الدكتورمروان الجاسمي الظفيري
27/10/2006, 06:31 PM
مِنْ قِرَاءة فِي شِعْرِ أَبِي اَلطَّيِّب ؛
بِقَلَمِ الأستاذ اَلدُّكْتُو إِبْرَا هيم السامرائيّ
كُلِّيَّة اَلْآدَابِ - جَامِعَة بَغْدَاد
لَقَدْ أَصَابَ اِبْن رَشِيق اَلْقَيْرَوَان كُلّ اَلْإِصَابَةِ حِينَ قَالَ فِي المتنبي: "ملأ الدنيا وشغل الناس". ولقد ذاع اسمه في البلاد وسار شعره سيرورة لم تعرف لشاعر غيره، واهتم العلماء بديوانه فشرحوه فكان من ذلك شروح تجاوزت الأربعين بعضها شملت شعره كله وبعضها انعقدت على المشكل من شعره. قال أبو عبد الله ياقوت الرومي: ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية، ولا في الإسلام شرح هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا تداول شعر في أمثال أو طرف أو غرائب على ألسنة الأدباء في نظم أو نثر أكثر من شعر المتنبي. قال: وكان أبوالعلاء المعري -رحمه الله- إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبونواس كذا قال البحتري،كذا قال أبوتمام كذا، فإذا ذكر المتنبي قال: قال الشاعر كذا فقيل له يوما: قد أسرفت في وصفك المتنبي أليس هو القائل:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه.
كم قدر ما يقف الشحيح على الخاتم؟ قال: أربعين يوما، فقيل له: ومن أين لك ذلك؟ فقال: سليمان بن داود -عليهما السلام- وقف على طلبه الخاتم أربعين يوما، فقيل له: ومن أين تعلم أنه بخيل قال من قوله تعالى حكاية عنه: "هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" وما عليه أن يَهَبَ الله لعباده أضعاف ملكه.
ولقد أردت مما أثر في الخبر أن أقول: إن ذاك الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" كان النقاد منه بين معجب به، لهج بشعره، مؤثر إياه على غيره من الشعراء، وبين قادح له منكر لإحسانه واقف على سقطاته ومساوئه مما خيل إليه أنه "مساوئ" و"سقطات".
ولكن هذا النفر الذي تصدى لشعر أبي الطيب بالنقد والتجريح قد جار في الحكم وتعسف في الرأي فظلم الأدب وما أرضى النقد، وسلم شعر أبي الطيب مالىء الدنيا وشاغل الناس. قلت: لقد ظلم هذا النفر الأدب وتحامل على شاعر العربية، وإلا ألم يكن في شعر الجاهليين والإسلاميين ومن عاصر المتنبي نفسه من المآخذ التي أربت على ما في شعر أبي الطيب مما أريد أن يكون معايب. وقف النقاد المتقدمون على أغاليط الشعراء فأحصوا من ذلك قدرا سجل في شعر امريء القيس وشعر لبيد وشعر زهير وغيرهم من الجاهليين، كما وقفوا على أغاليط الشعراء الإسلاميين. ولم تقدح تلك الأغاليط في شعر هؤلاء، ولم يتجاوز النقاد هذا الحد في الوقوف على الأغاليط. أريد أن أقول: إنهم تحاملوا على المتنبي مسوقين بعوامل عدة منها أنه رزق الشهرة وحظي بالمكان العلي وأنه جوَّد في كثير من شعره حتى سار سيرورة الأمثال. ثم إن غير واحد من الرؤساء قد دفع هؤلاء إلى أن يعرضوا لشعره بالنقد والتجريح، ومن غير شك أن الوزير المهلبي والصاحب بن عباد قد شاركا في دفع النقاد والشعراء إلى النيل من المتنبي والحط من شعره وتهجينه وبيان سقطاته ومساوئه. وقد أشار المتنبي إلى هذا فقال:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
وهو القائل:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
لقد كان حقا أعظم من أن تناله جماعة دفعوا دفعا إلى النيل فتحاملوا وتجاوزوا ولم يتأت لهم ما أرادوا وظل شعره كما قال:
ما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
وقد أحسن القاضي عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة" كل الإحسان حين أشار الى تحامل النقاد الذين نظروا في "أغاليط" أو "مآخذ" مما عدوه "مساوئ" و"سقطات" ولم تكن في حقيقة الأمر إلا هنوات لا يمكن أن تغض من قدره وتنال من شعره فقال:
"ولو أنصف أصحابنا هؤلاء لوجد يسيرهم أحق بالاستكثار، وصغيرهم أولى بالإكبار؛ لأن أحدهم يقف محصورا بين لفظ قد ضيق مجاله، وحذف أكثره، وقل عدده، وحظر معظمه. ومعان قد أخذ عفوها، وسبق إلى جيدها: فأفكاره تنبث في كل وجه، وخواطره تستفتح كل باب، فإن وافق بعض ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان. ولعل ذلك البيت لم يقرع قط سمعه، ولا مر بخلده، كأن التوارد عندهم ممتنع، واتفاق الهواجس غير ممكن.........
