديح الأفعال الجميلة، والنفوس التى هى أخس من هذه هى التى تنشئ صناعة الهجاء، أعنى هجاء الأفعال القبيحة".
ومن البين أن النظرة النقدية قد غابت تماما عن ابن رشد فى كل ما كتبه فى هذا الكتاب تقريبا وأنه يردد ما فهمه من أرسطو دون أن يعمل عقله فيه ولو بمجرد التساؤل والاستغراب، وهو لا أقول: "أضعف الإيمان" بل أقل من أضعف الإيمان. ومن المرات النادرة التى شعر بالقلق والاستغراب مما يقوله أرسطو، لكونه لا ينطبق على شعر العرب، قوله عند الحديث عن الملاحم والتطرق إلى ما ينبغى مراعاته فى عملها، وإن لم يتنبه إلى معنى "الملحمة" فظن أنها مجرد "أشعار قصصية" عن "تنقل الدول والممالك والأيام": "وكل ذلك خاص بهم وغير موجود مثاله عندنا: إما لأن ذلك الذى ذكر غير مشترك للأكثر من الأمم وإما لأنه عرض للعرب فى هذه الأشياء أمر خارج عن الطبع، وهو أبين، فإنه ما كان ليثبت فى كتابه هذا ما هو خاص بهم، بل ما هو مشترك للأمم الطبيعية" (ص154، 156).
ومن الغريب أن ينطلق فيلسوفنا (ص67) فى حملة على الشعر العربى زاعما أن أكثر موضوعاته بغيضة، وممثلا لذلك بـ"النسيب"، الذى يراه حثا على الفسوق. ومن ثم كان لا بد، فى رأيه، من تجنيب الولدان إياه واستبدال الشعر الذى يحض على الشجاعة والكرم به. ترى أى فسوق ذلك الذى يتحدث عنه ابن رشد؟ هل كلما وقع شخص فى حب فتاة أو امرأة كان ذلك فسقا ودعوة إلى الفسق وإغراء به وحضا عليه؟ لقد كان حريا بالرسول أن يزجر كعب بن زهير مثلا حين أتاه تائبا مؤمنا معتذرا فافتتح قصيدته بالنسيب والغزل متفننا فى وصف فم سعاد وطعمه وتشبيهه بالخمر الممزوجة بالماء البارد وما صنعته بقلبه من تَبْل وحُرُقات. كما كان حَرِيًّا أن يزجر حسان بن ثابت، الذى كثيرا ما بدأ قصائده بأبيات من الغزل.
ثم كيف يكون الغزل فسقا، وإنما هو تعبير عما يشعر به المحب فى قلبه من هيام ولوعة أو بهجة وسعادة؟ هل الحب حرام؟ هل هو فسق؟ أبدا، إنما هو استجابة لغريزة غرزها الله فى أعماق النفوس، لا نفوس البشر فقط بل نفوس الحيوانات والفراشات والطيور والأسماك وحتى الديدان. فماذا يقصد ابن رشد بالربط بين الغزل والنسيب وبين الفسق؟ إن الفسق هو الزنا وما إليه بسبيل، وشتان الحب والزنا. نعم بعض شعر الغزل فاجر، لكن هذه ليست طبيعة الغزل لا تنفك عنه، بل هو أمر عارض يتوقف على طبيعة الشاعر المتغزل وشخصيته. هل شعر جميل وكُثَيِّر وقيس مثلا شعر فاسق؟ بل إن معظم شعر ابن أبى ربيعة لا علاقة له بفسق أو فجور. إنما هو شعر يعبر عن خفة الظل والمعجبانية، وشتان بين هذا وبين الفسق والفجور .
وهو يصنف الشعر الوصفى الذى يتناول الشعراءُ العربُ فيه تصوير النبات والحيوان والجماد ضمن "الأشعار المقصود بها المطابقة" (ص67) مع أنه لا مطابقة هناك ولا يحزنون، وإلا لنَفَوْا من هذه الأشعار التشبيهات والاستعارات والكنايات وكل أنواع الخيالات والمجازات والرموز. أليس كذلك؟ صحيح أن ابن رشد يخلط هنا بين الشعر المسرحى الذى يتحدث عنه أرسطو والشعر الغنائى الذى لا يعرف أدبنا العربى القديم سواه، إلا أنه كان ينبغى أن يكون على دراية أفضل من هذا بشعره القومى. أتراه حقا كان يؤمن بأن الشعر الوصفى لدى العرب كان شعرا مطابقا لما يصفه من كائنات؟ يا للعجب!
وبغض النظر عن إساءة ابن رشد فهم المأساة والملهاة وتصوره أنهما هما المدح والهجاء تبعا لإساءة مترجم كتاب "الشعر" ترجمتهما كما أشرنا من قبل مرارا فإن جَزْمه (ص77) بأن الشعر العربى يخلو من المدح بصواب الاعتقادات (الدينية) هو جزم فى غير موضعه. ألم يبلغه شعر حسان وابن أبى رواحة وكعب بن مالك؟ ألم يبلغه ما قيل فى مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثائه؟ ألم يبلغه شعر الفتوح الإسلامية؟ ألم يبلغه ما نُظِم فى رثاء عمرَ وعثمانَ وعلىٍّ ووصفهم بالإيمان المتين والتقوى؟ ألم يبلغه شعر ابن قيس الرقيات؟ ألم يبلغه شعر كُثَيِّر السياسى فى ذرية علىٍّ؟ ألم يبلغه شعر الكُمَيْت؟ ألم يبلغه شعر دِعْبِل الخزاعى؟ ألم يبلغه ما قاله شعراء الشيعة فى أئمتهم؟ ألم يبلغه شعر الخوارج؟ ألم يبلغه شعر ابن هانئ الأندلسى فى المعز لدين الله الفاطمى؟
يقول مثلا أبوالأسود الدؤلى:
وَما طَلَبُ المَعيشَةِ بِالتَمَنّي
وَلَكِنْ أَلقِ دَلوَكَ في الدَلاءِ

تَجِئْكَ بِمِلْئِها يَوْمًا، وَيَوْمًا
تَجِئكَ بِحَمأَةٍ وَقَليلِ ماءِ

وَلا تَقْعُدْ عَلى كُلِّ التَمَنّي
تُحِيلُ عَلى المَقدَّرِ وَالقَضَاءِ

فَإِنَّ مَقادِرَ الرَّحْمَنِ تَجْري
بِأَرْزاقِ الرِجالِ مِنَ السَّماءِ

مُقَدَّرَةً بِقَبْضٍ أَو بِبَسْطٍ
وَعَجْزُ المَرءِ أَسْبابُ البَلاءِ

ويقول الأحوص الأنصارى:
فَأَنا ابنُ الذي حَمَتْ لَحمَهُ الدَّبْـــــــــــــــ
ـــــــــرُ قَتِيلِ اللِّحْيانِ يَوْمَ الرَّجِيعِ

غَسَّلَتْ خالِيَ المَلائِكَةُ الأَبــْــــــــــــ
ـــــــــــــــرارُ مَيْتًا. طُوبَى لَهُ مِن صَريعِ!

ويقول عيسى بن فاتك، أحد شعراء الخوارج، فى انتصارهم بأربعين على ألفين من جيش بنى أمية:
فَلَمّا أَصبَحوا صَلَّوْا وَقاموا
إِلى الـجُرْدِ العِتاقِ مُسَوِّمينا

فَلَمّا اسْتَجْمَعوا حَمَلوا عَلَيْهِم
فَظَلَّ ذَوُو الجَعائِلِ يَقتُلونا

بَقِيَّةَ يَوْمِهِم حَتّى أَتاهُمْ
سَوادُ اللَيلِ فيهِ يُراوِغونا

يَقولُ بَصيرُهُم لَمّا رَآهُم
بِأَنَّ القَومَ وَلَّوْا هارِبينا:

أَأَلفا مُؤمِنٍ فيما زَعَمتُم
وَيَهْزِمُهُم بِآسِكَ أَرْبَعُونا؟

كَذَبْتُم! لَيسَ ذاكَ كَما زَعَمْتُم
وَلكِنَّ الخَوارِجَ مُؤمِنُونا

هُمُ الفِئَةُ القَليلَةُ غَيْرَ شَكٍّ
عَلى الفِئَةِ الكَثيرَةِ يُنْصَرونا

أَطَعْتُم أَمْرَ جَبّارٍ عَنيدٍ
وما من طاعَةٍ لِلظّالِمينا

وقال أبو نُخَيْلة فى مدح السفاح والمنافحة عن حق العباسيين فى الخلافة وطمس حجة العلويين فيها:
حتى إذا ما الاوصياء عسكروا
وقام من تِبْر النبيّ الجوهرُ

ومن بني العباس نَبْعٌ أصفرُ
يَنْمِيه فرعٌ طيبٌ وعنصرُ

أقبل بالناس الهوى المستبهرُ
وصاح في الليل نهارٌ أَنْوَرُ

وعلى نفس النحو يقول منصور النمرى مادحا الرشيد:
قد كِدْتَ تَقْضي على فَوْتِ الشَّبابِ أَسًى
لَوْلا تَعَزيِّكَ أَنَّ العَيشَ مُنقَطِعُ

لا بل بَقاءُ أَميرِ المؤمِنينَ لنا
فيهِ الغِنَى وَحَياةُ الدينِ وَالرِّفَعُ

إِن أَخْلَفَ الغَيْثُ لَم تُخْلِف مَخايلُهُ
أَو ضاقَ أَمْرٌ ذَكَرْناهُ فَيَتَّسِعُ

إِنَّ الخَليفَةَ هارونَ الَّذي امْتَلأتْ
مِنْهُ القُلوبُ رَجاءً تَحْتَهُ فَزَعُ

مَفْرُوضَةٌ في رِقابِ الناسِ طاعَتُهُ
عاصيهِ مِن رِبْقَةِ الإِسلامِ مُنقَطِعُ

أَيُّ امرىءٍ باتَ مِن هارونَ في سَخَطٍ
فَلَيْسَ بِالصَلواتِ الـخَمْسِ يَنتَفِعُ

أُثْني عَلى اللهِ إِحسانًا وَأَشكُرُهُ
أَنْ لَيْسَ لي عَن وَليِّ الأَمْرِ مُنْقَطَعُ

أَصفَيْتُ وُدّي لِهارونٍ وَشيعَتِهِ
لَمّا تَفَرَّقَتِ الأَحْزابُ وَالشِّيَعُ

لَمّا أَخَذْتُ بِكَفِّي حَبْلَ طاعَتِهِ
أَيْقَنْتُ أَنّي مِنَ الأَحْداثِ مُمتَنِعٌ

هُوَ الإِمامُ الَّذي طابَ الجِهادُ بِهِ
وَالحَجُّ لِلنَّاسِ وَالأَعيادُ وَالجُمَعُ

حِصْنٌ بَنَتهُ يَمينُ اللَهِ يَسكُنُهُ الــــــ
إِسلامُ صَعْبُ المَراقي ليسَ يُطَّلَعُ

يَقْرِي العَدُوَّ المَنَايا، وَالعُفاةَ نَدًى
مِن كُلِّ ذاكَ النَّدَى أَحْواضُهُ تُرَعٌ

صَبٌّ إِلى اللَهِ زَوّارٌ لِكَعبَتِهِ
في كُلِّ عامٍ، وَإِنْ زُوّارُها شَسَعوا

لا يَحْفِلُ البُعْدَ مِن دارٍ وَلا وَطَنٍ
إِذا سَرَى بِوفودِ اللَهِ وَاتَّبَعوا

عَزّافَةُ النَّفسِ لا يَلْوي عَلى دَعَةٍ
وَقَدْ يرى خَفْض مَن يَلْهُو وَيتَّدِِعُ

بَرٌّ بِمَكَّةَ لَم يُجْمَع إِلى بَلَدٍ
إِلا تَخَرَّقَ فيهِ الرِّيُّ وَالشِّبَعُ

ويقول ظافر الحداد فى الخليفة الفاطمى الآمِر:
صلى الإلهُ عليك يا ابْنَ رسولِهِ
وهَدَى لطاعتِك الوَرَى لسبيلِهِ

فبِكَ استقرَّ الحقُّ واتضح الهدى
وأبان للثَّقَلين وجه دليلِهِ

يا ابنَ الأئمةِ من ذؤابةِ هاشمٍ
شَرَفٌ سَما بفروعه وأصولهِ

...


