المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حلقة جديدة من كتابى: "من كُتّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد - محطات على مسيرتى الروحية"



إبراهيم عوض
09/10/2016, 02:28 AM
حلقة جديدة من كتابى: "من كُتّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد - محطات على مسيرتى الروحية"

د. إبراهيم عوض

وقد لاحظت أن فى جامعة أكسفورد ضربين من الدروس: محاضرات يتكلم فيها الدكتور دون أن يقاطعه أو يسأله أحد، وقاعة بحث تتكون من عدد محدود من الطلاب يتحدث فيها مَنْ عليه الدور فى عرض بحثه فينفض ما فى جَعْبَته، ثم يناقشه زملاؤه فيما قاله، والأستاذ أثناء ذلك يوجه الجلسة بلطف. وأنا عادة ما أجمع فى محاضراتى بين هاتين الطريقتين، فأعرض ما عندى من أفكار، وفى ذات الوقت أحب أن يسألنى الطلاب وأسألهم وأستفز عقولهم نحو التفكير والمناقشة والأخذ والرد، ولا أجد للمحاضرة طعما إن لم يشاركنى الطلاب التفكير والكلام، وأعدها فاشلة لو سكتوا فلم يسألوا أو يعلقوا أو يعرضوا ما يكون فى جَعْبَتهم. وأحب أن يكون لهم موقف ورأى، وأقول لهم باستمرار إن كلامى طوال المحاضرة دون مشاركتهم لى فيها يشعرنى بأنها جبل علىَّ أن أزحزحه وحدى، وأَنَّى لى ذلك؟

وبالمثل أؤكد لهم أننى أستفيد مما يقولون استفادة عظيمة لأن كلامهم من شأنه تحريك عقلى وإلهامى بالأفكار الجديدة مهما تكن قيمة ما يقولونه فى حد ذاته، إذ العلم يقوم، فيما يقوم، على الحوار والأخذ والرد وتقليب الفكرة بين طرفين أو عدة أطراف بدلا من استقلال شخص واحد بهذه المهمة. لكن المشكلة تكمن فى أن طلاب الجيل الحالى بوجه عام لا يقرأون، ومن ثم لا يجدون فى حَصَّالات أمخاخهم ما يمكنهم الاستعانة به فى التعقيب والمناقشة وتكوين رأى خاص بهم. وهناك شىء آخر آخذه على الطلاب فى الجامعة الآن، وهو أن كثيرا منهم لا يستنكفون أن يمشوا بأحذيتهم فوق البنشات ومن فوق رؤوس زملائهم وزميلاتهم دون أن يجد أحد من الطرفين أى غرابة أو شذوذ أو خروج على مقتضيات الذوق واللياقة فى هذا التصرف. وإنى لأقر هنا أننى قد فشلت فى التوصل إلى القضاء على هذه الظاهرة الشاذة، إذ ما زال الطلاب يجترحون هذا الخطأ رغم كل ما قلته وفعلته تنبيها لهم ألا يأتوه.

وأعجبنى فى بريطانيا أشياء أخرى كثيرة منها مثلا ما يسمونه: الـ"تشايلد بينيفت"، وهو عبارة عن مصروف جيب يتقاضاه الطفل من الدولة كل أسبوع يأكل منه الشيكولاتة والآيس كريم وما أشبه. وكنت أصرفه لطفلىَّ الصغيرين من مكتب البريد وأنا هناك، وإن تأخر علمى به وقتا كبيرا لأن من حولنا من المصريين لم يخبرونا به رغم أنهم يصرفونه لأولادهم منذ البداية، فلم أستفد منه إلا بعد مرور ثلاث سنوات. كما كان للطفل الحق فى الحصول على زجاجة لبن كل يوم. ومرة أخرى لم يقل أحد من المصريين أو العرب أو المسلمين ممن حولنا شيئا عن هذا الحق الأطفالى، فظللنا نشترى لطفلينا اللبن طوال وجودنا هناك، ونحن نرى زملاءنا المصريين وغير المصريين يحصلون على اللبن كل يوم دون أن نعرف أنه لبن مجانى. وإلى جانب هذا كان هناك معونة الإيجار السكنى، ولم أعرف عنه شيئا إلا بعد مرور عدة أعوام، ومن شخص لا يدرس فى أكسفورد. وحين عرفت (متأخرا) بهذه الحقوق كنت أقولها لكل من يقابلنى. ومرة كنت أزور واحدا من زملائنا فى ريدنج كان أكبر منا سنا ومشهورا بالوقار وقلة الكلام، وتصادف أن كان بعض المبعوثين الجدد مارّين به فى ريدنج وزاروه فى نفس الليلة، فأنبأتهم بذلك الموضوع لأباغت به يقول فى شىء من الانفعال أمامهم: ولماذا هذه العجلة؟ لا يزال الوقت مبكرا. وحتى الآن لا أدرى السبب فى ضيق صدره بما فعلت. ربنا يشفى. لقد سقط الرجل من نظرى، وتبين لى أن وقاره وصمته لا يعنى أنه شخص محترم. بالله ماذا يمكن أن يقال فى أولاد بلدك الذين يخفون عنك مثل ذلك الأمر فى الوقت الذى يعطى البريطانيون أصحابُ البلادِ أولادَنا وإيانا الحقَّ فى الحصول على هذه المزايا؟

ومما أعجبنى أيضا أننى، طوال السنوات الست التى قضيتها هناك، لم أشاهد خناقة فى الشارع ولا سمعت تشاتما ولا زعيقا ولا زمارة سيارة. بل إن سيارة الآيس كريم كانت، حين تأتى إلى سمرتاون هاوس حيث كنا نسكن مع الطلاب الأجانب المتزوجين، تضرب الجرس الكهربى مرة واحدة، ثم تعيد ضربه مرة أخرى حين تكون على وشك الانصراف. وأذكر، بمناسبة الهدوء والحرص على أعصاب الآخرين، أن أحد الدارسين الإيرانيين قد شكا إلى إدارة سمرتاون هاوس من الضجة التى يحدثها بائع اللبن فى الصباح الباكر حين يُنْزِل صناديقه ليوزع عبواتها على عتبات الشقق، وهى ضجة لا أظن العامل يستطيع أن يسيطر عليها على النحو الذى يطالب به المبعوث الإيرانى. ولكن كان إحساس الشاكى بتلك الضجة (المحدودة فيما أظن) قويا لأنه كان يسكن بالطابق الأرضى شقة مطلة على فناء المسكن الجامعى فيسمعها بوضوح لا يتسنى لغيره ممن كانوا يسكنون طابقا علويا أو شقة مطلة على الشارع لا على الفناء.

وهناك طبعا النظام والنظافة والدقة والإتقان واحترام المواعيد بوجه عام، وبخاصة فى المصالح الحكومية، وهناك أيضا النشاط العلمى والثقافى، فالبريطانيون ليسوا مثلنا من الذين يكبّرون أمخاخهم فلا يشغلون أنفسهم بأى شىء يستلزم التفكير والتقدير، أو يفاخرون بأنهم لا يزعجون أنفسهم بل يتركون عقولهم تثخن وتغلظ دون أن يكلفوها بعمل يتعبها ويرهقها، وكأننا نتعامل مع عقول عَجَّالية. أعوذ بالله! ثم نتشدق مع ذلك بأننا نحب الإسلام ونغار عليه ومستعدون لفداء رسول الله بالنفس والنفيس. وهو كذب وافتراء على الواقع والتاريخ، إذ لو كنا نحب رسول الله حقا لأحببنا مبادئه التى دعا إليها والقيم التى أتانا بها، ولتحولت حياتنا إلى خلية نحل فيها يعمل كل واحد فيها بأظفاره وأسنانه، ولَكُنَّا ننتج ما نحتاجه بأيدينا وعقولنا على عكس ما هو سائد اليوم، ولصارت شوارعنا نظيفة ومنظمة وهادئة تسودها السكينة ولا تسمع فيها صوت بوق سيارة يكاد يفقد الإنسان الطبيعى عقله ورشاده ويصيّره مجنونا رسميا. كيف بالله يزعم الزاعمون أننا مجتمع إسلامى نحب ديننا ونبينا، وكل ما نفعله يناقض ديننا ويزعج رسولنا عليه الصلاة والسلام؟

إن الغالبية منا تقضى معظم وقتها لا تصنع شيئا، وكل من يقود سيارة لا يكف عن الزمر وإزعاج الناس وتشييط أعصابهم، ولا يراعى أن هناك مارة ينبغى المحافظة على حياتهم وراحة بالهم، كما أن المارة فى الطريق يتصرفون وكأنهم يتنزهون فى حديقة عامة لا فى شارع تجرى فيه السيارات، ومن ثم تراهم عند عبور الطريق مثلا يتهادَوْن كأنهم غزلان تتعاجب. ما كل هذه التنبلة؟ الدنيا كلها تطير طيرانا، ونحن نمشى فى دروب الحياة ببطء السلحفاة. أعوذ بالله من هذا التخلف والتنطع والتباطؤ والكسل والقمامة والضجيج والشتائم التى يغرم أصحابها بذكر السوءات والأعراض وسب الأب والأم بالبذىء من الألفاظ. وفى بريطانيا أيضا الاختراعات التى لا تتوقف طول الوقت، أما بالنسبة لنا فيُؤْثَر فى بعض الدول العربية الخليجية عن بعض علمائها قولهم إن الله قد خلق لنا الغربيين كى يخدمونا ويعملوا ويتعبوا بدلا منا حتى نتوفر نحن على عبادة الله، وكأننا نعبد الله فعلا كما يريد منا ربنا أن نعبده أو كما أفهمنا رسولنا معنى العبادة الحقة. إننا نعيش على التدليس والخداع، خداع أنفسنا قبل خداع الآخرين، ولانبالى ولا نشعر أن هناك شيئا خطأ. الحق أن قول هذا الكلام هو التخلف والعته والبله بعينه وقضه وقضيضه! ذلك أن من لا يعمل ولا ينتج بيده ما يحتاجه فهو عبد حقير مستذل، وإن ظن نفسه سيدا.

وعلى الناحية الأخرى لم يعجبنى فى بريطانيا ما لاحظته من أن الواحد منهم، وبخاصة من الجنس اللطيف، إذا كنت تعرفه وقابلته فى الشارع وحييته فإنه يبتسم لك ابتسامة زائفة من خارج القلب، فكأنه يدوس على زر نور ليضىء المصباح لمدة فيمتو ثانية، ثم يعيد الضغط على الزر فينطفئ المصباح فى الحال، فلا تشعر أبدا بحلاوة الابتسامة أو دفئها. وكثير منهم يسمعونك الكلام الجميل حين تكون لهم مصلحة لديك، فإذا انقضت المصلحة انقضى معها الكلام الجميل. وكنت أستغرب هذا التصرف لتصورى أنه من سمات الأمم الضعيفة، فإذا بى ألاحظه فى بريطانيا ذاتها. وقد تُكْرِم الواحد منهم أو من الأوربيين عموما فى بيتك وتضيِّفه على أحسن ما يرام، ثم تقابله فى اليوم التالى فلا تجد عنده أدنى فكرة عن التمر هندى، وكأنك لم تكرمه وتتصرف معه تصرفا إنسانيا راقيا. كما تكرر معى خُلْف بعضهم وعده لى دون أدنى اعتذار، على حين أنه متى ما وعدنى موظف بمصلحة حكومية كان وعده ضمانا أكيدا لحصولى على ما وعدنى به حتى لو أراد تجاهل وعده أو نَسِيَه أو بالأحرى: تناساه.

أذكر أننا، حين انتقلنا للإقامة فى لندن أوائل العام الدراسى 1981- 1982م، ذهبنا بيُمْنَى إلى حضانة الحى، فقالت لنا الناظرة إنه لا يوجد مكانٌ فاضٍ لها، ولكن يمكننا أن نأتى بها فى أول الفصل الدراسى التالى، وهو ما صنعناه، فقالت لنا إنه لا يوجد لها مكان فاض، فكان ردنا أنها قد وعدتنا بتوافر مكان فى أول الفصل التالى، فقالت: حقا؟ قلنا: حقا والله العظيم حقا. فردت فى الحال: إذن فلتدخل إلى الفصل. وعدنا يومها إلى البيت بدون يمنى، لنرجع آخر اليوم لأخذها، وكانت سعيدة، وكنا نحن أيضا سعداء. وكنا، حين نعبر الشارع أمام المدرسة، نعبره فى أمان الله التام، إذ كانت هناك سيدة اللولى بوب، وهى امرأة تقف فى وسط الشارع رافعة ما يشبه مصاصة اللولى بوب الذى يحبه الأطفال بحجم كبير. ومتى ما بدأت تتهادى من الرصيف إلى منتصف الشارع توقفت السيارات فى الحال، وكأنه أمر نزل به الوحى الإلهى على قوم من عتاة المؤمنين. فانظر إلى هذا، وقارن بينه وبين قيادة السيارات فى بلادنا على طريقة الثيران الهائجة التى تدوس فى طريقها كل من وما يقابلها، وتضرب البوق قائلة لك: ابعد عن طريقى يا بنى أدوم، وإلا فذنبك على جنبك.

ولا يطلب منك الإنجليزى شيئا إلا قال لك: من فضلك. كما أنه لا يحصل منك على شىء إلا قال لك: شكرا. وبالمثل لا يخطئ فى أمر إلا قال: آسف، أو آسف كثيرا. وهكذا. بل إن كمسارى الاوتوبيس يشكرك وهو يسلمك التذكرة، وكان الأولى أن تقول له أنت: "شكرا" لا هو لأنه هو الذى يخدمك. ليس هذا فقط، بل إن هذا الكمسارى كلما توقف الأوتوبيس فى محطة من المحطات سارع فوقف على الباب مادا يده لأخذ كرسى الطفل منك ووضعه فى المكان المخصص لذلك فى السيارة بحيث لا يعوقك شىء وأنت تصعد فى الحافلة. كل هذا وهو يقول لك: ثانك يو! بالله عليكم أليس هذا جميلا حتى لو كانت كلمة الشكر كلمة آلية لا تخرج من القلب؟ إن مثل تلك العبارات هى "شحم التعاملات اليومية"، الذى من شأنه "زَفْلَطَة" تروس الحياة ومساعدتها على الحركة والدوران فى سلاسة ويسر، ودون احتكاك أو اصطدام، أو على الأقل: بأقل قدر من الاحتكاك والتصادم. أليس هذا أفضل مليون مرة من كلمة "ماشى"، التى نسمعها من كثير ممن نمد لهم يد العون، والتى كثيرا ما لا نسمعها ولا نسمع غيرها فى مثل هذه الحالة، وكأننا نتعامل مع جمادات لا عقل لديها ولا إحساس ولا ذوق ولا حضارة ولا دين؟

وأنت إذا دخلت محلا لتشترى شيئا فإنك تجد البائع واقفا زنهارا لك ولأمثالك من الشارين يخاطبك بأكثر الألفاظ تأدبا وتلطقا، مسميا إياك: سِيرْ أو جنتلمان، مع أنك (أو "أنا" حتى لا تغضب) لا سير ولا جنتلمان ولا حاجة أبدا. إنما هذه عادتهم. فهم شعب من التجار بارع أشد البراعة فى معاملة الزبائن وأكل مخهم بالريق الحلو والمعاملة المستقيمة، على عكس الحال فى بلاد أخرى أنا وأنت نعرفها يتحول البائع فيها إلى منفر للشارين ومناكف لهم كأنه يتقرب إلى الله بالاصطدام بهم دون أدنى داع. فقط لكى يرضى نفسه بأنه انتصرَ على العميل الذى يسوقه حظه الهباب إليه ورَدَّهْ من حيث جاء خائبا لم يشتر ما كان يريد شراءه منه، ومن ثم لم يعطه ما كان يمكن أن يكون رزقا حلالا ساقه الله إليه. والتاجر البريطانى عادة لا يكثر من جدالك: فمثلا حين تدخل المحل يهب لمقابلتك قائلا: هل يمكننى مساعدتك يا سيدى؟ مع أنك لا سيده ولا ديالو، ولكنها أصول النجاح فى التعاملات التجارية، وهو لا يريد إلا أن ينجح. فإذا قلت له: "لا، بل أريد مجرد إلقاء نظرة على ما فى المحل" وجدته ينسحب من طريقك ويخلى بينك وبين ما تريد من "نظرات" و"عبرات" و"فى سبيل التاج" و"بول وفرجينى" و"ماجدولين" و"الشاعر سيرانو دى برجراك" أيضا. ولم يحدث أن تجهم بائع لنا ونحن هناك، ولم يحدث أن ضاق أحد من الباعة من أسئلتنا عما عنده أو ما ليس عنده من بضائع مهما كانت الأسئلة تافهة، بل لا يتدخل العملاء الآخرون الواقفون فى أدب وصمت فى الطابور استحثاثا لك على الانتهاء من كلامك بحجة أنهم "مستعجلون" و"ليس عندهم وقت" كما هو الحال فى بلادنا مع أن الوقت عندنا "بالزوفة"، وليس لدينا ما نصنعه به سوى أن ننبش بأصابع يدينا فيما بين أصابع قدمينا.

ومن الأمور التى تريح العين والأعصاب كلها تناسقُ المبانى والبيوت، فكلها فى الشارع على طراز واحد عادة، وبارتفاع واحد، وبمساحة واحدة، وبلون واحد. وحين تدخل الشارع ترى منظر البيوت مريحا جميلا لا نشوز فيه ولا اضطراب ولا عوج، وما من بيت إلا وله حديقة أمامية وأخرى خلفية تزودانك بالهواء النقى والخضرة الطازجة. وكنت سكنت فى لندن فى السنة الأخيرة لى هناك شقة بالدور الأرضى بشرق المدينة فى بيت يملكه أحد الهنود المسلمين، ويبعد بيتين عن منزل آخر لنفس الرجل. المهم كانت هناك الحديقة الخلفية، وكنا قد انتقلنا من أكسفورد إلى ذلك المنزل فى الخريف، ولما دخلت الحديقة كانت مصوِّحة، وأغصان الأشجار جرداء، ثم مضت الأيام والأسابيع والشهور، وانقطعتُ عن دخولها فترة طويلة انشغالا بعملى فى الغرفة المطلة على الشارع أنظر إليه وإلى المارة فيه من خلال النافذة الزجاجية بعرض الجدار كله تقريبا وأنا مستمتع بالدفء الذى يلامس خدى كأنه زغب الحرير جراء التدفئة الزيتية التى كنت أشغّلها بالغرفة مع إدارة جهاز التسجيل ببعض الأشرطة الفاتنة لبعض المغنين والمغنيات المصريين الذين أعشق أصواتهم، إلى أن جاء الربيع، فحملت علاء الدين الصغير فوق كتفىَّ وأنا ألاعبه ودخلت به الحديقة، وإذا بها تتلألأ جمالا وزهورا من كل لون ورائحة، فاستغربت، إذ كنت ظننت أنها قد صَوَّحَتْ وجفت إلى الأبد، فإذا بها كانت فى البيات الشتوى ليس إلا، ولما عاد الربيع عادت لها الحياة والأناقة والجمال.