ثم يمضي قائلا: فلا تشتغلن بهذه الطائفة ما دمت تنظر بين المتنبي وأهل عصره وأخر المنازعة في هذا الرأي وإن كان الخلاف الأكبر، فإن لكل مقام مقالا. وإنما خصمك الألد، ومخالفك المعاند الذي صمدت لمحاكمته، وبدأت بمنازعته ومحاجته من استحسن رأيك في إنصاف شاعر، ثم ألزمك الحيف على غيره، وساعدك على تقديم رجل، ثم كلفك تأخير مثله، فهو يسابقك إلى مدح أبي تمام و البحتري ويسوغ لك تقريظ ابن المعتز وابن الرومي، حتى إذا ذكرت أبا الطيب ببعض فضائله، وأسميته في عداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور ونفر نفار المضيم، فغض طرفه وثنى عطفه، وصعر خده وأخذته العزة بالإثم... ثم يقول:
خبرني عمن تعظم من أوائل الشعراء، ومن تفتتح به طبقات المحدثين، هل خلص لك شعر أحدهم من شائبة وصفا من كدر ومعابة؟ فإن ادعيت ذلك وجدت العيان حجيجك، والمشاهدة خصمك، وعدنا بك إلى إضعاف ما صدرنا به مخاطبتك، واستعرضنا الدواوين فأريناك فيها ما يجول بينك وبين دعواك........
فأبو الطيب واحد من الجملة فكيف خص بالظلم من بينها". وأنت واجد من أمثلة هذا الظلم في كل كتاب وصل إلينا في موضوع "المساوئ" و"السرقاب" و"الأغاليط" ومن هذه:
1-الإبانة عن سرقات المتنبي لأبي سعد محمد ابن أحمد العميدي المتوفى سنة 433 هـ.
2-الكشف عن مساوئ شعر المتنبي لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الشهير بالصاحب المتوفى سنة 385 هـ.
3-سرقات المتنبي ومشكل معانيه ابن بسام النحوي وهو على الراجح صاحب "الذخيرة" المتوفى سنة 450 هـ.
4- الرسالة الموضحة للحاتمي المتوفى سنة 388هـ الذي ابتدأ النقد على المتنبي في الرسالة عن مناظرته، وابتدأ بيان مآخذ المتنبي في "الرسالة الحاتمية" المطبوعة بالكاثوليكية سنة 1931م في بيروت.
وأنت واجد أيضا شيئا من هذا الباب في كتاب " الفتح على أبي الفتح" لمحمد بن أحمد بن فورجة المتوفى في أواسط القرن الخامس الهجري. وله أيضا "التجني على ابن جني" وهو يرد في الكتابين على أبي الفتح عثمان بن جني في شرحه لديوان المتنبي المسمى بـ" الفسر".
ونحن واجدون أيضا شيئا مما قيل في "المساوئ" في كتاب " الوساطة عبد العزيز الجرجاني وفيما كتبه الثعالبي في "اليتيمة" وإن كان عبد العزيز الجرجاني و الثعالبي قد تكلما كثيرا على إحسان المتنبي في شعره وقد ردا على ما ادعى من "مساوئه" و"أغاليطه".
وقد وصل إلينا شيء مما قيل في المتنبي مما صنفه السابقون بين مادح له مثن عليه وقادح له متنقص منه ومن هؤلاء.
1- عبدالله بن عبد الرحمن الأصفهاني المتوفى سنة 385هـ وكتابه " الواضح في مشكل شعر المتنبي" 2- وللمعري الشاعر المشهور شرحان على ديوان المتنبي سمى أحدهما "معجز أحمد".
