المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سورة الرحمن أشغلت فكري وملأت قلبي



أبو مسلم العرابلي
16/03/2016, 10:35 PM
سورة الرحمن سورة أشغلت فكري وملأت قلبي
بسم الله الرحمن الرحيم


تتميز سورة الرحمن بأنها السورة الوحيدة التي بدأت باسم من أسماء الله وشغل آية لوحده
وفيها أكثر الآيات تكرارًا: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}؛ 31 مرة.
سأقف إن شاء الله تعالى على كل آية من آيات السورة وربطها بما قبلها وما بعدها، وبمجموعة الآيات التي في موضوعها ما استطعت.

:{الرحمن {1} الرحمن
الرحمن اسم من مادة "رحم" وهي مستعملة في العطاء المسبب للامتداد
ورحمة الله تعالى هي العطاء المسبب للامتداد؛ ومنه المطر المسبب لامتداد الحياة للنبات والحيوان والإنسان، والرحمة: الجنة لعطائها الممتد بلا توقف ولا انتهاء، والرحم: عضو الإنجاب في الأنثى؛ لأنه يمد الجنين بما يحتاجه وينميه حتى يصل إلى حد يستطيع أن يعيش خارجه. والرحم: الإنثى القريبة من أم، وأخت، وبنت، وعمة، وخالة، وبنات الإخوة والأخوات، وغيرهن من بنات الأقارب؛ لأنه يحصل بهن امتداد وقوة ارتباط بالعائلات والأسر الأخرى، وامتداد للطرفين بالصفات والجينات الوراثية.
والله عز وجل هو الرحمن ذو الرحمة التي تشمل المؤمن والكافر بعطائه المسبب لامتداد حياتهم في الحياة الدنيا.
و"رحمن" اسم على وزن "فعلان" وفي مستعمل فيمن يدخل في حالة مؤقتة ثم يعود على الأصل؛ ومن هذا الباب على الوزن نفسه: غضبان، جوعان، عطشان، .... ، فالغضب حال مؤقت ينتهي بزوال الغضب وأسبابه، والجوع حال مؤقت، ينتهي ويزول بالأكل والشبع، والعطش مثل الجوع، وكذلك كل ما جاء على هذا الوزن.
ورحمة الرحمن رحمة لفئتين، رحمة دائمة للمؤمنين ورحمة مؤقتة محدودة للكافرين تنتهي بزوال الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
أما اسم "الرحيم" على وزن "فعيل" وهو وزن للصفات الدائمة، ورحمة الله تعالى بالمؤمنين دائمة في الدنيا والآخرة، ورحمته هذه خاصة بهم في الآخرهم، ولا يدخل معهم فيها أحد من الكفار.
وقد سقطت ألف التفصيل من اسم "الرحمن" رسمًا كما سقطت رسمًا من اسم الجلالة "الله"؛ لأن هذا الاسم الدال على صفة الرحمة لا يشارك الله تعالى فيه أحد، ولا يقدر أحد عليها غير الله تعالى، فلما انتفى الند والمثيل له في فعله سقط التفصيل، لأن التفصيل يكون في المتعدد لبيان درجاتهم فيه، وليس في الواحد الذي لا ثاني له.
ولأن اسم الرحمن افتتحت به السورة، ورحمته شملت المؤمن والكافر، فقد اتصفت السورة بكثرة الثنائيات فيها.
ولأن الرحمة محيطة وحافظة وسبب في الاستمرار والتمتع وحفظ كذلك من المخاطر والأهواء فقد كثر التذكير بآلاء الله وما نشأ في حضن الذي حماه وأمده كان سببًا في نموه كالحب مع العصف، واللؤلؤ والمرجان، وغير ذلك ...
وكانت أعظم نعمة ورحمة من الله تعالى؛ أنه علم القرآن .
ملاحظة
يؤسفني أن أكثر من يدخل على المنتدى ويقرأ من مواضيعه هم من غير المسجلين في واتا
فيحرمني ذلك من آرائهم وتعليقاتهم.
وإيميلي أمامه واضح لمن أراد أن يرسل ملاحظاته
ومباح النقل لكل من أراد نقل أي موضوع إلى منتديات ومواقع أخرى....
أو أن يدعو غيره لقراءته
ومن أدبه سيشير للمصدر

أبو مسلم العرابلي
16/03/2016, 10:36 PM
: {علم القرآن{2} الرحمن
مادة "علم" تستعمل فيما يعطى ليكون أساسًا لتبنى عليه معرفة أو علمًا ومعرفة أخرى، وأعطاه القدرة على البناء عليها، أو ما يبنى على الفعل من جزاء أو عقاب ولا يكون ذلك إلا عن قدرة كذلك.
فإذا أردت تعليم أحدًا القراءة والكتابة؛ تعرفه بالحروف نطقًا ورسمًا، وكلمات وجملا محددة، فمتى أتقنها؛ استطاع أن يقرأ من نفسه أية كلمة أخرى ويكتبها بناء على ما تعلمه.
وإذا أردت تعليم أحد مهنة النجارة مثلاً؛ تعرفه كيف يقيس وينشر ويجمع ويغري القطع ليعمل منها مقاعد أو طاولات أو خزائن محددة؛ فمتى أتقن هذه صناعة هذه الأدوات؛ يكون قد ملك القدرة على الانطلاق لصناعة غيرها، وابتداع أشياء جديدة فيها، لم تكن من قبل بما تعلمه في مهنته. وهكذا يفعل أصحاب المهن الأخرى.
وإذا اشتريت أرضًا تعلم حدودها لتبدأ بالانتفاع بها، وتعلم قواعد وأساس المبنى لتبدأ البناء عليه، فالعلم والتعليم يعطي القدرة البناء على الأساس الذي أُعطى ليبنى عليه.
والله تعالى يعلم؛ أي يبنى على علمه بأفعال الناس حسابهم على أفعالهم من خير أو شر، ويعلم من الغيب ما يكون، فيجعل الله تعالى عليه ما يريد منه أن يكون.
والله تعالى علم القرآن أي علم آياته وكلماته وحروفه، ليبنى عليها عبادته من تلاوة لها، وعملا بالأحكام بما فيها من أوامر ونواهي. وأساسًا ومصدرًا لكثير من العلوم التي بنيت على القرآن وكانت بسببه كعلوم اللغة والتفسير لضبط أمور المسلمين عليه يحفظ لهم قوتهم وإيمانهم أمام الشدائد والمصاعب التي تستهدفهم وتواجههم باستمرار.
فمن الذي سيبني عمله وعلمه على القرآن ؟!
فخلق لذلك الإنسان ...

أبو مسلم العرابلي
16/03/2016, 10:37 PM
:{خلق الإنسان {3} الرحمن

قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {56} الذاريات.
وأعظم عبادة لله تعالى أن يُتعبد بكلماته،
ولم يعرف الإنسان من كلمات الله تعالى إلا ما ورد في القرآن.
ومن أراد أن يكلم الله تعالى فليقرأ القرآن.
فخلق الإنسان هو لأجل تعبد الله تعالى بالقرآن
ولما كان الإنسان بحاجة لبيئة يستطيع أن يعيش فيها؛ فقد خلق له السماوات والأرض؛
قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات {29} البقرة .... وكل ذلك الخلق لأجل الإنسان .
أما الجن فهم تبعًا لما ينزل على الناس من الله تعالى ليتعبدوا الله به.
"الإنسان" اسم جنس شامل لكل أفراده، ولذلك سقطت في الرسم القرآني ألف التفصيل منه لأجل الشمولية.
وكل مادة لغوية فيها النون والسين والنون متقدمة على السين مع أحد حروف العلة أو كان في المادة تكرار لأحدهما أو كليها فإنا مستعملة في التأخير؛
فالنسيئة من نسأ : تأخير شهر "محرم" عن وقته حتى يحل استباحة الغزو والنهب عند المشركين.
وسميت عصا سليمان عليه السلام "منسأة" من نسأ لأجل تأخيرها لعلم الجن بوفاته مدة طويلة قيل أنها عام.
والنسيان من نسي: وهو تأخير ذكر الشيء بعد فواته موعده.
وأنس بالشيء: أبعد وأخر النفرة منه، لأن كل جديد يخشى منه، ثم يؤنس ببعض بعد ذلك.
وإنسان والإنس من مادة "أنس" والناس كذلك من "أنس" أو "نوس" سموا بذلك لأنه تأخر خلقهم بعد الملائكة والجن، وتأخر خلقهم فكان في آخر الزمان.
والخلق هو إيجاد صورة الشيء كانت معدومة فيها.
وليس الخلق هو إيجاد الشيء من العدم ... فهذا كلام فلاسفة لا أصل له في اللغة، ولا في استعمال القرآن.
فخلق الإنسان من تراب وماء ومن الطين الجامع لهما؛ فمرة يذكر الماء فقط ومرة يذكر التراب فقط، ومرة يذكر الطين؛ ويراعى في ذكر ذلك السياق الذي يذكر فيه.
فلم يخلق الإنسان من لا شيء ...
ونباتية ولم تخلق كل الكائنات الحية من حيوانية ونباتية من لا شيء ...
قال تعالى : {وجعلنا من الماء كل شيء حي{30} الأنبياء.
والسماء كانت دخانًا فسواها سبع سماوات ؛ {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين {11} فقضاهن سبع سماوات {12} فصلت. .... فلم تخلق السماء من لا شيء.
والأرض قد سميت بالتراب الذي يغطي سطحها الذي يقبل الماء وينبت النبات ، وقد شقه من صخور من الصخور تحتها والتي لا تقبل الماء ولا تنبت النبات، وجعل ما شقه فوق صخورها ... فهي لم تخلق من لا شيء ..
قال تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه {25} ثم شققنا الأرض شقًا {26} فأنبتا فيها حبًا {27} وعنبًا وقضبًا {28} وزيتونًا ونخلاً {29} ......... عبس
ولكن كيف سيستقبل الإنسان القرآن ويعمل به .... فعلمه البيان [/SIZE]

أبو مسلم العرابلي
16/03/2016, 10:37 PM
{علمه البيان {4} الرحمن


كيف سيتلقى الإنسان القرآن ؟
لا بد للإنسان أو طائفة منهم أن ترقى في بيانها إلى الدرجة التي تستوعب وتفهم كلمات الله تعالى حين تنزل ... والابتداء يكون بآدم
قال تعالى : {وعلم آدم الأسماء كلها{31} البقرة
لقد أعطى الله تعالى آدم الأساس التي تبني عليه اللغات وهي دلالة الحروف والحركات والأوزان، ليصنع منها الجذور على الاستعمال الذي يريده، ويختار لها حروفها، ليبنى ويشتق من هذه الجذور الأسماء والأفعال.
وقد كلم آدم عليه السلام الله تعالى، وكلم الملائكة، وكلم إبليس، وكل ذلك قبل الهبوط إلى الأرض، فجاء إلى الأرض وهو يملك لغة تكفي حاجته في التعبير عن نفسه، وإدراك ما يقال له، ولم ينشئ لغة بعد نزوله ... بل الذي كان منه ومن ذريته بعد ذلك التوسع بها والرقي في بيانه بها.
وتعليم الأسماء غير التعريف به؛ فالتعريف إطلاعه على شيء سابق الوجود، والتعليم ملك القدرة على تسمية الأشياء بأسمائها، لأن الأشياء والأفعال في الحياة تستجد بشكل مستمر ولا بد من تسميتها. ونحن نلاحظ ما من شيء يستجد إلا وقد سمي باسم سابق أو باسم لم يعرف من قبل.
وقد تصرف هذه القدرة في التسمية في الباطل؛ كما قال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان{23} النجم
وقد كان العرب هم صاحب الحظ في الرقي بلغتهم بشدة الاعتناء والاهتمام بفنونها إلى بلغت الصلاحية الكاملة لنزول كلمات الله تعالى بها.
وللموضع تتمة إن شاء الله تعالى حتى ننتهي من السورة ولو بعد حين وإن طال

أبو مسلم العرابلي
17/03/2016, 09:38 AM
: {الشمس والقمر بحسبان {5} الرحمن
سميت الشمس بهذا الاسم من استمرار طلوعها من الشرق واستمرار سيرها إلى أن تغيب في الغرب ، والعين تحيط بقرصها ، وأنها تحيط بضوئها كل الأرض حولنا لسعة انتشاره ضوئها، وأن حرارتها لا تطاق ولا بد من الاحتماء منها عندما تشتد في الظهيرة وفي الصيف خاصة. ولذلك سمي الفرس الذي لا يطاق شمِس وشمُوس [والشَّمِسُ والشَّمُوسُ من الدواب: الذي إِذا نُخِسَ لم يستقرّ. وشَمَسَت الدابة والفرسُ تَشْمُسُ شِماساً وشُمُوساً وهي شَمُوسٌ: شَرَدتْ وجَمَحَتْ ومَنَعَتْ ظهرها، وبه شِماسٌ.]. مادة شمس، لسان العرب.
وسمي القمر بهذا الاسم لثبات ارتباطه بالأرض؛ فما أن يغيب ظهوره من الشرق، حتى يظهر ثانية في الغرب.
الشمس هو الجرم الناري الوحيد الذي نستفيد من ضيائها ، وما نور القمر إلا من ضيائها.
وهما جرمان خلقهما الله تعالى وسخرهما لتحقيق رحمته بالناس يوم خلق السماوات والأرض ، فلا حياة للكائنات الحية؛ الحيوانية والنباتية على الأرض، في البر والبحر، دون ضوء الشمس وحرارتها، ولا تصلح الحياة دون التقلبات التي تحدث فيها بسبب الشمس والقمر.
والحسبان من الحساب وهو التقدير، ويوم الحساب: يوم تقدير السيئات والحسنات لكل واحد ليجزى عليها، وعلم الحساب: علم تقدير الكميات، والقول بـ "أيحسب" أي أيقدر أن الأمر على ما يظن. وقولنا: حسبنا الله؛ أي أن الله الذي بيده مقادير كل شيء سيكفينا من شر كل شيء يراد بنا.
وقد كان وجود الشمس والقمر وخلقهما، وبعدهما، وكمية الضوء والحرارة التي تصل منهما، كلها بحسبان من الله تعالى، أي بتقدير من الله تعالى، لو اختل اختلت معه الحياة في الأرض. فمن رحمة الله تعالى كانت الشمس والقمر بهذا الحسبان. وأثرهما على النبات .

أبو مسلم العرابلي
17/03/2016, 09:47 AM
: {والنجم والشجر يسجدان {6} الرحمن

سمي النجم بالنجم لأنه لا يدوم ظهوره في الليل طوال العام، وأكثرها ظهورًا لا يزيد عن عشرة أشهر، وهذه الصفة حملتها النباتات الحولية أو السنوية التي تنبت وتظهر في أشهر محددة من السنة قبل أن تستهلك، أو تموت وتحول إلى حطام، والذي ينبت في العام القادم هو من بذورها. والأشياء التى تحمل نفس الصفات تسمى بنفس الأسماء وإن تباعدت تباعدًا كبيرًا في الصفات الأخرى؛ لأن الاسم يدل على ذات الشيء بإحدى صفاته فقط، وتعدد أسماؤه بتعدد صفاته.
وسمي الشجر بهذا الاسم بسبب استمرار نموه سنوات طويلة من أرومته نفسها، سواء طال وعظم، أو قل وصغر، ولما يلحق به كل عام أو بعد أعوام من أغصان وفروع جديدة، وأوراق وثمار.
ووالنجم والشجر يسجدان؛ أي يلتزمان ولا يخرجان على السنن الإلهية التي وضعت لها، فلا ينبت النبات إلى في أوقات محددة من السنة، ولا يورق الشجر إلا في أوقات محددة، ولا يخرج ثمره إلا بعد سنوات محددة، والسجود عامة هو العمل بالأمر والالتزام التام به وعدم الخروج عنه، أو السير على السنن الإلهية التي وضعت له لا يخرج عنها كفعل الشمس والقمر والنجوم والنبات والشجر.
وقد ذكرت نجوم النبات والشجر بعد ذكر الشمس لما بينهما من ارتباط، وحاجة النبات لهما واعتماده عليهما فلا حياة للنبات دونهما، ومنها غذاء وأكل الإنسان، من الحبوب والخضار والفاكهة، ولحوم الحيوانات وحليبها ومشتقاته، وبيض الطيور وغير ذلك من عطاء الرحمن للإنسان.
ثم يجيء ذكر رفع السماء ووضع الميزان لما لرفعها من علاقة بصلاح الحياة لكل من الإنسان والنبات والحيوان.

أبو مسلم العرابلي
18/03/2016, 11:56 PM
: {والسماء رفعها ووضع الميزان {7} الرحمن.

السماء من مادة "سمو" وهي مستعملة في "الدوام" ، فالسماء دائمة معك أينما كنت في بر أو بحر أو في الأقطاب الثلجية التي هي لا بر ولا بحر، بينما يغيب عنك البر في البحر، ويغيب عنك البحر في البر، وتغيب عنك الأقطاب في البر أو البحر البعيدان عنهما، ويغيبان عن الأقطاب، لكن السماء دائمة معك أينما كنت، ولها صفة الديمومة فوق جميع الأرض، والسماء تبدأ من وجه الأرض إلى أن ينتهي بنائها وشدتها.
والاسم كذلك من مادة "سمو" وله صفة الديمومة كذلك، فآدم عليه السلام مثلاً، دام اسمه هذه الآلاف من السنين بعد أن غاب جسده عن الحياة بالموت.
والمسماة: جورب ثقيل من الصوف يلبسه الصياد ليحمي به رجله من الحر، وخشونة الأرض والحجارة والشوك، وليديم ملاحقة الصيد الذي يكنس بين الأشجار وقت الظهيرة، ولو كان من خف قد ينخلع من سرعة الجري من رجله فيتوقف جريه في ملاحقة الصيد لأجل ذلك.
وصاحب السمو - وهو لفظ مستحدث يوافق الاستعمال – يقال لمن دام ملك آبائه أجيالاً عديدة.
ورفع السماء يكون بزيادة مادتها أو تباعد أجزائها؛ فيعلو سقفها، والرفع هو زيادة المقدار، وليس الرفع هو التعليق في الفضاء بلا شيء تحتها تركز عليه ويحملها.
فرفع قواعد البيت من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يكن بحملها ، بل كان بالزيادة عليها من حجارة الكعبة حتى برزت وظهرت فوق الأرض كما نراها.
ورفع الله تعالى بعض النبيين على بعض؛ هو بزيادة عطائه لبعضهم من الآيات فوق ما أعطى الآخرين، وليس أن الآخرين لم يعطوا شيئًا بل الزيادة كانت فوق عطائهم.
ورفع الشيء باليد عاليًا يكون بالجسد واليد اللذان يكونان بينه وبين الأرض.
وارتفاع الطير في السماء يكون بدفع الطير الهواء أسفله واعتماده عليه بجناحيه، وليس هو معلق في السماء بلا شيء يعتمد عليه، ولو ضم جناحية لخر إلى الأرض كما يفعل الصقر عندما يخر على فريسة يطلبها.
والسماء مكونة من غازات وظلت الغازات تزداد فيها وتتباعد فارتفع سقفها.
وضغط الغاز يزداد مع شدة الجاذبية ويقل حجمه ، ويقل الضغط ويرتفع سقف السماء مع نقصان شدة الجاذبية بتباعد أجزاء الأرض إذا مدت، وقد ذكر مد الأرض في القرآن ثلاث مرات سابقة، ورابعة تكون يوم القيامة فتخف جاذبيتها كثيرًا حتى تصبح الجبال كالعهن المنفوش، ويكون الناس كالفراش المبثوث، ولا تستطيع مسك القمر في مداره فيبتعد كثيرًا حتى يختفي، فتجذبه الشمس ويجمع معها؛ قال تعالى: {فإذا برق البصر{7} وخسف القمر{8} وجمع الشمس والقمر{9} القيامة،
عندها يرى الإنسان أن القمر لم يستطع الفرار من جمعه بالشمس بعد انفصاله عن الأرض؛ فيبعلم أنه لا مكان يلجأ إليه من جهنم التي تنتظره، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس؛ فيقول : {يقول الإنسان يومئذ أين المفر {10} كلا لا وزر {11} إلى ربك يومئذ المستقر {12} القيامة.
ووزن الأشياء يختلف بين شدة ضغط السماء وقلة ضغطها. ومع الشدة يصعب وزن أشياء كثيرة، ومع حفته يمكن وزنها؛ فلا يمكن وزن البرتقال مثلاً وأكثر الفاكهة في الماء، بينما يمكن وزنها في الهواء؛ لأن ضغط الماء أعلى فيجعلها تطفو عليه ...
فارتبط رفع السماء بعمل الميزان المذكور في هذه الآية والتي تليها ....

