المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيء كالموت . (قصيصة) ابراهيم ابويه



ابراهيم ابويه
12/02/2015, 01:32 AM
نزل مسرعا من الهضبة التي تطل على قريته الصغيرة، وكأنه يهرب من لحظة الغروب التي شكلت في مخيلته، لوحة قديمة. ثم اختفى داخل الكوخ...
فتح شرفته الصغيرة، وأَجلَسَ "صديقه" الذي كان قد صنعه من بقايا تبن تركه القطيع، وألبسه ثيابا لم يعد يستعملها. لا أعرف السر في ذلك كله، ولكن الرجل بعدما أشعل سيجارته السوداء، ابتسم لصديقه ابتسامته المعتادة، وبادره بالسؤال:
- لا بد أنك اشتقتَ للجلوس، وتعرف أني كنت بالهضبة، لذلك لا تلمني إن تركتك وحيدا هذا اليوم، مستلقيا على هذا الحصير البارد.
نظر إلى التبن الذي اتخذ الشكل الآدمي داخل اللباس، وحوَّل بصره إلى الشرفة المفتوحة على الليل. قام بذلك، لأنه تخيل الألم الذي تسببه لصديقه الذي يجلس على الكرسي المقابل له، فانزلقت دموع، دون أن تستأذنه، لتنام على أرضية الكوخ الترابية.
ساعده نور النجوم على استعادة بعض ملامح الهدوء على وجهه ثم انتشل كتلة التبن من شرودها قائلا بصوت خافت:
- بدا الكوخ صغيرا جدا وأنا أراقبه من قمة الهضبة التي كنا نمتطيها معاً، أثارتني تلك الصورة التي بدت القرية عليها من هناك. فاكتشفت أن العالم كبير جدا، وصغير في الوقت نفسه... كبير لأننا صغار، وصغير لأننا نتكلم عنه بحزمةِ كلماتٍ نعتقد أننا اعتقلناه داخلها. من تلك القمة، كنت أتخيلك صامتا تنتظر الباب الذي سيُفتَحُ، والصوت المألوف الذي سيُلقي تحية المساء، والشرفة التي ستنير ظلام المكانِ. لقد كان الكوخ أصغرَ مما تصورته، لذلك بدا لي امتداد السماء كبيرا جدا، وبدَتْ لي الحقول البعيدة كأنها سراب .
- هل ما زلتَ تحب البحر يا صديقي؟ هل تتمنى دائما أن تكون كائنا بحريا شفافا يعيش في الأعماق البعيدة؟ طبعا، أنت ما زلت تفكر في تلك الأمنيات. لا أعتقد أن تبن البهائم قد غيّر من تفكيرك يا صديقي الأبدي.
ظل الصديق وفيّا لصمته، فربما هو حزين الآن، ربما بضعُ حشراتٍ قد استوطنت تِبنَه، وشرعت تلتهم أحشاءه بنظام مبالغ فيه. السيجارة تحرق أصابع الرجل، وهو غير منتبه للألم الخفيف الذي تسببه، فالحواس كلها رحلت في اتجاه النجوم، وما تبقى منها يتأمل الكائن التبني الذي اختار لوحة حزينة، ثم سوّاها على وجهه المصنوع من قشور شجر الصنوبر.
مرت لحظات، خفت ضوء الشمعة، فخفتت معه كل رغبة في التعايش مع وهم كأنه سكين ينغرز في كل جزء من الجسد. اقترب الصديق من الصديق. عانقه بقوة، اندلعت بينهما نار الشوق، أكملت الشمعة تفاصيل القصة، جاعلة من الكوخ الصغير مقبرة مضيئة في ثنايا ليل القرية الطويل.