المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أربع في أربع ... هذا هو البخاري رحمه الله



أبو مسلم العرابلي
09/06/2018, 12:15 AM
أربع في أربع البخاري

كتب أهل بغداد إِلَى مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل البُخَارِي:
المسلمون بخير مَا بقيت لهم وليس بعدك خير حين تفتقد.
سمعت نعيم من حَمَّاد يَقُول: مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل فقيه هذه الأمة. قال: وَقَال مُحَمَّد بْن أَبي حاتم: سمعت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل يَقُول: قال لي مُحَمَّد بْن سلام: انظر في كتبي فما وجدت فِيهَا من خطأ فاضرب عَلَيْهِ كي لا أرويه، ففعلت ذلك، وكان محمد ابن سلام كتب عند الأحاديث التي أحكمها مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل: رضي الفتى، وفي الأحاديث الضعيفة. لم يرض الفتى. فَقَالَ له: بعض أصحابه: من هَذَا الفتى؟ فَقَالَ: هو (1) الذي ليس مثله مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل.
وَقَال مُحَمَّد بْن أَبي حاتم: سمعت يَحْيَى بْن جَعْفَر يَقُول: لو قدرت أن أزيد في عُمَر مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحِد، وموت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل ذهاب العلم.
قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبي حاتم الوراق، قال: سمعت سُلَيْم بْن مجاهد يَقُول عند مُحَمَّد بْن سلام البيكندي، فَقَالَ لي: لو جئت قبل لرأيت صبيًا يحفظ سبعين ألف حديث.
قال: فخرجت في طلبه حَتَّى لقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر منه ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إِلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إِلا ولي في ذلك أصل أحفظ حفظا عَنْ كتاب الله وسنة رَسُول اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قال: سمعت مُحَمَّد بْن حمدويه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل يقول: أحفظ مئة ألف حديث صحيح (1) ، وأحفظ مئتي ألف حديث غَيْر صحيح.
لما عزل أَبُو الْعَبَّاس الْوَلِيد بْن إبراهيم بْن زَيْد الهمذاني عَنْ قضاء الري ورد بخارى سنة ثماني عشرة وثلاث مئة لتجديد مودة كانت بينه وبين أَبِي الْفَضْل مُحَمَّد بْن عُبَيد اللَّهِ البلعمي - سماه أَبُو الْحَسَن التَّمِيمِيّ - فنزل في جوارنا.
قال: فحملني معلمي أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الختلي إليه، وَقَال له: أسألك أن تحدث هَذَا الصبي بما سمعت من مشايخك رحمهم الله. فَقَالَ: مالي سماع. قال: فكيف وأنت فقيه، فما هَذَا؟ قال: لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إِلَى طلب الحديث، ومعرفة الرجال، ودراية الأخبار، وسماعها،
فقصدت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ ببخارى صاحب "التاريخ "والمنظور إليه في معرفة الحديث،
فأعلمته مرادي، وسألته الإقبال علي بذلك.
فَقَالَ لي: يَا بني لا تدخل في أمر إِلا بعد معرفة حدوده، والوقوف على مقاديره.
قال: فقلت له: عرفني حدود مَا قصدت له ومقادير مَا سألتك عنه.
قال: اعلم أن الرجل لا يصير محدثًا كاملا (1) في حديثه إِلا بعد أن يكتب؛
أربعا مع أربع
كأربع مثل أربع
في أربع عند أربع
بأربع على أربع
عن أربع لأربع،
وكل هذه الرباعيات لا تتم إِلا
بأربع مع أربع،
فإذا تمت له كلها
هانت عَلَيْهِ أربع وابتلي بأربع،
فإذا صبر على ذلك
أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع وأثابه في الآخرة بأربع.
قال: قلت له: فسر لي رحمك الله مَا ذكرت من أحوال هذه الرباعيات عَنْ قلب صاف بشرح كافٍ، وبيان شاف طلبا للأجر الوافي.
قال: نعم.