وبالمناسبة فأى إنسان فى بريطانيا يمكنه بسهولة شديدة امتلاك منزل جميل عن طريق سلفة من البنك بفائدة قليلة حسبما أعرف. ومن هنا كان الرجل الهندى المسلم الذى كنت أسكن شقة فى بيته يملك هو وأولاده بيتين فى نفس الشارع. وكان بالقرب منا أيضا شاب إسكندرانى يملك منزلا محترما وواسعا رغم أنه مجرد ساقٍ فى مشرب. وكانت زوجته امرأة غير متعلمة. أريد أن أقول إنهما شخصان عاديان جدا، ولا يملكان من الدنيا الكثير، ومع هذا كان لهما بيت كبير معتبر. ولو قضيا فى مصر مئات الأعوام على هذا النحو لما تيسر لهما الحصول على منزل هكذا. وكانا حديثَىْ عهد ببريطانيا، والدليل على ذلك سنهما الصغيرة نسبيا حتى إنهما لم يرزقا إلا بولد واحد صغير حديث عهد بالفطام.

وكنت، إذا ما أردت الذهاب إلى وسط لندن، أركب الحافلة ذات الطابقين وأصعد إلى الطابق الثانى وأجلس ثم أفتح كتابا معى وأقرأ طوال الساعة (تقريبا) التى تستغرقها الرحلة. وكم قرأت من الكتب وأنا فى الطابق الثانى من الحافلة اللندنية. والجلوس جنب النافذة والإطلال منها على الشارع متعة ما بعدها متعة. لقد كنت أحس أننى ملك، ولكن غير متوج. ومن الكتب التى قرأتها بهذه الطريقة صحيح مسلم مترجما إلى الإنجليزية بقلم عبد الحميد صديقى. وما أشد ما استمتعت بتعليقاته الهوامشية التى يشرح فيها عبارة أو فكرة فى هذا الحديث أو ذاك. مثال ذلك تعليقه على الحديث الذى يقول إن الإناء يستغفر للاعقه، والذى كنت أفهمه على أنه دعوة إلى ألا يغرف الإنسان فى طبقه أو صحنه أكثر مما يعرف أنه سيأكله فعلا لا على أنه دعوة إلى لعق الإناء مثل القطط, إذ أشار فى هذاالتعليق إلى الكميات الهائلة من الطعام التى سوف ترمى فى القمامة على مستوى العالم الإسلامى إذا ما ترك كل منا فى طبقه بعض حبات الأرز، وهو ما زادنى اقتناعا بفهمى للحديث الشريف.

لقد كنت أرى بعض أفراد من جماعة التبليغ والدعوة حين يأتون إلى أكسفورد يطبخون طعامهم بأنفسهم فى الغرف الملحقة بالمسجد وينامون فيها، وهو سلوك جميل وذكى ويقلل المصروفات إلى أقل حد ممكن، وبخاصة أن من يتبرعون بالدعوة فى هذه الحالة هم من الناس العاديين الذين لا يتوافر لهم المال الكثير. لكنى لم أكن مستريحا عندما أرى بعضهم بعد الانتهاء من أكل ما فى إنائه يثنى سبابته متتبعا بها بقايا الطعام والصلصة حتى لا يترك شيئا دون أن يأكله، وكان لون الصحن يسودُّ حينئذ. وقد ذكرنى هذا بالحديث الشريف، فقلت إن الأمر سيكون أسوأ لو تحول المسلم بعد الانتهاء من الطعام إلى قط يلعق ما بقى فى إنائه، وهو ما لا أظن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقصده، بل هو مثل قوله: "أولموا ولو بظلف شاة" أو "إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها". ذلك أن القيامة حين تقوم لن تترك فى عقل أحد مسكة يفكر بها فى غرس الفسيلة. كما أننا لم نسمع قط أن أحدا قد أولم بظلف شاة... إنما الكلام على المجاز.

وقد سرنى أن يمد الأستاذ صِدِّيقِى عينه إلى ما وراء طبق الشخص الفردى فيبصر العالم الإسلامى كله ويتخيل أطنان الأرز التى سوف تلقى فى سلال الزبالة نتيجة لترك كل منا فى صحنه بعض حبات الأرز التى لا تساوى فى ذاتها شيئا. وناهيك بما يحدث فى الدول العربية الغنية حين تكون هناك دعوة طعامية يتخلف عنها كثير من الأكل الذى يكون مصيره أكوام الزبالة، ويأثم أصحاب الدعوة إثما عظيما بينما يحسبون هم أنهم يحسنون صنعا، غير دارين أن هذا قد يكون مقدمة لزوال النعمة التى يرفلون فيها، إذ هو لون من البطر والجحود حتى لو لم يقصدوه قصدا. كما سرنى أن الأستاذ صديقى قد فهم حديث الرسول هذا الفهم العميق المتحضر، ولم يأخذه بحرفيته فينادى بلعق الأطباق والصحون كالقطط والكلاب مثلما يفهم بعض المتدينين حديث الرسول فى النهى عن إسبال الإزار، الذى أفهمه على أنه تحذير من تطويل ذيول الجلاليب كبرا وخيلاء أو تركها تمسح الأرض بما عليها من أتربة وقاذورات فتتسخ ويكون منظرها قبيحا قميئا، فترى الواحد منهم يقصّر جلبابه إلى منتصف ساقه حتى فى عز البرد على نحو مثير للهزء والسخرية. والغريب العجيب أن كثيرا منهم يعود فيرتدى فى نفس الوقت سروالا تحتيا طويلا يدارى به الجزء العارى من ساقه. أذنك منين يا جحا؟ ويزيد الطين بلة أن كثيرا من المتدينين يقصّرون بناطيلهم أيضا تطبيقا للحديث الشريف حسب فهمهم، وفاتهم أن الرسول، حتى لو أخذنا نهيه هذا حرفيا، إنما قد أراد الإزار لا البنطال، إذ نص على الإزار نَصًّا. ولكن ماذا نعمل فى بعض العقليات؟

ومثل ذلك ما وقع لى بعدما انتهينا أنا وزوجتى ووَلَدَانا من عمرتنا ذات مرة أثناء عملى بالسعودية فى تسعينات القرن الماضى حين كنا نصلى الصبح جماعة خارج المسجد الحرام (لسبب لا أذكره الآن) أمام سور يفصل بينه وبين المنطقة المجاورة، فجاءت صلاتى مباشرة أمام ذلك الفاصل، ولما انتهيت من الصلاة أردت أن أغادر المكان لأصل إلى زوجتى فآخذها هى والولدين ونعود إلى الطائف. لكن الله ابتلانى بشاب من هذه النوعية، فكان كلما أردت الانصراف مال بجذعه نحوى كأنه يرقص ومنعنى بذراعه تاركا الصلاة لانشغاله بى وبما أصنع تمام الانشغال. وهو بطبيعة الحال، وهذه هى الطامة الكبرى، يظن أنه يطبق سنة النبى عليه السلام. ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدُكم يصلِّى فلا يَدَعْ أحدًا يمرُّ بين يدَيه، ولْيَدْرَأْه ما استَطاع. فإن أبى فلْيقاتِلْه، فإنما هو شيطانٌ"؟ لكن هل أنا شيطان، وقد انتهيت لتوى من العمرة ومن صلاة الفجر فى الحرم أنا وأهلى؟ يا عالم! يا هوه!

لقد فات ذلك الشاب أن يفهم معنى قوله عليه السلام: "بين يديه". وكان لزاما عليه أن يعمل عقله ويقلب العبارة فى دماغه ليعرف ما تدل عليه: فإن كان المعنى المطلق هو المقصود بما يفيد أن كلمة "بين يديه" تشمل كل الأرض من حيث يصلى المصلى حتى الكعبة، أيا كان البلد أو المكان الذى يصلى فيه، كان على المسلمين جميعا فى أرجاء العالم الإسلامى كله أن يتوقفوا عن الحركة إلى الأبد لأنه ما من وقت من أوقات النهار أو الليل إلا وهناك ملايين تصلى فى كل مكان، و"بين يديه" تشمل كل الأرض من لدن المكان الذى يصلى فيه كل فرد حتى الكعبة. ولا يقول بهذا من فى رأسه بعض عقل. وإن كان المعنى النسبى هو المراد فالمقصود ألا يمر المار فى المنطقة التى يتحرك فيها المصلى قياما وقعودا وركوعا وسجودا فقط، وهذا ما كان ينطبق علىَّ، إذ كنت خارج نطاق حركة ذلك الشاب. ومع هذا ترك سيادته الصلاة وأخذ يتتبعنى كلما اتجهت يمينا أو شمالا فاردا ذراعيه كى يمنعنى من الانصراف، غير مُعْطٍ الصلاة احترامها، وكأنه لا يقف بين يدى الله سبحانه بما يتطلبه ذلك الوقوف من خشوع وتركيز وما إلى ذلك. اللهم تولنا برحمتك يا أكرم الأكرمين.

ولا بأس هنا من إيراد حديث ساقه ابن حزم فى كتابه: "المحلَّى"، وإن وُصِفَ بأنه لا يصح، لكنه مع هذا يشير إلى المصائب التى يمكن أن تقع بسبب هذا الفهم الخاطئ للحديث الكريم الذى نحن بصدده. يقول الحديث المذكور إن "رجلا جاءَ إلى عثمانَ بنِ عفَّانَ برجلٍ كُسِرَ أنفُهُ، فقالَ: مرَّ بينَ يديَّ في الصَّلاةِ، وقد بلغني ما سمعتَ في المارِّ بينَ يدَيِ المصلِّي. فقالَ لَهُ عثمانُ: فما صنعتَ أشدُّ يا ابنَ أخي. ضيَّعْتَ الصَّلاةَ وَكَسَرْتَ أنفَه". فشكرا لسيدنا عثمان بن عفان، وإن كان الحديث غير صحيح من ناحية القواعد التى وضعها علماء ذلك الفن. ومثل ذلك ما يحكونه من أن أحدهم رأى مصليا يحرك إصبعه فى التشهد لدى وصوله إلى صيغة التوحيد، فما كان منه إلا أن مد يده وكسر الإصبع المتحركة من فرط غيرته على السنة النبوية، إذ قد أفهمه البعض أنه لا يصح تحريك الإصبع فى تلك الحالة. فهل رأيتم سخفا وتنطعا، بل هل رأيتم إجراما وغباء وانغلاق ذهن وقلب، مثل هذا قط؟

ومُضِيًّا مع هذاالموضوع فإننا نتساءل: ترى هل ينبغى أن يفقأ الواحد منا عين من ينظر فى بيته دون إذن منه كما جاء فى بعض الأحاديث النبوية؟ يقول أحد هذه الأحاديث إن "رجلا اطَّلَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مِدْرَاةٌ يحك بها رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو علمتُ أنك تنظر لطعنت بها في عينك. إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر". إذن فما أكثر العيون التى سوف تُفْقَأ لهذا السبب. إننى أفهم الحديث بما يعنى أن حرمات البيوت أمر مغلظ لا بمعناه الحرفى بحيث أسارع إلى الطعن بالقلم الذى بيدى فى عين من أراه يفعل ذلك. ويا حبذا لو فقأت العين الأخرى حتى لا أترك له فرصة لارتكاب الأمر ثانية فى المستقبل. ألم يقولوا فى الأمثال: الباب الذى يجيئك منه الريح، سُدَّه تستريح؟ سيقول بعض الناس: أتقف فى وجه حديث النبى عليه الصلاة والسلام؟ وجوابى من الحديث نفسه. ألم يقل النبى صلى الله عليه وسلم للرجل المتجسس: "لو علمتُ أنك تنظر لطعنتُ بها في عينك؟"؟ بلى قال ذلك. ألم يره النبى وهو يتجسس عليه؟ بلى رآه. فلم يا ترى لم يطعنه بالمدراة فى عينه ويفقأها؟

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لتركبنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". ذلك أن ما أفهمه من هذا الكلام هو أن هناك سننا تحكم المجتمعات البشرية والتاريخ الإنسانى. وكما وقع السابقون فى أخطاء بعينها اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية فلسوف يقع المسلمون فى ذات الأخطاء لأن هذه أخطاء البشر فى كل المجتمعات متى ما توافرت ظروفها. وكما تفلص السابقون من أهل الأديان الأخرى من دينهم قليلا قليلا فلسوف يقع من المسلمين ذلك مع الأيام... وهكذا. وليس فى الأمر ضِبَابٌ ولا جحورٌ، ولكنه المجاز وتأكيد الفكرة عن طريق المبالغة التعبيرية، وإلا فمن المستحيل تمام الاستحالة أن يدخل أحد من البشر، فضلا عن أمم بكاملها، جحر ضب. أليس كذلك؟ بل إننا لو أخذنا الحديث على ظاهره لكان معناه أن المسلمين الذين خاطبهم النبى عليه السلام، وهم الصحابة، سوف يتبعون سنن من كان قبلهم بما فى ذلك التفلت من الدين، وهو ما لم يحدث. ذلك أنه صلى الله عليه وسلم، وإن خاطب الصحابة فى هذا الحديث، كان يقصد أمة المسلمين فى عصور الانهيار الدينى والخلقى، التى هى بيت القصيد فى الحديث الشريف.

والآن فلنعد إلى بريطانيا. وقد كنا نتحدث عن الحافلات، ولا بأس من الانتقال إلى سيارات الأجرة وما كنت ألاحظه من أن سائق التاكسى يحمل لك متاعك ويضعه فى شنطة السيارة حين تركب، ثم يعود فيحمله لك من الشنطة ويضعه على الرصيف حين تنزل. فهل فى بلادنا الحبيبة من يصنع ذلك من سائقى التاكسى أو من أى سائق؟ كما أنه، عندما تشير إليه لتركب، لا يقف فجأة فى منتصف الشارع كما يقع فى بلادنا المحروسة، بل يركن السيارة جنب الرصيف فى الموضع الذى تقف فيه بالضبط ولا يفعل ما يفعله سائق التاكسى فى مصر حين يتعمد الوقوف بعيدا عنك كى يتلذذ برؤيتك وأنت تجرى وراءه. ثم إنه لا يمكن أبدا أن يعتذر عن توصيلك إلى أى مكان حتى لو طلبت منه أن يحملك إلى المريخ. وهذا كله لا تعرفه بلادنا للأسف. كذلك لا يحدث أن يركّب سائقُ التاكسى أحدًا آخر معك أثناء الطريق، لأن التاكسى قد صار فى خدمتك منذ أن تركب إلى أن تنزل. وهو يلتزم فى تحديد الأجرة بما يقوله العداد لا بما يشاء له هواه وطمعه وقلة عقله وفساد ذمته. أما هنا فأنت تعرف ما يحدث أفضل منى. ثم إن التاكسى، ككل شىء آخر فى تلك البلاد، نظيف وسليم وأنيق، والسائق هادئ مهذب مهندم. أقول هذا طبقا لما لاحظته يوم كنت أعيش فى تلك البلاد. ورغم ذلك فلا بد من التأكيد بأن كلامى هذا ليس معناه أن بريطانيا هى جنة الله فى أرضه، إذ هناك معايب كثيرة ذكرت بعضها، وأضيف إليه أكلها الخنزير وشربها الخمور وتكبرها على الشعوب الأخرى وسرقتها لكثير من دول العالم واحتلالها بلادنا لعشرات السنين ومناصرتها إسرائيل بل خلقها لها خلقا رغم أنف العدل والإنسانية والقانون، وممارستها الزنا واللواط والسحاق على نطاق واسع وتقنينها كل ذلك.

والأوكازيونات فى بريطانيا كثيرة، ولا تكاد تتوقف، ففضلا عن الأوكازيونات الموسمية هناك تخفيضات التصفيات عند إغلاق المحلات وما إلى ذلك، كما أن هناك محلات مهمتها عرض البضائع المخفضة على مدار العام. وفى أكسفورد ستريت كنا نجد دائما دكاكين تعلن عن تخفيضات، وكلها تخفيضات حقيقية. والكل يشترى، والكل مسرور. وقد اشتريت ذات مرة من أكسفورد حذاء مخفضا من خمسة عشر جنيها إلى جنيه واحد، وكان السبب أن مقاس فردة منه حسبما هو مكتوب بداخلها أقل من الفردة الأخرى بنصف درجة. وقد طابقتهما فلم أشعر بأى فرق، كما لبستهما فلم أحس بشىء. ومرة أخرى اشتريت شبشبا لأكتشف بعد مرور عام أن الفردتين كلتاهما يمين، فذهبت إلى المحل، الذى حاول صاحبه البحث عن الفردة الغائبة فلم يوفق، فما كان منه إلا أن أرجع لى ثمن الشبشب كاملا من تلقاء نفسه. هذا شغل شياطين! أقصد شغل دهاة يعرفون كيف ينجحون، وينظرون إلى بعيد لا إلى ما تحت أقدامهم كبعض الناس الذين يعرفون أنفسهم ولن أذكر أسماءهم.

وهناك معارض تقام فى العطلة الأسبوعية هنا وهناك: فى كنيسة أو مدرسة أو صالة عامة، وفيها تباع مختلف الأشياء، وتستطيع أن تشترى أنت أو أنا أو غيرنا منها ما يحب كل منا شراءه من الأغراض بملاليم، أقصد ببنسات زهيدة، كبدلة أو حذاء أو كتاب مما يتبرع به الناس فتبيعه الكنيسة أو أية جمعية أخرى لتتبرع بما تجنيه من أثمانه للشعوب الفقيرة بغرض تنصيرها مثلا. وإلى جانب هذا كله هناك مؤسسة أوكسفام، ولها محلات فى كل مكان تبيع مثل تلك الأشياء طوال العام. وهناك أيضا محلات خاصة لبيع الأشياء المستعملة يقصدها البريطانيون دون أى إحساس بالخجل. وكم اشترينا من كل ذلك ومن الجديد أيضا كتبا وملابس وتحفا وأحذية وأرسلناها إلى أصحاب نصيبها فى مصر، فسَدَّتْ حاجاتٍ ماكان لها أن تنسدَّ لولا تلك النزعة العملية التى أتمتع بها، والتى ساندتنى زوجتى فيها مساندة نبيلة، وإن كانت ثمرتها خيبات ثقيلة ومرارات بطعم الحنظل لا تطاق ولا تُحْتَمَل.

أما الكتب فتجدها فى المكتبات المنتشرة فى كل مكان. بل إنك لتجد فى الأسواق الأسبوعية بياعين يعرضون ما عندهم من الكتب المستعملة. وقد اشتريت مرة من بائع فى سوق الأربعاء بأكسفورد، أيام كان ينعقد وراء مدرسة فرذر إيديوكيشن خارج المدينة تماما وقبل أن ينتقل إلى وسط البلد، نسخة أثرية ضخمة من الكتاب المقدس مذهبة ذات جلد صلب وتحتوى على رسوم وخرائط وهوامش على جانب كبير من الفائدة بعد أن ظللت أتردد عليه كل أسبوع تقريبا عارضا عليه مبلغا أقل مما يقوله رغم أن السعر لم يكن عاليا أبدا، لكننى كنت أحب أن أداعبه وأضحك معه... إلى أن رأيته يعطينيها ذات أربعاء بأقل مما كنت أعرضه عليه. عجبت لك يا زمن! أما كان من الأول؟ صَدَقَ من قال: بريطانى!