يا أرفعَ الخلفاء قَدْرًا، يا إما
مَ الحقِّ دعوة صادقٍ في قِيلهِ

...


أنت المُرادُ بقَصْدِ كلِّ قصيدةٍ
بُنِيَت على الأفهام في تَبْجيلهِ

كسجودِ أَملاكِ السماءِ لآدمٍ
وسجودِها لله في تأويلهِ

...


فاللهُ ناصرُ من أطاعَك صادقًا
ومُبيدُه بالذلِّ عند نُكولهِ

فلقد عدلتَ فكِدْتَ تأخذُ رغبةً
بالثأرِ من هابيلَ في قابيِلهِ

ووهبتَ حتى إنّ جودَك يغمر الــــــ
ــــدنيا ومن فيها ببعض هُمُولهِ

وحَلُمْتَ حتى إنَّ عفوك يسبق الـــــــــــــ
ــــــــــجاني إلى الغايات من تأميلهِ

وأَجرتَ من جَوْرِ الزمانِ فما لَهُ
صَرْفٌ يخافُ الـحُرُّ من تَنْقيلهِ

غاياتُ مدحِك لا تُنَال، ونَيْلُها
إفحامُ مُوجِزِه وعَجْزُ مُطِيلهِ

كالبحرِ لم تبلغ نهايةُ ذي نُهًى
أبدا إلى مَوْزونه ومَكِيلهِ

ماذا يقول المادحون، وقد بدا
بمديحِك القرآنُ في تنزيلهِ؟

أنت الذي بَعَث الإلهُ لنا به
آباءَه، فتَمثَّلوا بمُثولهِ

حتى لقد وَدَّ الحجازُ تشَوُّقًا
لو زَارَه بِرُسُومِه وطُلُولِهِ

فيرى لوجهك ما رأى من حَقِّهم
فيما مضى بجماله وجميلهِ

ولِيُمْسِك البيتُ الحرامُ وحِجْرُه
ومقامُه وحَطيمُه بذُيولهِ

ويُبادِرَ الحِجْرُ العظيمُ، ومالَهُ
غيرُ استلامِ يديه أو تقبيلهِ

وتقول مكةُ عند ذاك وطَيْبَةٌ:
هذا ابنُ حَيْدَرَة الرِّضا وبَتُولِهِ

هذا ضياءُ اللهِ والمعنى الذي
تتَفاضلُ العلماءُ في تعليلهِ

هذا ابنُ مَنْ أَدْناهُ منه إلـَهُهُ
كالقابِ من قَوْسَيْن في تمثيلهِ

هذا ابنُ مَنْ نطق الذراعُ لـِجَدِّهِ
إذْ سَمَّه الكفار في مأكولهِ

من آمَنَتْ جِنُّ البلاد به، وقد
سمعتْ كلامَ اللهِ في تنزيلهِ

ما زال يَنْقُله الإله مُطهَّرًا
عن ظَهْرِ مثلِ ذَبِيحِه وخَلِيلهِ

وتَوارثتْه الأنبياءُ وَسَادَةُ الـــــــــــــــــ
ـــــــــــخلفاءِ حتى حانَ وقتُ حُلولهِ

وغير ذلك كثير جدا.
كذلك يبدو، مما قاله ابن رشد فى "كليلة ودمنة"، الذى يسميه: "دمنة وكليلة"، أنه يضعه فى مرتبة أدبية متدنية، إذ يصنفه ضمن المخترعات والأكاذيب (ص89). وطبعا ليس هذا رأى أرسطو، فليس فى كتاب أرسطو شىء من ذلك بتة، بل هو كلام ابن رشد ظنا منه أن الفيلسوف اليونانى إنما يتحدث عن الشعر الغنائى، الذى لم تكن العرب تعرف شيئا سواه. وأود أولا أن أنبه إلى الخلط الشديد الذى وقع فيه الفيلسوف الأندلسى حين ذكر "كليلة ودمنة" بين أشعار المديح والهجاء، إذ ليس الكتاب شعرا أصلا، فضلا عن أن يكون له بالمدح والهجو أية صلة . وأما أنه قد أخطأ، وأخطأ خطأ فاحشا، حين نزل بمرتبة "كليلة ودمنة" إلى هذا الحد فذلك واضح لكل من يعرف الكتاب ويعرف قيمته الأدبية سواء من ناحية الأسلوب أو من ناحية الإبداع القصصى أو من ناحية تصوير الحيوانات وإحسان اختيارها لما ترمز إليه وإجراء الحوار على ألسنتها وإرسالها تتصرف كما يتصرف البشر بشكل مقنع تمام الإقناع أو من ناحية المضامين السياسية والفكرية التى تغياها ابن المقفع. وبلغ من افتتان الأدباء، قبل الناس العاديين، به أنْ حوَّله بعض الشعراء نظما كأبان اللاحقى وابن الهبارية، وأنه كان سببا فى ظهور أعمال منسوجة على منواله كـ"النمر والثعلب" و"ثُعْلَة وعَفْراء" لسهل بن هارون، و"الصاهل والشاحج" للمعرى، و"الصادح والباغم" لابن الهبارية.
لقد حفر ابن المقفع اسمه حفرا فى سجل الخالدين بهذا العمل الأدبى العجيب أيا كانت طبيعة صلته به، فكيف يأتى ابن رشد فيصدر مثل هذا الحكم المتسرع غير الناضج على هذا العمل الإبداعى الكبير، ثم لا يكتفى بهذا، بل يخلط أيضا بينه وبين المدح والهجاء؟ ألا إن ذلك لأمر فى غاية الغرابة! ولقد كانت العرب، حين تمدح الشعر، تقول: أعذب الشعر أكذبه. يقصدون ما فيه من خيالات وإبداع ومجازات ومبالغات، ولا يريدون عيبه والانتقاص منه. فالكذب هنا معناه الإبداع والتفنن فيه، فكيف غفل ابن رشد عن ذلك المعنى واستعمل الكلمة فى معناها الأخلاقى الذى ينزل بكتاب ابن المقفع إلى الحضيض؟ هل اتخاذ ابن المقفع من الحيوانات أبطالا لكتابه يعد كذبا؟ أيتصور ابن رشد أن القراء من الغباء بحيث تجوز عليهم هذه الحيلة الفنية فيظنوا أن ابن المقفع يقصد فعلا أن الحيوانات تتكلم كما يتكلم البشر وتتصرف كما يتصرف البشر، وأن هؤلاء القراء سوف يبنون حياتهم على هذا الأساس بما يؤدى إلى اضطراب تلك الحياة لقيامها على الكذب والتضليل؟ أعوذ بالله أن يكون ابن رشد قد بلغ هذا الحد من الفهم والتفكير.
وبالمناسبة فاستعمال العرب كلمة "الكذب" هنا بالمعنى الفنى لا بالمعنى الأخلاقى يذكرنا باستعمالهم كلمة "الشياطين" فى قولهم: "شياطين الشعراء" للدلالة على قُوَى الإلهام الشعرية التى تعين الشعراء على أن يأتوا بما لا يستطيع الناس العاديون أن يأتوا به. وهذا يقابل كلمة "ربات الفنون" عند الإغريق. والغريب أن ابن رشد (ص121- 122) قد أثنى على الشعراء العرب الذين أَضْفَوُا الحياة على الجمادات وشخَّصوها كقول المجنون:
وَأَجْهَشْتُ لِلتَّوْبادِ حينَ رَأَيتُهُ
وَكَبَّرَ لِلرَّحْمَنِ حِينَ رَآني

فَقُلْتُ لَهُ: أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُمْ
حَوالَيْكَ في خِصْبٍ وَطِيبِ زَمانِ؟

فَقَالَ: مَضَوْا وَاسْتَوْدَعُوني بِلادَهُم
وَمَنْ ذا الَّذي يَبْقَى مَعَ الحَدَثانِ؟

وقول ذى الرُّمَّة:
وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِمَيَّةَ ناقَتي
فَما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُه

وَأَسْقيهِ حَتّى كادَ مِمّا أَبُثُّهُ
تُكَلِّمُني أَحجارُهُ وَمَلاعِبُه

فإذا كان الشعراء يشخّصون الجمادات ويؤنسنونها فيرى ابن رشد ذلك شيئا جميلا فلم يا ترى ينفر فيلسوفنا من خلع الصفات الإنسانية على الحيوان ويراه كذبا لا يصح، والحيوانات غير بعيدة من البشر بُعْدَ الجماد؟
على أية حال إلى القارئ ما تقوله مادة "كليلة ودمنة" فى موسوعتين كبيرتين: الأولى عربية، والثانية فرنسية. وهو مجرد عينة صغيرة لما تقوله الموسوعات وكتب تاريخ الأدب والدراسات النقدية حول هذا الكتاب العجيب. تقول مادة "كليلة ودمنة" بـ"الموسوعة العربية العالمية": "كَلِيلَة ودِمْـنَة أثر أدبي خالد أسهم في الأدب العالمي عمومًا. وهو كتاب اخْتُلِف في أصله كما اخْتُلِف في ترجماته: أيها كانت عن الأصل؟ وأيها كانت عما نقل عن الأصل؟ وقد كانت النسخة العربية التي ترجمها ابن المُقَفَّع (ت142هـ- 759م) مثار درس وجدل كبيرين أثارته واستقصته الدراسات الكثيرة التي كُتِبَت عن كتاب "كليلة ودمنة" وعن الكاتب ابن المقفع. وأما الترجمات التي نُقِلَت عن النص العربي مباشرة أو عن نصوص مترجمة عن النص العربي فهي السريانية الحديثة والإنجليزية والفارسية الأولى ثم الثانية والفارسية الهندية والتركية واليونانية والإيطالية والعبرية واللاتينية الوسطى ثم اللاتينية القديمة والأسبانية القديمة. أما الترجمات الأوروبية الأخرى فأكثرها تُرْجِم عن لغات وسيطة أُخِذَتْ عن النص العربي مباشرة.
وكان العالِم الفارسي بَرْزَويْه مُولَعًا بالحكمة والعلم، وكان مقرَّبًا من كسرى أنوشروان، فقرأ في كتاب الهنود زعمًا يقول إن لديهم نباتًا يُنْثَر على الميت فيتكلم في الحال. فارتحل برزويه إلى الهند بتشجيع من كسرى أنوشروان وواجهته مصاعب كثيرة حتى عرف أن النبات المقصود هو رمز لكتاب "كليلة ودمنة" الموجود لدى الراجا حاكم الهند. وقيل: إن هذا الكتاب كان متوارَثًا عند الحاكم لا يُسْمَح لأحد باستنساخه. إلا أن بَرْزَويْه، بعلمه وحكمته وحسن خلقه، استطاع الاطلاع على النسخة الهندية. وكان يرسل إلى كسرى أنوشروان ما يحفظه منها تباعًا. وتولى بُزُرْجُمُهْر كتابة ما يصل من بَرْزَويْه، وصَدَّر الكتابَ بنبذة عن العالم بَرْزَويْه.
والكتاب كله حول قصص يرويها الفيلسوف بَيْدَبا للملك دَبْشَليم. واطلع ابن المقفع على النسخة الفارسية لـ"كليلة ودمنة"، وكان لها أثر بالغ في نفسه وتفكيره وثقافته. وكان الظرف الاجتماعي والسياسي للفيلسوف الهندي بيْدبا مع الملك دَبْشَليم يشابه ما كان فيه ابن المقفع مع الخليفة المنصور، الذي كان بحاجة إلى النصح غير المباشر لما عُرِف عنه من قوة البأس والبطش بكل من يمالئه أو يخرج عن طاعته. لذا اتسمت ترجمة ابن المقفع للكتاب بخصوصية ظرفها الزماني والمكاني، فأضاف ابن المقفع بعض القصص من نسج تأليفه، وعدَّل في بعضها، وأكسب المترجَم منها روحًا جديدة أضافها أسلوبه المشوق وعرضه الرائع".
ثم هذا ما جاء فى نفس المادة بموسوعة "Imago Mundi" المشباكية عن ذات الموضوع:
"Kâlila (ou Calila) et Dimna: Titre d'un recueil d'apologues d'origine hindoue, s'emboîtant les unes dans les autres. Le narrateur est le philosophe Pidpay; il donne à un roi des préceptes moraux qu'il appuie par des exemples. Les personnages des fables sont des animaux, mais ces animaux ont une vie tout humaine. Bentey remarque là l'influence de la croyance en la métempsycose. Il est certain, en effet, que ce livre nous vient des Indes. On retrouve des traces de son origine dans la Pantchatantra et le Mahâbhârata.
Les auteurs orientaux racontent que le roi de Perse Nouchirèvân, sur les indications de son fameux vizir Bouzourdjmêhir, envoya le médecin Barzoûyeh en Inde pour se procurer un exemplaire de cet ouvrage. Barzoûyeh réussit et le traduisit en pahlavi vers l'année 570 de J.-C. Deux siècles plus tard à peine, Abd Allâh ibn Al-Mouqaffâ, musulman, fils d'un sectateur de Zoroastre, traduisit en arabe la version pehlvie, non sans y faire entrer beaucoup d'éléments arabes.
Le livre de Kalîla et Dimna eut dès lors un succès grandissant. Il passa en plusieurs langues. Les versions persanes les plus célèbres sont l'Envâri-Souhaylîde Hoseïn Vaïz Kâchéfi, l'Iyâri Dânich d'Abou'I-Fazl. Une version grecque de Simon ben Seth, datant de 1080 à peu près, fut traduite en italien cinq cents ans plus tard. Jean de Capoue, juif converti au christianisme, fit passer en latin une vieille version hébraïque vers 1270, sous le titre de Directorium humanae vitae. Raymond de Béziers fit une traduction latine d'une version espagnole et la dédia à la reine Jeanne de Navarre en 1313. Dès lors, le livre de Kalîla et Dimna passa dans toutes les langues de l'Occident. (A19)".
ومما أختلف مع ابن رشد بشأنه أيضا ما قاله (ص90- 91) بحق ثلاثة أبيات للأعشى الشاعر الجاهلى المشهور، إذ بعد أن عدها من جيد تشخيص المعانى من خلال تصوير الجود شخصا جالسا حول النار مع المحلّق صاحب النار، وهو ما لا أختلف معه فيه، نراه يعقب على ذلك قائلا إن هذه الأبيات رغم جودتها ليست من باب الحث على الفضيلة. ولنقرأ الأبيات أولا، وقد زدتُ عليها تسعة أبيات أخرى من القصيدة حتى تتضح الصورة تماما. يقول الأعشى:
لَعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عُيونٌ كَثيرَةٌ
إِلى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ

تُشَبُّ لِمَقْرُورَينِ يَصْطَلِيانِها
وَباتَ عَلى النارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ

رَضيعَيْ لِبَانٍ ثَدْي أُمٍّ تَحَالَفا
بِأَسْحَمَ داجٍ: عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ

يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ: فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ
وَأُخرى إِذا ما ضُنَّ بِالزادِ تُنْفِقُ

تَرى الجودَ يَجْري ظاهِرًا فَوْقَ وَجهِهِ
كَما زانَ مَتْنَ الهِنْدُوانِيِّ رَوْنَقُ

وَأَمّا إِذا ما أَوَّبَ المَحْلُ سَرْحَهُم
وَلاحَ لَهُم مِنَ العَشِيّاتِ سَمْلَقُ

نَفَى الذَّمَّ عَن آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ
كَجابِيَةِ الشَّيْخِ العِراقِيِّ تَفْهَقُ

يَرُوحُ فَتَى صِدْقٍ وَيَغْدو عَلَيهِمُو
بِمِلْءِ جِفانٍ مِنْ سَديفٍ يُدَفَّقُ

وَعادَ فَتَى صِدقٍ عَلَيهِم بِجَفنَْةٍ
وَسَوْداءَ لأْيًًا بِالـمَزَادَةِ تُمْرَقُ

تَرى القَوْمَ فيها شارِعينَ، وَدُونَهُم
مِنَ القَوْمِ وِلْدانٌ مِنَ النَّسْلِ دَرْدَقُ

طَوِيلُ اليَدَينِ رَهْطُهُ غَيْرُ ثِنْيَةٍ
أَشَمُّ كَريمٌ جارُهُ لا يُرَهَّقُ

كَذَلِكَ فَافعَل ما حَيِيتَ إِلَيهِمُو
وَأَقْدِم إِذا ما أَعْيُنُ الناسِ تَبْرَقُ

وتعليقى على ما قاله ابن رشد هو أن الأبيات، كما يتضح من البيت الأخير فيها، حَثٌّ على الجود والكرم. ولا أظن المسألة محتاجة إلى مزيد توضيح. ثم لنفترض أن البيت الأخير غير موجود ألا تعد الأبيات حثا على الفضيلة؟ قد يقول إنها فى الفخر لا فى الحض على الأريحية والمعروف. لكن هل لا بد أن يكون الحث على الكرم أو غير الكرم وعظا مباشرا؟ إن الأدب كثيرا ما يسلك السبل البعيدة غير المطروقة فيكون هذا سر تألقه وإبداعه. إننا نقرأ الشعر والقصص فنتعلم منهما كثيرا من الفضائل دون أن ينبس الأديب بكلمة تحضيض، إذ يتركنا نواجه عمله دون أن يقف بيننا وبينه فنتعلم ما يريد لنا تعمله من خلال تشربنا لما نقرأ على مهل ودون أن نحس أننا نتعلم شيئا. ألا يعرف ابن رشد أن مشاهدة الابن لأبيه مثلا وهو يصنع الخير أفضل ألف مرة من سماعه إياه وهو يحضه على ذلك الخير دون أن يضرب له المثل بنفسه؟
لقد أريقت أحبار غزيرة فى قضية شعر المديح وهل هو لون من ألوان النفاق أو من الحض على الخير. ومِنْ رأْى طائفة من مؤرخى الأدب العربى أن المادح، حين ينظم قصيدة فى ممدوحه، إنما يضع صورة وضيئة أمام أعين قرائه وجمهور سامعيه، وقبلهم ممدوحه ذاته، ليتخذوها مثلا أعلى. ولا ريب أن الأبيات التى نحن بصددها هنا تفتن اللب وتدفع من يقرؤها أو يسمعها دفعا نحو محاولة الاتصاف بالجود والكرم، ثم سواء بعد ذلك أكان الدافع له إرضاء الله إذا كان ممن يحرصون على الحياة الآخرة أو احتياز السمعة العظيمة إذا كان لا يريد سوى مجد الدنيا وحسن الأحدوثة لا غير. أما أن يقال إنها لا تحث على الفضيلة فكلا وألف كلا.
وبعد أكثر من ثلاثين صفحة يعود ابن رشد (ص123) فيتهم الشعر العربى كله بأنه يخلو من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائص، وأن القرآن لهذا السبب ينحى باللائمة على الشعراء غير مستثنٍ منهم أحدا إلا "مَنْ ضَرَبَ قولُه إلى هذا الجنس" كما يقول، أى نَظَمَ شعره فى مدح الفضيلة والحث على الرذيلة. يقصد قوله تعالى فى الآيات 221- 227 من سورة "الشعراء": "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ". وتعليقنا على هذا أن كلام ابن رشد غير صحيح، فالشعر العربى مملوء بالحث على الفضيلة والتنفير من الرذيلة كما فى أشعار المتدينين ومادحى الرسول والحكماء وما إلى ذلك، فضلا عن كثير من شعر المديح والهجاء ذاته. أما فيما يتعلق بالآيات الكريمة فالحديث فيها عن شعراء الشرك والوثنية الذين كانوا يهاجمون الإسلام ونبيه وأتباعه ويحرضون عليهم ويشعلون نار الحرب ضدهم ويؤلبون القبائل فى وجوههم، ويدعون إلى قيم الباطل والشر كالخمر والميسر والتفاخر الكاذب بالأحساب والأموال وما إلى ذلك. ولست أدرى كيف فهم ابن رشد منها ما فهم! الحق أنْ لو كان فهم ابن رشد صحيحا لما كان الرسول والصحابة ليستمتعوا بالشعر بما فيه شعر الجاهلية نفسه.
يقول أبو تمام فى مقدرة الشعر العجيبة على حض الناس نحو المكارم والمحامد بل على صَرْعهم صَرْعًا حتى ليعجزون تماما عن إمساك أيديهم عن العطاء:
يَقولُ أُناسٌ في حَبيناءَ عايَنوا
عِمارَةَ رَحْلي مِن طَريفٍ وَتالِدِ:

أَصادَفْتَ كَنْزًا أَمْ صَبَحْتَ بِغارَةٍ
ذَوي غِرَّةٍ حاميهُمُو غَيْرُ شاهِدِ؟

فَقُلتُ لَهُم: لا ذا وَلا ذاكَ دَيْدَني
وَلَكِنَّني أَقْبَلْتُ مِن عِنْدِ خالِدِ

جَذَبْتُ نَدَاهُ غُدْوَةَ السَّبْتِ جَذبَةً
فَخَرَّ صَريعًا بَينَ أَيْدِي القَصائِدِ

فَأُبْتُ بِنُعْمَى مِنْهُ بَيْضاءَ لَدْنَةٍ
كَثيرَةِ قَرْحٍ في قُلوبِ الحَواسِدِ

هِيَ الناهِدُ الرَّيَّا إِذا نِعْمَةُ امْرِئٍ
سواهُ غَدَتْ مَمْسوحَةً غَيْرَ ناهِدِ

فَزَعْتُ عِقابَ الأَرضِ وَالشِّعرِ مادِحًا
لَهُ، فَارتَقى بي في عِقابِ المحامِدِ

فَأَلْبَسَني مِن أُمَّهاتِ تِلادِهِ
وَأَلْبَسْتُهُ مِن أُمَّهاتِ قَلائِدي

ثم هذه بضعة أمثلة من الشعر العربى الذى يحض على الفضيلة أو ينفّر من الرذيلة، وبعضها من العصر الجاهلى ذاته، وكلها لشعراء سبقوا ابن رشد، ومنهم شاعر أندلسى. يقول ذو الإصبع العدوانى:
لم تعقلا جفرةً عليَّ، ولم
أُوذِ نديما، ولم أنل طَبَعَا