أما الأربعة التي تحتاج إِلَى كتبتها هِيَ:
أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وشرائعه، والصحابة ومقاديرهم،
والتابعين وأحوالهم، وسائر العلماء وتواريخهم،
مع أسماء رجالها، وكناهم، وأمكنتهم، وأزمنتهم،
كالتحميد مع الخطب والدعاء مع الترسل،
والبسملة مع السور، والتكبير مع الصلوات،
مثل المسندات، والمُرْسلاًت، والموقوفات، والمقطوعات،
في صغره، وفي إدراكه، وفي شبابه، وفي كهولته،
عند شغله، وعند فراغه، وعند فقره وعند غناه،
بالجبال، والبحار، والبلدان والبراري،
على الأحجار والأصواف والجلود والأكتاف،
إِلَى الوقت الذي يمكنه نقلها إِلَى الأوراق
عَنْ من هُوَ فوقه وعن من هُوَ مثله وعن من هُوَ دونه، وعن كتاب أَبِيهِ،
يتيقن أَنَّهُ بخط أَبِيهِ دون غيره لوجه الله تعالى
طالبا لمرضاته، والعمل بما وافق كتاب الله منها،
ونشرها بين طالبيها ومحبيها والتأليف في إحياء ذكره بعده.
ثُمَّ لا تتم له هذه الأشياء إِلا بأربع التي هِيَ: من كسب العبد أعني
: معرفة الكتابة، واللغة، والصرف، والنحو،
مع أربع هِيَ: من إعطاء الله عزوجل، أعني
: الصحة، والقدرة والحرص والحفظ.
فإذا تمت له هذه الأشياء هان عَلَيْهِ أربع
: الأهل، والولد، والمال، والوطن،
وابتلي بأربع
: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء.
فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع
: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبلذة العلم، وبحيوة الأبد.
وأثابه في الآخرة بأربع
: بالشفاعة لمن أراد من إخوانه،
وبظل العرش حيث لا ظل إِلا ظله،
وبسقي من أراد حوض نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم،
وبجوار النبيين في أعلى عليين في الجنة.
فقد أعلمتك يَا بني مجملا جميع مَا كنت سمعت من مشايخي متفرقًا في هذا الباب،
فأبل الآن على مَا قصدتني له، أو دع.
قال: فهالني قوله وسكت متفكرًا، وأطرقت نادما،
فلما رأى ذلك مني قال
: فإن لا تطق احتمال هذه المشاق كلها فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قار ساكن لا تحتاج إِلا بعد الأسفار ووطي الديار، وركوب البحار، وهُوَ مع ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة، ولا عزة بأقل من عز المحدث. فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على علم مَا أمكنني من علمه بتوفيق الله ومنه، فلذلك لم يكن عندي، مَا أمليه على هَذَا الصبي يَا أَبَا إِبْرَاهِيم.
فَقَالَ: أَبُو إِبْرَاهِيم: إن هَذَا الحديث الذي لا يوجد عند أحد غيرك خير من ألف حديث يوجد مع غيرك.
بعث الأمير خَالِد بْن أَحْمَد الذهلي والي بخاري إلى محمد ابن إِسْمَاعِيل أن أحمل إليَّ كتاب "الجامع "و "التاريخ "وغيرهما لأسمع منك، فَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل لرسوله: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إِلَى أبواب الناس، فإن كانت لك إِلَى شيء منه حاجة فأحضرني في مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبك هَذَا فأنت
سلطان فامنعني من المجلس (1) ليكون لي عذر عند الله يَوْم القيامة إِنِّي لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سئل عَنْ علم فكتمه ألجم بلجام من نار (2) ". قال: وكان سبب الوحشة بينهما هَذَا.
وبه، قال (3) : أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْمُقْرِئُ، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّهِ الْحَافِظ، قال: سمعت مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس الضبي يَقُول: سمعت أبا بكر بن أَبي عَمْرو الْحَافِظ يَقُول: كَانَ سبب مفارقة أَبِي عَبد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ البلد، يَعْنِي بخارى - أن خَالِد بْن أَحْمَد الذهلي الأمير خليفة الطاهرية ببخارى سأل أن يحضر منزله فيقرأ "الجامع "و "التاريخ "على أولاده، فامتنع، أَبُو عَبْد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع عَنْ ذلك أيضا، وَقَال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم، فاستعان خَالِد بْن أَحْمَد بحريث بْن أَبي الورقاء وغيره من أهل العلم ببخارى عَلَيْهِ حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عَنِ البلد، فدعا عليهم أَبُو عَبد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل فَقَالَ: اللهم أرهم مَا قصدوني بِهِ في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم، فأما خَالِد فلم يأت عَلَيْهِ إِلا أقل من شهر حتى هلك
فسلمت عَلَيْهِ، فرد السلام، فقلت: مَا وقوفك يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالَ: أنتظر مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ. فلما كَانَ بعد أيام بلغني موته، فنظرنا فإذا هُوَ قد مات في الساعة التي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِيهَا.
توفي أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم ليلة السبت ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومئتين.