المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نفير...



عبدالرحيم التدلاوي
27/12/2016, 12:44 PM
نفير...
***
تحلق الرجال حول الحفرة تعطرهم نفحات من الذكر الحكيم يتلوها فقهاء المقابر، كانت الوجوه كالحة تحمل حزنا خفيفا كأوراق مسح العرق من جبين متعب، وكانت بضع دموع تنسكب بتقتير من عيون أقارب تفجعا على صرم حبل المودة، وقطع دابر الرحم بفعل أطماع الدنيا.
لفتت انتباهي سيارة إسعاف حمراء مركونة قرب باب المقبرة، استغربت، إذ لا وجود لحالة حرجة تستدعي حضورها، ولا وجود لمظاهرات تصد بالهراوات؟...
شمس الخريف دافئة في هذا العصر، التحقت بهم بعد أن صليت في منزلي متحاملا رغم مرض القلب الذي يلازمني منذ وقت؛ وقد نصحني الطبيب بعدم بذل اي مجهود قد يضر بي.
اقترب مني أحد الأقارب وهمس في أذني، بعد أن تبادنا التعزية في الفقيدة: في السعودية لا يقومون بدفن الميت بهذه الطريقة!
كيف؟
الحفر مهيأة، يحمل رجال أربعة النعش إلى المقبرة بسرعة، ويدفن على عجل، وتهال التربة عليه، وتسلم لأهله ورقة فيها أدعية رحمة..
نحن في بلدنا نسير على هذه الطريقة، قلت له بنوع من الفظاظة، فلم أحتمل قوله في
هذا المقام الذي يستدعي إنزال الرحمة على الميتة..
كانت موظفة قضت في عملها مدة ثلاثين سنة، كل أجرها ادخرته في بنك لتستفيد منه ابنتها الوحيدة، كانت تقتر على نفسها لضمان حياة كريمة لها.
نظر إلي بغضب، ولم يفه بكلمة، كل ما فعله أنه ابتعد عني...
قلت له في نفسي مشيعا: إذهب إلى هناك، وعش مع ناس ذلك البلد، وادفن نفسك بالطريقة التي تراها شرعية...ثم تابعت مراسيم الدفن، نزل إلى الحفرة رجلان، أمسك كل واحد بطرف، وأودعاها المسكن الأخير بتوجيه وجهها شطر القبلة. ثم وضعا ألواحا طينية فوقها، قبل أن تمتد يد المتطوعين إلى الرفوش لإهالة التراب بهمة ونشاط، كل يطلب الأجر والثواب؛ إلى حين صار القبر كحدبة شماء، رشت بماء الورد.
في حين، اصطف أقارب الفقيدة في الجانب الآخر لأخذ العزاء، لم أكن أعرف ما سأقوله لهم وهم يحضنونني بحرارة ويسكبون دمعا على كتفي، لا أعرف لم شعرت به باردا، كانت كلماتي متنافرة الحروف، رغم أني حفظت عن ظهر قلب جملا مسكوكة تقال في مثل هذه المناسبة، أثلعثم، وأسعى إلى التلفظ بها مبهمة حتى لا تبين..ففي مقام الحزن تنفر مني الكلمات، ويعوج فمي، فتتنتثر الجمل من دون تنسيق..
كنت أعرف سبب الجفاء الواقع بينهم، الميراث؛ فقد فضلت الأم ابنتها على الباقي، ووهبتها كل ما تملك، ثم أسلمت الروح تاركة خلفها نار حقد لم تنطفئ بتاتا.
ها الأخت، بدورها قد أسلمت الروح، وها القدر، بحسبهم، يعدل بينهم، ويعيد الإرث إلى أصحابه الشرعيين، لم تخلف الفقيدة سوى بنت واحدة، ولم تترك لها وصية تحميها من طمع الأهل..آه! لو فعلت لأراحت البنت، وأخرجت المنافسين من حلبة التسابق على السراب.
في تلك اللحظة، شعرت بلسع القضية، وخرجت سريعا ناويا أن أهب لابنتي الوحيدة كل ما أملك قبل أن أهلك، فلها ابن عم غني، تزوج وأنجب طفلين ذكرين، أما بنتي فمازالت لم تتزوج؛ إذ بلغت سن الرشد حديثا. الأكيد أنه سيلفظها حين أموت، سيكتفي باقتسام الإرث معها، وأخذ النصيب الأكبر وينصرف حاملا معه الريع. يا ربي، ماذا سيحدث لها، فمن واجب ابن العم رعايتها بدلي، وهذا هو سر الإرث، وإلا فما الهدف منه؟ كيف يجوز له أخذ قسمتين، ويترك لها قسمة واحدة ولا يقوم بحمايتها في هذا الزمن الوحش؟ من المفروض أنه إذا اقتسم معها الإرث أن يقوم بدور ألاب الثاني لها، فالحقوق تتبعها الواجبات، و لكن الأنانية بنت لحرام، قد أغلقت العيون، وسدت القلوب لكي لا تسمع صوت الحق. قلت بنوع من الغضب: بل لم سيرث أصلا، فله ما يكفيه، أما ابنتي فستصير معرضة للضياع إن هو شاركها الإرث؟
ها أنا أسير منتفخا بالغضب كبالون محلق في الفضاء، لكن الضباب يملأ عيني، وخطوي كما لو كان في حلم، يتحرك من دون أن يغادر نقطة البداية، لا أسمع أصواتا، الشارع فسيح، وصاخب؛ وأنا وسطه كما لو كنت طعاما في موائد اللئام، تسير السيارات من الجانبين بجنون، ولا أسمع صوتها ولا أبواقها، السواد يجلل عيني، لا أصوات تقرع سمعي ، صمت مريع، وبرودة خانقة، ومنزلي يبتعد عني ويبتعد...وأنا أغوص شيئا قشيئا في الهاوية. يا ربي: طريقي طويلة لم تنته بعد، يا ربي اجعله حلما!

عبدالرحيم التدلاوي
01/01/2017, 01:15 PM
المرجو من المسؤولين نقل النص إلى ركن القصة القصيرة.
شكرا لكم

عباس العكري
01/01/2017, 02:27 PM
https://1.bp.blogspot.com/-O_gMg9njA2U/WGjmnFHfs4I/AAAAAAAABlE/ClfLpdTgjbEUn_GI6gjZ-tg0NV9zUG1WgCLcB/s1600/%25D9%2586%25D9%2581%25D9%258A%25D8%25B1.png

عبدالرحيم التدلاوي
01/01/2017, 03:53 PM
https://1.bp.blogspot.com/-O_gMg9njA2U/WGjmnFHfs4I/AAAAAAAABlE/ClfLpdTgjbEUn_GI6gjZ-tg0NV9zUG1WgCLcB/s1600/%25D9%2586%25D9%2581%25D9%258A%25D8%25B1.png

أخي البهي، سي عباس
أكرمك الله ورعاك
شكرا لك على هديتك الثمينة.
مودتي