إلا بأن تكذبا عليَّ، ولا
أملك أن تكذبا وأن تلعا

إنكما، من سِفَاهِ رأيكما،
لا تجنباني الشكاة والقذعا

وإني سوف أبتدي لكما،
يا صاحبيَّ، الغداة، فاستمِعا

ثم اسألا جارتي وكنّتها:
هل كنتُ ممّن أَرَابَ أو خدَعا؟

أو دعَتاني فلم أجب، ولقد
يأمن مني خليليَ الفجعا

آبَى فلا أقرب الخباء إذا
ما رَبُّه بعد هدأةٍ هجَعا

ولا أروم الفتاة رؤيتَها
إنْ نام عنها الحليل أو شسَعا

وذاك من حقبةٍ خلتْ ومضتْ
والدهرُ يجري على الفتى لمعا

ويقول عروة بن الورد:
وَسائِلَةٍ: أَينَ الرَّحيلُ؟ وَسائِلٍ
وَمَن يَسأَلُ الصُّعْلوكَ: أَينَ مَذاهِبُهْ؟

مَذاهِبُهُ أَنَّ الفِجاجَ عَريضَةٌ
إِذا ضَنَّ عَنْهُ بِالفَعَالِ أَقارِبُهْ

فَلا أَتْرُكُ الإِخوانَ ما عِشْتُ لِلرَّدى
كَما أَنَّهُ لا يَتْرُكُ الماءَ شارِبُهْ

وَلا يُسْتَضامُ الدَّهْرَ جاري، وَلا أُرَى
كَمَنْ باتَ تَسْري لِلصَّديقِ عَقارِبُهْ

وَإِنْ جارَتي أَلْْوَتْ رِياحٌ بِبَْيتِها
تَغافَلْتُ حَتّى يَسْتُرَ البَيْتَ جانِبُهْ

ويقول عنترة بن شداد:
ما اسْتَمْتُ أُنْثَى نَفْسَها في مَوْطِنِ
حَتّى أُوَفِّيَ مَهْرَها مَوْلاها

وَلَمَا رَزَأْتُ أَخَا حِفَاظٍ سِلْعَةً
إِلا لَهُ عِندي بِها مِثلاها

أَغْشىَ فَتاةَ الحَيِّ عِنْدَ حَليلِها
وَإِذا غَزا في الجَيْشِ لا أَغْشاها

وَأَغَضُّ طَرْفي ما بَدَت لي جارَتي
حَتّى يُوارِيَ جارَتي مَأواها

إِنّي امْرُؤٌ سَمْحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ
لا أُتْبِعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ هَواها

وَلَئِنْ سَأَلْتَ بِذاكَ عَبْلَةَ خَبَّرَتْ
أَلاّ أُريدُ مِنَ النِّساءِ سِواها

وَأُجيبُها إِمّا دَعَت لِعَظيمَةٍ
وَأُغِيثُها وَأَعِفُّ عَمّا ساها

ويقول حاتم الطائى:
وَمَرْقَبَةٍ دونَ السَماءِ عَلَوْتُها
أُقَلِّبُ طَرْفي في فَضاءِ سَباسِبِ

وَما أَنا بِالماشي إِلى بَيتِ جارَتي
طَرُوقًا أُحَيِّيها كَآخَرَ جانِبِ

وَلَو شَهِدَتْنا بِالمُزاحِ لأَيقَنَت،
عَلَى ضُرِّنا، أَنّا كِرامُ الضَّرائِبِ

عَشِيَّةَ قالَ ابنُ الذَّئيمَةِ عارِقٌ:
إِخالُ رَئيسَ القَوْمِ لَيسَ بِآئِبِ

وَما أَنَا بِالساعي بِفَضْلِ زِمَامِها
لِتَشْرَبَ ما في الحَوْضِ قَبْلَ الرَّكائِبِ

فَما أَنَا بِالطاوي حَقيبَةَ رَحْلِها
لأَرْكَبَها خِفًّا وَأَتْرُكَ صاحِبي

إِذا كُنتَ رَبًّا لِلقَلُوصِ فَلا تَدَعْ
رَفِيقَكَ يَمْشِي خَلْفَها غَيْرَ راكِبِ

أَنِخْها فَأَردِفْهُ، فَإِن حَمَلَتكُما
فَذَاكَ، وَإِن كانَ العِقَابُ فَعاقِبِ

وَلَستُ، إِذا ما أَحْدَثَ الدَّهرُ نَكبَةً،
بِأَخْضَعَ وَلاّجٍ بُيُوتَ الأَقارِبِ

إِذا أَوطَنَ القَومُ البُيُوتَ وَجَدْتَهُم
عُماةً عَنِ الأَخْبارِ خُرْقَ المَكاسِبِ

وَشَرُّ الصَعاليكِ الَّذي هَمُّ نَفْسِهِ
حَديثُ الغَوَاني واتِِّبَاعُ المَآرِبِ

ويقول تميم بن أُبَىّ:
مَا أَنْتُمَا، والَّذِي خَالَتْ حُلُومُكُمَا،
إِلاَّ كَحَيْرَانَ إذْ يَسْري بِلاَ قَمَرِ

إنْ يَنْقُضِ الدَّهْرُ مِنِّي مِرَّةً لِبِلًى
فَالدَّهْرُ أَرْوَدُ بِالأَقْوَامِ ذُوِ غِيَرِ

لَقَدْ قَضَيْتُ، فَلاَ تَسْتَهْزِئَا سَفَهًا
مِمَّا تَقَمَّأْتُهُ مِنْ لَذَّةٍ وَطَرِي

يَا جَارَتَيَّ، عَلَى ثَاجٍ طَرِيقُكُمَا
سَيْرًا حَثِيثًا، أَلَمَّا تَعْلَمَا خَبَرِي:

أَنِّي أُقَيِّدُ بِالْمَأْثُورِ رَاحِلَتِي
ولاَ أُبَالِي ولَوْ كُنَّا عَلَى سَفَرِ؟

لاَ تَأْمَنُ السَّيْفَ، إذْ رَوَّحْتُهَا، إِبِلي
حَتَّى تَرَى نِيبَهَا يَضْمِزْنَ بِالْجِرَرِ

مَا يُصِبِ السَّيْفُ سَاقَهُ فَحُقَّ لَهُ
ومَا تَدَعْ ضَرْبَتِي لاَ يُنْجِهِ حَذَرِي

ولاَ أَقُومُ عَلَى حَوْضي فَأَمْنَعهُ
بَذْلَ اليَمِين بِسَوْطِي بَادِيًا حُتُرِي

ولاَ تهَيّبُني الـمَوْمَاةُ أَرْكَبُهَا
إِذَا تَجَاوَبَتِ الأَصْداءُ بِالسَّحَرِ

ولاَ أَقُومُ إِلَى الْمَوْلَى فَأَشْتُمُهُ
ولاَ يُخَدِّشُهُ نَابِي ولاَ ظُفَرِي

أَبْقَى خُطُوبٌ وحَاجاتٌ تُضَيِّفُني
ومَا جَنَى الدَّهْرُ مِنْ صَفْوٍ ومِنْ كَدَرِ

مِثْلَ الحُسَامِ كَرِيمًا عِنْدَ خِلَّتِهِ
لِكُلِّ إِزْرَةِ هذا الدَّهْرِ ذَا إِزَرِ

ويقول لبيد بن ربيعة:
وَلَقَد تَحْمَدُ، لَمّا فارَقَتْ،
جارَتي. وَالحَمدُ مِن خَيْرِ خَوَلْ

وَغُلامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ
بِأَلُوكٍ، فَبَذَلْنا ما سَأَلْ

أَو نَهَتْهُ، فَأَتاهُ رِزْقُهُ
فَاشْتَوَى لَيْلَةَ ريحٍ وَاجْتَمَلْ

مِنْ شِواءٍ لَيْسَ مِن عارِضَةٍ
بِيَدَيْ كُلِّ هَضُومٍ ذي نَزَلْ

فَإِذا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ
إِنَّما يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الـجََمَل

أَعْمِلِ العِيسَ عَلى عِلاّتِها
إِنَّما يُنْجِحُ أَصحابُ العَمَلْ

وَإِذا رُمْتَ رَحيلاً فَارْتَحِل
وَاعْصِ ما يَأمُرُ تَوْصيمُ الكَسَلْ

وَاكْذِبِ النَّفْسَ إِذا حَدَّثْتَها
إِنَّ صِدْقَ النَّفْسِ يُزْرِي بِالأَمَل

غَيْرَ أَلا تَكْذِبَنْها في التُّقَى
وَاخْزُها بِالبِرِّ. لِلَّهِ الأَجَل!

ويقول مسكين الدارمى:
إِن أُدْعَ: "مسكينًا" فما قصرت
قدري بيوتُ الحيِّ والـجُدْرُ

...


في المَجْد غُرَّتُنا مُبَيِّنةٌ
للناظرين كأَنَّها البَدْرُ

لا يرهب الجيرانُ غدْرَتَنا
حَتَّى يُوَارِيَ ذِكْرَنا القَبْرُ

لسنا كأَقوامٍ إِذا كلحتْ
إِحدى السنين فجارهم تمرُ

مَوْلاهمو لحمٌ على وَضَمٍ
تَنْتَابُه العِقْبَان والنَّسْرُ

ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ
وَإِليهِ قبليَ تُنْزَل القِدْرُ

ما ضَرَّ جاري إِذ أَجاوره
أَلا يكون لبيته سترُ

أَعمى إِذا ما جارتي خرجتْ
حتىّ يواري جارتي الخدرُ

وَيَصَمُّ عما كان بينهما
سَمْعي، وَما بي غيره وَقْرُ

ويقول إبراهيم بن هَرْمة:
عاتِبِ النَّفْسَْ وَالفُؤَادَ الغَوِيّا
في طِلابِ الصِّبا، فَلَسْتَ صَبيّا

اُحْبُ مَــــــــــدْحًا أَبـــــــــا مُعــــــــــاويَةَ المـــــــا جدَ لا تَلْقَهُ حَصُورًا عَيِيّا

بَلْ كَريمًا يَرْتاحُ لِلمَجدِ بَسّا
مًا إِذا هَزَّهُ السُّؤَالُ حَيِيّا

إِنَّ لي عِندَهُ، وَإِنْ رَغِمَ الأعـــــــــــ
ــــــــــداءُ، حَظًّا مِن نَفسِهِ وَقَفِيّا

إِنْ أَمُتْ تَبْقَ مِدْحَتي وَإِخائي
وَثَنَائِي مِن الـحَياةِ مَلِيّا

يأخذُ السَّبقَ بِالتَقَدّمِ في الجَرْ
يِ إِذا ما النَّدى انتَحاهُ عَلِيّا

ذو وَفَاءٍ عِنْدَ العِداتِ، وَأَوْصا
هُ أَبوهُ أَلاَّ يَزال وَفيّا

فَرَعَى عُقْدَةَ الوَصاةِ، فأكْرِمْ
بِهِما مُوصِيًا، وَهَذا وَصِيّا!