3- ولعلي بن أحمد الواحدي شرح للديوان (نشره فريدرخ ديتريصي في برلين سنة 1861)
4- ولأبي البقاء العكبري عبد الله بن الحسين المتوفى سنة 616 هـ شرح هو "التبيان" (ط. مصطفى الحلبي بالقاهرة 1936 م). وللأستاذ الدكتور مصطفى جواد -رحمه الله- دراسة تتصل بنسبة الكتاب إلى العكبري نشرت أكثر من مرة.
5- ولابن هشام المصري صاحب "مغني اللبيب" كلام في شعر المتنبي نثره في مواضع من "المغني".
6- وللشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة 1073هـ شرح هو "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" طبع على هامش "التبيان" للعكبري (القاهرة 1308 هـ).
ولنعرض لما سمي "سرقات المتنبي" أو "مساوئه" فنجد أن في شعر المتنبي من الفرائد الخرائد ما ادعي أنه مأخوذ من شعراء سبقوه كان من بينهم جماعة ممن خمل ذكرهم فلا يعرفهم إلا خاصة الخاصة.
ولا بد لي أن أقول شيئا فيما سمي "السرقة الشعرية" أبعد به هذا النوع من الأدب إلى حد كبير، ذلك أن كثيرا مما دعي بـ"السرق" في الشعر لم يكن في حقيقة الأمر سرقا. إن اتفاق المعنى لا يمكن أن يكون سطوا وأخذا فقد يرد المعنى لناس كثير من الناس ممن لا يعرف أحدهم الآخر ولم يقف له على أثر. أفلا يجوز أن يتفق المعنى للعربي والعجمي، فهل يقال أن أحدهم أخذ عن الآخر.
لا أريد أن أنكر "الأخذ" إنكارا مطلقا متعللا بمقولة الجاحظ "إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء" ولكني أسعى إلى أن أقول: إن أهل النقد أفرطوا في الكلام على السرق فذهبوا مذاهب بعيدة وصنفوا السرق أصنافا عدة. ولا أستطيع أن أعزو إلى السرق ما سموه "وقوع الحافر على الحافر" كقول امرىء القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقول طرفة بن العبد:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
أليس هذا مما عرض للرواة من الخطأ والوهم؟ ولم لا يكون شيئا من ذلك وقد عرفنا ما كان من أمر الشعر الجاهلي وطرائق روايته؟
لقد قالوا إن المتنبي في قوله:
وكأنها نتجت قياما تحتهم
وكأنهم خلقوا على صهواتها
قد سطا على قول جابر بن الطائي السنبسي:
كأنهم خلقوا والخيل تحتهم
وهم أسود وفي أنيابها الأجل
قال المتنبي:
وعطاء مال لو عداه طالب
أنفقته في أن يلاقي طالبا
وقالوا إنه مأخوذ من قول الخبز أرزي:
وينفق أمواله في طلا
ب طلابها طائعا مستديما
وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
قالوا إنه مأخوذ من قول محمد بن البيدق الشيباني:
الظلم طبعك والعفاف تكلف
والطبع أقوى والتكلف أضعف
أقول: عرف الناس شعر المتنبي ولهجوا به ونسوا ما ورد قريبا منه وهذا دليل أصالة لا تنكر، فماذا يكون السرق والأخذ وهي معان يعرفها الناس كافة؟ ألا ترى أن المعربين قد نسوا قول أبي العتاهية:
والحلم من خلق الكرام وكم
برق به يتسهل الصعب
حين أخذهم أبو الطيب ببيته الخالد:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
ثم كيف يكون مطلع أبي الطيب العامر:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
مأخوذا من قول المعرج الرقي:
يا محل الأرام والعين أهلا
لك في القلب منزل ومحل
إن هذا الشيء يأباه أهل النصفة من النقاد.
وما زالت دنيا الناس إلى يومنا هذا تردد قول أبي الطيب:
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن هذين البيتين من بليغ الشعر وعجيبه فكيف يتأني للعاقل الأريب أن يقرنهما ببيتي أبي الهندي الرياحي:
لا تغبطن ذليلا في معيشته
فالموت أهون من عيش على مضض
لا يوجع الصخر نحت المرء جانبه
ولا من الذل ذولب بممتعض
ثم لا يكتفي بهذا بل يقول بالأخذ والسرق، هذا شيء لا سبيل إلى الأخذ به. ويبقى أبوالطيب على حق حين يقول:
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة
وثبن الجبال وخضن البحارا
ثم إنه على حق حين قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
(يتبع ـ بمشيئة الله ..