وكان يوم السوق متعة كبيرة لى أنا وزوجتى، ومعنا الولدان، بدءا من السير من سمرتاون هاوس حتى موضع السوق، الذى يبعد عن مسكننا بضعة كيلومترات كنا نقطعها ضاحكين نثرثر ونتهكم ونلاحظ ونقارن ونتناقش فى كل شىء، وانتهاء بشراء ما نريد من خضراوات وفواكه وملابس وأحذية، وكتب أحيانا، ومرورا بالشمس المبتسمة إذا كنا فى الصيف وبالتهامنا أحيانا بعض ما اشتريناه من فواكه شديدة الإغراء كما حدث حين اشترينا ذات سوقٍ صندوقين من العنب اليونانى الكبير الحجم الداكن الزرقة الشديد الحلاوة الغزير العصارة، فقد جلسنا على دكة خارج السوق عند قنطرة هناك، وهات يا أكل واستمتاع حتى أتينا على أحد الصندوقين أو على معظم ما فيه.

وأتصور أن منظرنا كان معروفا فى أكسفورد طولا وعرضا بعربة الأطفال التى ندفعها كل تلك المسافة وقد حمَّلناها فى طريق العودة بما لذ وطاب من خيرات السوق مستعملين الشيالة التحتية والأماكن الفاضية داخل العربة ذاتها حول الطفلين اللذين كنا نرقدهما "خلف خلاف" وقد دثرناهما فى الشتاء بالقفافيز وأغطية الرأس الصوفية وسحبنا عليهما غطاء العربة من فوق، وأخذنا ننظر بين الحين والحين من الفرجة إليهما فنستمتع بمنظرهما وهما راقدان فى أمان الله دافئين يظللهما حبنا ورضانا عنهما وعن الحياة وشُكْرُنا لله سبحانه أن رزقنا بهما ووهبهما الصحة وخفة الظل فملآ حياتنا بالبهجة والسعادة. ولا أظن أن أحدا فى أكسفورد كان يشترى كل تلك الصناديق التى نشتريها، ونكرم من محتوياتها ضيوفنا، الذين لم يكونوا دائما بالمهذبين على ما سيأتى بيانه حالا.

ومن ذكريات السوق أنه لم يكن معنا يوما نقود كافية، وأحسَّ مستر شو بذلك، فأعطانا مشترياتنا على أن نحضر الثمن الأسبوع القادم. شكرا يا مستر شو على إنسانيتك وذوقك وتهذيبك! ويزيدك إنسانية وذوقا وتهذيبا أننا لم نطلب منك ذلك ولا ألمحنا إليه ولا توقعناه مجرد توقع. إنما هى مبادرة كاملة منك. شكرا مرة أخرى. ومن تلك الذكريات أيضا أننى، حين جاء دورى فى الطابور أمام بائع آخر كنا نسميه هو وإخوته بـ"الشَّنَبات" لأن لكل منهم شاربا كبيرا مثلما كنا نسمى مجموعة أخرى من بائعى الفواكه والخضراوات هناك بـ"الغجر" لأننا عندما وطئت أقدامنا السوق أول مرة فوجئنا بصياحهم على بضاعتهم فى نَفَس واحد، فلقبناهم فى الحال بـ"الغَجَر" على سبيل التفكه، أقول: حين جاء دورى أمام "كبير الشنبات"، وكنا من زبائنهم الدائمين ومن الشارين الكبار عندهم إن لم نكن أكبر الشارين بإطلاق، مددت يدى فالتقطت حبة عنب ووضعتها فى فمى لأقرر كم كيلوجراما ينبغى أن أشتريها منه طبقا لمدى حلاوته. وما إن رفعت حبة العنب ناحية فمى دون أن تكون قد وصلت إلى فمى فعلا حتى شاهدت على وجه "الشنب الكبير" نذر عاصفة سرعان ما انفجرت مدمدمة فى صورة خطبة عصماء عن حقوق الملكية التى انتهكتُها، إذ قال لى فى حجة قاطعة كالسيف الهندوانى الباتر: هل يصح أن أمد يدى إلى جيبك وآخذ ما فيه؟ فصرت فى نصف هدومى لهذا المنطق الجبار المفحم، وحاولت بكل ما بقى لى من عقل أن أشرح له أن الأمر لا يستحق شيئا من تلك الضجة وأننى إنما كنت أريد تذوق العنب لأعرف مدى سكريته. ولكن من يقرأ ومن يفهم يا إبراهيم؟

وكان هذا واحدا من أسخف موقفين تعرضت لهما أثناء مُقَامى ببريطانيا. وكلما تذكرت هذه الواقعة تعجبت من رد فعل الرجل، وقلت ضاحكا وكأننى أخاطبه وجها لوجه: يا ابن الذين، وأين كانت حقوق المِلْكِيّة المقدسة حين احتللتم بلادنا وجرفتم ثرواتها لمدة سبعين عاما؟ خيبة الله عليك! أما الموقف الآخر فكان فى بيتى، إى والله فى بيتى وعلى يد بنت مفعوصة دعوناها هى وأمها، التى كانت تدرس لنا الإنجليزية فى فرذر إيديوكيشن كولدج، إذ بعد أن أكلت هى وأمها هنيئا مريئا وشفعتا الطعام بما لذ وطاب من الفواكه والشراب، أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وعَنَّ لى، فى سياق لا أتذكر طبيعته الآن، أن أشير إلى زوج السيدة (والد البنت الحمقاء الشعنونة) بوصفه أكبر منى فى السن ويستحق الاحترام، وكان ناظر مدرسة، فاستخدمت كلمة "elderly" تبعا لما قاله لى صديق مسلم إسكتلندى كان يزورنا ويسهر معى كثيرا من الليالى وأجد فى صحبته ودا ودفئا، وكنت قد استفسرت منه عن لفظة تستخدم للتعبير عن المعنى المذكور، فاقترح بعد عدة مداولات وأخذ ورد بينى وبينه تلك الكلمة، التى ما إن خرجت من فمى وقبل أن أحاول استردادها وإعادتها من حيث خرجت حتى استحالت الضيفة الصغيرة شيطانة تقذف بالحمم البركانية متهمة إياى بأننى قد أسأت إلى والدها وأننى تجاوزت حدودى وما شابه ذلك من الجنون الأزلى. وعبثا حاولتُ، وأنا فى غاية الحرج، أن أفهمها سر اللَّبْس المضحك، وتدخلت أمها تهدئ من ثورة ابنتها، ولكن ليس بالقوة الكافية. ومرة أخرى من قال إن كل البريطانيين باردون؟ فماذا تقولون فى هذه الحمقاء الملتاثة؟

وبينى وبينكم ما زلت حتى الآن متحيرا لا أستطيع أن أجزم بالكلمة التى تعبر عن المعنى المراد. ربما لأن الإنجليز لا يعرفون هذا المفهوم أصلا. وأحيانا أرى أن أقرب الكلمات إلى هذا المعنى هى "senior". ومع ذلك فلا أخفى عليكم أننى كلما فكرت فى استخدامها سرت فى جسدى قشعريرة، وتمثلت أمام عينى تلك الشيطانة النزقة، فأخنق الكلمة فى حلقى. منها لله! لم يثمر فيها ما أكلتْه من السمك بأنواعه المختلفة والأرز البنى الشهى، والكفتة اللذيذة التى تأكل أصابعك وراءها، والسلطات التى تأكلها بل تلتهمها بعينيك قبل فمك، وغير ذلك من الأطعمة الجميلة التى وضعت فيها زوجتى ذوب اهتمامها وذوقها والتى تناولناها على ضوء الشموع لانقطاع التيار الكهربى فى تلك الليلة للمرة الأولى والأخيرة، لتأتى هذه البنت المفعوصة فتفسد كل شىء، غير مراعية أنها ضيفة فى بيتنا ولا أننا غرباء عن لغتهم، فوقوع مثل ذلك الخطإ من ثم وارد، وبقوة.

والعجيب أن مورين كانت قد اصطحبت ابنتها معها إلى المدرسة أكثر من مرة قبل ذلك وأوكلت إليها مهمة تصحيح كراساتنا. فأين ذُهِب بعقلها إذن حين ركبها العفريت فى بيتنا؟ لو كانت هذه البنت تقيم فى مصر لعملوا لها زارا ودقوا طول الليل على رأسها بالدفوف إلى أن يطردوا من جسدها ذلك العفريت الشرير الذى كان يركبها! وعلى ذكر الزار هاجت فى رأسى الآن ذكرى ليلة قضيتها فى طفولتى بين نساء حينا بالقرية فى بهو بيتٍ قريبٍ من بيتنا منتصف خمسينات القرن الماضى، وكان أبى لا يزال حيا، وماتت أمى، وظلت الدفوف تضرب طوال السهرة، والمرأة التى عملوا لها الزار تلبس ملابس خاصة وتتطوح وتترنح يمينا ويسارا كأنها ملبوسة، وأنا فى غاية الملل والضيق. يبدو أننى ولد مستنير من يومى لا أومن بهذه الخرافات المتخلفة! يا بختك يا خِلّ مع الحداثيين!

هذا، ولم يحدث فى بريطانيا أن تعثرت أقدامنا قط ونحن سائرون فى أية مدينة أو قرية أو طريق ريفية سرنا فيها، وإن كادت قدماى أن تنزلقا مرة على القشرة الجليدية التى تكسو الشارع ذات صباح كنت مسافرا فيه إلى لندن، وأوشكت أن أتزحلق فى المسافة القصيرة التى كانت تفصل بين سمرتاون هاوس والمحطة التى سوف أستقل منها الحافلة إلى وسط أكسفورد حيث سآخذ الأوتوبيس إلى العاصمة لولا حذرى الشديد وأنا أنقل قدمى ببطء وتركيز، فضلا عن الوهج الذى أزعج عينىَّ من انعكاس أشعة الشمس على الجليد صباحا. والسبب فى عدم تعثر المشاة فى تلك البلاد أنه ليست هناك حفر أو حجارة فى أى مكان، كما لا أذكر أننا قابلنا بلاطة مكسورة أو مخلوعة أو مقلقلة من بلاط الرصيف، أو كان الرصف غير مطابق للمواصفات. زد على هذا أن الرصيف فى كل من نهايتيه ينحدر بطريقة تدريجية تجعله مساويا لأرض الشارع عند التقائهما، فضلا عن وجود هذا الانحدار بالعَرْض أمام كل بيت بحيث لا تجد ربة المنزل أية صعوبة فى إنزال الدراجة أو كرسى الطفل أو عربته إلى الطريق. كما أن ارتفاع الرصيف موحد فى كل مكان، وعلى نحو يكفل للجميع الصعود إليه والنزول منه بسلاسة ومتعة، فلا يخضع للعشوائية بتاتا.

وواضح أنه ما من شىء إلا خُطِّط له وعُمِِل حسابه. لقد استعملوا عقولهم ولم يعطوها إجازة بحجة تكبير المخ كما نفعل فى مصر. ولا أدرى أى هدف يتغياه المصريون من تكبير أمخاخهم ما داموا لا يستغلونها أبدا. لو كنت منهم لألقيتها فى الزبالة وأرحت واسترحت. ومن هنا ترانى أقول دائما فى أحاديثى ومحاضراتى وكتبى إن حساب المسلمين سيكون عسيرا غاية العسر يوم القيامة نظرا إلى أن الله لم يَكِلْهُمْ لعقولهم وحدها كما هو الحال مع الشعوب المتقدمة حاليا، بل أكرمهم سبحانه وتعالى، إلى جانب ذلك، بالإسلام دين العقل والحضارة والتقدم والاستنارة، فلم يستغلوا هذا ولا ذاك حتى صاروا فى العصور الحديثة، شعوبا وحكومات، آخر أمم الأرض وأذلها وأهونها وأتعسها رغم كل المزايا التى أفاضها الله عليهم من موقع ممتاز ومناخ طيب وثروات طبيعية مباركة وتاريخ طويل ودين هو القمة فى الحضارة، فضيَّعوها سدى.

ومن بين متعنا أيضا فى أكسفورد النُّزَه التى كنا نقوم بها صيفا فى القرى والحقول المحيطة بالمدينة حيث كنا نقضى الساعات ننتقل من طريق إلى طريق، ونمر بقرية وراء قرية بما فيها من محلات أو مكنات نشترى منها ما نحتاج من حلوى وألبان، وأراجيح وزحاليق يلعب عليها ولدانا، فتدفعهما أمهما بينما أقرأ أنا فى كتاب أو أنصت إلى إذاعة القاهرة فى مذياع صغير نحمله معنا أينما ذهبنا، فيبلّ شوقنا إلى بلادنا ويزيل بعضا من أشجان حنيننا، ويعيدنا إلى الماضى، الذى تبدو لنا ذكرياته سعيدة لارتباطها بصبانا وشبابنا وبلادنا وأهلينا بعد أن تركناهم وتغربنا بعيدا عنهم فى بريطانيا، التى تختلف عنا فى كل شىء من دين ولغة وعادات وتقاليد وثقافة وذوق وغير ذلك. وفى بعض الأحيان كنا نمر بحقل تزينه الزهور العجيبة التى تغسل العين والقلب والنفس والروح غسلا فنشهق إعجابا ونهيم فى الملكوت، وتسبّح كل خلجة من خلجاتنا الخالق العظيم المبدع الجميل سبحانه جل جلاله. وذات مرة أخذتنا سيدة أسكتلندية عرفناها عن طريق مسز أدامك، الأمريكية التى كانت تعطينى فى بداية وصولى أكسفورد درسا خصوصيا فى الإنجليزية، أخذتنا إلى موضع فى أكسفورد بعيد عن العمران لترينا زهور الـ"بلو بلز"، أى الأجراس الزرقاء، وكانت رحلة جميلة، ومشهدا رائعا شاهق الروعة. يا ترى كم واحدا فى مصر، ودَعْكَ مِنْ "كم واحدة؟"، يمكن أن يفكر فى أمر كهذا؟ أتريدون الصراحة أَمْ بنت عمها؟ ولا واحد أو واحدة!

كما زرت بعض الغابات هناك: منها غابة وجدنا أنفسنا أنا و"إشماعيل" (بالشين من فضلكم حتى لا يغضب الرجل الأسبانى الأصل ذو الصوت الفحيحى رب البيت الذى كنت أنزل به فى هستنجز. أتذكرونه؟) حينما كنا نتمشى ذات عصرية وأردنا أن نثبت أننا متحضران كالأوربيين فقلنا: نعتمد فى سيرنا على الخريطة، ولا نسأل أحدا. ورغم أننا لم نستطع أن نفهم منها شيئا فقد ركبنا رأسينا وظللنا نسير متوهِّمَيْنِ أننا متجهان الاتجاه الصحيح... إلى أن ألفينا أنفسنا فى غابة شاسعة، فاخترقناها متصوِّرَيْنِ أننا سوف نفرغ منها بعد قليل. لكن كان للغابة رأى آخر. وبعد وقت طويل خلناه دهرا، وخفنا أن نظل سائرَيْنِ طوال الليل بين تلك الأشجار التى لا تنتهى، وجدنا أنفسنا خارج المدينة عكس الاتجاه الذى كان ينبغى أن نتخذه. وحتى لا أطيل عليكم ولأننى لا أذكر التفاصيل الآن أقول إننا بلغنا البيت أخيرا بعد المغرب بوقت طويل، وكنا فى رمضان: أنا صائم، وإشماعيل (بالشين من فضلكم!) مفطر. ولكننا كنا من فرط السعادة بسبب النجاة لا نحس بجوع. وفى حالتى أنا بالذات لم أكن (كما شرحت لكم من قبل) أتناول طعامى مع المغرب، بل أؤجله لحين تناول أهل البيت عشاءهم، ومن ثم لم يكن هناك بالنسبة لى أى فرق.

ومن ذكريات الغابة أيضا الضحى الجميل الذى قضيناه ذات صيف فى غابة تربض على أطراف أكسفورد من ناحية الطريق المؤدى إلى لندن فى نهاية الهاى ستريت، فقد قضينا فيها ضحى جميلا، إذ كانت السناجب تهبط من فوق غصون الأشجار وتأتى إلينا فتداعبها يمنى الصغيرة، التى تزوجت الآن وأنجبت ولدا لطيفا آية فى الذكاء والانتباه وكثرة الحركة وسرعة الالتفات نحو أية نَأْمَة مهما تكن ضئيلة أو أى منظر مهما يكن صغيرا أو بعيدا، فضلا عن حدة ملامحه، مما ذكَّرنى بالسناجب، فسميته: "السنجاب"، وصار الجميع لا ينادونه ولا يتحدثون عنه إلا بـ"السنجاب": جاء السنجاب، ذهب السنجاب، السنجاب يبكى، السنجاب يرضع، السنجاب يفعل كذا، السنجاب يُسَوِّى كيت، السنجاب نائم، السنجاب مستيقظ... إلخ. وهو، من ناحيته، كلما رآنى هش لى واهتز فرحا، فأفرح لفرحه فوق فرحى لنفسى برؤيته. وكنت أسمع الناس يقولون: أعز من الولد ولد الولد. لكنى لم أكن أعرف حقيقة هذا الكلام إلا بعدما صار لى أحفاد (حتى الآن أربعة: لالة "الأستاذة": 5 سنوات تقريبا، وخالد "الفيلسوف": حوالى سنتين، وعمرو "الحكيم": 14 شهرا، وهؤلاء أبناء علاء الدين بالترتيب، وإياد ابن يمنى، "السنجاب": 15 شهرا)، إذ أشعر أن كلا منهم مدهون بالعسل ومرشوش بالسُّكَّر حتى ليتحول الواحد منهم فى حضنى إلى حلاوة خالصة، حلاوة ليس إلا. اللهم بارك فى أطفال الدنيا أجمعين، وزدهم حلاوة على حلاوتهم.

وأثناء إقامتى فى بريطانيا زار أنور السادات تل أبيب. وقد ظننت فى البداية أن كلامه عن استعداده للذهاب إلى أقصى مكان فى الأرض مجرد مبالغة لا يقصدها. ثم ظننت أنه، بعد انفجار الثورة الإيرانية وإعلان قادتها عداءهم لإسرائيل ومناصرتهم للفلسطينيين وغلق سفارة الكيان الصهيونى وتحويلها إلى سفارة لفلسطين، سوف يعيد حساباته. لكن اتضح فيما بعد أن الأمر قد تم ترتيبه مسبقا. ثم وَقَّعَتْ مصر معاهدة كامب ديفيد. وكان من رأيى أنه ما من معاهدة تبقى للأبد، وأنه ما من اتفاق قام بين دولتين إلا سقط مع الأيام، وأن الفيصل فى هذا هو قوة الدولة التى أجحف بها الاتفاق، وأنه متى ما قويت مصر كان باستطاعتها تمزيق كامب ديفيد. وبالنسبة للثورة الإيرانية كنت أراها بعين المتحمس، ولا أزال، رغم اختلافى الحادّ مع بعض معتقدات الشيعة ومواقفهم السياسية. والسبب فى ذلك أنها ثورة شعبية خالصة. كذلك فإننى لا أخفى سرورى بما أسمعه ممن زاروا إيران مؤخرا عن نظافة البلاد هناك، كما يسرنى فوز السينما الإيرانية ببعض الجوائز العالمية رغم خلو أفلامها من الرقص والعرى والإجرام وما إلى هذا. وكنت، كلما حدثت انتخابات هناك، أنظر إلى إعلانات المرشحين فلا أجدهم يوسخون الجدران بالكتابة أو بإلصاق الأوراق عليها، بل يكتفون بتعليق لافتات قماشية تزال فور انتهاء العملية، وكان الله يحب المحسنين. وإذا صح ما نسمعه ونقرؤه فى وسائل الإعلام عن التقدم الصناعى والعسكرى فى إيران فمعنى ذلك أن الثورة قد نجحت، ولم تعد مجرد شعارات فارغة. كما أن الانتخابات الرئاسية هناك لا تقل كثيرا عن نظيراتها فى الدول الديمقراطية انضباطا ونظافة. اللهم إلا أن يكون كل ذلك دعاية إيرانية كاذبة. فهل هى كذلك؟

لكنى لا أستطيع رغم هذا كله إخفاء ضيقى بتعصب الإيرانيين لشيعيتهم إلى الحد الذى يسبون فيه كل صحابى خالف عليا رضى الله عنه وعنهم جميعا دون أن يُعْفُوا السيدة عائشة وأباها أنفسهما، بينما يحترم السُّنَّةُ جميعَ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إنهم ليفضلون عليًّا على معاوية وعمرو بن العاص، ولكن دون أن يتجاوزوا حدودهم بالتطاول على أى صحابى حدث بينه وبين علىٍّ خلاف. صحيح أن عليا، كرم الله وجهه، كان يُلْعَن على المنابر فى بعض فترات العهد الأموى، لكن لا بد من التنبيه إلى أن ذلك كان فيما مضى، وقد انتهى الآن، ولم يعد أحد يفعله. كما أننا نخطئ خطأ فاحشا حين نظن أن أهل السنة كانوا يفعلون هذا أو يَرْضَوْنَه، بل فاعِلُوه بعض الأمويين المتعصبين، أما سائر السنة فلا توافقهم عليه. وذلك كله يختلف عن سِبَاب أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة وكثير من الصحابة الآخرين منذ القديم حتى عصرنا على لسان الشيعة، بل وإخراجهم من الملة فى كثير من الأحيان.

أقول هذا ردا على ما ورد فى رواية إبراهيم عيسى: "مولانا" من إرادة التسوية بين الفريقين فى مسألة سباب الصحابة. وهى تسوية خاطئة. وفى رأيى أنه لا ضير ولا تثريب على أى من السنة أو الشيعة فى التمسك بمذهبهم بشرط ألا يسب الأخيرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم، فيما وراء ذلك، أحرار. فليؤمن الشيعة أن عليا وذريته هم الوحيدون الذين لا يصح أن يحكم المسلمين أحد سواهم إلى الأبد، وليؤمن السنيون أن أساس الحكم فى الإسلام هو الشورى لا الورائة، على ألا يحاول أى طرف فرض معتقداته على الطرف الآخر، وأن يتعاونا على البر والتقوى فى النقاط المشتركة، وما أكثرها! هذا ما أومن به، لكن الواقع يقول شيئا آخر للأسف. ولسوف يندم الطرفان على الشقاق الحاصل بينهما إلا إذا غَلَّبا صوت العقل والدين الحقيقى، وتفاهما وتفاوضا ووصلا إلى شىء يرضى بقدر الإمكان الطرفين جميعا مع تنازل كل منهما عن بعض ما يشترطه، إذ لا يُعْقَل أن يحصل أحدهما على كل شىء بينما يُحْرَم الآخر من كل شىء.

وعلى هامش الكلام الحالى أذكر أننى قد تعرفت بدكتور جامعى إيرانى بمكتب الشيخ محمد الغزالى بوزارة الأوقاف قبل حرب رمضان المجيدة بسنة أو نحوها، وكنا نتقابل بعد العصر فنزور بعض الأماكن، فإذا أردنا الصلاة أممنا مسجدا من المساجد التى فى طريقنا وقَدَّمْتُه ليصلى بى إماما، غير واجد فى ذلك ما يخدش صلاتى. وكنت أفعل ذلك حتى أزيل ما يمكن أن يكون بنفسه من مشاعر سلبية، فضلا عن أنه أكبر منى فى السن. بل لقد ذهبنا فصلينا الجمعة فى مسجد بمصر الجديدة وراء إمام سنى طبعا، ولم ألحظ عليه غضاضة فى ذلك، اللهم إلا إذا قيل إنه كان يستعمل التقية. وبهذه الطريقة لن نتهى، ولن نصل إلى حل. كل ذلك قبل أن أعود فى الأعوام الأخيرة فأقرأ فى كتب القوم لأجد فى بعضها ما لا يمكن التسامح فيه. ومع هذا فكما قلت: ينبغى أن يعرف الطرفان أنه لن يكون لهما أى مستقبل إلا إذا نسيا اختلافاتهما، وتخلى بالذات الشيعة عن سب الصحابة وعن محاولة التمدد فى الدول السنية، وتعاونا معا على البر والتقوى، وإلا فلسوف يأكلهما الغرب جميعا، ولاتَ ساعةَ مندم. وليس من المعقول ولا المقبول أن يكون لكل منهما علاقات دبلوماسية طبيعية مع كثير من الدول غير الإسلامية بما فيها تلك التى تكره الإسلام وتتآمر على أتباعه، فى الوقت الذى يتربص كل منهما بالآخر ويراه عدوا مبينا لا سبيل إلى الهوادة معه.

وأنا، حين أقول هذا، أعرف تماما أن الكلام النظرى غير الواقع العملى، وأن أى إنسان متى صار فى الحكم وجد أن ما كان يقوله ويتصوره سهلا قد أضحى صعب التحقيق، وبحاجة إلى وقت طويل وتنازلات وألاعيب ومؤامرات قبل إمكان تنفيذه. أما إذا تصور أحدهما أنه، باستعانته بالغرب على ضرب الآخر وإزاحته عن طريقه، سوف يتحقق له ما يريد فهو غَبِىٌّ لا يفهم التاريخ ولا نفسية الغربيين، وخائن للإسلام الذى جاء به النبى محمد صلى الله عليه وسلم، إذ إن الغرب، بعد أن يسلط أحد الطرفين على صاحبه فينتصر عليه، سوف يستدير إلى المنتصر ويدمره تدميرا، ويتخلص من الطرفين كليهما مثلما وقع مرارا فى التاريخ. لقد حارب محمد على مثلا الدولة العثمانية وانتصر عليها وأذلها، ثم حارب الوهابيين وانتصر عليهم وأذلهم. وفى النهاية ماذا حدث؟ لقد انقلبت عليه أوربا فحطمته بعد أن استنزفت قواه تلك المعارك التى كانت أصابعها الشيطانية تحرك خيوطها. وعندنا إيران والعراق، إذ سلط الغرب كليهما على صاحبه، ثم استداروا على العراق فحطموه وقتلوا رئيسه بعد أن حصلوا منه على ما يريدون، وها هم أولاء يتحرشون بإيران، ويطلعون كل يوم عليها بتهديد لا ندرى متى يضعونه موضع التنفيذ.

أكتب هذا، وأنا لا أوافق إيران على بعض معتقداتها وسياساتها. لكن هل هناك دولة يوافق الإنسان على كل ما تعتقده أو تقوله أو تفعله؟ المهم أن تكون حسنات التعاون معها أكثر وأفضل من حسنات معاداتها أو على الأقل: مقاطعتها ومخاصمتها. وهل يعقل أن تكون إسرائيل والولايات المتحدة أقرب إلى مصالحنا من إيران رغم كل ما يمكن أن يقال فى حق إيران، وكثير منه صحيح؟ لكن أليس كل ما يقال، وليس كثير منه فقط، فى حق أمريكا والصهاينة صحيحا صحة مطلقة؟ ومع ذلك فلنا علاقات بأمريكا وكل الدول الغربية التى أذلتنا واحتلتنا ونهبتنا ووقفت منا دائما موقف المعاداة ونصرت إسرائيل بل خلقتها خلقا. فكيف نقف من إيران موقف التعنت الرافض لأى تفاهم أو تعاون؟ فلْنَعُدَّها "إسرائيلاً" أو "أمريكةً" أخرى إذن ونتعامل معها بهذا المنطق. أقول هذا، ولى دراسات فى التشيع قلت رأيى فيها بصراحة ضد بعض معتقدات الشيعة ومواقفهم وتفسيراتهم يجدها القارئ فى كتابىَّ: "سورة النورين" و"مسير التفسير". لكن هذه نقرة أخرى، إذ نحن الآن إنما نتحدث بلغة السياسة والمصالح الوطنية. ثم إننا لسنا مكلفين بجبر الآخرين على الالتزام بما نؤمن نحن به، وإلا فأنى لنا بتلك الدولة التى تقبل تدخلنا فى شؤونها على هذا النحو البغيض؟

وبعد كتابتى هذا بعدة أسابيع قرأت، فى موقع صحيفة "الرأى" الكويتية، مقالا بعنوان "دانيال بايبس: ادعموا الأسد لمنع انتصار الإسلاميين" يدور حول دانيال بايبيس اليهودى الأمريكى الذى يكره العرب والإسلام كراهية العمى جاء فيه أن الغرب لا يسمح لأى من الطرفين المسلمين بالانتصار على الطرف الآخر، بل يساعد كلا منهما على تحطيم الطرف الآخر. وهو نفسه ما قاله الشيخ صبحى الطفيلى، أحد قادة الشيعة فى لبنان وأول أمين عام لحزب الله هناك، فى حديث متلفز له منشور على الإنترنت يؤكد فيه أن الغرب وإسرائيل يباركان الصراع الدائر الآن فى سوريا ويعملان بكل جهدهما على تدمير الطرفين: الحكومة والثوار، ولا يفكران أبدا فى إيقاف الحرب بينهما بل لا يسمحان بذلك إل أن يتم التخلص منهما كليهما. كما دعا الشيخ إلى عدم ذهاب شباب الشيعة اللبنانيين لمساعدة النظام العلوى فى سوريا، مؤكدا أن أى شاب شيعى يذهب لسوريا لذلك الهدف ويُقْتَل لا يموت شهيدا، بل مصيره جهنم، وبئس المصير، لأنه يريق دماء المسلمين ويعضد الحاكم الظالم. وبالمثل هاجم هجوما شديدا حزب الله، الذى اتهمه بمساندة الظلم العلوى فى سوريا، قائلا إن أهل السنة لا يكرهون أهل البيت بل يحبونهم حبا جما، ولا يمكن أن يعتدوا على مزاراتهم ومساجدهم أو يفكروا فى إلحاق الأذى بالشيعة.

يقول المقال ما نصه: "دعا السياسي والمؤرخ الأميركي دانيال بايبس، الذي يوصف بأنه أحد أقطاب "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة، واشنطن والحكومات الغربية إلى تقديم الدعم للرئيس السوري بشار الاسد، قائلا في مقالة كتبها في موقع "ذا جويش برس" الإلكتروني اليهودي إن ذلك يحدث توازنا بينه وبين معارضيه ويمنع انتصارا للإسلاميين في سورية. وكتب بايبس أن"المحللين يتفقون على أن تلاشي قدرات النظام السوري يتسارع وأنه يواصل تراجعه شيئا فشيئا، وأن انتصار الإسلاميين أصبح مرجَّحا بشكل متزايد"، مضيفا: "ردا على ذلك فإني أغيّر توصيتي السياسية من الحيادية إلى شيء يجعلني، بصفتي إنسانيا ومعاديا منذ عقود لعائلة الاسد، أتوقف لأكتب أن الحكومات الغربية يجب أن تدعم النظام الديكتاتوري الخبيث لبشار الاسد". وأوضح بايبس أن "المنطق الذي دفعني لتقديم هذا الاقتراح النافر هو أن قوى الشر، عندما تحارب بعضها بعضا، تصبح أقل خطرا علينا، مما يجعلها أولاً تركز على أوضاعها المحلية، ويمنع ثانيا أيا منها من تحقيق انتصار بحيث تشكل خطرا أكبر. القوى الغربية يجب أن تدفع الأعداء إلى طريق مسدود بينهم من خلال دعم الطرف الخاسر لجعل الصراع بينهم يطول أكثر".

وأشار إلى أن "هذه السياسة لها سابقة. فخلال معظم فترة الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا النازية في موقع الهجوم ضد الاتحاد السوفياتي، وكان إبقاء الجنود الألمان منشغلين في الجبهة الشرقية أمرا حاسما لانتصار الحلفاء. لذلك قام فرانكلين دي روزفلت بمساعدة جوزف ستالين من خلال تموين قواته وتنسيق جهود الحرب معه. وإذا استعدنا الأحداث يتضح أن هذه السياسة البغيضة أخلاقيا، ولكنِ الضرورية إستراتيجيا، حققت نجاحا. ستالين كان وحشا اسوأ بكثير من الأسد". وكتب بايبس: "الحرب العراقية- الإيرانية بين العامين 1980 و1988 أوجدت وضعا مماثلا. فبعد منتصف العام 1982، عندما أصبحت قوات آية الله الخميني في موقع الهجوم ضد قوات صدام حسين، بدأت الحكومات الغربية تدعم العراق. نعم النظام العراقي هو الذي بدأ الأعمال العدائية، وكان أكثر وحشية، لكن النظام الإيراني كان أكثر خطورة من الناحية العقائدية، وكان في موقع الهجوم. الخيار الأفضل كان أن تعيق الأعمال العدائية الطرفين لمنع أي منهما من الخروج منتصرا، أو في التعبير الساخر لهنري كيسنجر: من المثير للشفقة أن أيا منهما لا يستطيع ان يخسر".

وقال بايبس إن "تطبيق هذه السياسة على سورية اليوم تسوّغه أوجه شبه كثيرة: الأسد يشغل دور صدام حسين الديكتاتور البعثي الذي بدأ العنف. القوى المتمردة تشبه إيران. الذي كان ضحية في البداية يصبح أقوى مع الوقت، ويمثل خطرا إسلاميا متزايدا. القتال المستمر يعرّض الجوار للخطر. الجانبان ينخرطان في جرائم حرب، ويمثلان خطرا على المصالح الغربية. بهذه الروح فإني أدعو إذًا إلى أن تذهب المساعدة الاميركية إلى الطرف الخاسر أيا كان".

وذكّر بايبس بتحليلٍ كَتَبَه في العام 1987 يقول فيه: "في العام 1980 عندما هدد العراق إيران مصالحنا كانت على الاقل جزئيا تكمن مع ايران. ولكن العراق كان في الموقف الدفاعي منذ صيف 1982، والولايات المتحدة وقفت بحزم إلى جانبه. وإذا حاولنا الرجوع إلى ذلك الوقت واستقراء المستقبل، وعاد العراق الى موقع الهجوم، وهو تغيير لم يكن مرجحا، ولكنه لم يكن مستحيلا، فإن الولايات المتحدة كان سيتعين عليها أن تنتقل من ضفة إلى أخرى مجددا وتمنح دعمها إلى إيران". وأضاف بايبس: "نعم، بقاء الاسد يفيد طهران، النظام الأكثر خطورة في المنطقة، ولكن انتصار المتمردين، تذكروا، سيعزز كثيرا الحكومة التركية، التي تتحول بصورة متزايدة إلى حكومة مارقة، ويقوي الجهاديين، ويستبدل حكومة الأسد بإسلاميين منتصرين وهائجين. استمرار القتال يسبب ضررا أقل للمصالح الغربية من استيلاء الإسلاميين على السلطة. هناك توقعات أسوأ من أن يتصارع الشيعة والسنة، وأن يقتل جهاديو حماس جهاديي حزب الله والعكس. الأفضل ألا يفوز أي من الطرفين".

وقال بايبس إن "إدارة الرئيس باراك أوباما تجرب سياسة طموحة بشكل مبالغ فيه، ودقيقة تقوم على دعم المتمردين الجيدين بأسلحة قاتلة وشملت 114 مليون دولار من المساعدات، في الوقت الذي تستعد فيه لشن هجمات محتملة بطائرات من دون طيار ضد المتمردين السيئين. فكرة جيدة، لكن التلاعب بقوى الثوار من خلال التحكم عن بعد ليس له حظ كبير بالنجاح. في النهاية المساعدات ستقع في أيدي الإسلاميين، والضربات الجوية ستصيب المتمردين الحلفاء. من الأفضل أن يتقبل المرء حدوده وأن يطمح الى ما هو مُجْدٍ: دعم الطرف المتراجع". وتابع: "في الوقت نفسه يجب على الغربيين أن يكونوا أوفياء لأخلاقياتهم وأن يساعدوا في وقف الحرب على المدنيين، ملايين الأبرياء الذين يعيشون أهوال الحرب الاهلية. الحكومات الغربية يجب أن تجد آليات تلزم الاطراف المتنازعة بقواعد الحرب، خصوصا تلك القواعد التي تعزل المحاربين عن غير المحاربين. قد يشمل ذلك الضغط على ممولي المتمردين وداعمي الحكومة السورية لربط دعمهم بشرط الالتزام بقواعد الحرب. هذا سيلبي واجب الحماية". وانتهى بايبس إلى القول إنه "في اليوم السعيد الذي تحارب فيه إيران والأسد الثوار وأنقرة حتى يستهلكوا بعضهم البعض يمكن للحكومات الغربية عندها أن تدعم العناصر غير البعثية وغير الإسلامية في سورية لمساعدتها في توفير بديل معتدل عن خيارات اليوم البائسة وقيادة سورية إلى مستقبل أفضل".

وفى منتصف مدة البعثة اشتركت مع عدد من المبعوثين فى رحلة رتبها لنا اتحاد الطلبة المصريين فى بريطانيا إلى القارة الأوربية زرنا فيها بلجيكا، نقطة انطلاقنا هناك، وفرنسا وهولندا. وكانت رحلة رائعة بكل المقاييس، ولكنْ آثرتْ زوجتى أن تبقى فى أكسفورد وأعطيها ما كنت سوف أدفعه عنها هى والولدين فى الرحلة. وأحسب أنه قد فاتها الشىء الكثير بعدم اشتراكها فى تلك الرحلة. وقد شهدنا فى بروكسل وأمستردام شيئا لم نلحظه فى بريطانيا، ألا وهو عَرْض بيوت الدعارة لمومساتها فى نوافذ زجاجية كبيرة فى الشارع جالسات شبه عرايا على كراسىّ فوتيل انتظارا لما يجود به حظ كل واحدة منهن عليها من زبائن. كما شاهدت فى هولندا طواحين الهواء والتقطت لها بعض الصور عند الغروب فى طريق عودتنا إلى بلجيكا من أمستردام مرورا ببعض المدن الأخرى صيفا، وقد ساد نفسى السكون الجميل والابتهاج الهادئ الشامل. وكنا فى بروكسل ننزل فى فندق ثلاثة نجوم، لكنه نظيف، وكل أموره دقيقة منتظمة. ولم يكن يعجب المبعوثين أن ننزل فى فندق ينام فى كل غرفة من غرفه ثلاثة أشخاص كل منهم على سرير بسيط، وهو ما لم أجد فيه معابة أو غضاضة، إذ المهم عندى النظافة والنظام، وهما متوافران بحمد الله، فضلا عن كفاية الطعام وجودته. أما الغرف فلم نكن نصعد إليها إلا بعد العَشَاء، إذ كنا دائما نجوب شوارع بروكسل فى بلجيكا.

