المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سل من شئت عن «هيفا» ولا تسأل عن حيفا



غالب ياسين
12/05/2007, 09:58 AM
في مسابقات الملايين، وكيلوهات الذهب، والكنوز المطمورة والظاهرة، يلقي مقدم البرنامج أسئلة مختلفة على المشتركين، تتراوح بين السؤال عن صحابي جليل، والسؤال عن الفرق بين فعل "بَلَعَ ولَسَعَ". وغالباً ما تكون الإجابة عن اسم الصحابي خطأ مخجلاً، إذ لا يعرف المستَجوب أبا دجانة من أبي حفصة، أو كما يقول المثل الشعبي "من شدة معرفته بالصحابة يصلي على عنتر!!".

في تجمع عربي، وضع مجموعة من المشاهدين تلفازاً في ساحة عامة، فأحد أصدقائهم سيظهر اليوم على الشاشة الصغيرة في برنامج اربح الملايين والكنوز الرومانية. يسأل المذيع: من الصحابي الذي فعل كذا وكذا، فتحمرّ وجنتا صديقنا ويضيع بين امرئ القيس، ولبيد. وإذا كان السؤال عن النابغة الذبياني أشار الرجل إلى ستار أكاديمي، وربما خلط مع سوبر ستار. أما المجموعة التي تشاهد التلفاز، فإنها تسب المذيع في كل سؤال يسأله عن التاريخ الإسلامي والعربي، وتصرخ أي سؤال هذا!!، معقول نحن في القرن الحادي والعشرين كيف نعرف هذا ذا العصبة الحمراء، أو ذلك الذي يلقب بالطيّار، وهل كانت هناك طائرات في الزمن الأول حتى يلقب الرجل بالطيار!!.

أريد أن يتأكد القارئ أنني لا أقول هذا تندراً، بل حدث بالفعل، إذا اعترض بعض المشاهدين على سؤال يتحدث عن جعفر الطيار رضي الله عنه، وكان اعتراضهم أن المذيع يريد أن يخرج المتسابق من "الحلبة"، بهذا السؤال، فقد أكد القوم أن لفظ الطيار لم يكن ليطلق على أحد، طالما لم توجد الطائرات في تلك الآونة!!.

بل وبلغ الأمر مرة في إحدى البرامج أن سأل المذيع ضيفه عن أحد القراء العشرة رحمهم الله وأحسن إليهم جميعاً، فأجاب المتسابق إجابة مخزية عكست أسراراً لا يعلمها إلا الله تعالى. إذ أن البرنامج قدم الرجل على أنه مدير مدرسة قرآنية تعنى بالقراءات العشرة. فكيف يكون مدير المدرسة المتخصصة أشد الناس جهلاً بتخصصه. ولأني شخص كثير الشك، اعتقدت على الفور، أن الرجل لا علاقة له بمدارس القرآن وقراءاته، وإنما قُدم بهذه الصفة لحاجة في نفس المذيع قضاها. وقد تعكس الإجابة أن الحكومة في ذلك البلد أتت بعازف ربابة ووضعته مديراً لمدرسة قرآنية متخصصة. وقد تعكس الإجابة أن للبرنامج أهدافاً خبيثة طبخت بحيث لا يفشل المشروع الصهيو - أمريكي في المنطقة. وهناك احتمالات أخرى لا مجال لذكرها الآن.

أعود إلى أصحابنا الذين وضعوا شاشتهم خارج البناء ليروا ما فاعل صاحبهم في المسابقة المذكورة، سألتهم بنفسي عن الصحابة الكرام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين، عن قادة الجيوش الإسلامية، عن العلماء العرب من رياضيين وفلكيين ونحاة، وعبثاً حاولت، إذ لا يتقن هؤلاء الشباب إلا أربعة أشياء، مستعدون للإجابة على أدق تفاصيلها.

أما الأول، فهو معرفتهم بأنواع الأطعمة وحسن التمييز بينها، ولا يعتقد الإخوة القراء أنني أتكلم عن أكل القمح والشعير، بل عن المقدرة على التمييز بين أنواع البيتزا، والمعرفة الدقيقة لأنواع الأجبان، بل وتمييزهم أنواع الخمور من الرائحة، ولديهم نظريات طبية حول ما يجب أن تأكله في الصباح، وما تأكله في المساء، أطعمة لم أعد أذكر أسمائها، تلفظ بلسان أعجمي ثقيل. وويل لك وألف ثبور إذا أخبرتهم أنك تأكل الزيتون في الصباح، فلعمري تلك فضيحة سيتندرون عليها العمر كله. فما بالهم إذا علموا أننا نأكل التمر ونشرب الحليب!!.

أما الثاني، فهو علمهم المتواتر، بفن اللباس والتزين، شابات وشباباً، فحذار أن تلبس هذا اللون مع ذلك، إذ سيفقدك الهيبة، وتجنب أن تشتري ربطة العنق من محلات كذا، فألوانها أقل من ألون الطيف، ولا تستجيب لرأي الآخر ولا للرأي الآخر. ورأيتَ الإعلامي فلان، والفنان عِلتان، فهما يشتريان ربطات العنق من محلات كذا في دولة كذا. أما عن "الجينز" فحدث ولا حرج، إذ يعرفون الأنواع ويسمونها "بباهت وكاحت وماحت وتح أزرق وفو بنفسجي....الخ". وأكثر من ذلك، فهم يتسابقون لوضع الأقراط في آذانهم بحيث تكون متناسقة مع ألوان أحذيتهم أو مع ألبستهم الداخلية. ولا تظنوا أنني أتكلم عن أقراط النساء بل عن أقراط الشباب الذكور والتي بدأت تنتشر في بعض الدول العربية كانتشار النار في الهشيم، بفضل الإعلام الأمريكي، أو الإعلام العربي الذي بشرنا مؤخراً أن المشروع الأمريكي لن ينهزم في المنطقة بل سيسيطر أكثر وأكثر على بلادنا من محيطها إلى خليجها.