أبو مسلم العرابلي
19/03/2016, 07:41 PM
: { ووضع الميزان {7} الرحمن.
ت
ستمل مادة وضع في الانتهاء المؤدي الثبات والاستقرار.
وضع المرأة حملها؛ انتهاء حملها بخروج الجنين وثبات ودوام بقائه خارج البطن؛
: {فلما وضعتها قال رب إني وضعتها أنثى {36} آل عمران. {حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا {15} الأحقاف. {وتضع كل ذات حمل حملها {2} الحج. {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه {11} فاطر. {47} فصلت. {وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن {4} الطلاق. {فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن {6} الطلاق.
ووضع البيت الحرام: خروجه وظهور في مكة وثباتًا دائمًا فيه؛
: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة وباركًا وهدى للعالمين {96} آل عمران.
ووضع كتب الحساب يوم القيامة بإخراجها وإظهارها للناس لحساب دائم وثابت ينتهي بجزاء حسن أو جزاء سيئ. ولا عمل بعده.
: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه {49} الكهف. {ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء {69} الزمر.
ومثل ذلك وضع الموازين التي تقاس بها الحسنات والسيئات، وتقدر تقديرًا نهائيًا لا زيادة عليه ولا نقصان.
: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا {47} الأنبياء.
ووضع الثياب، التخلي عن لبسها بإبعادها عن الجسد، وتثبيتها على جدار أو على الأرض بعيدًا عنه.
: {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة {58} النور. {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة {60} النور.
ووضع السلاح، التخلي عن حمله وجعله ملقى في مكان أو على الأرض.
: {أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم {102} النساء.
ووضع الحرب أوزارها: انتهائها، والتخلي عن حمل السلاح للقتال فيها.
: {حتى تضع الحرب أوزارها {4} محمد.
ووضع الوزر عن المرء؛ لإنهائه بإسقاطه عن صاحبه بصفة دائمة؛
: {ووضعنا عنك وزرك {2} الشرح.
ومثل ذلك وضع القيود والأغلال التي تحرم عليهم أشياء عديدة؛
: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم {157} الأعراف.
أما فعل "أوضع" في قوله تعالى : {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة {47} التوبة.
فهمزته همزة سلب للمعنى؛ أي سلب الثبات للمجاهدين بما يبثوه من خذلان فيهم، ومثلها أوضعت الإبل والخيل: أي أسرعت واضطربت في سيرها بدلاً من الوقوف والثبات.
والوضيع: هو الساكن الدنيء الخامل الذكر.
ووضع الميزان في الآية؛ ثباته في وزن الأشياء لأنه يعطي مقادير محددة، وجعله من الله تعالى لأجل العدل والقسط في تعاملات الناس بينهم في الشراء والبيع، وفي كل ميزان مادي أو معنوي تبينه الأحكام التي نزلت لأجل صلاح حياتهم.
ولذلك جاء الحض على العدل في استعماله في الآيات التالية.

أبو مسلم العرابلي
20/03/2016, 05:14 PM
: {ألاَّ تطغوا في الميزان {8} الرحمن.
: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان {9} الرحمن.
مادة "وزن" مستعملة في إدخال شيء في آلة تحدد حجمه أو ثقلة، وتمنع الزيادة عليه، وتنزع عنه الزائد من غير نقصان، وذلك لمعرفة مقداره بتحديد حجمه أو ثقله، من غير ظلم للبائع ولا الشاري.
والأحكام تقوم مقام الآلة في تحديد الحق من الباطل.
والطغيان هو تجاوز الحد تجاوزًا كبيرًا، ويكون ذلك في الأحكام؛ لأنه قد يذهب بكل الحق أو معظمه، بينما تجاوز الحد في الوزن بالآلة يكون أقل من ذلك أو يسيرًا
لذلك جاء النهي عن الطغيان في الميزان، وأدغمت النون في اللام لفظًا ورسمًا فذهبت صورة نون النزع، ودلالة ذلك موافقة الرسم حرمة نزع الحقوق بالطغيان في ميزان الأحكام المنظمة للحقوق والتعاملات بين الناس.
ثم جاء الأمر بإقامة الوزن بالقسط، وهو شامل للوزنين، والقسط هو مساواة جميع الناس بمعيار واحد، وهذا يكون بالمكاييل المحددة، والأحكام البينة، وهو بين الناس عدل، وبين الله تعالى والناس ظلم؛ لأن مساواة الله تعالى بعباده هو غاية الظلم، وتوعد من يفعل ذلك بجهنم؛ قال تعالى: { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا {15} الجن.
ودخول همزة السلب على "قسط" في الرباعي "أقسط" فسلبت المعنى، فصار إلى ضده؛ فأصبح المعنى عدم مساواة الله تعالى بعباده ، ولا بين العباد كذلك، فيعطى كل واحد منهم ما يستحقه قل أو كثر، ولا يساويه في العطاء بغيره فيأخذ له من حق غيره أو يعطى غيره من حقه؛ قال تعالى : {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين {9} الحجرات.
ثم أمر الله تعالى عدم خسران الميزان، ولم يقل نقصان الميزان؛ لأن النقصان عدم بلوغ الشيء حده المعلوم، ويكون ظاهرًا غير مخفي، أما الخسران فهو من اللعب بالمعايير بالأخذ منها وتغيير ثقلها، فيخفى على الشاري نقصان ما اشتراه.

أبو مسلم العرابلي
20/03/2016, 06:52 PM
: {والأرض وضعها للأنام {10} الرحمن.
وضع الأرض: هو جعلها ثابتة مستقرة فوق الصخور التي شقت منها، تقبل الماء وتنبت النبات بصفة دائمة. وقد بينا في الآية السابعة معنى الوضع، مع مراعاة المعنى العام في الشيء الخاص.
وقد سميت الأرض بهذا الاسم؛ لأنها تقبل الماء وتنبت النبات.
وفي هندسة اللغة؛ الجذور التي فيها الراء قبل الضاد مع أحد حروف العلة حيث كانت أولاً, أو وسطًا، أو أخيرًا؛ تشترك في معنى عام.
فمنها مادة "رضي"؛ الرضا هو القبول بالشيء وأخذه.
ومنها مادة "روض"؛ روَّض الخيل والدابة؛ جعلها تقبل حمل الأثقال وركوب الناس على ظهرها.
والأرض من مادة "أرض"؛ وهي الجزء المغطي لوجهها كان مكشوفًا في البر أو مغمورًا بالماء في البحر؛ يقبل الماء وينبت النبات.
والأرضة : دابة تبقى في الأرض وتبني من الطين فوق الأرض وعلى جذوع الأشجار والجدران لتظل داخل الأرض، وسميت في القرآن الدابة التي أكلت منسأة سلميان عليه السلام فخر ساقطًا بدابة الأرض.
والأرض وضعها للأنام؛ أي لكل ما على ظهرها، وفي التفسير للإنس والجن،
وكل ما على الأرض وما خلقه الله تعالى وسخره، ما هو إلا لحياة الإنسان. فهو عطاء من الله الرحمن لأجل امتداد واستمرار حياته عليها.
ومن بلاغة نظم القرآن أنه عند استعمال الأسماء يراعى سبب تسميتها، فلم تثن الأرض في القرآن ولم تجمع؛ لأن الذي يقبل الماء وينبت النبات هو طبقتها الأولى ووجهها المحيط بالأرض من خارجها، وتنحصر بقية الأرض داخلها، وبقيتها لا تقبل الماء ولا يصلها، ولا تنبت النبات لأنه لا يصل إليها ماء ولا هواء ولا نور.
أما في الأحاديث فجاز التعبير بالأراضين على التغليب وقياس المجهول بالعلوم، وهو أسلوب يجأ إليه، ولا يمثل الحقيقة كاملة بما يدل عليه تسمية المسمى بالاسم.
وكذلك لم يقل والأرض وضعها للناس أو للإنسان وللإنس؛ لأن هذه التسميات جاء من تأخير خلقهم بعد الملائكة والجن، والأرض تعطي وتمد ولا تؤخر عطاءها فجاء ذكر الناس باسم الأنام.
ولما ذكر في الآية أن الأرض وضعها للأنام بصفة الجمع والتنعم بالعطاء؛ جاءت الآيات بعدها في الحديث عن أنواع من النعيم التي يجمعها ويتنعم بها الإنسان.

أبو مسلم العرابلي
22/03/2016, 06:42 PM
: {فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام {11} الرحمن .
الفاكهة هي التي لا يقتات بها ولا تحتاج إلى طبخ وتؤكل للتلذذ بها، لا للشبع ولا بسبب الجوع إلا إذا لم يجد غيرها.
وجاءت "فاكهة" نكرة لم تعرف؛ لتشمل أنواع كثير من الفاكهة، فمنها الحلو ومنها الحامض. فالفاكهة ذات مذاقات كثيرة، وأشكال عديدة، وألوان مختلفة، أحجام متفاوتة. فهذا التنكير هو بمثابة حاضنة لكل أنواعها.
ولأجل كثرة تنوع الفاكهة ذكرت كثرتها في القرآن؛ { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ {51} ص، { وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ {32} لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ {33} الواقعة.
والنخل شجر معروف، والتمر من ثمره، ويمتاز النخل أنه ينتفع بكل ما فيه؛ جريده، لبه (الجمار)، ثمره، ونوى ثمره، وليفه.
وذات الأكمام صفة للنخل لكثرة أكمامه؛ كم لطلعه، وثمره من بسر ورطب وتمر كم لنواته، وأصول السعف كم لليفه، ولحائه كم لجماره.
فليس في النخل شيء يرمى بلا منفعة.

أبو مسلم العرابلي
26/03/2016, 11:14 AM
: {والحب ذو العصف والريحان {12} الرحمن .

الحَبَّ (بالفتح): هو ثمر النبات الثابت الذي يدوم صلاح الانتفاع به سنوات عديدة، بينما الفاكهة والخضار قصيرا العمر سريعا العطب، إذا لم يعالجا لإدامة صلاحهما والانتفاع بهما.
والحُبَّ (بالضم): المودة الثابتة في القلب، فتدوم وتثبت عمرًا طويلاً .
والحِبَّ (بالكسر): المتعلق بغيره ولا يريد الانفكاك عنه،
وقد تعلق زيد بن ثابت برسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأراد أعمامه تحريره وإرجاعه إلى قبيلته،
ففضل العبودية على الحرية لشدة تعلقه بالنبي عليه الصلاة والسلام،
فما كان من النبي إلا أ حرره وتبناه.
فاستعمال مادة "حبب" كان في الأشياء التي لها صفة الدوام والثبات.
ولأجل ثبات الحب يحفظ ويخزن، فيكون المنقذ من الهلاك أيام القحط والشدة،
وقوتًا دائمًا في كل الفصول وخاصة في الفصول التي لا ثمار فيها.
وهي من النعم العظيمة التي أعطيت للإنسان ليظل له بقاء واستمرار في الحياة ...
وما حدث في مصر أيام يوسف عليه السلام أكبر دليل على ذلك حفظ الناس بالحب الذي يحصد.
والحب يتكون مما تنتجه الأوراق (العصف) ويكون مددًا تدفعه إلى الحب فيستقر به،
فهي الحاضنة التي لا قيام للحب المتكون دون وجودها.
ووصف الأوراق بالعصف؛ لأنها كالريح العاصف التي تدفع وتنقل التراب، وتدفع وتنقل السحاب، وتدفع المراكب لتصل إلى بغيتها ومستقرها. والعاصفة والريح العاصف ظاهر بيِّن، بينما العصف في النبات خفي مستور، ونتائجه ظاهرة في حبه.
وناسب ذكر العصف ذكر الريحان الخفي المستور في الآية نفسها.
الريحان من مادة "روح" وهي مستعملة في الأشياء التي يُحس ويُرى أثرها ولا تبصر ذاتها،
ومنها الريح التي يرى أثرها في تحريك الأشياء ولا تبصر ذاتها،
ومنها الروح التي تبصر أثرها في الأحياء؛ بالحركة والكلام والتنفس، وكل ما يدل على أنه حي، وهي ذاتها لا تبصر،
والرائحة يحس بوجودها بحاسة الشم، ولا تبصر ذاتها.
فقد تقابل في الآية الحب الثابت المعلوم، مع المتحرك المقدر غير المشاهد.
وقرئت الريحان بالرفع عطفًا على الحب، وفي الحب طعمه الخاص به الذي يعرف بحاسة الذوق،
وقرئت بالجر عطفًا على العصف، ويراد بزهره المنتج للرائحة ويعرف بالشم.
وما في الآية صدى لاسم الرحمن الذي شمل برحمته كل من المؤمن المطيع ونقيضه الكافر العاصي في الدنيا.
ويأتي بعد ذكر نعمة الفاكهة والنخل والحب والريحان، أول استفهام إنكاري
موجه للمخلوقين اللذين خلقا لعبادة الله تعالى، الإنس والجن،
مخلوق ظاهر بين، وآخر خفي مستور ...

أبو مسلم العرابلي
31/03/2016, 02:27 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {13} الرحمن .
كل آيات السورة فيها ثنائيات،
فإن لم يكن فيها ثنائية كانت بما بعدها ثنائية.
وبعدهما الاستنكار التقريعي الموجه للجنسين المخلوقين لأجل عبادة الله تعالى ؛ الجن والإنس.
والأَلاء، بالفتح: شَجَر حَسَنُ المَنْظَر مُرُّ الطَّعْم؛
وأرْضٌ مأْلأَةٌ كثيرة الأَلاء.
أَبداً يؤكل ما دام رَطْباً فإِذا عَسا امْتَنَع ودُبغ به.
والأَلاء: شجر من شجر الرمل دائم الخضرة .
قال رؤبة: يَخْضَرُّ ما اخضَرَّ الأَلا والآسُ (حذفت الهمزة للتخفيف)
وفي الحديث: تَفَكَّروا في آلاء الله ولا تَتَفَّكروا في الله.
معنى الحديث صحيح، وفي رواته نظر وكلام.
والآلاء: النِّعَمُ واحدها أَلىً، بالفتح، وإِلْيٌ وإِلىً؛
قال النابغة:
هُمُ الملوكُ وأَنْباءُ المُلُوكِ، لَهُمْ
فَضْلٌ على الناس في الآلاء والنِّعَم.
والبيت شاهد على عدم التطابق الكامل في المعنى بين النعم والآلاء
ولعل الفارق بينهما أن الآلاء دائمة لا تنتهي كديمومة خضرة شجر الآلاء.
وتكون في نعمة العطاء ونعمة الحفظ من الأخطار والشر وأهله.، وفي إعطاء القدرة والتدبير.
أما النعم فتكون في المستهلكات؛ كاللحوم أو الحبوب أو الخضار أو الفاكهة،
والدوام لها بالتناسل كالأنعام، أو بالبذور الذي تنتجه،
أو بمعاودة الإثمار سنة بعد سنة.
وكلاهما يكون منه ما هو ظاهر معلوم، ومنه الخفي المستور أو المجهول.
ولما كانت الآلاء والنعم لا تعد ولا تحصى؛ فقد تكررت 31 مرة في السورة.

أبو مسلم العرابلي
03/04/2016, 05:54 PM
: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار{14} الرحمن .

لما كان اسم "الرحمن" دال على رحمته تعالى بالكفار في الدنيا بجانب رحمته بالمؤمنين فيها.
والكفر من الإنسان لاحق بعد مولده على الفطرة وهي الإسلام،
فقد قدم الله تعالى ذكر خلق الإنسان على الجان، مع أن خلقه تأخر بعد خلق الجان.
وقد بينا في الآية الثالثة أن تسمية الإنس والناس بهذا الاسم لتأخر خلقهم آخر الزمان بعد الملائكة والجان.
ولما كانت الرحمة كما ذكرنا المحيط الحافظ للمرحوم بها والمحرك له،
كان جسد الإنسان هو الوعاء الحافظ لوجود الروح، ويظهر وجودها للناس به،
وثبات المحفوظ يقوى بثبات الحافظ، والفخار المصنوع من الصلصال هو أثبت الطين.
ولمعرفة سبب تسمية الطين بالصلصال بعد معالجته؛
ننظر في شجرة الجذور التي فيها حروف علة بجانب حرفي الصاد واللام الصحيحين؛
(أصل - وصل – صلو - صلي – صول) وهي الجذور المستعملة من أصل 12 جذرَا للشجرة نفسها.
واستعمالها ورد في رد الشيء على نفسه أو غيره ليحدث التأثير فيه أو في غيره.
الأصل : هو الذي خرجت منه وترد إليه،
وأصل الشجرة: أسفلها الذي نبتت منه وترد إليه.
والأصيل : وقت ارتداد الناس آخر النهار إلى بيوتهم التي خرجوا منها.
والأصلة : ثعبان يرد نفسه على نفسه حول الضحية ويخنقها حتى تموت.
والوصل : رد طرف شيء على طرف آخر حتى يثبت اتصالهما ببعضهما.
والصلاة من مادة "صلو" وهي التي يرد إليها العبد خمس مرات أو أكثر في اليوم والليلة وتؤثر فيه وتغير حاله حتى تتوثق وتثبت صلته بالله تعالى.
ويصلى النار من مادة "صلي": وفيها تقليب الشيء أو اللحم والطعام على النار مرارًا حتى تؤثر فيه وتغيره.
والفعل صال من مادة "صول": صال الجمل: ارتد على صاحبه، وصال الواثب: ارتد على خصمه.
والصلصال : يرد بعض الطين الذي يصنع منه على بعضه مرات كثيرة حتى يتماسك، ويصلح لصناعة الفخار منه.
وإنما يصنع الفخار ليكون وعاء لما يوضع فيه.
ويصنع الفخار من الصلصال اللين الذي يعجن ويقلب كثيرًا إلى أن يصلح بعد تشكيله وتجفيفه ليكون فخارًا قابلاً لوضع الأشياء فيه.
وكذلك الإنسان يمر بتغييرات وحالات عديدة من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى أن يصبح جسدًا صالحًا لاحتواء الروح التي يسكنها الله تعالى فيه.