وفى هولندا سرنى جدا منظر طواحين الهواء ونحن نغادر تلك البلاد الصغيرة الجميلة الأنيقة. ولا أستطيع أن أنسى منظر بعض الشبان السود وهم يركلون كرة القدم فى الشارع وسط خطوط الترام فى منتتصف أمستردام، ويشوطونها فى أى اتجاه يحلو لهم، ثم يعدون وراءها يستردونها ويعاودون ركلها دون أى اعتبار لأى شىء، ولا أحد ينكر عليهم. كذلك رأيت بعض المباول المقامة على النهر مبنية على شكل أسطوانى له فتحة يدخل منها المتبول، فينزل ما يتبوله إلى النهر مباشرة من خلال ماسورة مدفونة فى باطن الأرض، وهو ما أثار نفورى واستغرابى رغم أنى أتيت من بلاد لا تهتم بنظافة ولا ذوق ولا لياقة. أما فى باريس فقد رأينا المسلة المصرية وبرج إيفل وأخذت صورا كثيرة هناك. وبالقرب من المولان روج بحى مونمارتر وجدت دكانا لبيع الأوانى الجنسية كالكوب الذى يبرز من قاعه عضو الذكورة منتصبا. وعلى نهر السين شاهدت باعة الكتب، وتوقفت عند بعضهم، فألفيته منهمكا فى قراءة كتاب وهو جالس وقد مدد رجليه فى وجوهنا غير مبال بأى اعتبار، وهو ما يستحيل أن تقابل مثله فى بريطانيا، إذ البائع يقف لك زنهارا طول الوقت لا يجلس أبدا، وهو يعرض عليه خدمته بكل أدب واحترام دون أن يفرض نفسه عليك أو يضايقك. كذلك لا بد أن أذكر أننى، عند تحميض الصور التى كنت ألتقطها فى بريطانيا وغير بريطانيا، وما كان أكثرها، كنت أبعثها بالبريد إلى أحد المعامل المختصة مستخدما أظرف خطابات مدفوعة الأجر مقدَّما من طرفهم، وكان محددا على الظرف سعر التحميض مضافا إليه فلم جديد بدل الفلم الذى تم تحميض صوره. وكان يتجمع عندى كثير من تلك الظروف التى كانوا يوزعونها علينا فى الشقق من خلال فتحة باب الشقة دون أى إزعاج للساكن، فكنت أستخدم القديم منها دون مبالاة بارتفاع السعر المكتوب على الظروف الجديدة، ولم يحدث قط أن قالوا لى إن هذا السعر قديم تم رفعه، بل كانوا يتعاملون بالسعر القديم المسجل على الظرف معتبرين هذا كلاما قطعوه على أنفسهم، فلا بد من الالتزام به. فأى براعة فى التعامل التجارى مع البشر يا إلهى هذا التعامل؟ وفى القهوة التى كنا ننتظر الحافلة بالقرب منها فى باريس قبيل العودة إلى بروكسل نقطة انطلاقنا كل صباح، حيث كان بعض زبائنها يجلسون على كراسى فوق الرصيف مثلما هو الوضع فى مصر وجدت الحمام البلدى، فاستغربت أشد الاستغراب، إذ كنت أظنه من بقايا العهود البائدة عندنا، فإذا بى أقابله فى مدينة النور على سن ورمح.

وكنا، فى الفندق البلجيكى، نقضى الجزء الأول من الليل قبل أن ننام فى الضحك والتهكم. ومن ذلك أنه كانت هناك جماعة من الكلاب نسمع نباحها فى فناء الفندق حين نخلد إلى غرفنا، فلاحظ بعضنا ضاحكا أن درجة علو نباحها يقل كل ليلة عن التى قبلها، وفسر ذلك بعبقريته الفريدة بأن الفندق يذبح بعضها كل يوم ويقدم لحومها لنا فى العشاء، فضحكنا. منه لله صاحب الملاحظة! وذات ليلة تهنا فى الشوارع، وأردنا الرجوع إلى الفندق فاستوقفْنا سيدة بلجيكية وشرحنا لها الوضع، ويبدو أنها وجدتنا قد ابتعدنا عن الفندق كثيرا، فقالت تعرب عن دهشتها: أُولَ الله. فقلت وأنا أضحك: مش حاقول ألله. أقصد أننا فى ورطة لا يناسبها أن نردد كلمة "الله"، التى نستخدمها عند إبداء الإعجاب لا عند الوقوع فى ورطة. وضحكنا. ثم عدنا بطبيعة الحال فى النهاية إلى الفندق. وكنت قد فتحت قبل السفر إلى بلجيكا الموسوعة البريطانية على مادة "بلجيكا" كى أعرف عن البلاد التى سنزورها ما يعيننى على التعامل معها وفهمها والاستمتاع بها.

وفى أثناء العودة إلى بريطانيا ركبنا العبّارة مثلما ركبناها فى الذهاب. ولكن على عكس المرة الأولى التى كان الموج فيها رهوا كان البحر هذه المرة مضطربا، فأُصِبْنا بدُوَار البحر، وشعرت بتعب بالغ وهمود تام، فكان أن تهالكت على كرسى هناك فى بهو السفينة عاجزا لا أستطيع شيئا بجانب كرسى تجلس عليه سيدة إنجليزية تعانى مثلما أعانى، وأنا أقول لها تعبيرا عما أشعر به من التضعضع: "I am going to die"، فرَدَّتْ على الفور: "So am I". فلم أتمالك نفسى من الابتسام رغم ما أنا فيه من عناء وتعب، للسجعة الظريفة التى لا أدرى أقصدتْها السيدة قصدا أم جاء ردها على عواهنه. وحين انتهت الرحلة شعرت أننا كنا فى الجنة، ثم طُرِدْنا منها. لكنْ خفف عن النفس عودتى إلى أحبائى: زوجتى وطفلىَّ، بارك الله فيهم.

وهناك شىء بدأت الاهتمام به وأنا فى بريطانيا، ألا وهو الرجوع الكثير إلى المعاجم العربية للتحقق من صحة استعمال هذه الكلمة أو ذلك التعبير أو ذاك التركيب. وكنت أفعل هذا حين أكتب رسالة لأحد الأصدقاء فى مصر أو أترجم شيئا من الكتابين اللذين ترجمتهما هناك من الفرنسية والإنجليزية. بل لقد ركبنى الوسواس فى هذا الصدد لدرجة مزعجة. وزاد الطين بِلَّةً شكى الكبير فى أن أستطيع العودة إلى التأليف مرة أخرى بعد انقطاعى عن ذلك طوال السنوات الست التى قضيتها هناك. وفى تلك الأثناء عرفت أن هناك أسماء كثيرة ثلاثية تقبل أكثر من ضبط ككلمة "رغْم" و"عبْر". وقد أضفت إلى ذلك فيما بعد لفظ "سمّ"، التى تضبط بفتح السين وكسرها وضمها بعدما كنت أظن أنها لا تقبل إلا فَتْحَ السين بمعنى "ثَقْب" وإلا ضَمَّها للسم القاتل.

وكان أحد الأسباب وراء ذلك هو أننى بدأت أنظر فى الكتاب المقدس كثيرا فلاحظت أنهم يحرصون على تشكيل كل كلمة بجميع ألوان الضبط التى تقبلها الكلمة، فيضعون على راء "رغْم" مثلا ضمة وفتحة وكسرة فى نفس الوقت. وطبعا كانت أخطئ فى ضبط بعض الكلمات جريا مع الاتجاه العام جاهلا أنه خطأ، كما هو الحال مع لفظ "ثقْب"، الذى كنت أضم قافه، فنبهنى زميل لى قبل سفرى إلى بريطانيا بأن الصواب فتحها. وكنت أراسل أصدقائى وزملائى المصريين من بريطانيا وأصف لهم فى تحمسٍ ونشوةٍ كل ما يلفت نظرى مقارنا بين الأوضاع هناك ونظيراتها فى بلادنا المحروسة. وحين عدت من البعثة استرددت بعض تلك الخطابات، وما برحت أحتفظ بها حتى الآن على أمل التمكن من نشرها يوما كى تعطى القارئ صورة لتفكيرى واهتماماتى وآرائى ومواقفى فى ذلك الحين. وهى خطابات ضاحكة فى كثير من الأحوال.

وقبيل عودتى إثر حصولى على الدكتورية فكرت فى أن أتعلم الفارسية والألمانية والعبرية على أن أبدأ هذا المشروع عقب وصولى إلى مصر، واشتريت لهذا الغرض بعض المعاجم الخاصة بتلك اللغات. بل لقد شرعت أتعلم على نفسى الفارسية وأنا لا أزال فى لندن، ومضيت فى ذلك شوطا معقولا حتى لقد كنت أستطيع التكلم بها فى أمور الحياة اليومية بينى وبين نفسى واضعا فى ذهنى أنه قد تتاح لى فرصة للذهاب إلى إيران والعمل ولو أستاذا زائرا فى إحدى جامعات طهران رغم أن فورة حماستى الأولى للثورة الإيرانية كانت قد خفت بعدما تنبهت إلى أنها ثورة شيعية قبل أن تكون إسلامية. أما الألمانية فقد انتسبت أنا وزوجتى بعد رجوعنا إلى القاهرة إلى معهد جوتة بوسط البلد، وقطعت المراحل الست فى المعهد فى ثلاثة فصول دراسية ليس إلا. لكن لسبب لا أذكره الآن انقطعت عن متابعة آخر مرحلة إلى نهايتها فلم أدخل امتحانها، وتوقفت عن الذهاب إلى المعهد المذكور. ومع هذا كنت قادرا على قراءة ترجمات القرآن الألمانية بغير قليل من اليسر. ولهذا يرى القارئ فى بعض كتبى فى ذلك الوقت أسماء عدد من تلك الترجمات.

ثم حدث أن سافرت فى آخر ثمانينات القرن البائد إلى السعودية فى إعارة لفرع جامعة أم القرى بالطائف، فاصطحبت معى بعض هذه الترجمات، التى كانت قد أرسلتها لى، تباعا من ألمانيا، مستشرقة ألمانية شابة لطيفة مهذبة عرفتها أنا وزوجتى فى القاهرة هى مارينا هاوكه، التى كرَّمتنى مشكورة بإرسال نسخة من رسالتها الأكاديمية بعد أن أحرزتْ درجة الدكتورية. إلا أن عدم وجود مطبوعات ألمانية بالسعودية وانشغالى هناك بتأليف الكتب شغلنى عن متابعة التبحر فى لغة الجرمان، بل أنسانيها بعد ذلك مع الأيام. أما العبرية فلم يتعد الأمر حدود الأمانى، إذ فكرت ذات مرة فى الانتساب إلى قسم اللغة العبرية بآداب عين شمس، إلا أننى لم أنفذ شيئا من تلك الأمنية، فبقيت حبيسة القلب، ثم أُنْسِيتُها مع الزمن.

وقبيل عودتى من بريطانيا إلى مصر استخرجت أنا وزوجتى اشتراكين فى الأوتوبيس وجبنا بهما أرجاء لندن على مدى أسبوع كامل استمتعنا خلاله كما لم نستمتع طوال السنوات الست التى قضيناها فى بريطانيا. لقد كنت انتهيت من الدراسة، وصرت فى حكم الحاصل على الدكتورية، فضلا عن أننا أصبحنا نتصرف هناك كما لو كنا من أهل البلاد، فلا حنين مؤلم ولا ملل ولا كآبة رغم أننا كنا نتطلع إلى العودة، لكنه التطلع المبهج لا المزعج كما كان الحال فى بداية إقامتنا فى بلاد الإنجليز على ما حكيت من قبل. وكنا، خلال هذا الأسبوع، نخرج من البيت صباحا وقد جهزنا الشطائر والعصائر، إلى جانب ما كنا نشتريه ونحن بالخارج من آيس كريم وما إليه، ونظل طول النهار وجزءا من الليل نركب هذه الحافلة أو تلك فى الطابق الثانى ونتفرج على الشوارع والمحلات إلى أن نجد شيئا مغريا فننزل من الحافلة ونتمشى فى ذلك المكان حتى نشبع منه، فنركب حافلة أخرى تقلنا إلى حى آخر حسب المصادفة. وفى النهاية حين نشعر أننا قد ارتوينا بهجة ومسرة كنا نعود إلى البيت... وهكذا دواليك طوال الأيام السبعة، التى يمكن أن نسميها على طريقة أفلام الستينات المصرية: "سبعة أيام فى الجنة". لقد كنا فى الصيف آنذاك، وما أدراكم ما الصيف فى بريطانيا؟ وتبدت لنا لندن فى أبهى زينتها، وكنا نحن أيضا فى أحسن حالاتنا النفسية. وكنت، حين أعود آخر النهار، أعكف على رسالتى الجامعية أترجم منها مقطوعية ذلك اليوم حتى انتهيت منها مع انتهاء الشهرين اللذين أعطانى المكتب الثقافى الحق فى قضائهما فى بريطانيا مطلق السراح لمجرد الاستمتاع بعد الانتهاء بنجاح من الدكتوراه. يا لها من أيام!

هذا، ولا بد عن كلمة عن الجو فى بريطانيا. إنها فى الصيف، حين تشرق الشمس، جنة الله فى الأرض بخضرتها وغزارة أشجارها ورقة شمسها وتنوع تضاريسها وجمال ريفها وما فيه من نظافة ونظام. وهو ما ينطبق على مدنها أيضا، فالمشى فيها متعة، إذ الرصيف موجود فى كل مكان لا يغيب أبدا بحيث إنك تمشى من أول المدينة إلى نهايتها دون أن تغادر الرصيف، اللهم إلا حين تريد عبور الشارع فحسب. كما أن الحمامات متوافرة فى كل مكان لا ينقطع منها الماء ولا الصابون ولا المناشف، وهى نظيفة تمام النظافة، فلا قاذورات ولا نتانات، وإن كانت العبارات والمناظر البذيئة موجودة على جدران مراحيضها وبطانات أبوابها رغم ما يسود المجتمع هناك من إباحية كنت أتصور أنها كفيلة بانصرافهم عن كتابة مثل تلك العبارات أو رسم هذه المناظر.

أما فى الشتاء فتهبط درجة الحرارة فى بعض الأحيان إلى مستوى لا يطاق. كنت فى زيارة للندن يوما مع رجلين من الباكستان حين كنت لا أزال من سكان أكسفورد، وكان الجو باردا، ورغم أنى كنت مرتديا سترة صوفية وبلوفرا صوفيا ومعطفا صوفيا فقد شعرت حين نزلت من السيارة أن مناشير تقطع عظامى. رهيب! كما أننى، فى الشتاء الذى سبق عودتى، كنت بصحبة مصرى فى سيارته قريبا من أكسفورد فى مشوار ما، وكانت ندف الثلج قد شرعت تنزل ونحن نغارد لندن صباحا، إلا أننى لم أكن أشعر بأى برد وأنا بداخل السيارة نظرا لتشغيله التكييف الممتع الذى كان يشع دفئا حنونا. وفجأة تعطلت السيارة بالليل قريبا من إحدى القرى الأكسفوردية، وفى اليوم التالى كان علينا أن نسير إلى البيت الذى كنا قد استأجرنا فيه الليلة السابقة غرفة نقيم فيها إلى أن يذوب الجليد بضع عشرات من الأمتار فى الثلج الذى كان قد تكاثف، فكنت أشعر بنار لا تطاق فى قدمىَّ وكأننى أعذَّب فى الجحيم. بل لقد شعرت أنهما قد انتفختا وبلغتا من الضخامة بحيث أمستا تملآن الكون كله، فكدت أبكى لولا بقية من تجمُّل لم يشأ أن يتخلى عنى فيفضح ضعفى. وما إن بلغنا الغرفة المستأجرة حتى تشهدت غير مصدق بالنجاة، وأخذت حماما ساخنا وصليت، ثم فتحت كتابا معى بعنوان "An Apology for Mohammed and the Koran" لجون دافنبورت، من مطبوعات القرن التاسع عشر، ومضيت أقرأ فيه فى سكينة وسلام واستمتاع بدفء الغرفة، بينما استراح زميلى فى سريره. وفى بعض أيام الشتاء ينتشر الضباب ويصبح النهار مظلما كأنه ليل حتى إنك لا تستطيع أن تبصر جارك فى الطريق إذا ابتعد عنك مترا.

وكنت ذات صباح فى هستنجز أيام كنا نسكن مع أسر بريطانية كى نتعود على التفاهم بالإنجليزية ونلتقط بعض التعبيرات الحية من أفواه أفرادها، وكنت لابسا سترة بلاستيكية سميكة محشوة ضد البرد، وهطل المطر وأنا أسير فى طرقات المدينة قرب البيت الذى أنزل فيه، فلجأت إلى ركن بين المساكن مزدحم بالشجر، وجلست على مقعد حجرى هناك، وأخذت أفكر فيما عساى أقوله لأصدقائى وصفا لما أنا فيه الآن، فخطر لى أبيات أبى القاسم الشابى التالية التى تبدو وكأنه قد نظمها خصيصا فى وصف سترتى التى تقينى البرد والمطر:

سقف بيتى حديدْ * ركن بيتى حجرْ

فاعصفى يا رياحْ * وانتحب يا شجرْ

واسبحى يا غيومْ * واهطلى بالمطرْ

واقصفى يا رعودْ * لست أخشى خطرْ

وقلت لنفسى: صدق الإنجليز حين قالوا فى مثل هذا المطر الغزير الذى يَسُحّ سَحًّا: إنها تمطر قططا وكلابا (raining cats and dogs). وكنت سعيدا وأنا فى موقفى ذاك الغريب.

وأخيرا حان ميعاد العودة إلى أرض الوطن بعد غيابٍ امتدَّ سِتَّ سنواتٍ زرتُ فيها مصر أنا وأسرتى فى منتصف المسافة لمدة شهر. وكانت عودتى فى بداية العام الدراسى 1982- 1983م، وتسلمت عملى، وأعطَوْنى جدولا لم أكن مستعدا له، إذ كان علىَّ بمقتضاه أن أتناول بالتحليل قصائد من العصر الإسلامى والأموى، والعصر العباسى، والعصر الحديث، إلى جانب مادة الترجمة، ومادة القصة، فاشتريتُ نسخة من كتاب "المنتخب من أدب العرب" وقمت باختيار عدد من القصائد الإسلامية والأموية والعباسية مما يتضمنه من أشعار، أما قصائد الشعر الحديث فقد انتقيت نصوصها المبكرة من هذا الكتاب، والباقى من دواوين أصحابها مباشرة. كما اخترت عشر روايات مشهورة قمت بتحليل كل منها فى نحو عشرين صفحة. وبذلك مر العام الدراسى معى على خير.

وبالنسبة للترجمة اخترت عددا من النصوص الإنجليزية التى تناسب الطلاب المصريين، وقمت بترجمتها شارحا فى الهوامش الطريقة التى ترجمتها بها والأسباب التى دفعتنى إلى اتباع تلك الطريقة ولماذا قسمت هذه الجملة الإنجليزية إلى جملتين فى الترجمة أو ضممت هاتين الجملتين فى جملة واحدة، ولماذا زدت هنا كلمة، وحذفت هنا أخرى... إلخ، مع اهتبال كل سانحة للمقارنة بين اللغة الإنجليزية واللغة العربية من ناحية العبارات والتراكيب والنحو والمفردات وغير ذلك. ولم أكتف بهذا الجانب التطبيقى، بل قدمت للكتاب بمقارنة نظرية بين اللغتين، وإن لم تكن شديدة التفصيل، قصدت بها تنبيه الطالب إلى الطريقة التى يمكن أن يتعامل بها مع الإنجليزية حين يريد ترجمة نص من نصوصها إلى لغة الضاد. وسميت الكتاب: "الترجمة من الإنجليزية- منهج جديد". وكان الكتاب ثمرة سريعة لما مررت به من تجارب أثناء تعلمى لغة جونبول.