يا ابنَ أَسماءَ، فَاسْقِ دَلْوي، فَقَد أَوْ
رَدْتُها مَنْهَلاً يثجُّ رَوِيّا

ويقول ابن أبى الخصال:
يا ساكنَ القَصْرِ على غِرَّةٍ
تَذَكَّرِ الموتَ وسُكْنَى الـجَنَنْ

أَمِنْتَ مكَر اللَهِ يَغشاكَ في
لَيْلِك أَو يومِكَ؟ لا تَأْمَنَنْ

لا جُنَّةٌ للنَّارِ إلاَّ التُّقَى
والبِرّ فالزمهُ، ولا تُفْتَنَنْ

لو نطق الـمَيْتُ لناداكُمُو:
إنِّي وَجَدتُ البِرَّ أَوْقَى الجُنَن

وَضَعْتَ ما أُعْطِيتَ من قُوَّةٍ
وَمُنَّةٍ في كُفْرِ ربِّ المِنَن

إن كانَ ما أَسلَفْتَ من سَئٍّ
قد أعجز اللَّهَ فلا تُحْسِنَنْ

وإن أَمِنتَ المَوْتَ فافْرَح بما
أُعْطِيتَ في الدُّنيا ولا تَحْزَنَنْ

ويقول أبو إسحاق الألبيرى:
يا أَيُّها المُغتَرُّ بِاللهِ
فِرَّ مِنَ اللهِ إِلى اللهِِ

وَلُذْ بِهِ، وَاسْأَلهُ مِن فَضْلِهِ
فَقَدْ نَجَا مَنْ لاذَ بِاللهِ

وَقُمْ لَهُ، وَاللَّيْلُ في جِنْحِهِ
فَحَبَّذا مَن قامَ لِلَّهِ!

وَاتْلُ مِنَ الوَحْيِ وَلَوْ آيَةً
تُكْسَى بِها نورا مِنَ اللهِ

وَعَفِّرِ الوَجْهَ لَهُ ساجِدًا
فَعَزَّ وَجْهٌ ذَلَّ لِلَّهِ

فَمَا نَعيمٌ كَمُنَاجَاتِهِ
لِقَانِتٍ يُخْلِصُ لِلَّهِ

وَابْعُدْ عَنِ الذَّنْبِ، وَلا تَأْتِهِ
فَبُعْدُهُ قُرْبٌ مِنَ اللهِ

يا طالِبًا جاهًا بِغَيْرِ التُّقَى
جَهِلْتَ ما يُدْنِي مِنَ اللهِ

لا جاهَ إِلاَّ جاهُ يَوْمِ القَضَا
إِذْ لَيءسَ حُكْمٌ لِسِوَى اللهِ

وَصَارَ مَنْ يُسْعَدُ في جَنَّةٍ
عالِيَةٍ في رَحمَةِ اللهِ

يَسْكُنُ في الفِرْدَوسِ في قُبَّةٍ
مِن لُؤْلُؤٍ في جِيرَةِ اللهِ

وَمَنْ يَكُنْ يُقْضَى عَلَيهِ الشَّقَا
في جاحِمٍ في سَخَطِ اللهِ

يُسْحَبُ في النارِ عَلى وَجْهِهِ
بِسابِقِ الحُكْمِ مِنَ اللهِ

يا عَجَبًا مِن مُوقِنٍ بِالجَزَا
وَهْوَ قَليلُ الخَوْفِ لِلَّهِ

وبعد ذلك بعدة صفحات نجد ابن رشد يقول كلاما غير منطقى تبعا لفهم مترجم كتاب "الشعر" الخاطئ لكلام أرسطو فى المأساة والملهاة، الذى ظنه كلاما فى المدح والهجاء، وتبعه ابن رشد فى ذلك الفهم. وإذا كنا نعذر ابن رشد فى هذا الفهم الخاطئ نظرا إلى أن الذنب ليس ذنبه، إذ كان أرسطو إنما يتحدث عن شىء لا علم له به، ومن ثم لم يكن ممكنا أن يتصوره ولا أن يخطر له ببال، إذا كنا نعذر ابن رشد فى هذا فإننا لا يمكن أن نقيم له عذرا فى تأكيده أن "الأقاويل المديحية يجب أن يوجد فيها ضد الأمرين، وذلك يكون إذا انتقل من محاكاة الفضائل إلى محاكاة الشقاوة ورداءة البخت النازلة بالأفاضل، أو انتقل من هذه إلى محاكاة أهل الفضائل، فإن هذه المحاكاة تُرِقّ النفوس وتزعجها لقبول الفضائل" (ص100)، وأن "ذكر الرزايا والمصائب النازلة بأهل الفضل يوجب حبا زائدا وخوفا من فوات الفضائل" (ص103).
ووَجْه مؤاخذتى لفيلسوفنا هو أن هذا الكلام لا يدخل العقل، فكان ينبغى أن يبدى حيرته وتشككه، أو استغرابه على الأقل لمصادمة هذا الكلام للمنطق وواقع الحياة، وإلا فكيف ننتظر أن يندفع الناس لعمل الفضائل حين نطلعهم على الشقاوة التى تقع بأهل الفضل جراء عملهم إياها؟ لكن ابن رشد، فى غمرة افتتانه بأرسطو، يتصور أن الرجل لا يمكن أن يلحق الباطل كلامه أبدا، وأنه إذا بدا كلام أرسطو غير معقول فالعيب فيه هو وفى قراء أرسطو وليس فى أرسطو ذاته، لأن أرسطو منزه عن الخطإ. لو كان ابن رشد صبيا صغيرا مطلوبا منه أن يقرأ أرسطو ليؤدى فيه امتحانا مثلا لكان مفهوما أن يعكف على كلام الرجل يستظهره كما هو مثلما يفعل كثير من التلاميذ. ذلك أنهم يريدون النجاح، والسلام. والمثل الشعبى يقول: الذى تغلب به العب به. أما ابن رشد ففيلسوف، ولم يكن يستذكر أرسطو ليمتحن فيه بل ليفهمه ويستفيد منه ويفيد قومه معه. فإذا كان النص غير قابل للفهم، أو كان قابلا للفهم حسب توهم ابن رشد لكنه لا ينطبق على واقع الحياة ومنطق العقل، كان لا بد أن يكون لابن رشد موقف. أما أن يمضى مع هذا الكلام المتهافت فهذا ما ندين بسببه ابن رشد ولا نقيم له عذرا. وقد لاحظت أنه لم يحاول الاستشهاد على هذا الكلام بأى شعر عربى. لماذا؟ لأنه كلام غير صحيح البتة.
ومثله قوله إن "الأشياء المحزنة الـمَخُوفة... تستعمل فى صناعة المديح مع الأقاويل الانفعالية" (ص130). ولا أدرى كيف يكون الحزن والخوف هما أساس المديح. ودعنا من أن الكلام هنا لا علاقة له بمديح أو هجاء بل بالتمثيل المسرحى على ما قلنا مرارا. وفوق ذلك فكلامه فى هذا السياق بوجه عام غير مفهوم لأنه ليس واضحا فى ذهنه، وهو ليس واضحا فى ذهنه لأن مدار حديث أرسطو فى اتجاه، ومدار عقل ابن رشد فى اتجاه مخالف تماما. وكان يُنْتَظَر من ابن رشد، بل كان ينبغى، أن يبدى حيرته ودهشته من غرابة الكلام وعدم اتساقه، إذ ما صلة الحزن والخوف بالمديح؟ المادح إنسان يرجو، فى الغالب، أن يحصل على ما يتوقع من مكافأة لقاء ما نظمه من شعر فى ممدوحه، أما أن يقال إن فى المديح حزنا وخوفا فهذا ما لا أفهمه بحال.
لقد مر علىَّ وقت كنت أتعرض لمثل الموقف الذى فيه ابن رشد الآن، إذ كنت لا أفهم أحيانا ما أقرأ ولا أبلغ شيئا فى الكتاب الذى أمامى، وأكاد أخبط رأسى فى الحائط، لينتهى بى المطاف فى آخر الأمر إلى الشك فى ذكائى وقدرتى على الفهم. وظللت هكذا كلما تعرضت لنفس الموقف، إلى أن كبرت ونضجت وصار بإمكانى تقدير الأمور وتقويمها التقويم السليم، واقتربتُ على المستوى الشخصى من بعض من أقرأ لهم فلا أفهم، فألفيتهم لا يستطيعون، فى مناقشاتهم معى، أن يشرحوا ما سجلوه فى كتبهم وبحوثهم، فضلا عن أن يدافعوا عنه، فعندئذ بان الأمر على حقيقته، وتبين لى أن كثيرا منهم يرددون كلاما يقرأونه ولكن لا يحسنون هضمه أو تمثله وفهمه، فصرت أقل اتهاما لنفسى رغم معرفتى فى ذات الوقت بنواحى الضعف فى ذكائى، وعرفت أن المشكلة فى مثل تلك الحالة إنما تكمن فيهم، فهم لا يحاولون أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم بل يمضون فيرصون كلاما غير قابل للفهم ظنا منهم أن هذا هو التأليف، وبخاصة أن طائفة كبيرة من القراء تظن أنه كلما كان المؤلف غير مفهوم كان ذلك دليلا على عمق غوره وسعة علمه.
لكن ذلك إنما كان وأنا شاب صغير، ولم أكن فيلسوفا كابن رشد. وإذا كنت الآن قد جرؤت على انتقاد ابن رشد وأنا على ما أنا عليه من قلة محصولى من الفكر وضآلة بضاعتى من العلم ومحدودية نصيبى من الذكاء فكيف ساغ لابن رشد أن يقف مشلولا أمام كلام أرسطو لا يجرؤ حتى على أن يقول: إننى غير فاهم ما أقرؤه لذلك الفيلسوف؟ هذا ما يبعث على الحيرة. بل لقد كانت هناك خطة أخرى تخرجه وتخرج قَبْلَه مترجم كتاب "الشعر" من هذه الورطة، وهى أن يبحث كلاهما عمن يعرف اليونانية وأرسطو معا فيسألاه عن المقصود بهذا الكلام الذى لا يتمشى مع العقل ولا مع الأدب العربى على الأقل، وهو الأدب الذى كان كل منهما على معرفة به وحاول الأخير تنزيل كلام أرسطو عليه، فلم يستقم له هذا التنزيل.
ومن الأخطاء التى وقع فيها ابن رشد أيضا استشهاده، على تشبيه المعنوى بالمحسوس، بقول امرئ القيس يصف حصانه وشدة عَدْوه وعدم استطاعة الحيوانات الوحشية الفرار منه حين يطاردها وكأنه قد صار قيدا فى رجليها فهى لا تستطيع الهروب منه: "قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ" (ص114). ذلك أن المشبَّه، وهو الحصان، شىء محسوس، والمشبَّه به، وهو القيد، شىء محسوس، وليس معنى من المعانى. وفى الصفحة التى تلى ذلك يقع فيلسوفنا فى غلطة أخرى حين يسوق البيت التالى فى تشبيه الشريف بالخسيس بوصفه مما ينبغى أن يُطَّرَح ولا يلجأ إليه الشاعر:
والشمس مائلةٌ، ولـمّا تَفْعَلِ
فكأنها فى الأفق عين الأحولِ

ظنا منه أن عين الأحول أخس من الشمس، ومن ثم كان التشبيه رديئا ينبغى اطّراحه، غافلا أن جودة التشبيه أو رداءته إنما تكون بحسب براعة الشاعر أو عدم براعته. ثم هل العين، حتى لو كانت عينا حولاء، شىء خسيس؟ أليست العين أشرف من شموس الدنيا جميعا عند صاحبها حتى لو كانت حولاء؟ وبغض النظر عن أن أرسطو إنما يتحدث فى موضوع مختلف عما يتحدث فيه ابن رشد فلا ريب أن التشبيه فى البيت من أبدع التشابيه لأنه يعطينا صورة فريدة وموحية للشمس حين تميل للغروب. وهذا هو المحك الصحيح للحكم على الصورة الشعرية. أما القول مثلا بأن عين الحبيبة تشبه فصا من أغلى الجواهر النفيسة فهو تشبيه خسيس رغم غلو القيمة المادية لهذه الجواهر وارتقائها إلى أعلى عليين. وفى نفس الصفحة، وفى نفس الخطإ، ولنفس السبب، يقع ابن رشد فى القول بأن التشبيه فى البيت التالى الذى ينسبه للمتنبى هو تشبيه ردىء:
وقد علم الروم الشقيّون أنهم
ستلقاهمو يوما وتلقى الدُّمُسْتُقَا