والنظر في لسان العرب لابن منظور في مادة "فخر" نجد أن هذه المادة مستعملة فيما يحتوي غيره، وما احتواء الأبناء لصفات الآباء؛
الفَخْرُ والفَخَرُ التمدُّح بالخصال والافتِخارُ وعَدُّ القديم؛
الفَخْرُ: ادّعاء العظم والكبر والشرف، (التي كانت للآباء)
فاخَرَه ففَخَره: كان أَفْخَرَ منه وأَكرم أَباً وأُمّاً.
والتفاخُرُ: التعاظم. الفَخُور: المتكبر.
الفِخار هو نشر المناقب
وفي الحديث: أَنا سيد ولد آدم ولا فَخْرَ؛ فما من خصالة حسنة في آبائه وهم خير الآباء إلا جعلها الله تعالى في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يطلب في دعوته شرفًا لآبائه. وهو خير من كل بني آدم.
والفاخرُ من البسر: الذي يعْظُم ولا نوى له. (جوف البسر فارغ من النوى)
فَخِرَ الرجل يَفْخَر إِذا أَنِفَ؛ كأنه امتلأ بشرف آبائه. (ودونها يكون فارغًا)
والفَخُور من الإِبل: العظيمة الضرع القليلة اللبن، ومن الغنم كذلك، (الضرع فارغ قليلا أو كثيرًا من اللبن)
والفَخَّار: ضرب من الخَزَف تصنع منه الجرار وأمثالها. والفَخَّارةُ: الجَرَّة (وباطنها فارغ ويمكن تعبئته بالماء أو أي حب أو سائل)
وتشبيه الصلصال بالفخار؛ هو لبيان بأنه في لين الصلصال، وثبات الفخار، وهذا هو الحال الذي عليه الإنسان.
جسد يحوي في باطنه نفسًا، تكتنفه، وتمده بما يحفظه ويحميه، فيكون بها تحوله من نطفة إلى أن يصير رجلاً، وهي معه إلى أن يفارق الحياة.
وبعدها يأتي الحديث عن خلق الجان الذي سبق خلق الإنسان.

أبو مسلم العرابلي
04/04/2016, 11:19 PM
: {وخلق الجان من مارج من نار {15} الرحمن .
الجان من مادة "جنن" وهي مستعملة في الدلالة على المعلوم المستور
الجانُّ من الجِنِّ، وجمعُه جِنَّانٌ .
والجَنَنُ، بالفتح: هو القبرُ لسَتْرِه الميت.
والجَنَنُ أَيضاً: الكفَنُ لذلك. وأَجَنَّه: كفَّنَه؛
والجَنانُ، بالفتح: القَلْبُ لاستِتاره في الصدر،
وربما سمّي الرُّوحُ جَناناً لأَن الجسم يُجِنُّه.
الجنن: الوِشاحُ. والمِجَنُّ: التُّرْسُ. لأَنه يُواري حاملَه أَي يَسْتُره،
والجُنَّةُ: الوِقايةُ. وفي الحديث الإمامُ جُنَّةٌ، لأَنه يَقِي المأْمومَ الزَّلَلَ والسَّهْوَ.
والجِنُّ: ولدُ الجانّ
ابن سيده: الجِنُّ نوعٌ من العالَم سمُّوا بذلك لاجْتِنانِهم عن الأَبصار
ولأَنهم اسْتَجَنُّوا من الناس فلا يُرَوْن،
والجمع جِنانٌ، وهم الجِنَّة. والجِنَّةُ: الجِنُّ؛
الجوهري: الجِنُّ خلاف الإنسِ، والواحد جنِّيٌّ،
سميت بذلك لأَنها تخفى ولا تُرَى.
الجِنَّةُ . الجُنونُ أَيضاً. وفي التنزيل العزيز: أَمْ به جِنَّةٌ؛
والاسمُ والمصدرُ على صورة واحدة،
لأن العقل يستر ويخفى في المصاب بالجنون.
والجَنَّة من نفس المادة؛ وجنة الآخرة مستورة،
والجنات في الدنيا مستورة في بطون الأودية،
لأنها تقوم على الماء الجاري فيها،
والاسم قديم قبل استطاعة الإنسان زراعة أشجارها فيما ارتفع عن الوديان

ومارج من "مادة مرج" وهي مستعملة في اختلاط المجتمع.
وقد سميت المروج لأجل اختلاط المواشي المجتمعة فيه.
ومَرِجَ الأَمرُ مَرَجاً، فهو مارِجٌ ومَرِيجٌ: الْتَبَسَ واخْتلَط.
وأَمْرٌ مَرِيجٌ أَي مختلِطٌ. وغُصْن مَرِيجٌ: مُلْتَوٍ مُشْتبك،
وفي التنزيل: فهم في أَمْرٍ مَرِيجٍ؛
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: كيف أَنتم إِذا مَرِجَ الدينُ فَظَهَرَتِ الرَّغْبَةُ، واختلف الأَخَوَانِ، وحُرِّقَ البيتُ العتِيقُ؟
مارِجُ النار: لَهَبُها المختلط بسوادها.
فالجان مخلوق من مزيج من النار وسوادها وهو وقودها الذي لم يحترق أو لم يكتمل احتراقه،
فالنار طاقة زائلة تمتد بامتداد وقودها،
كما أن الإنسان محتاج للطاقة المخزونة في جسده لحمًا ودهنًا، يستهلكها إذا لم يجد طاقة غيرها، إلى أن يستهلكها فيتحول إلى جلد وعظم.
وكل وقود للنار في الأرض تشكل في كائنات نباتية أو حيوانية،
بوجود الماء والهواء وحرارة الشمس.
دون عناصر التراب الذي يكون أجساد الناس ولا تستهلك في إنتاج الطاقة فيه.
والجان حاله كحال كل دابة خلقها الله تعالى من ماء،
ومن عناصر الهواء المشكلة للمواد العضوية
والدواب مخلوقة من ماء وتراب،
ومن عناصر الهواء المشكلة للمواد العضوية
والشيطان تكبر عن السجود لآدم لأنه خلق من طين؛ أي من تراب وماء.
ولم يتكبر عليه لأنه خلق من ماء... فانتبه لذلك.
: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم {27} الحجر.

أبو مسلم العرابلي
20/04/2016, 09:29 AM
لما بين الله تعالى خلق الإنسان والجان مما لا يتصف به المخلوقين من السمع والبصر والفؤاد والتفكير وجعلهما قادران على النمو والحركة، ومدهما بكل ما يحتجانه في أنفسهما من القوة وأسباب الحياة ...
فذكَّرهم الله تعالى بآلائه عليهم ؛
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {16} الرحمن .
ويكفي أن نقول: أن للكبد أكثر من 500 وظيفة في الجسد
فكيف بكل أعضاء جسد الإنسان ..

أبو مسلم العرابلي
20/04/2016, 10:04 AM
]]: {رب المشرقين ورب المغربين {17} الرحمن.
لما قدم الله تعالى خلق الإنس وهو الجنس الظاهر على الأرض، على الجن وهو الجنس الخفي المستور في الآيات السابقة؛
فقد قدم الله تعالى المشرق التي تظهر فيه الشمس على المغرب التي تغيب فيه.
ولكل أرض جهة تخرج منها الشمس، وهي المشرق،
وجهة تغرب فيها الشمس، وهي المغرب،
ولأن الشمس تغير موضع خروجها في نفس الجهة إلى الشمال منها وإلى الجنوب،
وتبكر الخروج في الصيف وتتأخر في الشتاء؛ فصار المشرق مشارق على المكان الواحد من الأرض.
وكذلك الشمس تغير موضع غروبها في نفس الجهة إلى الشمال منها وإلى الجنوب،
وتبكر الغروب في الشتاء، وتتأخر في الصيف؛ فصار المغرب مغارب على المكان الواحد من الأرض.
وكذلك فإن الشمس في كل لحظة تغيب عن أرض وتشرق على أرض جديدة؛ فصار في الأرض مشارق كثيرة ومغارب كثيرة كذلك؛
فقال تعالى : {رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق{5} الصافات.
وقال تعالى : {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون {40} المعارج.
وفي سورة الرحمن حدد الله تعالى عدد المشارق والمغارب بمشرقين ومغربين.
وفي هذا التحديد بيان جديد غير البيان في مشرق واحد ومغرب واحد، وغير البيان في مشارق ومغارب كثيرة.
هناك بقعتان أو مكانان في الأرض لكل واحد منهما مشرق واحد في السنة، ومغرب واحد في السنة؛ وهما القطبان الشمالي والجنوبي.
مشرق لأحدهما في الصيف (القطب الشمالي) ومغرب للآخر (القطب الجنوبي)،
ومغرب لأحدهما (القطب الشمالي) في الشتاء، ومشرق للآخر (القطب الجنوبي).
فلهما معًا مشرقان ومغربان؛ وسبب ذلك تغير محور الأرض أما الشمس فينتج عنه الصيف والشتاء، وهذا التقلب بين الصيف والشتاء من آلاء الله تعالى التي نبه عليها في الآية اللاحقة .

أبو مسلم العرابلي
20/04/2016, 10:17 AM
لولا وجود المشرقين والمغربين وهما علامتان لتقلب الشتاء والصيف؛ لكان على نصف الأرض الشمالي صيف دائم، أو شتاء دائم، وكذلك على النصف الجنوبي صيف دائم أو شتاء دائم،
وأثر ذلك حر شديد لا تتحمله النبتات فتهلك ويهلك معها الحيوان والإنسان،
أو برد شديد لا ينبت معه نبات، فتنعدم حياة الحيوان والإنسان، وتصبح الأرض بعد ذلك نصف متجمد ونصف ملتهب. لا يصلح لحياة إنس ولا جان.
فهذا التقلب بين الشتاء والصيف المولد لمشرقين ومغربين؛ هو من نعم الله العظيمة التي توجب الشكر العظيم لله تعالى.
فقد تعالى : {فبأي آلاء ربكما تكذبان {18} الرحمن .

اسلام بدي
20/04/2016, 02:51 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


جزاك الله خيراً يا أستاذ أبو مسلم على هذه الشروحات والبسط في توضيح هذه المسائل

بورك عملكم هذا وجعله في ميزان حسناتكم

عندي سؤال يا أستاذ......لقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري أن آدم عليه السلام طولة 60 ذراع طولاً وعرضه سبعة أذرع......فكم هو طوله بالمتر تقريباً وكم عرضه بالمتر عليه وعلى نبينا السلام.....ثم هل فعلاً سيدخل الناس الجنة وطولهم 60 ذراع وسبعة أذرع عرضاً؟؟


جزاك الله خيراً

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبارك الله فيكم
الجواب على سؤالك في موضوع في المنتدى نفسه
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?105072-

أبو مسلم العرابلي
21/04/2016, 11:46 AM
: {مرج البحرين يلتقيان {19} الرحمن .
ارتبطت هذه الآية بآية المشرقين والمعربين التي تقدمتها،
لما في تقلب المشرقين والمغربين،
وما ينتج عنهما من تقلب الصيف والشتاء،
وتأثير ذلك على البحرين؛ العذب والمالح،
وكثرة الماء العذب في الشتاء،
فيمد الأنهار بالماء حتى تفيض من كثرة الماء فيها،
ويقل الماء العذب الجاري في الصيف حتى أن بعض الأنهار يجف.
وقد ذكرنا في الآية {15} استعمال مادة "مرج" في الاختلاط.
في الأرض بحار عذبة وبحار مالحة،
والماء يسمى بأسماء حسب الصفة المقصودة في التسمية؛
فهي عيون إذا جاءك الماء الجاري من مكان بعيد، أو خرج من الأرض، ولم تتحمل جهدًا في الانتفاع به، فكان عونًا لك فسمي عينًا من مادة "عون" وعين" وهي مستعملة فيما يعينك من غير تكلفة عليك.
وهي أنهار؛ لأنها لا تتوقف، تأتي إليك ولا تتوقف عندك، ويستمر مرورها إلى ما بعدك،
وإذا فاض الماء وتوجه إلى البر يغمره فهو يم.
والماء إذا شق مجراه عميقًا، فتعذر قطعه إلى بمركب أو من على جسر ينصب عليه/ فهو بحر، سواء كان جاري كالأنهار، أو مستقرًا فوق أرض عميقة.
ولذلك كان هناك بحرين؛ بحر مالح مستقر فوق أعماق الأرض التي غمرها،
وبحر عذب جاء من مرتفعات الأرض، ويصب في البحر المالح.
فالبحر العذب يأتي بمائه من الأراضي المرتفعة فوق ماء البحار المالحة،
ويصب فيه، ويختلط به،
ولولا هذا الاختلاط لظل ماء البحر العذب يدفع الماء المالح إلى الخلف، أو يطفو فوقه لأنه أخف منه، فيختفي الماء المالح تحته. أو يصبح بعيدًا عن البر.
والتقاء البحرين من سنن الله التي وضعها لصلاح الحياة في الأرض، وليس ذلك من فعل البحرين وطلبهما لهذا اللقاء،
ولولا هذه السنن الإلهية في جعل مشرقين ومغربين، وبحرين مختلفين، واختلاطهما ببعضهما، في دورة مستمرة لفسدت الأرض،
فجاء الحديث بعدها عن البرزخ وأثره في منع البغي ....

أبو مسلم العرابلي
24/04/2016, 09:16 PM
: {بينهما برزخ لا يبغيان {20} الرحمن .
كل كلمة في الآيات تحتاج إلى دراسة منفردة،
لمعرفة استعمالها، ولأجل معرفة ارتباطها بالسياق التي هي فيه،
فبين تستعمل لبيان الارتباط بشيئين مختلفين،
وليس لبيان شيء فاصل بين اثنين،
فما بين الأرض والسماء التي تبدأ من وجه الأرض، هو المرتبط بهما معًا؛
فالأشجار جذورها في داخل الأرض، وفروعها ممتدة في السماء،
والماء مرة في الأرض ماء، ومرة بخارًا في السماء،
وكثير من الغازات مرة تكون مركبات في النبات والحيوان، ومرة غازًا في السماء،
والطير وبعض التراب مرة يكون في السماء ومرة في الأرض،
والآيات التي ذكرت فيها خلق السماوات والأرض وما بينهما،
لا يأت فيها ذكر الشمس والقمر،
ولا الليل والنهار،
ولا الأفعال: يلج، يخرج، ينزل، يعرج،
لأن كل ذلك من مسببات انتقال الأشياء بين السماء والأرض،
ومن يصلح بين اثنين أو زوجين؛
يجب أن تكون علاقته حسنة مع الاثنين،
وليس مع واحد منهما.
أما البرزخ فأعلم أنه شيء نسبي وليس ماديًا،
يكون فيه المحافظة علة نسبة شيئين؛
يزيد الأول ويمتد ويكثر، ويتراجع الثاني ويقل،
ثم يتراجع الأول ويقل، ويزيد الثاني ويكثر ويمتد،
قال تعالى: {ومن ورائه برزخ إلى يوم يبعثون{}
فالحياة لا تنتهي بموت الميت بل تظل مستمرة،
مواليد جدد باستمرار ، ووفيات أخرى باستمرار،
فتستمر الحياة بهذه السنة الإلهية ..
ولم يقل تعالى (وهم في برزخ) كما التعامل الحاصل مع هذا اللفظ،
ثم ركبوا على ذلك فقالوا : الحياة البرزخية،
ويستشهدون بالآية، اسشتهادًا خاطئًا،
(ورائه برزخ) غير (هو في برزخ)،
فالآية تبين انفصال الميت وانقطاعه عن البرزخ،
وليس هو في برزخ،
والماء العذب يزيد في شتاء النصف الشمالي من الكرة الأرضية،
ويتراجع ويقل في صيفها، في دورة سنوية مستمرة،
وكذلك في النصف الجنوبي،
والمحافظة على هذه النسبة يمنع من طغيان البحر العذب على البحر المالح ، ولا البحر الماء على البحر العذب.
وهذا من نعم الله الدائمة فذكر تعالى بآلائه بعدها

أبو مسلم العرابلي
24/04/2016, 09:17 PM
من أعظم نعم الله تعالى وما أكثرها، أن خلط البحر العذب بالبحر المالح
وحافظ على نسبة وجودهما في الأرض بعدل ثابت،
ولولا ثبت شتاء دائم في نصف الأرض الشمالي،
وثبت صيف دائم في نصف الأرض الجنوبي،
لطغى الماء العذب والثلوج على النصف الشمالي،
ولطغى الماء المالح على النصف الجنوبي،
ولفسد الحياة وانعدمت على الأرض إلا في قليل منها.
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {21} الرحمن .

أبو مسلم العرابلي
30/04/2016, 03:11 PM
: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان {22} الرحمن .
بعد أن ذكر الله تعالى المشرقين والمغربين، والتقاء مرج البحرين؛ العذب والمالح، يأتي ذكر اللؤلؤ والمرجان.
منشأ اللؤلؤ والمرجان في مواضع التقاء مرج البحرين، في مياه لا عذبة تصلح للشرب، ولا هي مالحة شديدة الملوحة كمياه البحار المالحة، وأكثر هذا الاختلاط هو بين ينابيع بحرية في وسط الماء المالح تتسرب من مياه الأمطار التي تقع على البر أو تصب في البحر، وبحارة الخليج كانوا يملؤون قربهم من قاع البحر في المواضع التي فيها ينابيع بحرية، وهي نفسها التي يكثر فيها المحار الذي يستخرج منه اللؤلؤ، وهم يعرفونها من كثرة غوصهم بحثًا عن اللؤلؤ.
والمرجان ينشأ قريبًا من السواحل، ولا ينشأ في أعماق بعيدة عن الشط، وقد سبب لها النشاط المتزايد من الإنسان، وكثرة النفايات التي تلقى في البحار آثارًا سيئة عليها.
ولما تقدم ذكر المشرقين على المغربين، فقد قدم اللؤلؤ على المرجان؛
اللؤلؤ يحب مشرق النهار، والمرجان يحب مغرب الشمس وإقبال الليل.
والأفلام التي تصورها في الليل والنهار تكشف عن ذلك.
وقد ذكرنا كثرت الثنائيات في هذه السورة؛
فاللؤلؤ يستخرج من بين لوحي الصدفة،
والمرجان خليط بين الصخور والكائنات الحية النباتية؛
فهو صخر في النهار لا تميزه عن الصخور،
وهو نبات حي متفتح وله أذرع يمدها في الليل.
وكل من اللؤلؤ والمرجان يتكونان ببطء شديد،
وقد يشكل المرجان مع تكونه البطيء جزر مرجانية.
والترابط بين الآيات ترابط عجيب بما قبلها، وبما بعدها، وما بينها.

أبو مسلم العرابلي
30/04/2016, 03:18 PM
والترابط بين الآيات ترابط عجيب بما قبلها، وبما بعدها، وما بينها.
فبعد ذكر اللؤلؤ والمرجان، يذكرنا الله تعالى بتدبيره لكل شيء في الأرض، ما كان فوق الأرض وما تحتها، وما كان في الماء وما تحته،
فانظر كيف خلط الله عز وجل ماء البحرين، وحافظ على النسبة بينهما لئلا تفسد الحياة على الأرض في البر والبحر، وكيف أتى بالماء العذب من أعماق البر وسلكه ينابيع في وسط البحر، وأنشأ في مواضع اختلاطه بالماء المالح؛ اللؤلؤ والمرجان،
وما الماء العذب في جزيرة البحرين إلا مثالاً على ذلك .... الماء الذي ينزل على نجد يسير في باطن الأرض ويخرج ينابيع في جزيرة البحرين وما حولها في البحر، فكثر اللؤلؤ في مياها لأجل ذلك
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {23} الرحمن .

أبو مسلم العرابلي
24/05/2016, 06:21 AM
: {وله الجوار المنشئات كالأعلام {24} الرحمن .

الجواري هي السفن، وتسميتها بالجواري من الجري، وهو الانتقال من مكان إلى مكان، وهذا هو دأب السفن بالحركة في البحار،
وقد حذفت ياء الجواري في مواضعها الثلاث؛ في الرحمن، والشورى والتكوير؛ ودلالة إثبات للياء في الرسم القرآني؛ علامة للثبات والاستقرار والانقطاع، وعلامة حذفها؛ الدوام والاستمرار، وهذا هو دأب السفن الجري في البحار، والنجوم في أفلاكها.
والمنشئات من أنشأ الشيء من غيره؛ فالله تعالى أنشأنا من الأرض؛ من ترابها ومائها، وأنشأ الذرية من الآباء، وأنشأ قومًا آخرين ممن نجا من السابقين، وبعد النشأة الأولى ستكون النشأة الآخرة، والسفن أُنشئت من الأخشاب والمعادن،
والأعلام : الجبال، وهي من مادة "علم" وهو ما يجعل أساسًا لما يبنى ويعتمد عليه، والسفن تبنى ليعتمد عليها في البحر، وهذا وجه الشبه بينهما.
والجبال التي فسرت بها الأعلام، يبنى عليها معرفة الأماكن والاتجاهات ومعالم الأرض عليها، وغير ذلك،
ولم تذكر الأعلام إلا في تشبيه الجواري بها في آيتين، الآية السابقة،
وفي الشورى : {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام{32} الشورى.
والجبال في البحار تنشأ من طفوحات بركانية متتالية في أزمنة ممتدة، وهي في تغيير دائم بالزيادة والنقصان من كثرة ثوران البراكين التي تحدث فيها.

أبو مسلم العرابلي
24/05/2016, 06:31 AM
وبعد ذكر المشرقين والمغربين، وذكر البحرين، وذكر ما يخرج من قاع البحرين من اللؤلؤ والمرجان؛ جاء ذكر الجواري التي مكان جريها في البحار فوق وجهها.
ولما كانت الحركة مرطبة بالغياب والزوال، كان ذكر الجواري وتشبيهها بالأعلام تمهيدًا لذكر نهاية الحياة الدنيا، والتذكير بآلاء الله وقدراته في البر والبحر التي يكذب بها الثقلان ولا يشكرون الله تعالى على نعمائه وتدبيره.
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {25} الرحمن .

أبو مسلم العرابلي
25/05/2016, 07:42 AM
: {كل من عليها فان {26} الرحمن .
"كُلّ" من مادة "كلل" ، وهي مستعملة في استنفاد الطاقة ، ومن ذلك "كلَّ" من العمل؛ عندما يستنفد طاقته في العمل،
أو في استنفاد الأشياء، كما في قوله تعالى: {واجعل على كُل جبل منهن جزءًا {261} البقرة. أي حتى تستنفد أجزاء الطيور الأربعة على الجبال، وليس على جميع الجبال ...
أما أهل اللغة فإنهم يتعاملون مع "كُل" على أنها مرادف "جميع"، وهذا غير صحيح، والشواهد على هذا الاختلاف عديدة في القرآن، ومنها المثال الذي ذكرت،
والفناء لكل من في الأرض من الإنس والجن، لأن "مَن" هي للعاقل المكلف، ومعهما ضمنًا كل دابة أو نبات؛ لفناء من وجدت لأجله.
وأغنى ذكر "كُل" عن الإنس والجن؛ لأنهما يحملنا في اسميهما صفتين لا يتناسبان مع ذكر الفناء.
ولأن "كُل" لا تعني "الجميع" فيستثنى من ذلك الملائكة؛ {ونفخ في الصور فصعق مَن في السماوات والأرض إلا من شاء الله {68} الزمر. والمستثنى "مَن" وهو العاقل المكلف أيضًا، وهم الملائكة.
ومثل ذلك قوله تعالى: {كُل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة{185} آل عمران،
فالأنفس التي توفى أجورها هي التي ستذوق الموت، وليس جميع الأنفس ستذوق الموت لأن "كُل" ليست هي "الجميع".
ولم تسم الأرض باسمها؛ لأن الأرض سميت باسمها لأنها تقبل الماء وتنبت النبات، ويوم قيام الساعة تذهب صفتها التي سميت بها، فاكتفي بالضمير العائد على ذاتها فقط دون صفتها.
وفان؛ أي هالكون لا يبقى منهم أحد. والفناء يكون للجمع أو الجنس أو الشيء المكون من أشياء، حتى يصلح لفظ الفناء بأنه لم يبق منهم شيء.
وقد قال تعالى "من عليها" ولم يقل "من فيها"؛
لأن "على" تستعمل مع الثبات،
وتستعمل "في" مع الحركة،
والهالك ثابت على الأرض، كما تثبت الأشياء على الأشياء،
وكقوله : {ما ترك على ظهرها من دابة{45} فاطر، وكقوله: {ما ترك عليها من دابة{61} النحل.
أو في ثبات الترابط بين شيئين أو اثنين، كقوله تعالى : {وتوكل على الله{3} الأحزاب.
أما مع الحركة فتستعمل "في" كما في قوله تعالى : {فامشوا في مناكبها{15} الملك، {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل{205} البقرة.
أما استعمال "على" بدلاً من "في" في قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا{63} الفرقان؛ فلأن المشي من الناس يكون في طلب شيء غير مؤكد ولا ثابت، ولا يسألون عن حكم الله فيه، ومشي المؤمن لشيء يعلم حكمه الله فيه ويلتزم به، وعملهم يثبت لهم ويجرون عليه، وعمل الكفار يذهب هباء منثورًا.
وأما استعمال "في" في موضع "على" في قوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل {71} طه، فلأن هذه الفئة المستضعفه من السحرة {وما أكرهتنا عليه من السحر{73} طه هم الكثرة، وتوزيع صلبهم سيكون على جذوع كثيرة أو في بلدان عديدة، فيتطلب مشاهدتهم التنقل والحركة لرؤيتهم، وكذلك هو لا يريد من صلبهم ثباتهم على الجذوع، بل التنكيل بهم ليكونوا عبرة لبقية الناس، ويرون لحومهم وشحومهم تسيل على الجذوع.

ولك من سيبقى بعد أن يفنى كل من على الأرض ؟ ... في الآية التاليةالإجابة.

أبو مسلم العرابلي
31/05/2016, 10:26 AM
: {ويبقى وجه ربك
ذو الجلاك والإكرام {27} الرحمن.
لا بد للإنسان أن يتوجه بعمله أو دعائه لأحد، قد يكون واحدًا من البشر أو أي شيء من المخلوقات،
وإما أن يكون لله وحده، وحال أكثر الناس أنهم على شرك، أي يتوجهون في أعمالهم إلى الله وإلى غيره.
فعندما يفنى كل من على الأرض؛ فأي وجه يبقى يتوجه إليه بالدعاء؟ّ
لم يبق إلا وجه واحد .. هو وجه الله تعالى.
والباقي هو الذي يظل بعد من كان معه،
وقد ذهب كل من كان يتوجه إليه غير الله تعالى.
وقد قال تعالى: {وجه ربك} .. ولم يقل وجه الله؛
لأن السياق ليس في العبادة، وإنما هو في الحديث عن يومٍ يفر المرء من كل الناس ومن أقربهم إليه؛ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه،
والحاجة قائمة لربوبية، في طلب الحفظ والرعاية والنماء والزيادة؛ لإبقاء العطاء وإطالة العمر.
فمن يبقى معه بعد الفرار من كل شيء؟ ... لا أحد ..
فيظل بعد هذا الفرار وحيدًا لا يسأل عن غير نفسه.
فقال تعالى : {ويبقى وجه ربك}، أي رب المخاطب،
وكأنه ليس هناك غير المخاطب،
وليس رب الناس ولا رب العالمين،
فالكل يومئذ متوجه إلى الله تعالى ..
توجهًا فرديًا إلى الله.... ولا شيء غير الله.
والكل مقصود بالخطاب.
فعندما يتوجه المتوجه إلى الله تعالى بالعمل وبالدعاء،
لا يقصد بفعله طلب ذات الله تعالى،
فهل يريد عين الذات ... أم ذات بغير صفات ..؟؟؟!!!
إنما يقصد ما تتصف به الذات الإلهية من الرضا، والعطاء،
والحماية، والأمن، والثبات، والأجر، والثواب،
وغير ذلك مما يطلبه ويحتاجه العامل والداعي.
هذا لو كان بالإمكان رؤية ذات الله أو الوصول إليها،
فكيف إذا كانت ذات الله لا تدركها الأبصار!.
: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فله أجره عند ربه {112} البقرة.
: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى {22} لقمان.
: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله {115} البقرة.
: {والذين صبروا ابتغاء وجه الله ربهم وأقاموا الصلاة .. أولئك لهم عقبى الدار{22} الرعد
: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى {20} ولسوف يرضى {21} الليل.
والخوض في مكانة الوجه من الجسد ... وإنابة البعض عن الكل ...
يجر إلى الجهالة والضلالة ..
ومنه الاستشهاد بأن الله له وجه ... أو نفي الوجه ... في مقارنة باطلة ..
والأعظم من ذلك ... أن يقارن الله عز وجل بنا .. نحن البشر الذين هم خلقه ..
مقارنة المجهول بالمعلوم .... وهذا من أعظم سوء الأدب مع الله ..
فنقول إن الله له وجه ... ولكن ليس كوجوهنا ...
وقد يقول القائل على نفس القياس؛
إن للنهار وجه .. ولكن ليس كوجوهنا ... مستشهدًا بقوله تعالى؛
: {آمنوا وجه النهار واكفروا آخره {72} آل عمران.
وللشهادة وجه ولكن ليس كوجوهنا ...
: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها{108} المائدة
وكذلك للأرنب وجه ولكن ليس كوجوهنا ... وهلم جرا ...
والأسلم أن تقول: إن الله تعالى وصف نفسه بأن له وجهًا،
وهو كما وصف نفسه .. ..ولا تزد على ذلك ... ولا تقارن ...
بل وأعظم من ذلك ... أن يحول الحديث ويقلب؛
من الحديث عن فعل الله تعالى،
إلى الحديث عن ذات الله،
في هذا الموضع وفي غيره ..
والأول مطلوب بما بلغ به الله تعالى عن نفسه وأفعاله ...
والثاني منهي عنه وممنوع وغير مقدور عليه .. فليس كمثله شيء.
والوجه من الألفاظ المشتركة، كوجه الله، ووجه الإنسان، ووجه النهار، ووجه الشهادة، وغير ذلك مما لم يذكر في القرآن،
وتسمية الوجه جاء من الإقبال إلى شيء أو إقباله عليه لا يحيد عنه إلى غيره، ولا يكون معه شيء آخر؛
فوجه النهار؛ هو وقت إقبال الشمس بضيائها، من الشرق، وتستمر في سيرها في فلكها من الشرق إلى الغرب، لا تحيد عن ذلك؛ فلا تغيب في شمال أو جنوب.
ووجه الشهادة، أن تظل مقبولة، ويعمل بها، لا ينقضها ولا يبطلها شهادة أخرى.
ووجه الإنسان هو الذي يقبل به على الأشياء ليراها، أو على الدرب ليستمر سيره فيه، أو على الجهة التي له فيها مطلب، ويبتغي عملا أو منفعة،
وهو الذي يقبل عليه الآخرين، في طلب حاجاتهم عنده،
لأن وجه الإنسان فيه العينان اللتان بهما يدرك ما حوله من الوجود، ويتم بذلك التعامل معه، فيتجه بوجهه إليه، ويأتي غيره متوجهًا إليه.
فلم تأت تسمية الوجه؛ لأنه من لحم ودم، ولا من شكله، ولا من موضعه من الجسد، ولكن من صفته، في الإقبال منه وإليه، وهي صفة لا تختص بشيء أو ذات واحده، فهو لفظ مشترك، والتعامل معه بصفته، لا بشيء آخر.
وما يقدم عليه الإنسان يطلب من ورائه منفعة مادية أو معنوية؛ من بشر فردًا كان أو جمعًا، أو من الله وحده، فيحصر المرء مطلبه للشيء ويحصر سيره إليه؛ وهي وجهته، التي يتجه إليها، ولا يلتفت لغيرها، وهي الوجه الذي اختاره.
والله تعالى يقبل عليه لما عنده من الأمن والعطاء؟، وهو سبحانه يقبل على الناس ليعلم أعمالهم، وما فعلوا بأوامره ونواهيه. فعندما تتجه وتقبل على الله بعملك، هو سبحانه وتعالى يقبل عليك كذلك،
: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله تعالى {115} البقرة.
فلا يفهم في هذه الآية أن المراد بوجه الله تعالى ذاته، فلو توجه أربعة كل واحد منهما إلى إحدى الجهات الأربعة، وكل واحد أمامه وجه الله ... فأين سيكونون هم ؟!
سيكون داخل ذات الله أو داخل وجهه .. فهل بهذا الفهم الخاطئ محاطون بوجه الله؟... تعالى الله عن كل وصف لذاته.... بل هو يقبل عليك كما أن تقبل بعملك إليه، ولا يغيب علمه بما تفعله، ولن يضيع عملك عنده أينما توجهت.
وبأي صفة لله تعالى يرجوه بها الإنسان في ذلك الحدث الرهيب والموقف العظيم؛
بصفته أنه ذو الجلال والإكرام؛
: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}

وبأي صفة لله عز وجل يرجوه الداعي؟
ما معنى ذو الجلال ؟
وما معنى ذو الإكرام ؟
في الفقرة التالية حتى لا يطول الشرح في فقرة واحدة

أبو مسلم العرابلي
31/05/2016, 06:12 PM
"ذو الجلال" تكملة الآية {27} الرحمن.
لقد أوقفتني هذه الآية طويلا ...
فكل واحد محاسب على عمله.
ولا أستطيع أن أمر عليها وعلى الآيات دون دراسة
فقهية عالية لعظيم ما ذكر فيها
والمنهج عندي في هندسة اللغة
أن لك جذر استعماله الخاص الذي يفسر كل المبنيات والمشتقات منه
فمادة "جلل" مستعملة فيما يجمع ما تحته، لقدرته أو سعة امتداده.

جَلَّل الشيءُ تجليلاً أَي عَمَّ.
والمُجَلِّل: السحاب الذي يُجَلِّل
الأَرض بالمطر أَي يعم.
وفي حديث الاستسقاء: وابِلاً مُجَلِّلاً أَي
يُجَلِّل الأَرض بمائه أَو بنباته،
والجِلُّ من المتاع: القُطُف والأَكسية والبُسُط ونحوه؛ مما يمتد ويغطي ما تحته،
الجلَّ الأَمر الجَلِيل، الذي زاد وعَظُم عن الأمور العادية؛
وجُلُّ الدابة وجَلُّها: الذي تُلْبَسه لتُصان به، والجمع جِلال وأَجلال؛
وجِلال كل شيء: غِطاؤه
دعا علي: اللهم جَلِّل قَتلة عثمان خِزْياً أَي غَطِّهم به وأَلْبِسْهم إِياه
كما يتجلل الرجل بالثوب.
وتجليل الفرس: أَن تُلْبِسه الجُلَّ، وتَجَلَّله أَي عَلاه
وتجَلَّل فلان بعيره إِذا علا ظهره.
والجَلُّ والجِلُّ، بالكسر: قَصَب الزرع وسُوقه إِذا حُصِد عنه السُّنبل. فلكثرته يغطي الأرض، أو لجمعه في حزم . وهو بكثرته أضعاف كثيرة.
والجُلَّة: وعاء يتخذ من الخوص يوضع فيه التمر يكنز فيها.

وهم يَجْتَلُّون الجِلَّة أَي يلقطون البعر. أي يجمعونها لأنها تتفرق وتنتشر
والجَلَّة والجِلَّة: البَعَر، وقيل: هو البعر الذي لم ينكسر لأنه ينتشر ويجمع
وجَلَّ البَعَر يَجُلُّه جَلاًّ: جَمعه والتقطعه بيده.
واجتلَّ اجتلالاً: التقط الجِلَّة للوقود،
ومنه سميت الدابة التي تأْكل العذرة الجَلاَّلة،
والجَلاَّلة: البقرة التي تتبع النجاسات، لأنها توسع دائرة أكلها حتى تأكل البعر والنجاسات،
وهذه ناقة تَجِلُّ عن الكلال: معناه هي أَجَلُّ من أَن تَكِلّ لصلابتها.
لها سعة في العمل لقوتها، كأنها تضم العمل إلى العمل

من جَلل كذا أَي من أَجله؛ أي بسط ووسعت عمله ليكون له

وأَنت جَلَلْت هذا على نفسك تجُلُّه أَي جَرَرْته يعني جَنَيته؛
وذلك الاتساع في العمل والتصرف
والمَجَلَّة: صحيفة يكتب فيها (صحيفة لقمان).
والمَجَلَّة. الصحيفة فيها الحكمة؛
و كل كتاب عند العرب مَجَلَّة، لأنه جامع لحكم وأمور كثيرة.
والجَلِيل: الثُّمام، وهو نبات يخرج من جذره سيقانًا كثيرة،
والجَلِيل: الياسمين، وقيل: هو الورد أَبيضه وأَحمره وأَصفره،
وذلك لامتداد فرعه وكثرته، وانتشار رائحته.
والجَلُّ بالفتح: شراع السفينة، وله انبساط كبير، وجامع للريح الذي يدفع السفينة.
تَجَلْجَلَت قواعدُ البيت أَي تضعضعت.
والجَلْجَلة: صوت الرعد وهو صوت مضاعف ويمتد فيسمع من بعد.
وغيث جِلْجال: شديد الصوت، من كثرته وشدته
جَلْجَلْت الشيء جَلْجَلَة إِذا حركته بيدك حتى يكون لحركته صوت،
والتَّجَلْجُل: السُّؤُوخ في الأَرض أَو الحركة والجوَلان.
وذلك لسعة الحركة يمنة ويسرة وكثرتها
جَلْجَل الرجلُ إِذا ذهب وجاء.
وجَلْجَل الشيءَ: خلطه، فاحتاج إلى كثرة الحركة وسعتها في خلطه.
والجُلْجُل: الجَرَس الصغير، لحركة ما فيه يمن ويسرة.
الجُلْجُل: ثمرة الكُزْبُرة، وقيل حَبُّ السِّمسم.
الجُلْجُلان هو السمسم في قشره قبل أَن يحصد.
يقال لما في جوف التين من الحب الجُلْجُلان؛
وكلها من سعة الحركة في باطن وعائه.
وجُلْجُلان القلب: حَبَّته ومُنَّته.
لحركة واضطراب ما يدور فيه. تشبيهًا بحب السمسم في قشره.
المُجَلْجَل المنخول المغربل، لأن نخله يحتاج إلى كثرة وسعة الحركة
وجَلْجَل الفرسُ: صفا صَهِيله ، بالضم: صافي النَّهيق.
لأن صفاء الصوت يذهب به بعيدًا.
المُجَلْجِل السيد القوي وإِن لم يكن له حسب ولا شرف
وهو الجريء الشديد الدافع يريد الجريء يخاطر بنفسه؛
وهو السيد البعيد الصوت؛
وكلها من من السعة والامتداد إلى البعيد والسعي في طلبه.
والجُلْجُل: الأَمر الصغير والعظيم مثل الجَلَل؛
لأن في كل منهما سعة وحركة عند أصحابه.
هذا ما نقلته من لسان العرب، وهو المشكل بالحركات،
والباقي بيانًا لاستعمال جذره،
وعند الرجوع إلى لسان العرب،
أول ما تجد أن الجليل هو العظيم،
وهذا هو من التفسير بالمترادفات،
ولكل واحد منهما اختصاصه، وبينهما تقاطع في بعض الاستعمال لا كله.
فمادة "عظم" مستعملة فيما يجمع ما حوله ويكون معتمدُا لهم،
كحال العظم في الجسم، يجتمع حوله اللحم ويكون معتمدًا له، وكذلك فعل كل عظيم،
حتى الأجر العظيم والثواب العظيم أصله الحسنة تعمل، فتضاعف عشرة أضعاف، وهي اعتماد هذا العدد الذي قام عليها،
أما الجليل فهو يبسط قدرته ويحيط ويشمل ما حوله،
فالوصف بذي الجلال يناسب ذكر الفناء قبله، وحاجة أكثر الناس يوم القيامة، الذين هم من أصحاب النار ومنهم الذي تقوم عليهم الساعة، وهم بحاجة كبيرة أن يمتد عطاء ربهم وعفوه لتشملهم،
ولا يناسب الموقف ذكر العظمة، لأنهم ليسوا من أهل طاعته، فيقربهم إليهم ويكون الاعتماد عليه.

أبو مسلم العرابلي
07/06/2016, 01:06 AM
{ ..... والإكرم {27} الرحمن تكملة للآية


لقدوقفت طويلا مع مادة "كرم" لأعرف حقيقة استعمالها.
فمادة "كرم" فيها تكرار، ومردود حسن، ومدح، وبعد عن الذم.
قيل في الكَريم: الجامع لأَنواع الخير والشرَف والفضائل.
والكَريم. اسم جامع لكل ما يُحْمَد،
ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العِتْق،
قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعاً
لكل شيء نَفَتْ عنه فعلاً تَنْوِي به الذَّم.
قول الفراء هو أجود الأقوال؛ فقد أدرك أن مع المدح إبعاد للذم،
ومع العطاء إبعاد للحرمان،
وللعطاء في الكرم مردود،
{أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا {21} يوسف.
والمكارمة أن تهدي أحدًا شيئًا ليثيبك عليه،
فالكرم تكرار العطاء. فالكريم كلما أُخذ منه، عاد فأعطى،
والكَرْمُ: شجرة العنب، واحدتها كَرْمة؛ وفي كل عام يؤخذ الكثير من فروعها بالتقليم، فتجود أكثر بالعطاء، وينتفع بطيب ثمرها الكثير وورقها.
وهي كذلك لا شوك فيها يُؤْذي القاطف،
ويقولون للرجل الكَريم مَكْرَمان إذا وصفوه بالسخاء وسعة الصدر.
وأَرض مَكْرَمة للنبات إذا كانت جيدة للنبات.
ولا يَكْرُم الحَب حتى يكون كثير العَصْف (التِّبْن والورق).
فيمدح الحب عندئذ ولا يذم لاكتماله بأحسن أحواله لارتداد كثرة العصف عليه.
والكَرَمُ: أَرض مثارة مُنَقَّاةٌ من الحجارة؛ والحجارة مما يعيبها ويفسد العمل فيها.
كَرُمَ السَّحابُ إذا جاء بالغيث. وكَرَّمَ المَطَرُ وكُرِّم: كَثُرَ ماؤه؛
والكَرْمُ: القِلادة من الذهب والفضة، وهي من المعادن النفيسة الثابتة التي يمكن أن يعاد صياغتها مرات عديدة لثبات معدنيها من الفساد وتغير الحال.
والكَرِيمةُ: الرجل الحَسِيب؛ المبرأ من العيوب.
وتكَرَّمَ فلان عما يَشِينه إذا تَنزَّه وأَكْرَمَ نفْسَه عن الشائنات،
فقد نال المدح بالسلامة من الذم.
وأَكْرَمَ الرجلَ وكَرَّمه: أَعْظَمه ونزَّهه؛ فجمع له المدح ونفي الذم معًا.
ويقال في استجابة الطلب: نَعَمْ وحُبّاً وكَرْامةً،
فإما أن يكون راجيًا لعطائه، وإما رادًا لجميله،
وكريمتي الإنسان عيناه، فهما اللتان يطل بهما على الدنيا،
وتردان عليه أخبار ما حوله مما قرب أو بعد.
وأَكْرَمَ الرجل: أَتى بأَولاد كِرام. فارتد عليه زواجه بذرية طيبة.
ووصف يوسف عليه السلام بأنه الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم؛ لأَنه اجتمع له شَرَف النبوة والعِلم والجَمال والعِفَّة وكَرَم الأَخلاق والعَدل ورِياسة الدنيا والدين، فهو نبيٌّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ ابن نبي رابع؛ أربعة في النبوة.
والكَرْمةُ: رأْس الفخذ المستدير كأَنه جَوْزة وموضعها الذي تدور فيه من الوَرِك، القلت؛ وذلك لاستجابته للحركة الكثيرة الدائمة فيه بسهولة ولين.
والكَرامةُ: الطَّبَق الذي يوضع على رأْس الحُبّ (الجرة الكبيرة) والقِدْر.
لأنه تمام الوعاء والمكمل له الذي يرفع ويرد على الدوام لحفظ ما فيهما.
الكَريم: من صفات الله وأَسمائه، وهو الكثير الخير الجَوادُ المُعطِي الذي لا يَنْفَدُ عَطاؤه، وهو الكريم المطلق. وبكرم الله تصلح الأمور وتقضى الحاجات.
قال تعالى : {ومن كفر فإن ربي غني كريم{40} النمل،
{يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم{6} الذي خلقك فسواك فعدلك{7}في أي صورة ما شاء ركبك{8} الإنفطار.
وكذلك في التنزيل العزيز: {إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كتاب كَريم{29} النمل؛
قال بعضهم: معناه حسن ما فيه، فقد خلا من التهديد والوعيد.
وقال: {إنه لقرآن كريم {77}في كتاب مكنون{78} الواقعة؛
أَي قرآن يُحمد؛ لأنه ما فيه جامع للهُدى والبيان والعلم والحِكمة.
والمخرج من الظلمات إلى النور.
وقال: {وقل لهما قولاً كَريماً{23} الإسراء؛
أَي سهلاً ليِّناً، وحسنًا طيبًا لا أذى فيه ولا شدة.
: {وأَعْتَدْنا لها رِزْقاً كريماً{31} الأحزاب؛
أي نرد عليها طاعتها برزق حسن طيب واف.
: {ونُدْخِلْكم مُدْخَلاً كريماً{31} النساء؛
قالوا: حسَناً وهو الجنة مكافأة على عملهم.
: {ملك كريم {31} يوسف. كامل في الحسن لا يعاب بشيء.
: {وجاءكم رسول كريم{17} الدخان،
:{إنه لقول رسول كريم{40} الحاقة؛
رسول من البشر أو الملائكة كامل لا يعاب بشيء في أمانة أو خلق.
: {فبشره بمغفرة وأجر كريم {11} يس،
أجر واف على عمله بعد الغفران له.
: {ومقام كريم {26} الدخان، مقام لا يرى صاحبه خيرًا.
: {كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم {7} الشعراء،
الزوج المفرد الذي يتممه آخر مثله،
فيكون سببًا في حسن وكمال وطيب تكونه.
وقد وصف الله تعالى الملائكة:
: {كرامًا كاتبين{11} الانفطار. {كرام بررة{16} عبس.
ملائكة مبرؤون من كل قدح وذم في عملهم.
: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كرامًا {72} الفرقان.
مبرئون من الوقوع في لغو أو شهادة زور.
: {في صحف مكرمة {13} عبس.
صحف مبرأة من كل عيب وباطل.
: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون{26} الأنبياء.
ملائكة كاملون مبرؤون من كل ذم.
: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم {13} الحجرات.
مردود الخوف من الله تعالى وتحمل مشقة الطاعة،
والتخلي عن منافع دنيوية تجلبها المعاصي؛
التكريم بالجنة والمنزلة العالية عند الله تعالى.
: { كلا بل تكرمون اليتيم {17} الفجر.
لا يكرمون اليتيم لأنه لا مردود يعود عليهم من إكرامه.
: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن{15} الفجر.
أي أبعد عنه أذى الحرمان بوافر العطاء له.
: { قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ {62} الإسراء.
لأنه في تقديم آدم عليه السلام إبعاد إبليس عن المهمة التي كلف بها آدم،
وجعل الجن تابعين لرسل الإنس.
: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات{70} الإسراء.
في الحمل في البر والبحر إبعاد لمشقة السير فيهما.
فدائمًا مع التكريم عطاء وزيادة، وإبعاد للأذى والمنقصة .

أبو مسلم العرابلي
07/06/2016, 02:15 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {28} الرحمن .
بعد ذكر الفناء للخلق والبقاء للخالق سبحانه ذو الجلال والإكرام؛
الذي يمد عنايتة إلى من يشاء،
ويرد الطاعة على صاحبها بالمغفرة والجنة والإحسان،
يذكر الله تعالى الإنس والجن بأي بسط للقدرة
من الله في الحفظ أو العطاء يكون التكذيب،
ويأتي بعد الفناء إعادة الإحياء،
والكل يومئذ يسأل الله عز وجل .

أبو مسلم العرابلي
07/06/2016, 03:00 AM
: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن {29} الرحمن .
لما تحدث الله تعالى عن الفناء
ولم يبق إلا وجه الله تعالى الذي لا يسأل غيره،
وسؤالهم من حاجة الخلق للخالق،
يسألونه المغفرة ويسألونه الرزق،
والحديث عن نهاية الدنيا وبداية الآخرة؛
فالله تعالى له شأن في الدنيا يستجيب للسائل ؛
فيعطي ويحرم، ويعز ويذل، وينصر ويهلك،
لكن في الآخرة له شأن آخر،
فهو يوم الحساب،
والكل يسأل،
ولا استجابة لأصحاب النار.

أبو مسلم العرابلي
07/06/2016, 03:20 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {30} الرحمن .

بعد كل بيان لقدرة الله تعالى التي لا تحد
سواء في عطاء أو في هلاك وفناء
أو في استجابة وحرمان
يذكرنا الله تعالى بأي قدرة أو عطاء لله
يكذب به الإنس والجان .
وقبل يوم الحساب
على الإنس والجن استدراك أمرهما بالنجاة

أبو مسلم العرابلي
07/06/2016, 11:49 PM
: {سنفرغ لكم أيه الثقلان {31} الرحمن .

ما أكثر ما يحتاج إلى التدبير في الحياة الدنيا، من بسط أرض، ورفع جبال، وسوق سحاب، وإنزال ماء، وإحياء وإماتة، وإنبات نبات، وإحصاء الأعمال صغيرها وكبيرها، وهي من الكثرة ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وغير ذلك مما نعلم ولا نعلم، مما عظم خلقه أو دق خلقه كأنه لا وجود له.
لكن يوم القيامة، لا يبقى بعد البعث إلا المحاسبة على الأعمال،
فقبل أن يأتي ذلك اليوم ويكون المصير إما دخول الجنة أو دخول النار،
فيا أيها الثقلان ... الحساب ثقيل، وقبل أن نفرغ لكما، ولا عمل لنا يمئذ غير حسابكم، ولا قدرة لكم يومئذ على فعل شيء ... فافعلوا ما تقدرون عليه اليوم ... إن استطعتم .. للنجاة من الحساب.
ولماذا سمي الإنس والجن بالثقلين ؟
ثقل : تراكم وتجمع إلى أن قارب الحد الذي ليس بعده زيادة،
وثقلت الحامل : زاد حملها ووصلت إلى الحد الذي ليس بعده إلا الولادة.
وثقلت موازينه : بلغت حسناته الحد الذي رجحت فيه على السيئات.
وثقلت الساعة في السماوات والأرض : كثرت علامتها إلى الحد الذي قاربت فيه على الظهور.
وقوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً {5} المزمل، ؛
أي سنزل عليك ونكلفك من التبليغ التي يتراكم ويتجمع إلى حد لا تحتمل طاقتط الزيادة عليه.
وقوله : {حتى إذا أقلت سحابًا ثقالاً {57} الأعراف.
أي كثر وتراكم وبلغ الحد الذي ليس بعده إلا نزوله مطرًا.
وقوله : { ويذرون وراءهم يومًا ثقيلاً {27} الإنسان.
يومًا يبلغ من الشدة التي ليس بعدها شدة.
وقوله : {مثقال ذرة {3} سبأ ؛ أي تبلغ المقدار الذي ليس بعده إلا زيادة فائضة عليه.
وقوله تعالى : {سنفرغ لهم أيها الثقلان {31} الرحمن.
أي عندما تبلغون العدد الذي يملأ النار من الطالحين، ولا زيادة عليه، على الوعد الذي قطعه الله تعالى على نفسه بملء جنهم من الجنة والناس. ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس الذين تكتمل النار بهم.

وقد حذفت ألف أيه (أيها)؛ ألف التمييز عن الآخرين، والبعد للمخاطبين، لأنه لا محاسب آخر غيرهم ليتميزوا عنهم، والكل يومئذ قريب ثابت في مكانه، يسمع ما يقال له، ومصغ للأمر الذي يصله، فلا حاجة للألف المدية لأجل ذلك.
وقد حذفت ألف أيه (أيها) في موضعين آخرين؛
في قوله تعالى : {وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون {49} الزخرف.
فبعد قتل فرعون للسحرة لم يبق ساحر في نظرهم إلا موسى ولا أحد غيره. فحذفت لأجل ذلك الألف الذي تدل على وجود آخر .
وفي قوله تعالى : {قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ... وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنين لعلكم تفلحون {31} النور.
فلما كان الخطاب موجه للمؤمنين من الرجال والنساء، لم يبق أحد من المؤمنين خارجًا عن الخطاب، فحذفت الألف لأجل ذلك .
وقد ثبتت ألف "أيها" في بقية المواضع؛ في (150) موضعًا آخر في القرآن.
وفي هذه الآية من سورة الرحمن،
لم يقل تعالى أيها الإنس والجن بل قال أيه الثقلان؛ لماذا ؟
لقد جاء تسمية الإنس لتأخر خلقهم عن الملائكة والجن، أو لأن بعضهم يأنس ببعض، فلا تأخير يومئذ ولا أنس،
وجاءت تسمية الجن لخفاء خلقهم فلا يبصرهم الإنس، ويومئذ لا خفاء لهم، وما يخفى على الله منهم من شيء.
فالتسميتان غير صالحتين لأحوال الآخرة.
وكل منهما مثقل بما كسبت يداه في دنياه،
والهم يثقله من رهبة الموقف، وخشية العقاب.

أبو مسلم العرابلي
08/06/2016, 12:06 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {32} الرحمن .
فكما أن الآلاء من النبات يبقى أخضرًا؛
إن قل الماء أو كثر،
وإن اشتد الحر أو اشتد البرد،
فقدرة الله تعالى لا تتغير ولا تتوقف في موقف رحمة
أو في موقف حساب وعقاب،
فبأي قدرة لله يكذب بها الثقلان ؟!

أبو مسلم العرابلي
08/06/2016, 02:15 AM
: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان {33} الرحمن .

في هذه الآيات مسائل عديدة؛
المسألة الأولى: هل الخطاب موجه للجن والإنس في الدنيا أم في الآخرة؟
والصحيح أنه موجه لهم في الدنيا وليس في الآخرة،
لأنه لما سبق الآية التهديد للثقلين وأن الله تعالى سيفرغ لحسابهم، فمن يريد أن يعمل شيئًا ليهرب من الحساب، فليهرب في الحياة الدنيا قبل مجيء يوم الحساب. وليخرج من الأرض والسماوات ويغادرهما قبل ذلك اليوم؛ لأنه سيعاد إلى بطن الأرض وسيخرج منها للحساب؛ لقوله {ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا{18} نوح .
المسألة الثانية: لماذا الخطاب لمعشر الجن والإنس وليس لآحادهم ؟!
النفاذ من أقطار السماوات والأرض يحتاج إلى عمل جماعي، ويحتاج إلى أدوات، ويوم القيامة يأتي كل واحد فردًا، لا يملك شيئًا، حتى أنه لا يملك ملابس تستره، ويفر من الجميع، ولا يطيعه أحد، وحتى أعضاؤه التي فيها قوته لا تطيعه وتشهد عليه،
فكيف يخاطب يوم القيامة بما لا يستطيع، وما لا قدرة له عليه ؟!
المسألة الثالثة : لماذا قدم الجن على الإنس ؟!
لأن الجن لهم قدرة أكبر من قدرة الإنس، ولهم قدرة الارتقاء في السماء لاستراق السمع، ومنهم من له قدرة كبيرة، كقدرة الذي استعد أن يأتي بعرش ملكة سبأ، وقد يكون هناك من لهم قدرات أعظم من قدرته،
ولأن أكثر الجن من الشياطين المستحقين لعذاب الله ... فهم الأحوج لهذا الفرار من غيرهم.
المسألة الرابعة : أن التحدي كان في أمرين؛ النفاذ من أقطار السماوات، والاتجاه فيه إلى الأعلى، والنقاذ من أقطار الأرض، والاتجاه فيه إلى الأسفل، ولكل واحد منهما أحواله وأدواته.
المسألة الخامسة: أن النفاذ ممكن لقوله تعالى "فانفذوا" وجعل له شرطًا "إلا بسلطان"
المسألة السادسة: أن النفاذ هو المرور في الشيء وتعديه لما بعده، وهذا النفاذ يكون في زمن قصير؛ ساعات أو أيام معدودة، ولا يحتاج لمليارات السنين، والله تعالى لا يخاطب الناس ما لا يمكن أن يقدروا عليه في عمرهم القصير وهو الذي قدَّر أعمارهم.
المسألة السابعة: أن النفاذ من أقطار السماوات ممكن بالسلطان، والنفاذ من أقطار الأرض لا يمكن لأنه سيرسل عليهم شواظ من نار.
المسألة الثامنة: أن أقطار البلاد هي الحدود التي ما بعدها لا يعد منها، ولا داخل فيها، أي زائدة عليها، والماء الزائد في الشيء هو الذي يقطر، والقوافل تحمل الزائد ليباع في بلاد تحتاجه، وتأتي بالزائد من البلاد الأخرى فتجلبه لمن يحتاجه، ولذلك سميت القوافل التي تحمل هذه الزوائد بالقافلة لأجل ذلك، وليس لتتابعها، ولا لربط مؤخرة الدابة بمقدمة التي تليها.
المسألة التاسعة: يجب على النافذ أن يحمل من الزائد عنده وليس موجودًا خارج الأقطار، وأهمها الهواء والماء والطعام، وكل مفقود هناك ولا بد منه.
المسألة العاشرة: يجب على النافذ أن يحمي نفسه، والآلة التي تحمله، وكل ما هو معه، حتى يكون سالمًا، في ذهابه وإيابه.
المسألة الحادية عشر: يجب أن يخطط للعودة سالمًا كما يخطط للذهاب، وإلا لن يعود إلى الأرض أبدًا.
المسألة الثانية عشر: أن النفاذ لا يكون بقوة الجسد، بل لا بد من آلة يكون فيها، وقوة دافعة ومحركة لها بقوة،
المسألة الثالثة عشر: أن النفاذ نوعين؛
نفاذ يتعدى الشيء وتنقطع علاقته به، كالتي تخرج من جاذبية الأرض وتنطلق بعيدًا في الفضاء ولا ترجع للأرض.
ونفاذ يتعدى الشيء ويبقى له ارتباط فيه. كدوران الأقمار الصناعية في الفضاء في مدار حول الأرض لاتخرج عن جاذبيتها.
وكل هذا مقارن بنفاذ السهم من الرمية؛ نفاذ يتجاوزه، ونفاذ يظل عالقًا به.
المسألة الرابعة عشر: ما هو السلطان الذي يتم به النفاذ؟
لما كان النفاذ من أشياء مادية، فلا بد من شيء مادي للنفاذ، وليس لحجج وبراهين، وإن تطلب الأمر علوم وقوانين لضبط النفاذ.
السلطان لغة: جمع سليط، والسليط هو زيت السمسم أو زيت الزيتون الذي يستعمل في الفوانيس، والسليط من مادة "سلط" وهي مستعملة في غلبة القليل الكثير بيسر وسهولة، ومنه تسمية الحاكم بالسلطان؛ لأنه فرد يغلب رعيته التي قد تبلغ مئات الملايين وينفذ أمره فيها بسهولة ولا يرد، وقليل من الزيت تشتعل في الفانوس فتغلب الظلام الكثير، ولذلك سمي الزيت المستعمل كوقود بالسلطان جمع سليط،
ولذلك يحتاج النفاذ إلى وقود شديد الحرارة والإضاءة، كقوة دافعة، للتمكن من النفاذ، وهذا الذي حصل ... فلم يستطع الإنسان على النفاذ إلى الفضاء الخارجي إلا بهذا السلطان، وهو الذي حدده الله تعالى في هذه الآية.


اقرأ المزيد عن النفاذ بسلطان وبتفصيل أكثر للآية
على هذا الرابط في المنتدى نفسه
http://www.wata.cc/forums/showthread.php?62939-

أبو مسلم العرابلي
08/06/2016, 02:36 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {34} الرحمن .
لما كان التحدي في النفاذ من شيئين مختلفين،
وكان النفاذ من أقطار السماوات جائز بسلطان،
والنفاذ من أقطار الأرض غير جائز؛
فقد جاءت الآية فاصلة بين النتيجتين،
وفي كل منهما بيان لقدرة الله تعالى في كل شيء.

أبو مسلم العرابلي
09/06/2016, 01:47 AM
: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران {35} الرحمن .

لما كان التحدي في أمرين؛
النفاذ من أقطار السماوات، ويمكن ذلك بالسلطان،
والنفاذ من أقطار الأرض ولا يمكن لأن سيرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؛
يرسل؛ أي يأتي من مكان بعيد، من باطن الأرض العميق،
أما الشواظ من نار؛ فالشَّواظُ والشُّواظُ: اللَّهَب الذي لا دُخانَ فيه يقال لدُخان النار شُواظ وشِواظ ولحرّها شُواظ وشِواظ، وحرّ الشمس شُواظ، وأَصابني شواظ من الشمس.
وقيل: الشُّواظ قِطْعة من نار ليس فيها نُحاس، وقيل: الشواظ لهب النار ولا يكون إِلا من نار وشيءٍ آخر يَخْلِطُه؛
والشيء إذا بلغ من الحرارة أشدها يصبح نارًا،
أما النحاس؛ النِّحاسُ والنُّحاس: الطَّبيعة والأَصل والخَلِيقَة.
ونِحاسُ الرجل ونُحاسه: سَجِيَّته وطَبيعته.
يقال: فلان كريم النِّحاس والنُّحاس أَيضاً،
والنِّحاسُ: ضَرْبٌ من الصُّفْر والآنية شديدُ الحمرة.
ويستخرج بالحرارة الشديدة التي تفصله عن مركباته وتنقيه من الشوائب
والنُّحاس، بضم النون: الدُّخانُ الذي لا لهب فيه؛
لأن الدخان هو أصل النار الذي بقي كما هو ولم يحترق،
وعندما يحترق يتحول إلى نار.
ويَتَنَحَّس الأَخبار أَي يَتَتَبَّع الأخبار؛ لمعرفة أصلها وحقيقتها.
وتَنَحَّس النصارى: تركوا أَكل الحيوان؛
( وكأنهم رجعوا إلى أول أيام مولدهم يشربون الحليب
ولا يستطيعون أكل اللحوم،
وكأن ذلك هو الأصل عندهم الذي يجب التمسك به) .
فالذي يرسل عليهم من باطن الأرض هي المواد التي بقيت على أصلها، لأنها لم تختلط بماء ولا هواء، وهي في غاية الشدة والحرارة،
ونحن نرى الانفجارات البركانية،
التي تخرج عندما تجد لها مخرجًا،
فكيف إذا أوجد لها الإنسان مخرجًا ؟!
فالنفاذ من أقطار الأرض مستحيل للمرور من باطنها إلى الطرف الآخر،
أما بالدوران حولها فيمكن، وهو يحدث كثيرًا.

لكن الأرض سميت بالأرض بسبب وجهها الذي يقبل الماء وينبت النبات، وما تحت الأرض لا يتصف بهذه الصفة، الذي بقي نحاسًا على أصله لم يتغير،
ولذلك لم تثن الأرض ولم تجمع في القرآن، لأن كلام الله تعالى يراعى فيه سبب التسمية، ومطابقة المسمى للواقع. فالطبقات التي في باطن الأرض ليس لها صفة وجه الأرض، لكن في الأحاديث فرجة للتعبير بما يمكن للناس فهمه.

أبو مسلم العرابلي
09/06/2016, 02:04 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {36} الرحمن .
وبعد كل عرض وبيان لقدرة الله تعالى في جعل الأرض فراشًا فوق تلك النار التي تحتها ولا تظهر إلا بالقدر الذي يريده الله تعالى،
وجعل الناس يأمنون فوقها،
وقد جعل فيها منفعة كبيرة كتزود الأرض بالمعادن والأملاح،
فنرى الأرض حول البراكين أرض خصبة،
ويتمسك الناس بها مع وجود الخطر الشديد قربها.
هذا ما تحت الأرض ... وأهوال ما فوقها إذا أتى قد يكون أعظم منها ..

أبو مسلم العرابلي
10/06/2016, 11:16 PM
:{فإذا انشقت السماء
فكانت وردة كالدهان {37} الرحمن

في هذه الآية مسائل محيرة في الجمع بين ألفاظها؛ انشقت، وردة، كالدهان، وكل لفظ منها مقصود لذاته، وكل لفظ يراعى فيه سبب تسميته المبني على استعمال جذره، ويوضع في الموضع الذي لا يصلح فيه غيره، لبيان مراد الله تعالى في الإخبار في أمر غيبي، يمكن إدراكه لوضعه في ألفاظ عربية لها دلالاتها، مع الجمع بين الآية والصور الأخرى التي ذكرت في القرآن عن قيام الساعة.
أولا: الانشقاق من مادة "شقق" : وهي مستعملة في بيان تولد شيء من شيء يخالفه، ويظل ملاصقًا له ومرتبطًا به ارتباطًا شديدًا؛ فمثلا: كانت الأرض صخرة واحدة أو وجهها كله من الصخور، فما زال المطر ينزل عليها ويفتتها وينقل المفتت ويرسبه في المنخفضات منها حتى تكون التراب الذي يقبل الماء وينبت النبات خلافًا للصخور، فشق الله تعالى التراب من الصخر المختلف عنه، وظل ملاصقًا ومغطيًا له؛
فقال تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه{24} أنا صببنا الماء صبًا{25} ثم شققنا الأرض شقًا{26} فأنبتا فيها ...........{27-32} عبس.
والأخ الشقيق المرتبط بشدة مع أخيه في الأب والأم، أما المتربط بأب فقط أو أم فقط فلا يعد شقيقًا.
والذين شاقوا الله والرسول هم الذين كفروا ولم يبتعدوا ويولوا، بل بقوا ملاصقين محاربين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، هؤلاء هم الذين ذكروا بالشقاق.
والبيت الذي يقسم إلى قسمين أو أكثر؛ كل واحد في جهة، لكنها متلاصقة بشدة، ويسمى كل قسم منها شقة.
ومن علامات موت القمر الذي ارتبط انشقاقه بالساعة التي تنتهي فيها الحياة ويموت كل شيء؛ أنه انشق إلى شقين؛ شق يُرى من الأرض بصفة دائمة، وشق لم ير من الأرض بصفة دائمة، ولا نعرف عنه شيء إلا من تصوير الأقمار الصناعية التي دارت حول القمر.
وهناك في المنتدى بحث كامل عن انشقاق القمر ودراسة مطولة فيه.
وفهم انشقاق السماء المكونة من غازات في الآية؛ أنه يتولد منها شيء لا يعد غازًا، مادة سائلة أو صلبة، فغازاتها يمكن أن تتحول إلى أمطار سائلة أو مواد صلبة كالبرد والثلوج،
ولما تتفجر البحار يوم القيامة سينتقل أكثرها ليصبح في السماء، ولما تصبح الجبال هباء منثورًا يملأ السماء،
ولما تضعف قوة الأرض ويصبح الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش، ولا تستطيع جاذبية الأرض أن تحفظ القمر في مداره فيفلت من جاذبيتها فتجذبه الشمس ويجمع معها؛ فأكثر ما يرتفع في السماء يصعب نزوله وترسبه ويستقر على الأرض. ويومها تمور السماء وتضطرب وتتحرك بقوة على وجه الأرض، وليس في الأرض يومها جبال تحجز أو تخفف من حركتها.

أما الورود فهو اتيان الشيء جبرًا أو اضطرارًا، فإن كانت له إرادة فارقه بعد قضاء حاجته ولا يمكث فيه إلا قليلاً.
قال تعالى: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون{23} القصص،
وقال تعالى: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم {19} يوسف. وكان ورودهم اضطرارًا ولأجل قصير.
أما قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا {71} ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا {72} مريم، ولو قال تعالى: {وإنكم لواردوها} لدل ذلك على أنهم جميعًا سيفارقونها؛ {وإن منكم}؛ أي أن المفارقة ستكون لبعضهم فقط، ومن لم يفهم ذلك أنكر الورود بمفهومه للمؤمنين وجعله للكافرين فقط؛ لقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون{71} الأنبياء. ولكن المرور على النار لا بد منه للوصول إلى الجنة.
وقال تعالى عن فرعون: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود {98} هود. {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا {86} مريم. {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها {99} الأنبياء. فهؤلاء ورودهم جبرًا، ولا يملكون القوة للخروج منها.
والورود أن تأتي الشيء وتكون عنده بجانبه أو فوقه كما يقف الساقي فوق البئر ، فإما أن تفارقه بعد ذلك، وإن دخلته وصرت فيه فقد انتهى الورود.

و"الورد" نور كل نبات بأي لون كان، فإن ظهوره يكون لفترة قصيرة، ولونه يجلب الأنظار والحشرات التي ترده لأخذ الرحيق منه، وهو ضروري لتلقيح النبات لأجل تكون الثمار.
وانشقاق السماء يوم القيامة بما تحمل يجعلها وردة تمر على الأرض بقوة، وهذا لأجل قصير وقت قيام الساعة.

أما تشبيهها بالدهان، فلأن الدهان هو ما بل الشيء بأرق ما يكون وكأنه غير موجود، فلا يتراكم، ولا يسيل من كثرة، ويصبح وجه الشيء به ناعمًا زلقًا.
فلا استقرار للسماء على وجه الأرض، تمر عليها باستمرار بقوة وبيسر وسهولة حيث تكون الأرض لا عوجًا فيها ولا أمتًا.

أما القول بأن السماء تتلون بألوان الورد والدهان؛ فلا علاقة لتنوع الألوان بسبب التسمية لهما.

أبو مسلم العرابلي
10/06/2016, 11:38 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {38} الرحمن .
فبأي قدرة لله عظيمة يكذب بها الإنس والجن،
القدرة الذي تغير حال السماوات والأرض
إلى حال عظيم مرعب
يولد في النفس أشد الرهبة
بعد هذا الاستقرار الذي نعيشه الآن.
فيذهل كل واحد حتى عن أشد أعدائه

أبو مسلم العرابلي
11/06/2016, 12:56 AM
: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه
إنس ولا جان {39} الرحمن .
عندما تقوم الساعة ويكون الناس في أهوالها،
فلا يُسأل أي مُذنب عن ذنبه،
فالأمر أعظم من أن يتفرغ أو ينشغل الناس لمحاسبة بعضهم بعضًا،
وإنما تتم المحاسبة للمخطئين والمذنبين
لأنهم أفسدوا أمن الناس وتمتعهم في الحياة بما أحدثوه من أذى،
فلا متعة ولا أمان لأحد يومئذ،
والكل في رعب شديد مما ينتظرهم من الهلاك.
وبناء "يُسأل" للمجهول؛ لغياب المحاسِب وانشغاله عند قيام الساعة.

أبو مسلم العرابلي
11/06/2016, 01:07 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {40} الرحمن .
لما كانت الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وكلهم مذنبون،
والحديث بعد البعث سيكون عن أمثال هؤلاء
الذين قامت عليهم الساعة،
فجاءت الآية بالفصل بين الموقفين،
فجاء الإنكار على المكذبين لقدرة الله تعالى التي
تتجلى بقيام الساعة، والبعث بعدها للحساب.

أبو مسلم العرابلي
11/06/2016, 02:13 AM
: {يعرف المجرمون بسيماهم
فيؤخذ بالنواصي والإقدام {41} الرحمن

يُعرف المجرمون : "يعرف" بالبناء للمجهول؛
لعدم الحاجة لبيان حالهم،
فحالهم ينبئ عنهم ويدل عليهم من غير حاجة إلى شيء من خارجهم،
من الظلامات التي تغشى وجوههم.
والمجرمون: هم الذين عرفوا الحق ثم عدلوا عنه،
وتركوه وعادوه، وهم أشد العتاة،
فنواصيهم اشتغلت بالعداوة لدين الله،
وأقدامهم سعت في محاربة دين الله،
فيؤخذوا من أشد الأعضاء التي أوردتهم هذا المورد.
ونواصي المجرمين تذهب مع أول لفحة من النار
وأقدامهم تبقى وتدوم،
ولذلك فرق الرسم القرآني بين النواصي والأقدام
فحذفت ألف نواصي لأنها لا تدوم،
وثبتت ألف الأقدام لأنها تستمر وتدوم.

أبو مسلم العرابلي
11/06/2016, 02:42 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {42} الرحمن .

وبين الأخذ للمجرمين، ودخولهم جهنم،
جاء الإنكار على المكذبين لقدرة الله تعالى في كل شيء،
ومن ذلك البعث الذي كذبوا به من قبل،
وصدق توعدهم بالعذاب الذي صار أمام أعينهم، وأُخذوا إليه ..

أبو مسلم العرابلي
12/06/2016, 12:34 AM
: {يطوفون بينها وبين حميم آن {44} الرحمن .
الطواف هو استمرار الحركة بلا توقف، مارين على كل جوانبها، فيروا كل ما فيها من ألوان العذاب، فيأتون على الحميم الذي بلغ أقصى حرارة له، ليطفئوا النار المشتعلة فيهم؛ {وقودها الناس والحجارة{24} البقرة، بما يشوي وجوههم؛ {وإن يستغيثوا يغثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه{29} الكهف، ويقطع أمعاءهم؛ {وسقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم{15} محمد.
هذا حال أصحاب النار، على أسوأ ما يكون؛ طواف دائم من الجحيم إلى الحميم، ولما كان الماء يتجمع في أخفض البقاع فوجوده في قعر جهنم، وجهنم هي قعر النار، أعاذنا الله وإياكم من هذا المصير.
وسؤال : من أين يأتي الماء إلى النار؟
الجواب على ذلك: أن منابع الأنهار في الجنة من الفردوس الأعلى؛ جنة المقربين، وتظل تجري على الجنات أسفلها وتتفرع، ولا تزال على ذلك إلى أن تبلغ أسفل الجنة؛ جنات أصحاب اليمين، فيقل ماؤها بما أخذ منها وما تبخر، حتى تكون على آخر أطرافها كما وصف الله تعالى: {وماء مسكوب{31} الواقعة، أي جار على وجهها.
والأرض قبل الجنة وأسفل منها، أرض مفتتة الأجزاء كالرمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: [يعرَقُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حتَّى يذهبَ عرقُهم في الأرضِ سبعين ذراعًا ، ويُلجِمُهم حتَّى يبلُغَ آذانَهم] صحيح البخاري.
فالماء القليل الباقي يتسرب إلى أسفل إلى قعر جهنم، فيخرج لهم حميًا يشوي الوجوه، وينبت فيه شجر الزقوم. ولو بقيت أنهار الجنة على قوة تدفقها في أسفلها كما هو الحال في أعلاها؛ لاندفعت إلى النار وأطفأت جزءا منها، فانتفع به بعض أهلها، الذين يطلبون الماء من أصحاب الجنة؛ {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} {50} الأعراف

أبو مسلم العرابلي
12/06/2016, 12:44 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {45} الرحمن.

هذه قدرة الله تعالى في معاقبة المكذبين،
فالعاقل من يقي نفسه من هذا المصير،
والشقي من علم ذلك، ولم يعمل بما ينجيه،
فيخسر نفسه وأهله يوم القيامة،
أما المؤمنون السعداء من الإنس والجن،
فقد أعد الله تعالى لهم بما وصف لهم من النعيم.

أبو مسلم العرابلي
15/06/2016, 08:49 PM
: {ولمن خاف مقام ربه جنتان {46} الرحمن.

"مَن" اسم موصول نكرة يصلح للمفرد المؤنث والمذكر والمثنى والجمع منهما، والقرينة تدل على أي منها،
فقد يقصد بها المفرد وله جنتان،
وفي ذلك تصورات ومحيره؛
هل هو بين الجنتين، وأين هما من مكانه،
هل تكون واحدة عن يمينه والأخرى عن شماله؟!،
أم تكون واحدة فوقه والأخرى أسفل منه؟!،
أم يكون هو في واحدة منهما والثانية محيطة بها ؟! ...
وقد يكون المقصود بهما فئتان؛
للفئة الأولى جنة، وللفئة الثانية جنة،
وهنا يبرز سؤال: من هي الفئة الأولى؟،
ومن هي الفئة الثانية؟ ،
وما الفرق بينهما؟!
في السورة ؛ 31 آية تكرر توجه الخطاب فيها إلى الإنس والجن؛
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}
وفي السورة؛
: جرى الحديث عن خلق الإنسان، وخلق الجان،
: وتهديهما بالفراغ لحسابها؛ {سنفرغ لكم أيها الثقلان}
: وفي السورة خوطب معشر الجن والإنس بالنفاذ من أقطار السماوات والأرض.
: وفي السورة عند قيام الساعة لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان.
: وفي السورة جرى الحديث أن الحور العين لم يطمثهن إنس ولا جان.
فإذا كان بعض الإنس يدخل الجنة، والباقي يدخل النار،
فهل كل الجن يدخل النار ؟
فقد قال تعالى عن الجن : {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به، فمن يؤمن بربه فلا بخاف بخسًا ولا رهقًا{13} الحن.
وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين {29} الأحقاف.
فأين مصير مثل هؤلاء .... هل غير الجنة لهم مصيرًا ؟!
وهل ما يناسب الإنس في الجنة يناسب الجن أيضًا ؟!
أم لكل منهما ما يناسب خلقه ؟!
فلكل واحد منهما جنة تناسبه؟
فلمن خاف مقام ربه، أي يوم الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب جنتان؛
جنة للإنس، وجنة أخرى للجن.
وهذا ما أدين به لله تعالى في فهم الآية.
لا يفهم أحد أن الجنتان منفصلتان؛ واحدة في الشرق وواحدة في الغرب،
والجنة عامة فيها جنات كثيرة، وفيها مائة منزلة، وفي كل منزلة جنات،
وللجن جنة أو جنات تخصهم وتناسب فطرتهم التي فطرهم عليها،
فإن اشترك الجن والإنس في بعض الخصائص، فقد اختلفوا في الكثير منها،
وهم خلقوا من نار والإنس خلق من طين.

أبو مسلم العرابلي
15/06/2016, 10:50 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {47} الرحمن.
فبأي قدرة من قدرات الله تعالى
التي تبسط النعيم والمتعة ،
وتحفظ من الشرور والأخطار
يكذب بها الإنس والجن

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 12:55 AM
: {ذواتا أفنان {48} الرحمن.

ذواتا مثنى ذوات وذات المخففة، وذات مؤنث ذو، وهو من الأسماء الخمسة، وهو اسم يشير إلى المذكور بكل ما يحمل من صفات، ونبات الجنة من صفاته الدائمة أن له أفنانًا دائمة.
للنظر إلى أخوات الجذر "فنن" التي فيها الفاء والنون وأحد حروف العلة، وعلى ما اجتمعت عليه؛
أفن الناقة والشاة: حلب كل ما في الضرع،
وفنى القوم: ذهب كلهم
وفنن: الوفنة القلة في كل شيء، أي ذهب جله ولم يبق من إلا القليل.
اليقن : الشيخ الفاني
الفينة : الحين، والزمن لا ثبات له يفنى ويحل غيره محله، يقال أتيته الفينة بعد الفينة؛ أي الحين بعد الحين.
الفون : في التهذيب : التفون البركة وحسن النماء (للمتجدد)، وكل نماء بعد حين إلى الفناء.
فنن الرجل: إذا فرق إبله كسلا وتوانيا.
الفنن: الفن واحد الفنون، وهو الحال والضرب من الشيء ، والجمع أفنان وفنون، وتفنن: تنقل من حال إلى حال في الكلام المشتق وغيره يتوسع فيه ويتصرف، فلا يثبت على حال واحد، وفنه: طرده،
فهذه المواد اجتمع فيها حرفان صحيحان: الفاء والنون، ومعهما أحد حروف العلة في أولها أو وسطها أو آخرها، وقد اجتمعت على معنى الفناء وعدم الثبات لها أو ثبات حالها.
والفن، الغصن، جمع أفنان، وحالها أنها تتحرك بكثرة مع الريح، وأنها متجددة دائمًا، وتتجدد مع تجددها الأزهار والثمار، ويمكن أن يكثر فيه الألوان، أو تتغير ألوانها مع مراحل نموها،
ولما كان الحديث عن جنتان في اعلى منازل الجنة، ومع العلو صلح أن يكون النظر إلى أعلى، والنظر إلى أعلى يكون إلى أفنان الشجر، ثم الماء القادم من العيون، ثم الثمر، قبل تحول الحديث إلى ما هو أسفل.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 01:17 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {49} الرحمن.

فتذكير جديد للمكذبين من الجن والإنس بآلاء الله الكثيرة، ومنها هذه الخضرة الدائمة والعطاء الدائم في الجنة من أفنان الأشجار التي لم تسم بأشجار ولو لمرة واحدة، لأن الشجر سمي باسمه بسبب أنه وقف على ساق وابتعد عن الأرض، وكل هذه المادة (شجر) في البعد، ودار الجنة دار إقامة دائمة لا بعد عنها، فلم يصلح أن يسمى نبات الجنة بالشجر، بسبب تسميته من البعد، ولم يذكر من الشجر إلا الشجرة التي أبعدت آدم عن الجنة، وأبعدت عنه لباسه بعد الأكل منها، فلما ناسب ما حدث له من البعد تسمية الشجرة بالشجرة، ذكر اسمها الدال على صفتها.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 01:32 AM
: {فيهما عينان تجريان {50} الرحمن.

العين اسم مشترك لأشياء عديدة، وهي من مادة "عين" وعون" وكلاهما في المساعدة والإعانة بلا تكلفه،
فعين الإنسان؛ أكبر معين له، تأتيه بأخبار القريب والبعيد في مكانه، من غير تكلفة ومشقة وتعب.
وعين الماء؛ تأتيك بالماء الذي يخرج منها ويجري أمامك، من غير تكلفة ومشقة، كالتي تحصل من إخراج الماء من الآبار.
والعين؛ الجاسوس التي يأتيك بأخبار العدو وانت سالم من مخاطر الذهاب إلى العدو.
والعين؛ وجيه القوم الذي يأتي لقومه بالمنافع، ويدفع عنهم المخاطر، بلا تكلفة يتكلفونها.
وماء العين تأتي إليك جارية من الأماكن الأكثر ارتفاعًا من موضعك، وناسب ذلك أن تذكر بعد النظر إلى الأفنان، وحاجة هذه الأفنان للماء لتبقى على جودة عطائها، ودوام الجريان مع دوام العطاء والخضرة لأشجار الجنة.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 01:41 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {51} الرحمن.
فتذكير آخر للمكذبين من الإنس والجن
لآلاء الله تعالى التي تذكر واحدة بعد الأخرى،
وما أكثرها، وما أعظم نفعها، سواء أكانت عطاء أو دفعًا.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 11:00 AM
: {فيهما من كل فاكهة زوجان {52} الرحمن.


في الجنتبن فواكه كثيرة، وهي التي تؤكل تلذذًا لا للشبع،
ومن كل فاكهة زوجان؛ واحدة للإنس تناسبه، وواحدة للجن تناسبه،
فالعدل في النعيم بين الإنس والجن، في العدد والأنواع،
مع مراعاة ما يناسب كل جنس منهما.
فمن عادى الإنس من الجن حرم أن يكون معهم
ومن كان على ما كان عليه الإنس من الهدى والتقى
كان رفيقًا لهم في الجنة

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 11:05 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {53} الرحمن.

فبأي بسط لقدرة الله تعالى من النعيم للإنس والجن
يكذبون وبهذا التنوع في الفاكهة الكثيرة،
وجعل لكل منهما ما يناسب فطرته التي فطره الله تعالى عليها

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 12:28 PM
: {متكئين فيها على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنة دان {54} الرحمن.


بعد الحديث عما فوق أصحاب الجنة
من الأفنان العالية
والفواكة المعلق في أشجارها،
والعيون القادمة من أعلى،
يأتي الحديث عما أسفل منهم وتحتهم
هم متكئون على فرش، فحالهم ليس كأصحاب النار
بين الحجيم والحميم يطوفون
ومن فوقهم ومن تحتهم ظلل من النار.
إنهم متكئون على فرش
والتوكأ يعني التمكن من الجلوس كان قاعدًا
أو مائلاً على أحد شقية ومستندًا على مرفقه،
ويكون الاتكاء لأجل طعام أو شراب أو حديث،
: {وأعتدت لهن متكأً وآتت كل واحدة منهن سكينًا{31} يوسف.
والاتكاء على العصا، التحامل عليها،
لتمكين صاحبها في الوقوف أو السير.
وهذا الاتكاء على الفرش هو في مجالس أصحاب الجنة،
والفرش هي الأثاث الذي يطوى ويرفع عند الانتهاء من استعماله،
ومن ذلك سميت الفراشة لأنها تطوي أجنحتها عندما تقف وتنهي طيرانها.
ودلالة ذلك أن هذا الاتكاء على الفرش ليس دائمًا إنما هو متكرر؛
لئلا ينشغلون في لقاءاتهم فيطول بعدهم عن أهاليهم. مع أن بعض الحور العين حولهم.
وكون الفرش تطوى، قد تغير وتبدل باستمرار ليزداد تمتعهم في الجنة،
وهذه الفرش بطائنها من استبرق،
وفي هذا دلالة على رقة وجوهها وظاهرها،
فهي تكشف عما تحتها من بطائن الفرش،
والإستبرق من مادة "برق" وهي التي تظهر أمام العيون، وخفيه بين الغيوم،
ومن شدة ظهورها ورقة ما فوقها، كأنها ظاهرة للعيان بلا حجاب،
ومن كمال مدح الشيء أن تمتدح ظاهره وباطنه،
ولا نعرف كم هي ألوان الاستبرق وجمالها،
ولماذا لم يُصرح بالظاهر وتسميته بالسندس ؟!
فإني أرى أن النون في السندس زائدة، والجذر هو "سدس"
وتسميته جاءت لأنه يرى من الجهات الستة لرقته وشفافيته،
ولا يصلح لباسًا لأصحاب الجنة دون الإستبرق؛ لأنه سيكشف عندئذ عوراتهم،
والفرش هي تحتهم وفوق الأرض، فلا ترى من كل جوانبها،
والقرآن الكريم يراعي سبب التسمية عند استعمال الألفاظ، وهذا الحال لا يناسب التسمية،
فلم تذكر. السندس الذي فوق الاستبرق، وقد يكون غير ذلك.
لكن ذكر الباطن (الإستبرق) دل على وجود الظاهر الذي لا بد منه،
والسندس لونه أخضر، وهذا اللون خاصة يركب عليه كل الألوان،
ويؤثر فيها وكأنه غير موجود،
وأهل التصوير التلفازي يلجؤون إليه، ثم يركبون عليه الخلفيات التي يريدون،
وذكر البطائن بالجمع لكثرة تنوعها،
والباطن هو الذي مازال الجهل به كليًا أو جزئيًا، والظاهر هو الذي انتهى الجهل به،
والإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وكلما تعلم شيئًا انتهى الجهل به،
وما لم يتعلمه يستمر على حاله، مجهولا لديه،
والرسم القرآني أثبت ألف باطن لامتداد الجهل به،
وحذف ألف ظاهر لانتهاء الجهل به، فقد فرق الرسم بينهما تبعًا للمعنى،
فلا يعرف أصحاب الجنة عن باطنها إلا هذه الألوان التي تصدر منها،
وأبعد ما يكون أصحاب الجنة عن ثمارها حال اتكائهم،
فجاء التنويه بدنو ثمارها،
والجنى هي الثمار، من مادة "جنو"، أخت "جنن"،
وكلها تستعمل في الحديث عن ستر الأشياء المعلومة،
فأكثر هذه الثمار مكنونة بين الأوراق والأفنان،
وهذا ما يدفع النفس للتطلع إليها، والرغبة فيها،
والدنو قرب وإحاطة، وليس القرب فقط
وإنما الدنيا سميت باسمها لإحاطتها بالناس جميعًا.
ولما دنا جبريل من محمد عليهما السلام في غار حراء،
أحاطه بذراعيه، كأنها قابًا واحدُا لقوسين.
وأدنى الأرض المنخفضة التي يحيط بها ما ارتفع من الأرض
من كل جوانبها.
وثمار الجنة دانية؛ أي محيطة بهم، فهي في كل الجهات حولهم،
وهذا يدل على شدة القرب وسهولة الوصول إليها حيثما توجهت،
ونسأل الله تعالى أن نرى ونعيش هذا الذي أطلعنا عليه،
وأن تشملنا رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وحسن أولئك رفيقًا.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 01:16 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {55} الرحمن.

هذا عطاء الله الدائم الذي بسطة الله تعالى لأصحاب الجنة،
فبأي قدرة لله في بسط قدرته وعطائه يكذب بها الإنس والجن؟ !

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 11:34 PM
: {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن
إنس قبلهم ولا جان {56} الرحمن.

الطرف هو حد إرسال البصر، فيقصر ويطول، وليس الطرف هو العين،
قال تعالى: {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء {53} إبراهيم،
فليس شيء يطمئن نفوسهم لترد العين طرفها وتسكن،
وقال تعالى: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك {40} النمل،
وقول الشاعر: إن العيون التي في طرفها حور ...
أي في إرسالها النظر أحاطت به من شدة المراقبة له والاهتمام به،
أو أن صحة البيت: في طرفها حول؛
أي تحرف نظرها عنه وهي مهتمة به وتراقبه،
والطرف لا يوصف ببياض ولا سواد؛ لأنه ليس شيء،
ومن جعلا الطرف هو العين فقد أخطأ
ولا توصف الحور في الجنة بقاصرات الطرف إلا في جمع الرجال،
فكل واحدة تقصر نظرها على زوجها،
وأنه سبب وجودهن هو وجود أزواجهن حيث يتكئون،
فليس جلوسهم هو تجمع للذكور كما في الدنيا بسبب تحملهم
لمسؤوليات لا تكلف بها النساء. فلا تكاليف في الجنة.
وهن بكر لم يسبق لهن الزواج، فلا يعرفن من الرجال إلا أزواجهن،
فلا مقارنة عندهن تفسد طبعهن، وليس لهن ماض ينغص أزواجهن،
وهذا من تمام التمتع بهن.
وللإنس حور، وللجن حور أيضُا يبينه هذا النفي؛
أنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
وأن المعاشرة في الآخرة هي كالمعاشرة في الدنيا
وقوله تعالى "فيهن"؛ أي في الجنتين،
و"في" تستعمل مع الحركة والتنقل، فلها دلالات عديدة في الآية؛
نفي الكسل عنهن بهذه الحركة والنشاط،
وأنهن لا يدم دوام الرجال في مجالسهم، أو لتبادلهن في حضور المجالس،
ومن يؤتى إليه أكرم من أن يذهب هو إلى غيره،
وأنهن حلقن للتمتع بهن، وأنهن طائعات لينات؟،
وأنهن من كثرتهن وتنوع جمالهن، لا تحصيهن نظرة واحدة،
فيتنقل النظر بينهن، وإن كان ذلك بعيدًا،
أو أن ينتقل النظر في كل واحدة منهن لحس كل شيء فيهن.
.

أبو مسلم العرابلي
16/06/2016, 11:40 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {57} الرحمن.
فبعد كل نعمة بسطها الله تعالى لعباده المؤمنين،
يأتي التذكير بتكذيب الإنس والجن لآلاء الله عز وجل،
فيحرموا بهذا التكذيب من هذا النعيم والمصير الحسن في الجنة.

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 01:10 AM
: {كأنهن الياقوت والمرجان {58} الرحمن.

الياقوت من أثمن الأحجار الكريمة، بجانب الألماس، والزمرد، والياقوت الأزرق، ولونه بين الأحمر القاني والأحمر الفاتح. ودرجات ألوانه كثيرة.
والمرجان، يضاف إلى الأحجار الكريمة، ولونه بين الأبيض والوردي والأحمر،
وخلقه خلط بين النبات والجماد، ولذلك سمي بالمرجان، وهو في النهار صخر، وفي الليل يتفتح ويصبح نباتًا يتأرجح مع تحرك الأمواج.
معدن الياقوت صلب، والمرجان لين رخو يحتاج الحذر في التعامل معه.
الياقوت يستخرج من صخور البر ، والمرجان من أعماق البحر،
فهل هذا الاختلاف في المشبه به للتفريق بين الحور العين؛
ما كان للإنس منهن وما كان للجن ؟!
فاللائي كالياقوت هن حور المؤمنين من الإنس.
واللائي كالمرجان هن حور المؤمنين من الجن.
والكل منهن تخلق ببطء شديد ولهن ألوان جذابة جميلة.
والقول أن المرجان هو صغار اللؤلؤ
استشهادًا بقول امرئ القيس؛
فأَعْزِلُ مَرْجانَها جانِباً،
وآخُذُ من دُرِّها المُسْتَجادا
إنما هو يفضل اللؤلؤ على المرجان،
وكلاهما يكثر في مواضع اختلاط الماء العذب من ينابع بحرية بالمالح.
وقد وضحناه سابقًا في شرح الآيات (20-22) من سورة الرحمن.
أما قول الأخطل الذي يستشهد به كذلك؛
وبيت الأَخطل حجة للقول الأَول:
كأَنما الفُطْرُ مَرْجان تساقِطُه،
إِذا عَلا الرَّوْحقَ والمَتْنَينِ والكَفَلا
فإن الفطر له شكل المرجان في البحر وكأنه مظلة مبسوطة.
ولا دلالة فيه على أنه اللؤلؤ.