إلا أن لجنة الترقية التى قرأت أعمالى بعد نحو خمس سنوات لم تجد فى الكتاب أى شىء صالح البتة، مثلما لم يعجبها شىء فى كتابى الآخر: "فصول من النقد القصصى"، إذ ما من شىء كتبتُه فى ذلك الكتاب إلا أنكرتْه اللجنة المذكورة كما هو الحال حين أتت إلى تحليلى لرواية نجيب محفوظ: "رحلة ابن فطومة"، الذى تناولتُ فيه أسلوبها وشخصياتها وبناءها الفنى ورموزها رمزا رمزا والقضايا التى عالجتْها، فلم تبال اللجنة الموقرة بأى شىء من ذلك، وشرعتْ تنتقد وتستنكر عائبة علىَّ، إى والله، أننى لم أهتم بفك الرموز التى تحتوى عليها الرواية. بالله ماذا يمكن أن يقال فى الرد على هذا الانتقاد؟ شكرا جزيلا. لقد سكتُّ، وتركت كتابى يشهد لى يوم القيامة حين نقف أمام الديان سبحانه وتعالى. المضحك أن الذين يتقدمون للترقية اليوم يمكنهم الاكتفاء بعدة أبحاث صغيرة لا تزيد على أربعة فصول من كتابى المذكور حجما وموضوعا، مع ضرورة التنبيه إلى أن هذا الكتاب كان واحدا من ثمانية كتب تقدمت بها إلى لجنة الترقية.

وأذكر أننى، فى العام الأول بعد عودتى من بريطانيا وانخراطى فى العملية التعليمية، قد أنفقتُ مع الطلاب فى المحاضرات شهرا كاملا فى تحليل قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير الشاعر المخضرم المشهور، ولم أكد أترك فيها شيئا دون شرح، ثم بعد أن انتهيت من الشرح والتحليل والقراءة المتكررة طلبت من الطلاب أن يقوم أحدهم فيتلو القصيدة بصوتٍ عالٍ حتى أطمئن إلى أنهم قد فهموها ومن ثم يستطيعون قراءتها قراءة سليمة، فرفع طالب يده فى تحمس شديد طالبا التلاوة، فأعطيته الإذن بعدما اطمأننت إلى أنه ذو صوت مجلجل واثق يسمعه كل من فى قاعة المحاضرة من الطلاب بوضوح تام، كما كانت مخارج الألفاظ عنده واضحة جدا، إلا أن الرضا لم يستغرق أكثر من الزمن الذى استغرقه نطق الشطر الأول من البيت الأول، إذ سمعت الطالب ذا الصوت المجلجل والثقة الشديدة بالنفس والمخارج الواضحة يقول: "بانت سعادُ، فقلبى اليوم مُتَبَوِّلْ". فشعرت للتو أنى قد سقطت من حالق على جذور رقبتى، وضحكت وضحك الطلاب، وقلت فى نفسى: لله يا زَمْرِى! أهذه هى ثمرة الجهد المضنى الذى بذلته طوال شهر كامل؟ ترى ما علاقة الحب والعذاب والهوان الذى يلاقيه المحب على يد حبيبته بالتبول؟ الحمد لله أن الأمر قد وقف عند حد التبول لم يتجاوزه إلى شىء آخر! ثم كيف فات الطالب اللوذعى أن التبول لا علاقة له بالقلب؟

لقد أنفقنا وقتا طويلا على مدار أربعة أسابيع نحاول أن نعرف: هل سعاد هذه امرأة حقيقية أو مجرد رمز؟ وإذا كانت امرأة حقيقية فكيف لم يجد الشاعر حرجا فى أن يتحدث أمام النبى عن سحر فمها وحلاوة ريقها ثم يشبّه هذا الريق بالخمر متفننا فى وصفها بما يدل على أنه عاشق موله بالشراب؟ بل كيف تركه النبى يقول هذا الذى قال؟ وإذا كانت مجرد رمز فما المقصود بها؟ هل المقصود بها مثلا الجاهلية، التى يراها الشاعر قد خذلته ولم تنفعه بشىء أمام المد الإسلامى الكاسح؟... إلى آخر تلك القضايا التى تثيرها القصيدة الجميلة. لكن الطالب العبقرى قد ترك هذا كله إلى البول والتبول. ولكن يحمد له على كل حال أنه لم يطالب بأخذ عينة من بول الشاعر لتحليلها فى أحد المعامل لمعرفة مدى إصابته بالسكر جراء القهر الذى جرعته إياه حبيبته القاسية الظالمة. وهكذا يكون التعامل مع النصوص الشعرية على أيدى بعض طلابنا. ومع ذلك فقد كان مستوى الطلاب فى تلك الحقبة أفضل كثيرا من مستواهم حاليا. سألتنى منذ أيامٍ طالبة من طلاب السنة التمهيدية لدراسة الماجستير، متخصصة فى الأدب العربى ولغته، عن معنى كلمات كـ"طنطنة" و"على عواهنه" وما أشبههما من الألفاظ والعبارات، بينما اكتفى زملاؤها وزميلاتها بالنظر إليها دون أن يتقدم أحد للرد على استفساراتها بما يدل على أن المستوى واحد.

وكنت، وما زلت، أحاول دائما انتهاز كل فرصة لتقديم الجديد فى محاضراتى وكتبى ودراساتى حتى لو كان الموضوع الذى أعالجه قد سبق أن كتب فيه مؤلفون كثيرون. ودائما ما أقول لطلابى إننى أفيد من أسئلتهم وتعليقاتهم مهما كان مستواها، وإن الأستاذ لا يستغنى عن طلابه، إذ إنهم بما يقولونه فى المحاضرة يستفزون عقله وفكره وخياله، أو هذا ما يحدث معى على الأقل. ودائما ما أكرر على مسامعهم أن الأستاذ مشروع فكرى لا يكتمل أبدا حتى لو امتد عمره إلى يوم الدين، وإن من الطلاب من يمكن أن يعرف ما لا يعرفه أستاذه رغم آلاف الكتب التى قرأها واحد مثلى.

فمثلا كنت أحاضر طلابى فى قسم اللغة العربية بآداب عين شمس أواخر ثمانينات القرن الماضى فى موضوع "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وهو الموضوع الذى كنت قد وضعت فيه كتابا بهذا العنوان، وإذا بطالب يرفع يده ويقول إننى قد ظلمت طه حسين. يقصد أننى قد اتهمته بأنه أخذ إنكاره للشعر الجاهلى من المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث. وفى الحال وجدتنى أقول له: اسمع يا فلان. لقد نسيتُ، وأنا أؤلف ذلك الكتاب، شيئا مهما لا أدرى كيف ولا لم فاتنى، ألا وهو الرجوع إلى كتاب "قادة الفكر" للدكتور طه حسين، إذ فيه فصل هام عن هوميروس وردتْ فيه الإشارة إلى الشعر الجاهلى وجاهلية اليونان. أرجو أن تنزل الآن إلى المكتبة وتستعير الكتاب المذكور وتحضره بسرعة. وذهب الطالب، لكنه لم يستطع اللحاق بالمحاضرة مرة أخرى، فأتى إلى مكتبى حيث ألفانى أنتظره مع بعض زملائه، وفى يده الكتاب، الذى أخذته منه شاكرا له تعبه، وفتحتُه على الفصل الأول الخاص بهوميروس وشرعت أقلب صفحاته. ولم يطل بنا الانتظار، إذ وقعتُ على نصٍّ مهمٍّ جدا للدكتور طه يقول فيه إنه ما كانت الحضارة الإسلامية، التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لِتُوجَد لو لم توجد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم. هكذا بالنص على ما سوف يأتى بيانه.

فأريتُ النصّ للطلاب ثم شفعتُ ذلك، وأنا أبتسم، بسؤال الطالب الذى فجَّر المسألة قائلا: "أوما تزال عند اتهامك لى بأنى ظلمت طه حسين؟ إن هذا الكتاب، كما يتضح من مقدمته، قد صدر قبل ظهور البحث الذى وضعه مرجليوث عن الشعر الجاهلى بأسابيع قليلة جدا مما يدل على أن الدكتور طه لم يكن، حتى ظهور دراسة مرجليوث، يشك أدنى شك فى صحة الشعر الجاهلى أو فى وجود شعرائه. ثم إنه لم يكتف بذلك، بل ها هو ذا يؤكد أنه لولا وجود ذلك الشعر ما وُجِدت الحضارة الإسلامية. وهو كلام كبير وخطير!". وقد انتهى الأمر بعد فترة بأن وضعتُ بحثا من عشرات الصفحات برهنت فيه على أن طه حسين لا يمكن إلا أن يكون أخذ نظريته فى إنكار الشعر الجاهلى من مرجليوث، وإن لم أنشر هذا البحث على المشباك إلا بعد ذلك بسنوات، وعنوانه: "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟". وبجده القارئ فى كتابى: "دراسات فى اللغة والأدب والدين".

وفى إحدى المحاضرات أواسط تسعينات القرن المنصرم بتربية الطائف، وكنت أتحدث أوانئذ عن بشار وابن المقفع، انبرى بعض الطلاب السعوديين يرددون على سبيل الجزم ما يقال عن زندقة بشار وابن المقفع، فقلت لهم إننى لم ألحظ فيما تركه الرجلان من آثار أدبية ما يدل على زندقة. ثم وعدتهم أننى سأحاول أن أكتب فى ذلك الموضوع: فأما بالنسبة لبشار فقد كتبت عقيب ذلك كتاباكاملا تجاوز أربعمائة الصفحة عنه، وفيه فصل طويل عن عقيدته فتشت فيه كل شىء يتعلق بتلك القضية من أخبار الشاعر وشعره وأحداث حياته وكلام العلماء عنه وعن دينه لأنتهى، بضمير مستريح، إلى القول بأننى لا أستطيع أبدا المشاركة فى اتهام الرجل بالزندقة.

أما ابن المقفع فقد بحثت طويلا، ولكن دونما طائل، عن كتاب الطباطبائى الذى ادعى فيه أن ابن المقفع قد وضع كتابا فى معارضة القرآن. ولهذا لم يتسن لى أن أضع وعدى عنه موضوع التنفيذ. وأخيرا منذ سنوات ثلاث تقريبا استطعت الوصول إلى صورة من كتاب الطباطبائى بتحقيق المستشرق الإيطالى فرانشيسكو جبرييلى أرسلها لى من سويسرا الأستاذ ثابت عيد مشكورا ومأجورا، وطبعة جديدة بتحقيق جديد، وإن كان رديئا، كانت صادرة لتوها زودتنى بها طالبة ذكية ترتدى النقاب، فكافأتها على اهتمامها بما أرجو أن يكون قد أدخل على قلبها السرور كما أدخلت هى مشكورة على قلبى السرور. وكانت ثمرة ذلك كتابة دراسة من عشرات الصفحات عن عقيدة ابن المقفع أثبتُّ فيها أن ما قيل عن زندقته هو كلام مرسل لا أساس له من الصحة. والدراسة منشورة على المشباك منذ ذلك الحين. ويجدها القارئ مطبوعة فى كتابى الآنف الذكر.

ومنذ عدة سنوات قليلة كنت فى سبيلى إلى دخول محاضرة للسنة الأولى بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس فى مادة "ثقافة العرب قبل الإسلام"، فقابلنى فى الطرقة طالب من طلاب السنة التمهيدية لدراسة الماجستير، ولما علم أننى داخلٌ محاضرةً استسمحنى أن يحضرها بدلا من تضييع وقته دون استفادة، إذ اعتذر أحد أساتذتهم عن حضور محاضرته فى ذلك الوقت، فأذنت له. وما إن شرعت أتكلم فى موضوع الدرس، وكان عن انتحال الشعر الجاهلى ونحله، حتى اندفع يقول إن ابن سلام قد أنكر الشعر المنسوب إلى عاد وثمود متسائلا: من أدى لنا ذلك الشعر يا ترى، والقرآن يقول إن هاتين القبيلتين قد بادتاعن آخرهما، فلم يبق منهما أحد يمكن أن يروى لنا شعر شعرائهما؟ والطريف أننى، ككل الباحثين، كنت أتقبل ما قاله ابن سلام دون نقاش على أنه هو الحق الذى لا يأتيه الباطل من أية جهة، لكن ما إن سمعت ما تفوه به الطالب على غير انتظار ولا مقدمات حتى قلت له من فورى: هل تظن أن الله سبحانه قد أهلك مع عاد وثمود نبييهما؟ فأجاب أنْ لا. فعدت فسألته: وهل تظن أنه سبحانه قد أهلك معهما من آمن من تلك القبيلتين بهما؟ فعاد يقول: لا. قلت للطلاب: أعطونى مصحفا وافتحوه على آيات سورة "هود" التى تتكلم عن هذين النبيين وقوميهما. ثم قرأت من السورة المذكورة قوله تعالى عن القبيلتين المذكورتين وما أنزله بكل منهما من عقاب: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ"، "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ" (الآيتان 58، 66)، ثم عقبتُ قائلا: فمن الواضح أن عادا وثمود لم تُسْتَأْصَلا على بَكْرَة أبيهما، بل نجى الله نبييهما ومن آمن بهما، وإذن فمن المحتمل جدا أن يكون بعض هؤلاء المؤمنين الناجين من القبيلتين هم الذين رَوَوْا ما بلغنا عنهما من شعر. أقول: من المحتمل، ولا أجزم بالأمر.

وعلى هذا تسقط حجة ابن سلام، التى غبنا نرددها كل هذا الوقت الطويل دون أن نتريث لحظة لنعيد فيها النظر. ولم أكتف بهذا، بل سرعان ما كتبت بحثا كبيرا أناقش فيه كل ما كتبه ابن سلام عن ذلك الموضوع فى مقدمة كتابه: "الشعر والشعراء"، فوجدته قد غالى فى شكوكه دون داع. صحيح أنه لا بد أن يكون هناك شعر جاهلى منحول ومنتحَل، لكن ليس بهذا الاتساع ولا للأسباب التى ساقها ابن سلام بالضرورة. ويجد القارئ هذا البحث فى بداية كتابى: "الأدب العربى- نظرة عامة لبيير كاكا: عرض ومناقشة" تحت عنوان "ابن سلام و الشك فى الشعر الجاهلى". فكما يرى القارئ كان للطلاب فضل علىَّ من خلال تعليقاتهم واعتراضاتهم وأسئلتهم العارضة. فما بالك لو كانوا يقرأون كتبا ودراسات إضافية غير ما هو مقرر عليهم، ويفكرون فيما يقرأون ويقلبونه فى أذهانهم لتكوين رأى خاص بهم يتحمسون من أجله ويدعون له ويدافعون عنه، ولا يكتفون بالحديث العفوى عما بقى فى أذهانهم مما سمعوه ذات مرة فى محاضرة أو طالعوه فى كتاب مقرر قرأوه من أجل الامتحان؟

وقد ألفت بعد عودتى من بريطانيا كثيرا من الكتب والدراسات ونشرتها ورقيا، كما نشرت فى السنوات العشر الأخيرة الكثير جدا مما كتبتُ على المشباك (الإنترنت). ومما ألفته من كتب أرجو من الله أن يجعلها فى موازين حسناتى الشائلة: "المستشرقون والقرآن" و"مصدر القرآن" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل" و"نظرات فى الموسوعة العربية الميسرة" و"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" و"لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه" و"الحضارة الإسلامية- نصوص من القرآن والحديث ولمحات من التاريخ" و"أفكار مارقة" و"فى التصوف والأدب الصوفى" و"عصمة القرآن وجهالات المبشرين" و"الفرقان الحق: فضيحة العصر" و"موسم الهجوم على الإسلام والمسلمين" و"دفاع عن النحو والفصحى" و"وليمة لأعشاب البحر بين قيم الإسلام وحرية الإبداع" و"مع الجاحظ فى رسالة الرد على النصارى" و"إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية: خطاب مفتوح للدكتور محمود على مراد"، و"ثورة الإسلام: أستاذ جامعى يزعم أن محمدا لم يكن إلا تاجرا" و"افتراءات الكاتبة البنجلاديشية تسليمة نسرين على الإسلام والمسلمين – دراسة نقدية لرواية العار" و"النزعة النصرانية فى قاموس المنجد"... إلخ... إلخ.

ولعل القارئ قد لاحظ أن كل الكتب المذكورة فى الفقرة السابقة هى دراسات إسلامية، وقد يتسرع بعض القراء فيظنون أننى لا أعتز إلا بهذه الكتب تصورا منى أن الله سبحانه لا يأجر الكاتب إلا على كتبه الدينية. بيد أنى أسارع هنا إلى التأكيد بأن هذا المعنى أبعد ما يكون عن ذهنى وقصدى، فالله سبحانه يأجر المؤلفين على كل حرف يكتبونه، سواء كان فى الدين أو فى الكيمياء أو الفيزياء أو النحو أو اللغات الأجنبية أو الطب أو فى غير ذلك، فمداد العلماء، أىِّ علماء، يساوى عنده سبحانه وتعالى دماء الشهداء دون تفرقة بين عالم وعالم. لكننى قد أردت أن ألفت نظر القارئ إلى أننى، وإن كنت متخصصا فى الأدب العربى والنقد الأدبى، لم أنحصر فى نطاق تخصصى لا أخرج عنه.