أما الثالث، فهو معرفتهم لتفاصيل التفاصيل عن نجوم الرياضة وكرة القدم خاصة، ليس فقط من هو اللاعب فلان، بل متى ولد وفي أي مستشفى واسم الطبيب الذي أشرف على ولادته، وكم كان وزنه لحظة الولادة، ولماذا زاد وزن الرجل، وما هي أنواع المخدرات التي يتناولها بدقة، وهل يأخذها قبل الطعام أم بعده...إلى تفاصيل أكثر دقة عن عدد مبارياته وانتصاراته وأهدافه التي سجلها على مدى عمره الرياضي.

وترى القوم إذا رأوا منافسة رياضية تحلقوا حولها وفصلوا فيها، كما يفصل النحوي إعراب الضمائر المتصلة.

أما الرابع فهو طامّة الطامّات، إذ دخلت ثقافة "بح خلاص" و"العب" إلى بيوتاتنا، ثم دعمتها ثقافة "أبوس أمّ الواوا" و "رجب حوش صاحبك عني". وأصبح كثير من الشباب يحمل ثقافة قل نظيرها عن أغاني الرذيلة، وكلمات الانحراف، ففوق المعرفة الفائقة بأنواع الأغذية والألبسة والرياضية وأبطالها، جاءت ثقافة الأغاني الهابطة والخليعة لفصل شباب هذه الأمة عن ماضيها، فكيف نعرف في ظلمة هذا الليل الحالك معاذ بن جبل رضي الله عنه، وما هو، والحالة هذه، مصير أبي دجانة رضي الله عنه. وكيف يفرق من ملأ رأسه بكل ما سبق بين الكسائي والنسائي.

أضف إلى كل ذلك، ما تقوم به قنوات الرذيلة ونشر الفساد من تسطيح لعقول الشباب، وتغيير في القيم التي يحملونها، وتدليس على التاريخ العربي والإسلامي وتشويهه ليل نهار. ولا تنسوا المحطات التلفزيونية الإخبارية، التي تنطق بلسان عربي، وتمارس أشد أنواع التضليل فتكاً، فتقرب لنا العدو وتزين إجرامه في عيوننا.

اليوم، سَلْ من شئت عن "هيفا" ولا تسأل عن "حيفا". واطلب ممن شئت معلومات عن نجلا واحذر السؤال عن "خولة". ومن ذلك الذي لا يعرف "الخشاب سمية"، ولكن من ذلك الذي يعرف "أم ياسر سمية"، وقس على ذلك بين "روبية" و"جويْرية". ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا تعتقدوا أنني متشائم، وأعلم علم اليقين، أن الناس راجعة إلى تاريخها، ومتيقن أن المشروع الأمريكي سيسقط لا محالة. ولكنها حالات صادفتها وهي لا شك تعكس وضعاً ثقافياً مريراً، وحالة من الاستلاب قل نظيرها في مجتمعات أخرى تفتقر لما تملكه أمتنا من حضارة ومجد وتاريخ.

لقد سألت صاحب محل أغذية شرقية، لماذا تبيع التمر الذي سرقه الصهاينة من فلسطين، ولماذا تدًعي أنّ مصدره "إسرائيل". فردّ علي بلغة العارف، اتركوا "إسرائيل" وشأنها يكفيها ما تلقاه من ظلمكم. فقلت في نفسي : لا عتب، فهو رجل أمّيّ وبعيد عن المصادر الموثوقة للمعلومات. ولكنني وجدت صحفياً عربياً يعمل في صحيفة معروفة، لا يرى إلا كيف يضايق الأطفال الفلسطينيون، بقلة أدبهم، "شعب إسرائيل!!". وسمعتم كما سمعنا أن إعلامياً آخر يبشر بانتصار المشروع الأمريكي، وحاشا لله، في منطقتنا العربية.

قد يكون أولئك الأشخاص الذين حدثتكم عنهم، ضحية هؤلاء الإعلاميين، كما أنهم بالطبع ضحية للحكام الذين كان همهم، ولفترة طويلة صرف الناس عن ماضيها، بل وعن حاضرها ومستقبلها.

لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فالذي يرى ما تفعله المقاومة في العراق وفي فلسطين يدرك أن الأمة لا تزال بخير، ويتيقن أن المشروع الأمريكي ساقط اليوم أو غداً أو ربما بعد غد.

ولينظر إعلاميونا بعين الخوف من الله، فيما يكتبون ويقولون، وليساعدوا في نهضة هذه الأمة ، وليتوقفوا، جزاهم الله خيراً، عن إرجافنا وترجيفنا.

أما قولهم، إن معرفة السفهاء وعدم معرفة الحكماء من الجهل، فهو خطأ يقين، فهذا لعمري، من قلة الأدب وضياع الأصل، "ومعاصي الله سماجتها تزدان لذي الخلق السمج".
د. عوض السليمان

إعلامي عربي - فرنسا

aalsuleiman@hotmail.com



5/12/2007