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 01:13 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {59} الرحمن.
فبعد هذا الإعداد للمؤمنين يكذب الإنس والجن بآلاء الله تعالى
ليحرموا من هذا النعيم وما أعد لهم من الجزاء والثواب والطيبات.

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 01:41 AM
: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان {60} الرحمن.

الجزاء هو ما يقتطع من الخير كمكافأة على عمل حسن،
أو يقتطع من العقاب على عمل سيئ.
وهل ما حصل عليه المؤمنون من الإحسان في الجنة،
وهو أجود ما يكون، إلا بسبب إحسانهم في الدنيا،
وأنهم أتوا بعبادة الله على أحسن وجوهها في الأداء والإخلاص،
وقد أدوها وكأن الله تعالى يراهم ويرونه، ولم تنشغل قلوبهم بغير الله تعالى.
فهنيئًا لمن فاز في هذه المنزلة العالية في الجنة، في الفردوس الأعلى.
فعلى قدر ما تكون قريبًا من الله تعالى في الدنيا
تكون في منزلة أقرب إلى الله تعالى تحت ظل عرش الرحمن.

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 02:17 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {61} الرحمن.

فبعد الحديث عن جنتين في أعلى الجنة،
يأتي الحديث عن جنتين في أسفل الجنة،
وبين كل خبر وذكر لنعمة من نعم الله الكثيرة
يأتي الاستنكار التقريعي لتكذيب الإنس والجن بآلاء الرحمن.
وإنكار قدرة الله تعالى على البعث، وأنكروا معه الجنة والنار،
وكان تكذيبهم هو السبب في حرمانهم من هذه النعم في الجنة

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 02:37 AM
: {ومن دونهما جنتان {62} الرحمن.

الشيء الذي يكون "دون" هو الذي تمر عليه وأنت مستمر في السير،
كذلك الدَين الذي تستقرضه ليستمر حالك ولا تتوقف.
والدِين هو الذي تستمر عليه وتلتزم به أيًا كان.
ويوم الدين: اليوم الذي تستمر فيه الحياة مرة أخرى بعد توقفها عند قيام الساعة.
وكل من يدخل الجنة يدخلها من أسفلها ثم يستمر في ارتقائه إلى المنزلة التي كتبت له.
فهاتان الجنتان قد مر عليه أصحاب الجنتان السابقتان،
وهما كذلك واحدة للمؤمنين من الإنس، الأخرى للمؤمنين من الجن،
أي أن المؤمنون من الجن يوزعون على منازل الجنة كما يوزع إخوانهم من الإنس.
ولما كانتا هاتان الجنتان أسفل الجنة، فصفاتهما هي دون السابقيتن.
والنظر إليهما هو من أعلى إلى أسفل،
وكان التدرج في النظر إلى أعلى إلى الأفنان،
ثم العيون الجارية القامة من أعلى الجنة،
ثم الفاكهة فوق رؤوسهم،
ثم الفرش أسقلهم،
ثم الحور العين التي تحت أيدهم،
ثم وصفهن بالياقوت المستخرج من بواطن صخور البر،
والمرجان المستخرج من قاع البحار،
ثم إلى الأسفل البعيد إلى هاتين الجنتين،

أبو مسلم العرابلي
17/06/2016, 02:40 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {63} الرحمن.

وهذا تذكير آخر جديد بآلاء الله التي يكذب بها الإنس والجن،
وما أكثر تكذيبهم لآلاء الله عز وجل.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:00 PM
: {مدهامتان {64} الرحمن.

النظرة إلى الجنتين هو من أعلى إلى أسفل،
ومع شدة الخضرة واتصال الأشجار لأن أهل الجنات في ظل ممدود،
وبعد النظر، فتبدوان سوداوتان،
والأدهم هو الأسود،
ودهمهم : فاجأهم وغشيهم،
وتعظم المفاجأة إلى خرجوا عليهم في ظلمة وسواد الليل.
أما في الجنتين السابقتين،
كانت النظرة إلى أعلى، كانت إلى الأفنان.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:04 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {65} الرحمن.

تذكير جديد للمكذبين من الإنس والجن بآلاء الله
بعد هذا الوصف العظيم للجنات في الأسفل
بنظرة من الجنات في الأعلى
التي سبق الحديث عنها

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:07 PM
: {فيهما عينان نضاختان {66} الرحمن.

ولما كانت النظرة من أعلى إلى أسفل مع البعد،
فلا يرى من الماء في الجنتين إلا ما كان مندفعًا بقوة كنافورة إلى الأعلى،
ونظاختان؛ أي فوارتان،
وهذا ما يمكِّن أصحاب الجنات العليا أن يراهما، بينما الماء الجاري تحتهما لا يرى.
وقد تحدثنا عن سبب تسمية العين،
وقلنا بأنها التي تأتيك بالماء ولا تستخرجه أنت منها.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:13 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {67} الرحمن.

وهذا تذكير جديد واستنكار وتقريع للمكذبين من الإنس والجن لآلاء الله تعالى،
بعد ذكر العينان النضاختان اللتان تريان من بعد شاسع،
بمنظر لم يعرفه البشر من قبل،
فما بين كل جنة وجنة كما بين السماء والأرض.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:20 PM
: {فيهما فاكهة ونخل ورمان {68} الرحمن.


ذكر الله تعالى في هاتين الجنتين "فاكهة" نكرة،
ولم يذكر كما في الجنتين السابقتين {فيهما من كل فاكهة زوجان}؛
لأن رؤية الفاكهة تظهر من الأسفل والجانب، وعن قرب أكثر من أعلى،
وهاتين الجنتين بعيدتان عن النظر، ففاكهتما نكرة مقدرة لأصحابها،
ولأن ما عندهم مثل ما عند هؤلاء في الأسفل وخير منه، فلا حاجة ولا رغبة بما فيها.
لكن الشجر الطويل كالنخل يظهر للناظر من أعلى، لأنه يتميز باتفاعه،
وإذا كان زهر شجر الفاكهة يجذب النظر من بعد للونه وكثرته كالرمان،
فيمكن مشاهدته أيضًا من أعلى،
فخص الله تعالى هاتين الشجرين دون البقية لهاتين الصفتين فيهما.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:31 PM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {69} الرحمن.


وهذا أيضًا تذكير وإنكار وتقريع للمكذبين من الإنس والجن بآلاء الله عز وجل،
بعد ذكر بعض نعيم الجنة من الفاكهة والنخل والرمان،
المقدر رؤيتها من أعلى من المنازل العليا،
ودائمًا يذكر من أشجار أصحاب الجنات الدنيا ذات الثمار الكثيرة،
وذلك لكثرة أصحاب اليمين، وقلة المقربين في الأعلى.
سدر،
طلح "الموز"
نخل،
رمان،
وحتى تنكير اسم فاكهة لإطلاق الخيال لعددها وأنواعها التي لا تحصى.

أبو مسلم العرابلي
19/06/2016, 11:36 PM
: { فيهن خيرات حسان {70} الرحمن.

في الجنتين خيرات حسان؛ أي نساء حسان، ولفظ نساء لا يصلح استعماله في الجنة، لأنه قائم على صفة تأخير النساء عن الرجال في القوامة وتحمل التكاليف التي لا وجود لها في الجنة، وخير؛ اسم صفة للمبالغة، وحسان؛ أي على أفصل حسن في الوصف.
والمرأة الخيرة تظهر خيرتها وتعظم مع دنو حال زوجها، بسبب الرضا وتحمل المسؤولية معه، ووجودهن في أدنى الجنة لم يكن بسبب قلة عمل الحسنات، فهن لم يكن من أهل الدنيا، ولكن حكم الله هو الذي جعلهن أزواجًا لأصحاب هذه الجنات، فصلح الوصف لهن مع أصحاب أدنى الجنات هذه، مقارنة بمن هو في الجنات العلى، وليس ذلك بسبب الحرمان، بل بسبب الفارق الكبير بين أعلى الجنة وأسفلها. وقد أحسنَّ العشرة لأصحاب هذه الجنات فوصفن بالحسان.
وأدنى منازل الجنة فيها لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي خير من الدنيا وما فيها، وقد يكون الفارق بينها وبين جنات الدنيا أعظم بكثير من الفارق بينها وبين الجنات العليا ... والله تعالى أعلم.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 12:03 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {71} الرحمن.

وهذا أيضًا تذكير وإنكار وتقريع للمكذبين من الإنس والجن بآلاء الله عز وجل،
بعد ذكر صفات أزواج أصحاب الجنتان من الإنس والجن.
من الخيرة والحسن، خلقًا ومنظرًا مع كثرتهن،
وندرة اجتماع ذلك في نساء الدنيا إلا من رحم الله تعالى منهن.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 12:05 AM
: {حور مقصورات في الخيام {72} الرحمن.


وهؤلاء الخيرات الحسان هن حور العين،
ووصفهن بالحور لالتفافهن حول أزواجهن،
وشدة قربهن منهم، وملازمتهن لهم بكل ما يريدون ويطلبون،
ولا يلتفتن لغيرهم، وهن مقصورات في الخيام فلا يخرجن لأزواجهن،
بل أزواجهن يأتون إليهن،
ولا شك أن من تأنيه الحور في مكانه كما في الجنات العليا السابقة،
أكرم حالاً ممن هو يذهب هو إليهن،
ولما كانت هاتان الحنتان في أسفل الجنة،
وسيمر عليهما كل من كان منزلته في الأعلى،
وأزواجهن من المتأخرين في دخول الجنة،
ومن يمر غرباء عليهن،
فكن مقصورات في الخيام لا يظهرن حتى يدخل أزواجهن الجنة،
فجاء السياق لبيان الفارق بين أصحاب هذه الجنات بين أعلاها وأدناها.
ولما كانت هاتان الجنتان أسفل الجنة، وأقرب إلى النار،
وذكر القرآن مناداة كل منهم للآخر،
والأسفل دائمًا أشد دفئًا أو حرارة من الأعلى،
كما بينته سورة الواقعة في الحديث عن أهل اليمين،
وهم الذين في أسفل الجنة،
وذكر عندهم السدر والطلح وهما من أشجار المناطق الحارة،
فكان ذكر الخيام مناسبًا لهذا الحال.
والنجاة من النار في الآخرة نعمة عظيمة،
ودخول الجنة نعمة أخرى عظيمة،
وأعظم من ذلك الوصول إلى أعلى الجنة،
وبيان هذه الفوارق ليطمع العاملين بالفردوس الأعلى،
ويعملوا ويعدوا عدتهم لأجل بلوغ ذلك،
ويكونون من أصحاب الهمم العالية.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 01:01 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {73} الرحمن.

وهذا أيضًا تذكير وإنكار وتقريع جديد للمكذبين من الإنس والجن بآلاء الله عز وجل،
فبعد ذكر الخيام .. وهي مما يحتاج في المناطق الحارة أكثر بكثير من الباردة،
وذلك لبيان الفارق بين أعلى الجنة وأسفلها، ويشملهن الظل الممدود،
والتزام أزواج أصحاب الجنتين فيهن،
هو من ذكر الكرامات الكثيرة لأصحاب الجنات.
وما كثرة هذا التقريع إلا لكثرة الكافرين المكذبين لآلاء الله تعالى

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 01:08 AM
: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان {74} الرحمن.


فأزواج أصحاب هاتين الجنتين هن في الحال من البكارة والعمر والجمال
كحال أزواج أصحاب الجنتين السابقتين في أعالي الجنة.
والابتداء بذكر الجنتين في الأعلى إنما هو لعلو منزلتهما،
ولأن من وصل الأعلى عرف الأدنى،
ومن ظل في الأدنى لا يعرف شيئًا عن الأعلى.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 01:20 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {75} الرحمن.

وهذا أيضًا تذكير وإنكار وتقريع آخر للمكذبين من الإنس والجن بآلاء الله عز وجل، وما أكثرهم،
وذلك بعد ذكر أزواج أصحاب الجنة، وأنهن أبكارًا ،
خالصات لأصحاب الجنتين، ومطهرات من كل ما يعترض النساء في الدنيا،
أيقابل هذا الإعداد لأصحاب الجنات، بالتكذيب الذي وراءه خسران الأهل وخسران النعيم، ؟!
ولا بديل له إلى عذاب شديد ،
فمن لم يكن من أصحاب الجنة،
كان من أصحاب الجحيم .

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 01:28 AM
: {متكئين على رفرف خضر
وعبقري حسان {76} الرحمن.


هناك فرق بين الاتكاء في مجالس الرجال، والاتكاء عند الزوجات،
لقد كان الاتكاء في مجالس الرجال في الجنتين العلويين على فرش تمد ثم تطوى وترفع،
أما الاتكاء في خيم الزوجات فكان على رفارف،
ومن اسمه تعرف أن له قابلية الحركة والاهتزاز، وهذا ألين للجلوس والتمدد عليه،
ولونه الأخضر أستر الألوان المريحة للنظر، وغير جالب للنظر من بعد فيعرف من هو عليه.
وعبقري حسان: بسط وفرش مزينة مزركشة في غاية الحسن في المنظر والحبك،
وكل شيء يبالغ فيه ويحتار فيه يوصف بالعبقري،
والعبقر يقال عنها أرض للجن،
والذي أراه كأن شدة صنع الشيء والعجب منه،
أن صنعه لا يستطيعه الإنس فنسب للجن، من شدة المبالغة،
وما في الجنة هو أغرب وأعجب مما رآه البشر أو عرفوه من قبل في الحياة الدنيا.

وعبقر؛ قد يكون اسم مركب من اسمين، وقد يكون فيه حرف زائد،
والشرح التالي مقتضب، والمقام يضيق عن بيانه كما ينبغي؛
فإن كان الزائد الراء "عبق" فهو من فوح وانتشار الطيب.
والتزام الرائحة الفواحة منها فلا تفارقها.
وإن كان الزائد الباب "عقر" فهو من الاستقرار والثبات والدوام للرفرف.
وعدم الخروج عنها لسعتها وشدة صنعها ومتانة حبكها.
وإن كان الزائد القاف "عبر" فهو من الوصول لمبتغى الاتكاء من الراحة واللذة.
وثباتهم وتمكنهم على هذه الرفارف.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 01:55 AM
: {فبأي آلاء ربكما تكذبان {77} الرحمن.

وهذا التذكير والإنكار والتقريع الأخير للمكذبين
من الإنس والجن بآلاء الله عز وجل، ... وما أكثرهم،
وذلك بعد الإتكاء الدال على غاية الراحة والتفرغ من أي عمل وانشغال،
والاستقرار مع الأزواج في خيم لا تقارن بخيام الدنيا،
لا في صنعة ولا في هيئة، ولا في حسن وزينة،
ولم تقم هذه الخيام لحاجة كحوائج الدنيا،
وإنما إقامتها لتمام النعمة واللذة والتنوع لأصحاب الجنة،
فيا أيها المكذبون الضالون ...
كم أنتم تحرمون أنفسهم . بهذا التكذيب ... من نعيم وأمن وسلامة .. !
وليس له بديل إلا ... عذاب شديد وقهر وخلود في النار!
أعاذنا الله تعالى وإياكم من كل ذلك ومصير كمصير هؤلاء المكذبون.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 02:31 AM
: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام {78} الرحمن.

البَرَكة: الاستقرار والاستمرار؛
ومن ذلك البِركة لما يستقر من ماء السيل،
والأرض المباركة التي يستقر بها أهلها لكثرة خيراتها،
ولا يقال بركت الناقة إلا للتي قرت في مربضها عن شبع،
فكانوا إذا أرادوا حلبها أنهضوها، ثم تبرك ثانية في مكانها.
وتاء "تبارك" أرجعت البركة إلى الله عز وجل وحصرتها به وحده؛
لأنها في أمور عظام،
وألف تبارك؛ ألف مشاركة؛
فالفعل من الشيء، والقانون الذي يسير عليه من الله
ذي الجلال: العظيم الذي يغطي بعطائه حاجات الناس ويثبتهم بها،
وإكرامه لهم زيادة فوق ذلك،
ومشاركة الناس فيها مشاركة انتفاع فقط،
وقد جاءت الآية في ختام تعداد نعم الله تعالى
وآلائه الكثيرة في الدنيا والآخرة،
واستيعاب تنـوعها في كامل سورة الرحمن؛
وتكرار الاستفهام الإنكاري في إحدى وثلاثين مرة على المكذبين
بهذه الآلاء من الجن والإنس: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}،
فليس بعد هذا من بركة يذكرون بها
ليستقيم أمرهم على توحيد الله وطاعته؛
ولحصر الفعل فيها لله تعالى وحده فقط؛
سقطت من "تبارك" ألف المشاركة.
في هذا الموضع وفي أول سورة "تبارك"
وثبتت في المواضع السبعة قبلهما.
وبذلك تم الانتهاء من النظر في سورة أحبها،
وشغلت قلبي وملأت فكري، بكلماتها وألفاظها، ونظمها.
وقد قدم الله تعالى "ذو الجلال والإكرام " على "ذي الجلال والإكرام"
لعلو الرفع على النصب والجر.
وما كتبته هو بعض تجلياتها،
ومن المحال الإحاطة بكل ما فيها.
والحمد لله رب العالمين.

أبو مسلم العرابلي
20/06/2016, 02:39 AM
أسأل الله تعالى أن ينتفع كل من يقرأ هذا الذي
كتبناه عن هذه السورة العظيمة الجليلة
وأن ينفعنا الله تعالى بأجر ما كتبنا
ولم نبتغ به إلا وجهه الكريم
وحبي وعشقي لكتابه الكريم
بكل آياته وكلماته وحروفه بحركاتها
إنه هو الغفور الرحمن الرحيم

أبو مسلم العرابلي
22/08/2016, 08:20 PM
الرحمن اسم من أسماء الله الخاصة
التي لا يتسمى بها أحد من خلقه
ولذلك حذفت ألف الرحمن التي بعد الميم
في الرسم القرآني
كما حذفت في اسم الجلالة "الله" التي بعد اللام الثانية
والقاعدة العامة في حذف الألف من اسماء الأعلام
لله تعالى ولغيره
إذا كان الاسم خاص به لا يشاركه فيه أحد
ما لم تكن هناك أسباب أخرى تراعى أيضًا