كذلك فإن لبعض هذه الكتب حكايات تستحق أن تُرْوَى: من ذلك مثلا أننى، وأنا فى السعودية معارا إلى جامعة أم القرى بفرع الطائف، فوجئت بزميلنا رئيس القسم، وكان مصريا، يخبرنى ذات يوم بأن "فلانا الفلانى"، قبل أن يغادر المملكة عائدا إلى مصر بعد انتهاء مدة إعارته، قد كتب فىَّ إلى إدارة جامعة أم القرى شكوى يتهمنى فيها بالكفر مرفقا بها نسخة من كتابى: "مصدر القرآن" كدليل على هذا الكفر بعدما سرقها من مكتبة زميل مصرى آخر يشتغل معنا فى ذات الجامعة كنت أهديتها إليه. فاستغربت الخبر لأكثر من سبب: أن كتابى هو دفاع علمى شرس عن صدق نبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ودعنا من الكتب الأخرى التى نذرت نفسى فيها للتصدى للمستشرقين والمبشرين وكارهى الإسلام عموما. فكيف بلغت بفلان الفلانى الجرأة والوقاحة مبلغ قلب الحقائق وجعل الدفاع عن الإسلام ونبيه كفرا وضلالا؟ ثم إن هذا الفلان الفلانى كان معروفا بأنه شَخَّارٌ نَخَّارٌ سبَّابٌ للدين، ولا يذكر أمه إلا بسوأتها، ولا يجد حرجا فى أن يتحدث عما يجرى بينه وبين زوجته فى الفراش، فضلا عن أننى قد ساعدت هذا الفلان الفلانى مساعدة فعالة وحاسمة على تأليف معجم نشره وأخذ منه مالا غير قليل، وهو الذى لم يكن قد كتب فى ذلك الموضوع سوى صفحات لا تصلح أن تكون معجما ولا نصف معجم ولا حتى عُشْرَه، بل لم يفكر مجرد تفكير فى أن يجعل منه معجما، لكنْ مجرد بحث صغير فى ورقات معدودات، فظللت معه، مخالفا مشورة زوجتى، التى كانت ترى فيه شخصا لا يُؤْمَن جانبه، أوجّهه وأدله على المصادر والمراجع وأخطط له المنهج الذى ينبغى أن يكون عليه الكتاب، وأمده بالمعاجم الأجنبية التى لا يفقه من لغاتها ولا من أية لغة أجنبية أخرى شيئا بالمرة، وغير ذلك من ألوان المساعدة حتى انتهى من المعجم، فأخبرنى أن اسمى سوف "يلعلع" فى المقدمة باعتبارى صاحب الجميل الأوفى عليه. وفوق ذلك كنت أحيانا ما أدخل الأستوديو الذى يحاضر منه للطالبات عن طريق الدائرة التلفازية المغلقة، ويتصادف أن تكون الطالبات قد سألنه سؤالا محرجا فيغلق الميكروفون ويسألنى عن الجواب فأمده به، كما هو الحال حين سالنى مرة عن الفرق بين الوزن الصرفى للفعل المضارع: "يَرْجُون" حين يكون للرجال وبينه هو نفسه حين يكون للنساء، فقلت له: إنه "يَفْعُون" و"يَفْعُلْنَ" على التوالى، ثم شفعت ذلك بشرح السبب الذى وراء هذا الفرق بين الوزنين، كل ذلك اعتمادا على ما كنت درسته فى المرحلة الإعدادية بالأزهر. وفوق هذا كانت الكتب التى ألفها فى النحو تتميز بالسذاجة والاضطراب والغموض فى الشرح والاهتزاز فى تعريف المصطلحات التى يعرفها كل من له أى تماس بذلك العلم. ومع هذا كله فإن المعجم المذكور، عندما خرج إلى النور، كان يحمل أسماء عدد ممن كانوا يعملون معنا فى القسم رغم أنهم لم يساعدوه عشر معشار ما ساعدته، ما عدا اسمى أنا. ولم أقف كثيرا عند هذا، وإن كنت لم أعرفه إلا بعد عودتى أنا أيضا من الإعارة بزمن غير قصير.

كذلك استغربت الأمر لأن ما أخبرنيه الزميل المذكور لم يكن له من معنى إلا أن القسم كان يعلم بالشكوى الكاذبة ولم يتحرك ويتصل بالجامعة يُفْهِمهما أن الأمر كيدى لا أساس له من الصحة مع أنهم جميعا كانوا يكرهون فلانا الفلانى هذا ويَرَوْنَه شرا محضا، لكنهم كانوا جميعا يخشون أذاه. ثم لماذا يقول لى الزميل هذا الكلام الآن بعدما صار فى ذمة التاريخ؟ والعجيب أنه قد تبين لى أن لِحْيَةً تولت بعد ذلك رئاسة إحدى الجمعيات الإسلامية فى القاهرة كانت مشتركة فى الأمر ولو بالصمت وانتظار الأذى، إن لم يكن اشتراكا إيجابيا. ومن أطرف الأمور أنه، بعد مرور سنوات غير قليلة أعيد طبع "مصدر القرآن"، الذى كان فى الطبعة الأولى مكتوبا باليد بخط النسخ، وأخذه الناشر وعرضه فى معرضٍ كتابىٍّ كانت جامعة أم القرى قد أقامته فى رحابها، فكان أحد الكتب التى حظيت فى هذا المعرض بالثناء وعُلِّق اسمه فى لوحة الشرف. لقد مات صاحب اللحية، وكنا نسميه: "الرجل المرقَّع" لخفة ظله ولأنه كان يفوت فى الحديد مهما كانت صعوبة المأزق الذى يجد نفسه فيه، ولحرصه الواضح على المال.

ويوم مات كتب عنه أحد الصحفيين الشبان يثنى على زهده وعزوفه عن ملذات الدنيا، فذكر أنه دخل عليه يوم عيد الأضحى فوجده يأكل الفول النابت عازفا بهذا عن اللحم زهدا فى طيبات الحياة. فضحكتُ لأنى أعرف من حرصه الشديد على المال ما لا يعرفه الصحفى الشاب الساذج حتى إنه كان يقتسم هو وأسرة زوج ابنته الأستاذ بالجامعة وبنتان أخريان له فى سن الزواج شقة واحدة توفيرا للفلوس رغم كبر مرتبيهما، وحتى إن الطعام الذى كان يقدمه لزملائه فى جامعة أم القرى حين تأتى نوبته لدعوتنا إلى الطعام طبقا للنظام الذى كنا نجرى عليه ونُدْعَى بمقتضاه إلى بيت أحدنا كل أسبوعين تقريبا، كان مثار تندر من الزملاء، إذ بينما كان كل من الداعين يبذل قصارى جهده لتكون الدعوة حافلة بأطايب اللحم كان صاحب اللحية يقدم لنا الفطير والجبن الأبيض والعسل الأسود. ولم أكن أجد غضاضة فى هذا الطعام، بل على العكس كنت أرى فيه لونا من التغيير يخرجنا عن الوتيرة الواحدة المملة، علاوة على أن يوم ذهابنا إلى بيته كان يوما بهيجا لخفة ظل الرجل كما سبق القول. وقد مات أيضا صاحبنا فلان الفلانى الشخار النخار الذى اتهمنى بالكفر تاركا وراءه دكان الكشرى، الذى لم يجد، وهو الأستاذ الجامعى، مشروعا غيره يستثمر فيه فلوس السعودية.

أما كتاب "إبطال القنبلة النووية الملقاة على السيرة النبوية" فتتلخص قصته فى أن المستشار رابح لطفى جمعة ابن الأستاذ محمد لطفى جمعة كان يحدثنى فى تسعينات القرن الماضى عن صديق له يعمل أستاذا بالجامعات السويسرية ويخدم الإسلام هناك اسمه د. محمود على مراد، وأنه قد حصل من باريس على درجة الدكتورية بأطروحة أعدها عن سيرة ابن إسحاق، فأبديت تشوقى إلى الاطلاع عليها لعلى أكتب عنها كلمة أو أترجمها مثلا، فلم يكذّب المرحوم جمعة خبرا، وأرسل إلى د. مراد، الذى سارع فبعث لى بنسخة من رسالته. وما إن وصلت الرسالة حتى شرعت أنظر فيها، فإذا بها هجوم ساحق ماحق على ابن إسحاق وسيرته ملخصه أنه اخترع سيرة نبوية من عندياته تقربا لخلفاء بنى العباس وتملقا لهم، وأن قريشا لم تضطهد الرسول قط، وأنه لم تكن هناك هجرة إلى الجبشة بل معسكرات اعتقال فى بعض المدن الحبشية المطلة على البحر الأحمر بضغط من القرشيين، وأن الأخدود الوارد ذكره فى سورة "البروج" هو أخدود حفره أبو لهب لتعذيب مسلمى مكة بالنار المتأججة فيه، ولا علاقة له بالموحدين المؤمنين بالمسيح الذين عذبهم اليهود، وأن هذه النار الملتهبة هى السبب فى تلقيب عم الرسول باسم "أبى لهب"، وأن أبا طالب عم الرسول لم يقم بحمايته، بل الله هو الذى حماه... إلى آخر مثل هذا الكلام الذى يقوم على التشكيك فى كل وقائع السيرة المحمدية وتقديم سيرة أخرى من بُنَيَّات الوهم بحجة تطبيق المناهج المعاصرة فى البحث على ذلك الموضوع.

فكان أن شمرت عن ساعد الجِدّ وساقه وابتدأت أكتب ردا علميا منهجيا دقيقا عن تلك الأطروحة الغريبة الشاذة، ثم سرعان ما أصدرت الكتاب، وأرسلت منه عدة نسخ إلى د. مراد فى سويسرا، الذى بادر عقب ذلك إلى الاتصال بى، فظننت أنه يريد أن ينبئنى بوصول نسخ كتابى إليه، لأفاجأ بأنه إنما اتصل ليستفسر عن وصول رسالته إلىَّ أَوْ لا، فحكيت له الأمر، وهو ما دهش له أشد الدهش لسرعة قراءتى رسالته وكتابتى كتابا عنها، وإن كان حتى ذلك الحين لم يكن يعلم بفحوى ما سطره قلمى. فلما وصلته النسخ الهدايا فوجئت به ينشر فى مجلة "المصور" مقالا يتهمنى فيه بأننى أُرْهِبه وأكفّره، وهو بطبيعة الحال ما لا صحة له البتة. فكتبت بدورى فى نفس المجلة ردا على الرد بَسَطْتُ فيه حقيقة المسألة أمام أعين القراء وقلت لهم: إذا استطاع أى إنسان أن يجد فى كتابى المذكور أى تهديد أو تكفير فأنا جاهز لأى قرار يتخذه القراء بشأن ما كتبت أيا كانت طبيعة ذلك القرار. ولم يعلق الدكتور مراد بكلمة على مقالى ذاك، ولم يكن باستطاعته أن يعلق لأنه لم يحدث أن كفَّرته أو هدَّدته قط.

ثم مرت الأيام، وإذا بى، وأنا خارجٌ ذات عصرية من مبنى ماسبيرو بعد الانتهاء من تسجيل أحد البرامج الإذاعية، أجد فى كشك الصحف والمجلات الموجود على يسار الخارج من ماسبيرو العدد الجديد من مجلة "الهلال"، فأمسكت به أتعرف إلى موضوعاته، لأجد مقالا طويلا نسبيا عن كتابى المذكور مع صورة للكتاب أعلى كل صفحة من صفحات المقال، وإذا المقال للدكتور محمد سليم العوا فى فض الاشتباك الحاصل بينى وبين د. مراد. وللأسف قد ضاع عدد "الهلال" مع ما ضاع من أشياء كثيرة منى. ثم إن د. مراد قد مات بعد ذلك بوقت غير طويل دون أن أراه أو أرى حتى صورته. يا خسارة!

أما كتاب "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" فكنت ألفته فى أواخر ثمانينات القرن المنصرم، ثم أخذته معى إلى السعودية وهو مسودة أملا فى أن أراجعه وأنشره هناك، بيد أنه لم يتح لى ذلك، فعدت به إلى مصر مرة أخرى بعدما اختلطت أوراقه وصار من الصعب علىَّ أن أعيد ترتيبه كما كان. ثم بدا لى أن أنشره على حسابى، فطبعت منه خمسمائة نسخة اشترى الطلبة منها ما اشتروه، وأخذت أهدى الباقى كعادتى لمن يطلبه. وإنى لأستغرب كيف أن الناشرين لم يترامَوْا على نشره فى الوقت الذى ينشرون بتحمس بالغ كثيرا من الكتب التافهة. صحيح أننى لست ممن يسوّقون أنفسهم جيدا، لكن أين ذُهِب بعقول الناشرين؟ هذا أمر محير! وللتاريخ أذكر أن أيا من دور النشر المسماة بالإسلامية لم تفكر فى الاتصال بى لنشر أى من كتبى، على الأقل: كتبى التى أدافع فيها عن الإسلام، فى الوقت الذى تنشر فيه الغث والثمين لمن يستحق ومن لا يستحق.

ثم مرت الأيام، وبدا للأستاذ عادل النادى مقدم برنامج "مع النقاد" سابقا أن يعرضه مشكورا فى حلقة من برنامجه، فاستضفت د. عبد العزيز نبوى وأستاذا آخر كبيرا مشهورا بكتابته فى الأدبيات والإسلاميات. وذهبت فأحضرته معى بالسيارة من بيته، وكانت معه حقيبة سوداء لاحظت أنه كان حريصا عليها طوال الطريق. ولما بلغنا مركن السيارات فى ميدان عبد المنعم رياض تركت سيارتى فيه، وأخذت الحقيبة من الأستاذ لأضعها فى شنطة السيارة إلى أن نعود، فأصر على أن يحملها معه إلى الإذاعة، فظننت أنه يخاف عليها من السرقة، فحملتها عنه، وكانت أول مرة أحمل حقيبة لأحد، وبررته لنفسى بأننى كبير فى السن، ولم تعد تلك المسائل ذات حساسية عندى البتة، فضلا عن أن الرجل ضيفى، كما أن احترامى له إنما هو احترام للعلم والعلماء. وفى أثناء تسجيل البرنامح، وبينما نحن منهمكون فى المناقشة والأخذ والرد، طلب الأستاذ الدكتور الكلمة وشرع يعاتبنى لأنى أهملت الإشارة إلى كتابه الذى سبق أن تناول فيه ذات الموضوع. قال هذا وهو يخرج كتابه عن البيان النبوى من الحقيبة، فكدت أضحك: إذن فهذا هو السبب فى حرصه على اصطحابها معه!

والحق أن ما قاله الأستاذ الدكتور خطأ صراح لأن الكتابين مختلفان تماما فى الموضوع وفى منهج التناول وفى النتائج، ولم يسبق لأحد طوال الأربعة عشر قرنا الماضية أن حاول الكتابة فى المقارنة العلمية الإحصائية بين كتاب الله وحديث الرسول من حيث المفردة والصيغة والتركيب والعبارة والمتصاحبات والمتضادات والأبنية الفنية قط. ومن هنا كتبت، ولأول مرة فى حياتى، فى رأس غلاف الكتاب إنه أول دراسة من نوعها فى تاريخ الفكر الإسلامى. لكن لما كان الأستاذ الدكتور ضيفا علىَّ فى البرنامج، ولما كنت أنا الذى دعوته لمناقشة الكتاب، فقد آثرت ألا يكون الرد مباشرا حتى لا أولم ضيفى، فاكتفيت بالقول بأن كتابى تم تأليفه قبل كتابه، وهذه حقيقة تاريخية لا مراء فيها. لكنه عاد يقول إن تاريخ صدوره المذكور على الغلاف متأخر عن تاريخ صدور كتابه. فوضحت له أننى كنت قد انتهيت من تأليفه أواخر الثمانينات، إلا أنه لم يقدر له الصدور إلا بآخرة. وبهذا عبرت المأزق الذى أراد ضيفى الجليل أن يضعنى فيه دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، وسكتُّ فلم أقل إن موضوع الكتابين مختلف تماما كما سبق أن شرحت آنفا.

ونصل إلى كتاب "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"، الذى ألفته فى الطائف حين كنت أعمل فى كلية التربية بها فى السنوات الخمس الأولى من تسعينات القرن البائد. وقد استعرت له عشرات الكتب دفعة واحدة من مكتبة صديقى السورى د. عثمان جمعة ضميرية، إذ ذهبت إليه يوم خميس، وهو يوم إجازة فى السعودية، وحملت فى عربتى من مكتبته نحو ستين كتابا مرة واحدة، وعدت إلى بيتى بعد أن قضيت وقتا ممتعا مع الشيخ عثمان. وهذا غير ما أخذته من مكتبة تربية الطائف، وكانت مفتوحة لى آخذ منها ما أشاء بغير حساب. والبركة فى الأستاذين خالد الأمين وإبراهيم بخارى، أمينى المكتبة، الذين لاحظا ترددى الغزير عليها والقراءة فيها والاستعارة الواسعة منها فى الوقت الذى لم يكن أحد من الأساتذة تقريبا يزورها، فاقترحا مشكورين أن آخذ ما أشاء من الكتب دون أن أسجله فى ورق استعارة، وأكتفى بتقييده فى نوتة خاصة. وكان من نتيجة ذلك أننى أحصيت ذات مرة ما كان عندى من كتب أخذتها من المكتبة فوجدتها مائة وعشرين كتابا. يا ساتر استر! والحمد لله لم يضع منى كتاب واحد رغم ذلك.

وقد ركزت فى هذا الكتاب على المواد الدينية وحدها فى الموسوعة المذكورة، وتركت بقية المواد المتعلقة بالجوانب الأخرى من الحضارة الإسلامية. وكان المستشرقون قد مخضوا دائرتهم الكبيرة واستخلصوا منها المواد الدينية فقط، وأصدروها فى مجلد خاص بإشراف هاملتون جب وآخرين بعنوان "Shorter Encyclopaedia of Islam". فعكفت على ذلك المجلد وتتبعت مواده مادة مادة، وكلما وجدت شيئا يحتاج إلى الرد قمت بمناقشته وتمحيصه وتقديم وجهة النظر الإسلامية وفندت ما قاله المستشرق كاتب المادة، ثم نَظَََّمْتُ فصول الكتاب ما بين فصل يتناول ترجمة الآيات القرآنية فى الكتاب، وآخر يتناول القرآن الكريم، وثالث يتناول الرسول عليه السلام، ورابع يتناول القضايا الفقهية التى تعرضت لها الموسوعة... وهكذا. ولم أقتصر على هذا فحسب، بل أحضرت ترجمة هذا المجلد التى قام بها د. راشد البراوى، ونظرت فيها وسجلت مآخذى عليها أيضا.

أما كتابا "النزعة النصرانية فى قاموس المنجد" و"نظرات فى الموسوعة العربية الميسرة" فكانا استجابة لما لاحظته فى الموسوعة والقاموس المذكورين من انحراف عن الإسلام إلى وجهة النظر الكتابية: فأما "المنجد" فمن المفهوم أن يتبنى أصحابه وجهة النظر الكتابية، وبالذات النصرانية، إذ هم جماعة من رجال الدين النصارى. لكن الطامّة الكبرى فى "الموسوعة العربية الميسرة"، التى صدرت عن مؤسسة حكومية مصرية أيام الرئيس جمال عبد الناصر، فكيف تعكس وجهة النظر الكتابية فى معظم مواددها، وكأنها صادرة فى بلد يهودى أو نصرانى؟ لقد كان مشرفا عليها د. زكى نجيب محمود ود. إبراهيم بيومى مدكور ود. سهير القلماوى، فكيف خرجت على النحو الغريب الذى خرجت عليه؟ لقد شعرت أن علىَّ فريضة محتومة لا مفر من تأديتها، فأديتها، وكتبت أنبه إلى هذا العُوَار الفادح الذى تعانى منه الموسوعة المذكورة، ونجحت فى إصدار الكتاب، وإن لم أحصل من ورائه على مليم أحمر أو أصفر، بل أخذت 400 نسخة منه سُلِّمَتْ لأقاربى فى القاهرة حين كنت فى السعودية حيث ألفت الكتابين المذكورين. وقد تم تأليف الكتابين فى مدينة الطائف الجميلة ذات الجو البديع أيام عملى بكلية التربية بها حين كانت تتبع جامعة أم القرى فى تسعينات القرن الماضى. أما فى مقابل "النزعة النصرانية فى قاموس المنجد"، الذى لم يزد عن خمسين صفحة، فقد حصلت على مائتى نسخة منه وألفى ريال. فحمدا لله. ويبدو أن الكتاب الذى ألفته عن الموسوعة المشار إليها قد آتى ثمرته مع مرور الوقت، إذ كنت ذات ظهرية فى دار الكتب القطرية منذ أكثر من عشرة أعوام، فوجدت على الأرض كتابا كبيرا من عدة مجلدات نظرت فيه من باب الفضول فألفيته الطبعة الجديدة من الموسوعة المذكورة، وألقيت نظرة على بعض المواد التى كنت انتقدت ما جاء فيها، فوجدت كلاما مختلفا ومعقولا. فقلت: أرجو أن يكون ذلك من جراء ما كتبه العبد الفقير إلى ربه تعالى. وفى كل الأحوال أدعو الله أن يجزينى على ما قدمت فى الكتاب الآنف الذكر، الذى لم تزد صفحاته على مائة صفحة. وعندى الآن فى الكاتوب نسخة كاملة من الطبعة الجديدة من تلك الموسوعة.