وكانوا كَفَارٍ وَسْوَسُوا خلف حائطٍ
وكنتَ كَسِنَّوْرٍ عليهم تسلَّقَا

ذلك أن هذا التشبيه فى نظره هو بين مشبَّه شريف هو سيف الدولة ومشبَّه به خسيس هو السِّنَّوْر. وفاته أن التشبيه رغم ذلك هو من أبرع التشبيهات، إذ الغاية من التشبيه قد أصيبت أحسن إصابة كما لا يخفى عن كل ذى بصر وذوق. ألم يأت ابن رشد نبأ أبى تمام حين أراد أحدهم أن يفسد عليه أمره أمام أحمد بن المعتصم إذ رآه يشبهه بمن هو أقل منه أو فلنقل: بمن أراد أن يوحى للحاضرين أنه أقل منه، وهو حاتم الطائى، فما كان من أبى تمام إلا أن رد عليه بما أفحمه قائلا:
أَبْلَيْتَ هَذا الـمَجْدَ أَبْعَدَ غايَةٍ
فيهِ، وَأَكْرَمَ شِيمَةٍ وَنِحاسِ

إِقْدَامَ عَمْرٍو في سَماحَةِ حاتِمٍ
في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكاءِ إِياسِ

لا تُنْكِروا ضَربي لَهُ مَنْ دونه
مَثَلاً شَرُودًا في النَّدَى وَالْبَاسِ

فَاللهُ قَد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ
مَثَلاً مِنَ المِشْكاةِ وَالنِّبْراسِ؟

وإلى القارئ القصة كما وردت فى "أخبار أبى تمام" للصولى: "حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال: حدثني أبي قال: شهدتُ أبا تمامٍ ينشد أحمد بن المعتصم قصيدته التي مدحه بها:
مَا في وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاسِ
تَقْضِي ذِمامَ الأَرْبُعِ الأَدْرَاسِ

فَلَعَلَّ عَيْنَكَ أنْ تُعِينَ بِمَائِهَا
وَالدَّمْعُ مِنهُ خَاذِلٌ وَمُوَاسِي

... فلما قال:
أَبْلَيْتَ هَذا الـمَجْدَ أَبْعَدَ غايَةٍ
فيهِ، وَأَكْرَمَ شِيمَةٍ وَنِحاسِ

إِقْدَامَ عَمْرٍو في سَماحَةِ حاتِمٍ
في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكاءِ إِياسِ

قال له الكندي، وكان حاضرا، وأراد الطعن عليه: الأمير فوق مَنْ وَصَفْتَ. فأطرق قليلاً، ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها:
لا تُنْكِروا ضَربي لَهُ مَنْ دونه
مَثَلاً شَرُودًا في النَّدَى وَالْبَاسِ

فَاللهُ قَد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ
مَثَلاً مِنَ المِشْكاةِ وَالنِّبْراسِ؟

قال: فعجبنا من سرعته وفطنته".
وهذه القصة تذكّرنى ببيت سمعته من أحد زملائنا بآداب الإسكندرية حين كنا طلابا بالجامعة، إذ فاجأنا ذات يوم بقوله يخاطب حبيبته: "عيناكِ يا حبيبتى" ورفع صوته به عاليا، ثم التزم الصمت برهة، فتطلعت إليه منا الأبصار نريد أن نعرف ما وراء ذلك، فقال وهو يرفع صوته أكثر، وقد رسم علائم الجِدّ على محياه: "رصاصتا فِشِنْك"، فضحكنا بل قهقهنا. والآن هل هذا التشبيه الذى افترعه زميلنا شريف أو خسيس؟ لقد كان يقصد التهكم بحبيبته ويريد أن يريها أنه لم يعد يتأثر بنظرات عينيها التى كثيرا ما أذهلته وطيرت أبراج رأسه كلها من مواضعها، وأضحى لا يبالى بها ولا يؤلمه الحرمان منها، فهو إذن تشبيه شريف غاية الشرف رغم أن المشبه به الرصاص الفشنك، وهو أتفه شىء فى عالم الرصاص والمسدسات والبنادق.
هذا، ولا نزال مع ابن رشد فى ميدان التشبيهات فنجده (ص116) يسوق شَطْرَىِ المتنبى الأخيرين فى البيتين التاليين شاهدين على الشعر القائم على التصديق والإقناع كما هو الحال فى الخُطَب لا على التخييلات:
لأن حِلْمَكَ شَىْءٌ لا تَكَلَّفُه
ليس التكحُّل فى العينين كالكَحَلِ

خذ ما تراه، ودَعْ شيئا سمعتَ بهِ
فى طلعة الشمس ما يُغْنِيكَ عن زُحَلِ

ولست أتفق معه فى ذلك، إذ الشطران قائمان على التخييل والتشبيه لا على التصديق والإقناع. ذلك أن الشاعر، فى الشطر الأخير من البيت الأول، يشبِّه ما يتمتع به ممدوحه من حِلْمٍ فطرىٍّ لا يحتاج إلى تكلف بالفتاة الحسناء الكحيلة العينين كَحَلاً طبيعيًّا فاتنًا، فهى لا تحتاج إلى أن تستعين بالكحل تضعه فى عينيها. وفى الشطر الأخير من البيت الثانى نراه يجسد ما يريد أن يغرى به مخاطبَه من خلال الشمس وزُحَل. فما دام عندنا الشمس، التى نعرفها جيدا وتكفينا حاجتنا من الضياء والدفء، فلم نذهب فنفكر فى زحل، الذى لا نستطيع رؤيته، ومع هذا نظل نتطلع إليه ونجشم أنفسنا مشقة الحصول على منافعه دون الحاجة إلى ذلك؟
ومثل بيتى المتنبى الماضيين بيتا أبى فراس الحمدانى التاليان اللذان ضربهما ابن رشد مثلا ثالثا على الشعر التصديقى الإقناعى غير التخييلى، رغم أن التخييل فيهما بارز أشد البروز:
وَنَحْنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنا
لَنا الصَّدْرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبْرُ

تَهُونُ عَلَيْنا في المعالي نُفُوسُنا
وَمَنْ خَطَبَ الحَسْناءَ لَم يُغْلِها المَهْرُ

وفضلا عن هذا فإن النصوص الثلاثة تقريبا لا علاقة لها بالمديح، الذى فهم ابن رشد أنه هو ما يقصده أرسطو. وهذه الملاحظة تصدق أيضا على عدد آخر من الشواهد التى ضربها ابن رشد فى هذه الصفحة والتى تليها.
وهناك كذلك ما يسميه: "الغلو الكاذب" فى الشعر (ص119- 120)، وهو معيب عنده، وإنْ ذَكَر أنه كثير فى الشعر العربى كقول النابغة:
تََقُدُّ السَّلوقِيَّ الـمُضَاعَفَ نَسْجُهُ
وَتُوقِدُ بِالصُّفّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ

وقول المهلهل بن ربيعة:
فَلَوْلا الريحُ أُسمِْع مِن بِحُجْرٍ
صَلِيلَ البِيضِ تُقْرَعُ بِالذُّكورِ

وقول المتنبى:
لَوِ الفَلَكَ الدَوّارَ أَبْغَضْتَ سَعْيَهُ
لَعَوَّقَهُ شَيءٌ عَنِ الدَّوَرانِ

وقول امرئ القيس:
مِنَ القاصِراتِ الطَّرْفِ لَو دَبَّ مُحْوِلٌ
مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإِتْبِ مِنها لأَثَّرا

والحق أن المبالغة لا ينبغى أن توصف بصدق أو كذب، بل بكونها مقبولة أو لا. والمعوَّل فى ذلك على البيئة والعصر والذوق العام ووقع الشىء على النفس، فإن الإنسان قد يحس بالأمر أهول آلاف المرات من واقعه الفعلى... وهكذا. وأذكر أننى اضطررت مرة وأنا فى بريطانيا أن أخوض فى الثلج المتراكم فى شوارع إحدى القرى القريبة من أكسفورد لدقائق، فخيل لى أن قدمىَّ قد تضخمتا حتى ملأتا الكون كله، وكان الوقت ليلا، فضخَّم هذا من شعورى بالألم. فهل يعد هذا الكلام مبالغة كاذبة؟ لا والله، بل كان هذا هو إحساسى فى تلك اللحظة حتى لقد كدت أبكى لولا خجلى ممن حولى. والعبرة أن تستثير الصورة المشاعر والعواطف وأن تهز الناس إلى الإقدام إن كان الكلام عن الحرب، أو إلى الجود إن كان عن الكرم... وهلم جرا. ولا ينبغى أن نغفل عامل الطرافة والإدهاش وإصابة ما يتعصَّى على الشعراء الآخرين من إبداع، وما إلى هذا. وأتصور أن معظم الشواهد المارة تتمتع بهذه السمات التى ذكرتُها، ومن ثم كانت مبالغات فاتنة. وابن رشد نفسه قد عاد فأورد للمتنبى شاهدين على المبالغات المحمودة.
وفى "الإيضاح فى علوم البلاغة" يذكر القزوينى، ضمن ألوان البديع، "المبالغة المقبولة"، ذاكرا لها عددا من الضوابط مما يمكن أن يضاف بعضه إلى ما قلتُه آنفا، فى حين أن بعضه الآخر موافق للذى قلت. و"المبالغة (كما يقول القزوينى) أن يُدَّعَى لوصفٍ بلوغُه في الشدة أو الضعف حدًّا مستحيلاً أو مستبعدًا لئلا يظن أنه غير متناه في الشدة أو الضعف. وتنحصر في التبليغ والإغراق والغلو لأن المدَّعَى للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه أو لا: الثاني الغلو، والأول إما أن يكون ممكنا في العادة أيضا أو لا: الأول التبليغ، والثاني الإغراق. أما التبليغ فكقول امرئ القيس:
فعَادَى عِدَاءً بين ثَوْرٍ ونعجةٍ
دِرَاكًا فلم يَنْضَح بماء فيُغْسَلِ

وَصَف هذا الفرسَ بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيين في مضمار واحد ولم يعرق، وذلك غير ممتنع عقلاً ولا عادة. ومثله قول أبي الطيب:
وأَصْرَع أيَّ الوحش قفَّيْتُه بهِ
وأَنْزِل عنه مثلَه حين أركبُ

وأما الإغراق فكقول الآخر:
ونكرم جارنا ما دام فينا
ونُتْبِعُه الكرامةَ حيث مالا

فإنه ادعى أن جاره لا يميل عنه إلى جهة إلا وهو يتبعه الكرامة، وهذا ممتنع عادة، وإن كان غير ممتنع عقلاً. وهما مقبولان. وأما الغلو فكقول أبي نواس:
وأَخَفْتَ أهل الشِّرْك حتى إنَّهُ
لَتَخَافُكَ النُّطَفُ التي لم تُخْلَقِ

والمقبول منه أصنافٌ أحدُها ما أدخل عليه ما يقرِّبه إلى الصحة نحو لفظ "يكاد" في قوله تعالى: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار"، وفي قول الشاعر يصف فرسا:
ويكاد يخرج سرعةً عن ظلهِ
لو كان يرغب في فراقِ رفيقِ