كذلك لى عدة كتب أيضا فى دراسة بعض السور القرآنية: بعضها لم أضف فيه شيئا جديدا بالمرة تقريبا، وهو سورة "التوبة"، الذى جريت فيه على الأسلوب التقليدى فى تناول الآيات، إذ كنت أتناولها آية آية أو آيتين آيتين شارحا ما تقولانه، ودمتم! لكن لا بد من إضافة القول أيضا إننى حرصت على أن يكون أسلوبى فى الشرح سلسا بسيطا ما أمكن، مع البعد التام عن الخلافات المعهودة فى كتب التفسير والعنعنات وما إلى ذلك. وبعضها، وتمثله سورة "الرعد"، التى كانت أول سورة أعرض لها بالتأليف فى السعودية حين أعطونى فى الجامعة مادة "دراسات أدبية من القرآن الكريم"، قد تناولته بالطريقة التقليدية أيضا، لكننى أضفت إلى ذلك وقوفى عند بعض الأساليب اللغوية كأسلوب "قل" فى السورة وفى القرآن عموما، وبعض القضايا الدينية كقضية "المشيئة البشرية وحدودها فى الدنيا والآخرة وعلاقتها بالمشيئة الإلهية". وأتصور أننى قد جئت بشىء جديد هنا، مثلما جئت بشىء جديد حين وقفت عند المسألة الخاصة بفترة نزول تلك السورة المختلَف حولها بين أهل التفسير: أهى يا ترى المرحلة المكية أم المدنية؟ وهنا عكفتُ على أسلوب السورة مفردات وتراكيب وعبارات وصورا وما إلى هذا فألفيت أن فيها أكثر من ثلاثين ملمحا أسلوبيا تختص بالوحى المكى أو تغلب عليه، فأعلنت، وأنا مطمئن الضمير، أنها من الوحى المكى. على أن الجديد فى ذلك الكتاب لم يقف عند هذا الحد، إذ رجعت، ضمن ما رجعت إليه من مراجع، إلى بعض الترجمات القرآنية كترجمة محمد أسد: "The Message of the Qur’an" حين وجدت أن بعض كتب التفسير القديمة تصل بفترة الحمل إلى عدة سنوات، فوجدته يؤكد أنها لا يمكن أن تتجاوز تسعة شهور إلا باللتيا والتى. وقد كان رجوعى فى هذا الكتاب إلى أسد هو البذرة التى أثمرت كتابا كاملا عنه رصدتُ فيه أشياء فى ترجمته التفسيرية للقرآن المجيد ولجزء من أحاديث البخارى تبعث على الدهشة، ولا أزيد. وهذا وغيره من القضايا موجود فى كتابى: "فكر محمد أسد (ليوبولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون".

أما فى كتبى عن سورة "طه" وسورة "النجم" وسورة "الرحمن" وسورة "المائدة"، والثلاثة الأولى تم تأليفها فى السعودية لطلبة كلية التربية بالطائف لذات الغرض الذى ألف له كتابى عن سورة "الرعد"، على حين ألفت الرابع بعد عودتى مباشرة من هناك، فقد مضيت فيها شوطا آخر، إذ رجعت فيها إلى ترجمات المستشرقين والمسلمين غير العرب للقرآن الكريم إلى الإنجليزية والفرنسية، والألمانية أيضا فى سورة "طه" قبل أن أنسى تلك اللغة مع مضى الأعوام وعدم توافر كتب بها بين يدىَّ فى السعودية فى تلك الفترة. كما اعتمدت منهجا جديدا فى تناولها، إذ لم أتتبع الآيات آية آية لحين الانتهاء من السورة كما فعلت مع "التوبة" و"الرعد"، بل قسمت الدراسة إلى فصول: كل فصل يعالج شيئا فى السورة. فمثلا هناك فصل عن السمات الأسلوبية التى تنفرد بها سورة "طه"، فقد لاحظت أن فى كل سورة بعض الأشياء اللغوية التى تميزها عن غيرها، وفصل عما فيها من ملامح أسلوبية مكية أو مدنية، وفصل عن القضايا الهامة التى تشتمل عليها، وفصل عن المقارنة بين السورة وبين ما يناظرها فى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى... وهكذا.

ومما ألفته من كتب تستحق إلقاء الضوء عليها هنا كتاباى عن خليل عبد الكريم: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" و"لكن محمدا لا بواكى له": فأما "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" فقد بينت فيه بالأدلة الموثقة تهافت الكلام المنسوب لعبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه وسخفه وزيفه وبطلانه. ثم شفعت كتابى هذا بكتاب آخر عنوانه: "لكن محمدا لا بواكى له" خصَّصْتُه للرد على قلة الأدب والعربجة التى يعج بها كتاب "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين"، الذى يحمل اسم عبد الكريم أيضا، وأكدت فيه أننى لا تصور أبدا أن يكون عبد الكريم هو مؤلفه. وإذا بى أتسلم، وأنا أعمل فى جامعة قطر منذ نحو عشر سنوات، رسالة من أحد معارفى تتضمن صورة لمقال كتبه خليل عبد الكريم عنى وعن كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" ونشره فى مجلة "أدب ونقد" فى عدد أكتوبر2001م.

وفى هذا المقال لم يحاول عبد الكريم أن يرد على أى شىء مما بينتُ سخف منطقه وتدليسه فيه (أو بالأحرى: منطق الذين كتبوا له الكلام وتدليسهم)، وهو كثير كثرة فادحة، بل اكتفى بالثناء علىّ والقول بأنى... وأنى... مما سيطالعه القارئ الآن. وقد تعمدت أن أضع المقال كاملا بين يدى القارئ كى يعرف أن أمثال عبد الكريم لا يملكون شيئا من الحجة، وإلا لردّ على انتقاداتى له وتفنيداتى العنيفة لما جاء فى الكتب التى تحمل اسمه. بالعكس لقد أَقَرَّ بأننى قد نجحت فى فهم مرامى كلامه ووضعت يدى على ما يريد أن يقوله مما لم يحن الوقت بعد للتصريح به، وهو إقرار غريب لأن أمثال عبد الكريم دائما ما يدّعون أنهم أفهم للإسلام ممن يغارون على الدين وأحرص على الدعوة إليه وانتشاره. كما أود أن ألفت القارئ إلى التدليس الذى لجأ إليه هنا أيضا والمتمثل فى تلاعبه بعنوان كتابى، إذ سماه: "اليسار الإسلامى وتطوراته.." (هكذا بالحرف والنقطة)، بدلا من "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة" كى يضلل القارئ عن العنوان الحقيقى الذى يفضحه ويفضح مراميه ومرامى من يشجعونه على هلاكه.

وهذا هو نص المقال، وعنوانه: "فى كتاب إبراهيم عوض: اليسار الإسلامى وتطوراته..": "سلك أ. د. إبراهيم عوض سلوكًا حضاريًّا بالغ الروعة والسموّ يليق به كأكاديمى وأستاذ جامعى بخلاف من عداه من "الإسلامويين". أصدر، مشكورًا، كتابًا يقرب من ثلاثمائة صفحة قدَّم فيه عرضًا نقديًّا لمؤلفاتى: "لتطبيق الشريعة لا للحكم"، "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، "قبيلة قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية"، "الأسس الفكرية لليسار الإسلامى"، "مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى"، "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة". ويتضاعف امتنانى له لو تفضل بآخر يتناول باقيها: "الإسلام والدولة الدينية والدولة المدنية" و"العرب والمرأة" و"بصائر فى عام الوفود وفى أخباره" و"فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين".

ووجه الرقىّ فى منحى الأستاذ الفاضل والذى فهمتُه بعد قراءة كتابه يتمثل فى عدة أمور أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- أنه لم يجنح إلى التكفير كبعضهم، ولم يعمد إلى الرمى بالردة، ولم يسارع إلى الاتهام بالخروج عن الملة، ولم يُفْتِ باستحلال الدم، ولم يحرّش على القتل، بل على العكس يدين هذه الاتجاهات. 2- وبالتالى فهو يؤكد أن الإيمان علاقة شديدة الخصوصية بين العبد والرب، وأن الله جل شأنه هو وحده الذى يحاسب عليه. 3- لم يستنفر فخامة رئيس الجمهورية (كما فعل أحدهم، ومن أعجب الأمور أن البعض حتى هذه اللحظة يعدّه مفكرا مستنيرا) ولا غيره من المسؤولين ولا حرّض أحدا منهم ضدى. 4- لا يقر اللجوء إلى القضاء، إذ يرى أن السلوك الأمثل هو الرد والتفنيد والتعقيب، ومبدؤه: "كتاب مقابل كتاب"، وهو ما حدث إبان الحضارة الإسلامية الزاهرة. وهو ذاته حقق ذلك فى هذا الكتاب الذى نقد فيه طائفة من كتبى، وأنتظر منه الآخر لتغطيةِ (أو بمعنى أدق: لنَقْدِ) باقيها، وله المنة. كما أصدر تعقيبا على كتاب د. محمود على مراد عن السيرة النبوية عنوانه: "إبطال القنبلة النووية" وغيره. 5- لم يقرأ قراءة سطحية كما يفعل البعض (هذا إذا قرأ ولم يسمع كلمة من هنا وجملة من هناك ثم يدبج مقالة)، بل تعمق فى المطالعة، ومن ثم فطن إلى ما هو مخبوء بين السطور وما جاء، تحت ضغط الظروف، تلميحا لأن الوقت لم يحن بعد، وربما لعقود قادمة، للتصريح به، وما ألغزتُ فيه ففَقِهَ ما رميتُ إليه. 6- امتلك قدرًا مُفَرْسَخًا من الفراسة جعله يدرك أن المستجِدّات المتلاحقة والمستحدثات المتوالية والتغييرات المتعاقبة قضت باستحالة استمرارية الأسلوب التفخيمى التبجيلى عند الكتابة عن الصحابة مثلما فعل العقاد وهيكل وخالد محمد خالد...إلخ أو عن غيره من المواضيع، وأنه من الحتم اللازم ظهور الأسلوب الموضوعى النقدى المتوازن مثل الذى ألزمْنا أنفسنا به، وأن من الخطإ المنهجى الفادح قَمْعَ هذا المنزع لأن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبث وتضييع وقت. 7- دَلَّ كتابُه الناقد أو نقدُه المكتوب على صبره وتأنِّيه، فهو لم يتسرع أو يهرول بل نقَّب وحَفَر ونقَّر، وبذا قدّم دليل الثبوت على أن مؤلفاتنا (وهذا من فضل الله علينا) شديدة التوثيق. بل إن هناك من وصفها بالمبالغة فى هذا المضمار. ولعل هذا يفسر إحجام كل من كتب عنها حتى من الهيئات العلمية عن التصدى لنقدها نقدا موضوعيا كما فعل الدكتور إبراهيم عوض. أكتفى بهذه النقاط حتى لا يطول المقال.

أما تعدِّيه على شخصى الضعيف فى كل صفحة تقريبا فلم يؤذنى لأننى أتأسَّى بالحبيب المصطفى عليه وآله أزكى السلام، فقد خرجتُ من طول معايشتى لسيرته العطرة أنه ما غضب لنفسه قط. إنما آلمنى أنه جرَّح بسببى أخى وصديقى د. سيد محمود القمنى، ونال من الزميلتين الفاضلتين الأستاذتين فريدة وأمينة النقاش، وكنتُ آمل ألا أغدو طريقا لإيلامهم. مسألتان أَسْتَمِيحه عذرا كيما أعلِّق عليهما: الأولى- سألت الله تبارك وتعالى له أن يريح صدره مما حاك فيه بأن يوفق أحد الدارسين فى حياته لا من بعده ويثبت له أن مؤلفاتى ليست من عملى، ولكنها من تصنيف طائفة من المستشرقين (ص260)، لأنه يؤذينى كثيرا أن يظلّ هذا الخاطر يَسُوط فى صدره (فى "أساس البلاغة" للزمخشرى: سَاطَ الهريسة، وساط الأَقِط: خَلَطَه). الأخرى- أفزعنى عندما شكك فى مصريتى ونسبنى إلى الجزيرة إياها البالغة القداسة الشديدة البركة، فأنا لا يسرنى يا دكتور أن يكون عندى "حُمْر النَّعَم" كما يقول أصحابك الميامين فى أمثالهم البليغة ولغتهم الفصيحة وأن تُنْزَع عنى مصريتى! أتعرف لماذا؟ لأن مصر وحدها دون غيرها هى التى علَّمت الدنيا بأسرها أمرين: الضمير والحضارة. ختاما أ. د. إبراهيم عوض، شكرا".

هذا ما كتبه خليل عبد الكريم. وكنت قد اتهمته بالتسرع والالتواء فى قراءة النصوص والجهل بنصوص أخرى على قدر كبير من الأهمية أو التجاهل لها، فضلا عن العجز عن استخلاص النتائج الصحيحة مما يقرأ، إلى جانب تدليسه فى الاستشهاد بالنصوص هو وسيد القمنى، الذى نقل عن د. جواد على من كتابه "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" نصًّا طويلاً فأسقط بضعة عشر سطرا منه عامدا متعمدا دون أن يترك مكانها نقاطا كى يعرف القارئ أن هاهنا كلاما محذوفا لا يصح حذفه البتة لأنه يفسد المعنى ويقلبه رأسا على عقب، ثم زاد على ذلك فلَحَمَ الكلامين بطريقة خبيثة لا يتنبه معها القارئ إلى عملية التلاعب الدنيئة التى تمت بلَيْل! والنص المذكور خاص بالكلام عن أمية بن أبى الصلت، وهل استعان بالقرآن فى نظم الأشعار المنسوبة إليه والتى تشبه آى الذكر الحكيم؟ أم هل النبى هو الذى استعان بشعر الرجل؟ أم ترى الأمر كله لا يخرج عن استقاء الاثنين من مصدر مشترك؟ وقد انتهى جواد على إلى أن أشعار أمية ذات الصبغة القرآنية الواضحة منحولة عليه بعد الإسلام، ومن ثم فلا تشابه بين شعره وبين كتاب الله على الإطلاق مما لا يعود معه مجال للحديث عن أثر شعره فى القرآن المجيد.

لكن تدليس سيد القمنى يقلب القضية رأسا على عقب، إذ يُظْهِر جواد على فى صورة المشايع لما يردده ملاحدة عصرنا من أن الرسول قد استعان بشعر أمية، وهو عكس ما انتهى إليه الرجل فى كتابه. ويمكن القارئ الرجوع إلى دراسة مطولة لى فى هذا الموضوع منشورة فى بعض المواقع المشباكية، ضمَّنتها بعد ذلك كتابى: "أفكار مارقة"، عنوانها: "القرآن وأُمَيّة بن أبى الصلت: أيهما أخذ من الآخر؟"، بيَّنْتُ فيها بالدليل الصارم القائم على وقائع التاريخ وتحليل النصوص واستشفاف الجو النفسى والاجتماعى فى ذلك العصر أن من المستحيل القول باقتباس القرآن من شعر أمية، وإلا لكان قد فضح النبىَّ عليه السلام هو ومن يشايعه على موقفه من مشركين ويهود، وبخاصة قومُه بنو ثقيف الذين دخلوا جميعا الإسلام ولم نسمع من أى منهم ولا حتى من أقرب المقربين إليه كأخته أو أبنائه أن هناك تشابها (مجرد تشابه!) بين شعره وبين القرآن الكريم، وأنه إذا كان لا بد أن نقول بالتشابه بين شعره وبين كتاب الله فلا بد أن يكون هو المقتبس من القرآن لا العكس. لكن القمنى قد تلاعب بالنص الذى نقله من كتاب "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" بحيث يبدو وكأن جواد على يقول بتأثر القرآن بشعر الشاعر الثقفى كما ذكرنا، وهو ما يجده القارئ مفصَّلاً فى كتابى: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة".

ويبقى ثانى الكتابين، وهو كتاب "لكن محمدا لا بواكى له"، الذى ألفتُه ردا على كتاب "فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين"، الذى يحمل اسم خليل عبد الكريم، ويتهم سيدنا رسول الله بأنه لا رسول ولا حاجة، بل هو صناعة خديجية ورقية، فقد تسلمته بنت خويلد، التى كانت نصرانية حسب تدليس واضعى الكتاب، الذين زعموا أيضا أن مكة كانت إبراشية نصرانية وأن خديجة تزوجت محمدا على سنة النصرانية وعقد قرانها عليه قسيس (إى والله أنا لا أمزح!)، فتسلمت محمدا الشاب الفقير اليتيم بعُجَره وبُجَره وفقره وجهله حسبما يلمح الكاتب بوضوح تام على طول الكتاب، فـ"صنفرته وقلوظته" (بنص التعبير العربجى الوارد فى الكتاب)، ونقلته من حضيض الفقر وذلته إلى لبس الحرير وأكل الخمير (حسب عبارة من وضع الكتاب السافل) حتى جعلت منه، بمعاونة ورقة بن نوفل، نبيا، وما هو فى الحقيقة بنبى ولا يحزنون. والكتاب مفعم بالتطاول السفيه والبذاءات المنحطة والاتهامات الكاذبة وعبارات التقليل من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَعَنَ من يكذب ويتطاول عليه لعنا كبيرا فى الدنيا والآخرة، وهو ما شعرت معه وكأن خنجرا مسموما يخترق قلبى وأحشائى، فتجردت للرد على ما فيه من جهل وحوذية لا يصلحان فى ميدان العلم، وبخاصة إذا كان الأمر خاصا بسيد الأنبياء والمرسلين.

وأما كتاب "الفرقان الحق: فضيحة العصر" فقد سطرته فى الدوحة وأنا أدمدم بسبب ما قرأته فيما يسمى بـ"الفرقان الحق" من سباب سافل للمسلمين وربهم ونبيهم ودينهم وأمهاتهم وكل شىء يتعلق بهم والزعم أنهم زُنَاةٌ أبناءُ زَوَانٍ بما فيهم رسولهم الكريم، فامتشقت قلمى وهويت به على الجلود الحميرية الثخينة التى كتبتْه زاعمة أنه من عند الله، مبرهنة بذلك على نحو لا يقبل الجدال أنها إنما تجرى على تراث فى التزييف والتحريف عريق، وأن ما زَنَّها به القرآن الكريم من أنهم يحرفون الكَلِم عن مواضعه هو حقائق تاريخية لا سبيل إلى نكرانها، بل لا تزال ماضية فى طريقها حتى الآن. وقد لاحظت أن كلام أولئك الحمير عن فرقانهم الملفق قد انكتم بعد ظهور كتابى على الإنترنت. لقد نزل عليهم كالصاعقة أو كالزلزال، فطير عقولهم، وأفقدهم صوابهم، فلم أرهم بعدها يتحدثون عنه كأنه لم يكن ولم يدر لهم ببال.