والثاني ما تضمن نوعًا حسنًا من التخييل كقول أبي الطيب:
عَقَدَتْ سنابكُها عليها عِثْيَرا
لو تبتغي عَنَقًا عليه لأمكنا

وقد جمع القاضي الأرَّجاني بينهما في قوله يصف الليل بأنه شديد الطول:
يخيَّل لي أَنْ سُمِّر الشهب في الدجى
وشُدَّتْ بأهدابي إليهن أجفاني

والثالث ما أُخْرِج مخرج الهزل والخلاعة كقول الآخر:
أسكر بالأمس إن عزمتُ على الشــ
ــــــرب غدا! إنّ ذا من العجبِ"

وفى موضع آخر (ص136- 137) نرى ابن رشد يبدأ كلامه فى تعريف الاسم بأن الاسم هو لفظ يدل على معنى خال من الزمان ولا يدل جزؤه على جزء من المعنى سواء كان الاسم بسيطا، أى مكونا من كلمة واحدة، أو مركبا، أى مكونا من أكثر من كلمة، ثم ضرب مثلا على النوع الثانى اسم "عبد الملك" قائلا ما معناه أن كلا من "عبد" و"الملك" لا تدل على جزء من معنى "عبد الملك". والواقع أن ما يقوله غير صحيح، إذ إن كلا من جزئى الاسم يدل على جزء من معناه كما هو واضح. ثم نراه، (ص138) حين يعود للكلام عن الاسم، يفرق بين الاسم البسيط، و"هو (حسب طريقته الركيكة فى التعبير) الذى ليس هو مركبا من أسماء تدل، وإما مضاعف، وهو الذى يركب من أسماء تدل. وإن كان من حيث يقصد به تسمية شىء واحد لا تدل عليه تلك الأسماء التى ركب منها، مثل "عبد شمس" و"عبد القيس"...". وهذا الكلام أيضا فيه نظر، إذ كثيرا ما نحذف المضاف إليه فى "عبد الملك" و"عبد السميع" و"عبد الرحيم" وما إلى هذا، ونستخدم كلمة "عبد" وحدها لا فى الدلالة على الجزء الأول من معنى الاسم بل فى الدلالة على الاسم كله. بل إننا قد نكتفى بالجزء الثانى منه للدلالة عليه كله، وإن كان ذلك قليلا، فنقول: "رحيم"، و"معطى"، ونقصد "عبد الرحيم" و"عبد المعطى"... وهكذا.
ثم ينتقل ابن رشد إلى الكلام عن الفعل، فنجده يستخدم المصطلح الذى استخدمه أرسطو فى ترجمة متى بن يونس، وهو مصطلح "الكلمة" قائلا: "وأما الكلمة فهى صوت دال أو لفظة دالة على معنى وعلى زمان ذلك المعنى، وليس أيضا يدل جزؤه على جزء من ذلك المعنى كالحال فى أجزاء الاسم. وبكون الكلمة دالة على زمان المعنى تفارق الاسم، فإن الإنسان والأبيض ليس يدلان على الزمان، وأما "مَشَى" و"يمشى" فيدلان على الزمان الماضى والحاضر". صحيح أنه قد أشار عرضا بعد هذا إلى أن ذلك هو الوضع فى اللغة اليونانية، لكن كنت أحب أن يوضح للقارئ العربى أن ما يقوله أرسطو عن "الكلمة" هو ما نقوله نحن فى لغتنا عن "الفعل".
ثم ينتقل إلى الكلام عن الأسماء فيصنفها حسب أرسطو إلى أسماء حقيقية وأسماء دخيلة وأسماء نادرة الاستعمال منقولة... إلخ، إلى أن وصل إلى الأسماء المعمولة المرتجلة، وهو الاسم الذى يخترعه الشاعر اختراعا ويكون هو أول من استعمله، فأكد أن ذلك الصنف غير موجود فى أشعار العرب، "وإنما يوجد ذلك فى الصناعات الناشئة. وأكثر ما فى الصنائع هو منقول لا معمول مخترع. وربما استعمله المحدثون من الشعراء على طريقة الاستعارة" مستشهدا على ذلك باستعمال المتنبى كلمات كـ"الفعل المضارع" و"الجوازم" (ص139- 140). ومن الواضح أن ابن رشد ينظر إلى اللغة على أنها قد تمت واكتملت فى وقت ما فى الماضى السحيق فلم تعد تحتاج إلى اسم جديد تقريبا، وإن كان لا بد من إضافة جديد فالبركة فى أهل الصناعات لا فى الشعراء، الذين يتلخص دورهم فى استعارة ما نقله أهل الصناعات من اللغات الأخرى غالبا، إذ إنهم هم أيضا لا يأتون فى الغالب بشىء جديد بل ينقلونه عن اللغات الأخرى، فكأن العرب قد كُتِب عليهم التخلف التقنى، فهم لا يصنعون شيئا جديدا، ومن ثم لا يخترعون اسما جديدا. وهو فهم جامد وضيق تماما للغة، إذ اللغة لا تكف عن الزيادة طوال الوقت بحيث إن أى شاعر جاهلى مثلا، بل بحيث إن ابن رشد نفسه، لو بُعِث الآن فى زماننا لما فهم معظم ما نقول لا فى المفردات ولا فى التراكيب. ثم إذا ما كان أهل الصناعات المختلفة قادرين على إضافة الجديد حتى لو كان نفلا عن اللغات الأخرى، وكأن العرب دون سائر أصحاب اللغات مكتوب عليهم ألا يخترعوا أية كلمة يضيفونها إلى لغتهم بعد أن تمت تلك اللغة "من قديم الأزل" ، فلماذا لا يستطيع الشعراء المبدعون أن يعملوا ما يعمله أهل كل صناعة فيضيفوا كلمات جديدة إلى لغتهم؟ هل تتبع ابن رشد اللغة كلمة كلمة فتيقن أن الشعراء لم يضيفوا إلى العربية أى جديد فى هذا المضمار؟ ما رأيه مثلا فى الكلمتين الأخيرتين على الأقل فى بيت الأعشى التالى:
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلى الحانوتِ يَتْبَعُني
شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ؟

هل قالتهما العرب من قبل؟ فأين هما؟ ثم ما رأيه فى كلة "الشَّيْفَرَان"، التى اخترعها بشار على لسان حماره فى الأبيات التى يوردها صاحب الأغانى فى رواية محمد بن الحجاج التالية: "جاءنا بشار يوما، فقلنا له: مالك مغتمًّا؟ فقال: مات حماري، فرأيته في النوم فقلت له: لم مِتَّ؟ ألم أكن أحسن إليك؟ فقال:
سيدي، خُذْ بي أَتَانًا
عند باب الأصبهاني

تَيَّمَتْني ببَنَانٍ
وبِدَلٍّ قد شجَاني

تيمتْني يوم رحنا
بثناياها الحِسَانِ

وبغُنْجٍ ودلالٍ
سَلَّ جسمي وبَرَاني

ولها خدٌّ أَسِيلٌ
ولها خدٌّ أَسِيلٌ مثل خَدّ الشَّيْفَرَان

فلذا مِتُّ. ولو عِشْـــــــ
ــــــــتُ إذن طال هَوَاني

فقلت له: ما الشيفران؟ قال: وما يُدْرِيني؟ هذا من غريب الحمار، فإذا لقيتَه فاسأله". فإذا كانت الحمير قادرة على اختراع الكلمات الجديدة فى لغة العرب، وهى ليست لهم بِلُغَةٍ، فكيف يعجز شعراء تلك اللغة أن يبدعوا كلمات جديدة كما تفعل الحمير؟ أتراهم أقل مقدرة من أصدقائنا الناهقين؟ وكان أمية بن أبى الصلت يستخدم كلمات لم تعرفها العرب من قبل، مثل "الساهور" لغلاف القمر، و"السلطيط" و"التغرور" لله سبحانه وتعالى على ما ذكره صاحب "الأغانى" وغيره. أم هل كتب الله للشعراء أن يبدعوا فى الصور والتراكيب والتعبيرات الجديدة المدهشة حتى إذا أَتَوْا إلى اختراع اسم جديد أصابهم الخَرَس والبَكَم؟ فأين الدليل يا ترى على ذلك؟
وهناك مسائل تذوقية أرانى أختلف مع ابن رشد فيها، فهو مثلا يرى أن بيت ابن المعتز الذى يقول فيه:
اُنْظُرْ إليه كزورقٍ من فضةٍ
قد أَثْقَلَتْه حمولةٌ من عَنْبَرِ

هو من الغلط الذى يقع فى الشعر وينبغى توبيخ الشاعر عليه. ووجه الغلط هنا فى رأيه هو أن هذا كلام ممتنع (ص159). والواقع أنه يصعب علىَّ بل يستحيل موافقة ابن رشد على رأيه هذا، إذ الصورة فى بيت ابن المعتز صورة مدهشة عجيبة لا تتفق لكثير من الشعراء. فما أبدع صورة الزورق سابحا لا فى النهر ولا فى البحر بل فى صفحة السماء، وليلا، فضلا عن أن يكون زورقا من فضة! فأى خيال مدهش هذا؟ ترى متى كانت الزوارق تمخر عباب صفحة السماء؟ ومن الذى أصعدها إلى هناك؟ أترانا فى عالم الجن والعفاريت، تلك التى تقدر أن تصنع ما لا يستطيعه البشر؟ وكيف يسبح الزورق فى السماء دون أن يسقط، ودون أن ينقلب؟
وما أكثر الصور التى من هذا النوع الفاتن الآسر عند ابن المعتز، كقوله على سبيل المثال:
وكأنما النارنج في أغصانهِ
ولها خدٌّ أَسِيلٌ من خالص الذهب الذي لم يُخْلَطِ

كرةٌ دَحَاها الصولجانُ إلى الهوا
فتعلقت في جَوّه لم تس

فلا ريب أننا هنا بإزاء خيال محلق متألق لم يقف عند المنظر البادى أمامه بل ذهب فى أودية الإبداع فاقتنص تلك الصورة العجيبة التى أرتنا شجرة النارنج وثمارها فى ضوء جديد. فقد استحالت النارنجة إلى كرة سحرية عجيبة، كرة من الذهب الخالص ضُرِبَتْ بالصولجان فطارت فى الهواء وبقيت معلقة هناك على ذلك النحو الإعجازى متحدية قانون الجاذبية! ومثلها تشبيهه الهلال بقلامة الظفر كما فى النص التالى:
لاَحَظْتـــــهُ بِالْهَــــــوَى حَتى اسْتَقَادَ لَـــــــهُ
طَوْعًـــــــــــا، وَأَسْلَفَنِـــي الْمِيعـــــــــادَ بِالنَّظَــــــــــرِ

وَجـــــــاءَنِي في قَمِيـــــــص اللَّيـــــــلِ مُسْتَتِــــرًا يَسْتَعْجِلُ الْخَطْوَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ حَذَرِ

وَلاَحَ ضَوْءُ هِلالٍ كادَ يُفْضَحُهُ
مِثْل الْقُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ

وهى صورة عجيبة، إذ من ذا الذى كان يمكنه أن يتخيل حلول قلامة الظفر فى صفحة السماء على هذا النحو البديع إلا الفحول من الشعراء، أو أن الهلال يمكن تشبيهه بالقلامة أصلا، ذلك الشىء القليل الناحل الذى لا يشغل من حيز الوجود شيئا؟ ومعروف كذلك أن للأشياء الصغيرة الدقيقة جاذبيتها وسحرها، فما بالنا لو كانت متصلة بالملوك؟ لقد كان ابن المعتز، على ما هو معروف، ابن خليفة، بل أضحى خليفة يوما أو بعض يوم ثم قتلوه. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد احتفظنا أنا وزوجتى لبعض الوقت بقلامات ظفر بنتنا الأولى عندما قصصناها أول مرة فى فترة الرضاعة المبكرة، إذ وضعناها فى علبة صغيرة أنيقة كنا نفتحها بين الحين والحين ونجد مسرة فى رؤية ما بداخلها من أَهِلّةٍ صغيرةٍ وكأننا نشاهد كنزا ثمينا، إلى أن نَمَتْ قليلا، ثم لا أدرى ماذا حدث بعد ذلك! ومن جهة أخرى فإن التشبيه فى البيت يوحى من طَرْفٍ خفىّ أن تلك القلامة الضئيلة البئيلة التى لا تساوى شيئا فى مرأى العين كانت تشكل خطرا على ذلك اللقاء كاد أن يفضحه ويلغيه بما يشى بمدى رعب الشاعر أن تضيع عليه فرحة هذا اللقاء.
وهناك كذلك بيت ابن المعتز المشهور الذى صار فيه البدر درهما من فضة ملقى على ديباجة زرقاء... إلى آخر تلك الصور الباهرة:
وَالبَدرُ في أُفقِ السَماءِ كَدِرْهَمٍ
مُلْقًى عَلَى ديباجَةٍ زَرقاءِ

* * *
انظــــــــــــــر إلى حســـن هــــــــــــلالٍ بــــــــــدا يَهْتِك من أنواره الحِنْدِسا

كمنجلٍ قد صيغ من عسجدٍ
يحصد من زهر الدُّجَى نرجسا

* * *
انظـــــــــــــــر إلى الـجَــــــــــــــــزَر الــــــــــــــــذي يحكي لنا لهب الحريقْ

كمِذَبَّةٍ من سندسٍ
فيها نِصَابٌ من عقيقْ

إننا، مع مثل هذه الصور، نرى ما حولنا من الأشياء بعين غير العين التى كنا نراها بها، فإذا هى شىء جديد طريف لم يكن يخطر لنا على بال حتى إن الإنسان ليفرك عينيه غير مصدق ما يرى، وكأنه فى حلم. ونحن فعلا فى حلم، وأى حلم! أو قل: إننا نرتد مع تلك الصور أطفالا يتحلقون، كما كنا نتحلق فى الماضى أيام غرارة الطفولة الساذجة الحلوة، حول الحاوى العجيب الذى يخرج لهم البيض من فمه، والحمام من قبعته، ويمد يده فيأتى لهم بقطع النقود من الهواء. والكلام هنا على التشبيه بغية التقريب ليس إلا. أقصد أن أقول إن الشاعر فى مثل تلك الصور يعرض علينا الدنيا فى ثياب مدهشة وينفض عنها خمولها وسكونها، فإذا بها دنيا غير الدنيا، وهو ما يبعث فى النفس البهجة والانتعاش والشعور بالطراءة والنضارة.
والآن هل بعد كل هذه الأخطاء فى فهم كتاب أرسطو والغموض فى شرح نصوصه بقيت لتلخيص ابن رشد أية فائدة يمكن أن يقدمها للشعر العربى؟ وكيف صبر ابن رشد كل ذلك الصبر على تلخيص كتاب كهذا غامض بالنسبة له وغير مفيد للشعر العربى؟ واضح أنه كان متهافتا أمام أى شىء إغريقى مهما كان؟ يقول دى بور، عن شرح ابن رشد لكتاب "الشعر" لأرسطو، إن فيه "من الأخطاء أغربها: فمثلا يعد ابن رشد "التراجيديا" مدحا، و"الكوميديا" هجاء، والشعر يجب أن يقنع بأن يدل إما على حقائق يمكن أن يقام عليها البرهان أو على أشياء خادعة. ويعتبر ابن رشد أن التعارف على المسرح معرفة استدلالية... وهكذا. ولم يكن لابن رشد، بطبيعة الحال، أى معرفة بالعالم اليونانى. ولقد نتجاوز عن هذا لأن ابن رشد لم تتيسر له معرفة العالم، ولكن ينبغى ألا نسارع إلى معذرة رجل كان قاسيا على الناس فى نقده" . وأنا مع المستشرق الهولندى فى أننا يجب ألا نقسو على ابن رشد فى هذا الفهم الخاطئ لا لأنه كان يجهل العالم اليونانى فقط، بل أيضا لأنه ليس له ذنب فى هذا الفهم الخاطئ، فإن مترجم كتاب أرسطو هو الذى أخطأ فى ترجمة مصطلحى "التراجيديا" و"الكوميديا"، فجاء ابن رشد وبنى على هذا الخطإ. إلا أننى مع ذلك لا أستطيع أن أهضم سكوت ابن رشد عن إبداء الحيرة والتشكك أمام أية كلمة أو جملة أو عبارة طوال شرحه للكتاب رغم كثرة الكلمات والجمل والعبارات التى تثير الحيرة والبلبلة ولا تستقيم معها الأمور.
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يضاف إليه الغموض المنتشر فى التلخيص وركاكة العبارة وتعثكلها وارتباكها وتعقيدها. فمن ذلك قوله (ص85- 86): "إنه يجب أن تكون صناعة المديح مستوفية لغاياتِ فِعْلها. أعنى أن تبلغ من التشبيه والمحاكاة الغاية التى فى طباعها أن تبلغه، وذلك يكون بأشياء: أحدها أن يكون للقصيدة عِظَمٌ ما محدود تكون به كُلاًّ وكاملة. والكل والكامل هو ما كان له مبدأ ووسط وآخر. والمبدأ "قبل"، وليس يجب أن يوجد "مع" الأشياء التى هو لها مبدأ. و"الآخر" هو "مع" الأشياء التى هو لها آخر، وليس هو "قبل". و"الوسط" هو "قبل" و"مع"، فهو أفضل من الطرفين، إذ كان الوسط فى المكان "قبل" و"بعد". فإن الشجعان هم الذين مكانهم فى الحرب ما بين مكان الجبناء ومكان المتهورين، وهو المكان الوسط. وكذلك الحد الفاصل فى التركيب هو الوسط، وهو الذى يتركب منه الأطراف، ولا تتركب الأطراف منه. وليس يجب أن يكون المتوسط وسطا، أى خيارا، فى التركيب والترتيب فقط، بل وفى المقدار. وإذا كان ذلك كذلك فقد يجب أن يكون للقصيدة أول ووسط وآخر، وأن يكون كل واحد من هذه الأجزاء وسطا فى المقدار. وكذلك يجب فى الجملة المركبة منها أن تكون بقدر محدود لا أن تكون بأى عِظَم اتفق. وذلك أن الجودة فى المركَّب تكون من قِبَل شيئين: أحدهما الترتيب، والثانى المقدار. ولهذا لا يقال فى الحيوان الصغير الجثة بالإضافة إلى أشخاص نوعه: إنه جيد".
وهذا المثال كذلك (ص89): "وظاهر أيضا مما قيل فى الأقاويل الشعرية أن المحاكاة التى تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من فعل الشاعر، وهى التى تسمى: "أمثالا وقصصا" مثل ما فى كتاب "دمنة وكليلة". لكن الشاعر إنما يتكلم فى الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود لأن هذه هى التى يُقْصَد الهرب منها أو طلبها أو مطابقة التشبيه لها على ما قيل فى فصول المحاكاة. وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فإن عملهم غير عمل الشعراء، وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. وذلك أن كليهما، وإن كانا يشتركان فى الوزن، فأحدهما يتمّ له العمل الذى يقصده بالخرافة، وإن لم تكن موزونة، وهو التعقل الذى يستفاد من الأحاديث المخترعة. والشاعر لا يحصل له مقصوده على التمام من التخييل إلا بالوزن. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصا ليس لها وجود أصلا، ويضع لها أسماء. وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة".
ومنها أيضا هذه العبارة (ص93): "وقد يُضْطَرّ المُفْلِقون فى مواضع أن يستعينوا باستعمال الأشياء الخارجة عن عمود الشعر من قِبَل أن المحاكاة ليست تكون فى كل موضع للأشياء الكاملة التى تمكن محاكاتها على التمام، بل لأشياء ناقصة تعسر محاكاتها بالقول، فيستعان على محاكاتها بالأشياء التى من خارج، وبخاصة إذا قصدوا محاكاة الاعتقادات، لأن تخييلها يعسر إذ كانت ليست أفعالا ولا جواهر. وقد تُمْزَج هذه الأشياء التى من خارجٍ بالمحاكيات الشعرية أحيانا كأنها وقعت بالاتفاق من غير قصد فيكون لها فعل معجب، إذ كانت الأشياء التى شأنها أن تقع بالاتفاق معجبة".
ثم هذه أيضا (ص94): "وكثير من الأقاويل الشعرية تكون جودتها فى المحاكاة البسيطة الغير المتفننة، وكثير منها إنما تكون جودتها فى نفس التشبيه والمحاكاة. وذلك أن الحال فى التشبيه كالحال فى الأعمال: فكما أن من الأعمال ما يُنَال بفعلٍ واحدٍ بسيطٍ، ومنها ما ينال بفعلٍ مركَّبٍ، كذلك الأمر فى المحاكاة. والمحاكاة البسيطة هى التى يُسْتَعْمَل فيها أحد نوعى التخييل. أعنى النوع الذى يسمى: الإدارة، أو النوع الذى يسمى: الاستدلال. وأما المحاكاة المركبة فهى التى يستعمل فيها الصنفان جميعا: وذلك إما بأن يُبْتَدَأ بالإدارة ثم يُنْتَقَل منه إلى الاستدلال، أو يبتدأ بالاستدلال ثم ينتقل منه إلى الإدارة. والاعتماد هو أن يبدأ أولا بالإدارة ثم ينتقل منه إلى الاستدلال. فإنه فرق كبير بين أن يبدأ أولا بالإدارة ثم ينتقل إلى الاستدلال، أو يبدأ بالاستدلال ثم ينتقل إلى الإدارة".
ولا أظن القارئ بحاجة إلى أن أدله على الغموض بل الاستغلاق أحيانا فى هذه النصوص التى ليست مع ذلك أصعبَ ما فى فقرات الكتاب ولا أَرَكَّها. وتتمثل ركاكة العبارة فى كثير من الأحيان من خلال كثرة الجمل الاعتراضية، وكثرة الأسماء الموصولة والضمائر وتقاربها حتى ليشعر القارئ أحيانا أنه فى غابة من هذه الألفاظ. كما تتكرر عنده كلمة "أعنى"، التى تدل على إحساسه بأن العبارة عنده قلقة غير واضحة، فهو يحتاج كل حين إلى أن يتدخل بتوضيح ما يريد أن يقول. وهذا يذكرنا، مع الفارق طبعا، بما كان جمال عبد الناصر يتهكم به على ميشيل عفلق الزعيم البعثى السورى، الذى كان يكثر فى لقاءاته، أيام المحادثات الخاصة بالوحدة بين المسؤولين المصريين ونظرائهم فى سوريا فى أواسط القرن الماضى، من ترديد كلمة "يعنى، يعنى، يعنى"، فاهتبل عبد الناصر، بطبيعته الساخرة اللمازة، هذه اللازمة العفلقية وأخذ يسوطه بألاهيبه قائلا: إنه يظل يقول طوال الحديث: "يعنى، يعنى، يعنى" وهو لا يعنى شيئا. وإذا كنت أنا، يا من أعرف عَمَّ يتحدث أرسطو، أجد صعوبة بالغة بل استحالة أحيانا فى فهم كلام ابن رشد، فكان الله فى عون من لا عنده علم بمرامى الفيلسوف الإغريقى!