عن مجلة المورد العراقية)
بِقَلَمِ الأستاذ اَلدُّكْتُو إِبْرَا هيم السامرائيّ
كُلِّيَّة اَلْآدَابِ - جَامِعَة بَغْدَاد
لَقَدْ أَصَابَ اِبْن رَشِيق اَلْقَيْرَوَان كُلّ اَلْإِصَابَةِ حِينَ قَالَ فِي المتنبي: "ملأ الدنيا وشغل الناس". ولقد ذاع اسمه في البلاد وسار شعره سيرورة لم تعرف لشاعر غيره، واهتم العلماء بديوانه فشرحوه فكان من ذلك شروح تجاوزت الأربعين بعضها شملت شعره كله وبعضها انعقدت على المشكل من شعره. قال أبو عبد الله ياقوت الرومي: ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية، ولا في الإسلام شرح هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا تداول شعر في أمثال أو طرف أو غرائب على ألسنة الأدباء في نظم أو نثر أكثر من شعر المتنبي. قال: وكان أبوالعلاء المعري -رحمه الله- إذا ذكر الشعراء يقول: قال أبونواس كذا قال البحتري،كذا قال أبوتمام كذا، فإذا ذكر المتنبي قال: قال الشاعر كذا فقيل له يوما: قد أسرفت في وصفك المتنبي أليس هو القائل:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه.
كم قدر ما يقف الشحيح على الخاتم؟ قال: أربعين يوما، فقيل له: ومن أين لك ذلك؟ فقال: سليمان بن داود -عليهما السلام- وقف على طلبه الخاتم أربعين يوما، فقيل له: ومن أين تعلم أنه بخيل قال من قوله تعالى حكاية عنه: "هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" وما عليه أن يَهَبَ الله لعباده أضعاف ملكه.
ولقد أردت مما أثر في الخبر أن أقول: إن ذاك الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" كان النقاد منه بين معجب به، لهج بشعره، مؤثر إياه على غيره من الشعراء، وبين قادح له منكر لإحسانه واقف على سقطاته ومساوئه مما خيل إليه أنه "مساوئ" و"سقطات".
ولكن هذا النفر الذي تصدى لشعر أبي الطيب بالنقد والتجريح قد جار في الحكم وتعسف في الرأي فظلم الأدب وما أرضى النقد، وسلم شعر أبي الطيب مالىء الدنيا وشاغل الناس. قلت: لقد ظلم هذا النفر الأدب وتحامل على شاعر العربية، وإلا ألم يكن في شعر الجاهليين والإسلاميين ومن عاصر المتنبي نفسه من المآخذ التي أربت على ما في شعر أبي الطيب مما أريد أن يكون معايب. وقف النقاد المتقدمون على أغاليط الشعراء فأحصوا من ذلك قدرا سجل في شعر امريء القيس وشعر لبيد وشعر زهير وغيرهم من الجاهليين، كما وقفوا على أغاليط الشعراء الإسلاميين. ولم تقدح تلك الأغاليط في شعر هؤلاء، ولم يتجاوز النقاد هذا الحد في الوقوف على الأغاليط. أريد أن أقول: إنهم تحاملوا على المتنبي مسوقين بعوامل عدة منها أنه رزق الشهرة وحظي بالمكان العلي وأنه جوَّد في كثير من شعره حتى سار سيرورة الأمثال. ثم إن غير واحد من الرؤساء قد دفع هؤلاء إلى أن يعرضوا لشعره بالنقد والتجريح، ومن غير شك أن الوزير المهلبي والصاحب بن عباد قد شاركا في دفع النقاد والشعراء إلى النيل من المتنبي والحط من شعره وتهجينه وبيان سقطاته ومساوئه. وقد أشار المتنبي إلى هذا فقال:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
وهو القائل:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
لقد كان حقا أعظم من أن تناله جماعة دفعوا دفعا إلى النيل فتحاملوا وتجاوزوا ولم يتأت لهم ما أرادوا وظل شعره كما قال:
ما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
وقد أحسن القاضي عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة" كل الإحسان حين أشار الى تحامل النقاد الذين نظروا في "أغاليط" أو "مآخذ" مما عدوه "مساوئ" و"سقطات" ولم تكن في حقيقة الأمر إلا هنوات لا يمكن أن تغض من قدره وتنال من شعره فقال:
"ولو أنصف أصحابنا هؤلاء لوجد يسيرهم أحق بالاستكثار، وصغيرهم أولى بالإكبار؛ لأن أحدهم يقف محصورا بين لفظ قد ضيق مجاله، وحذف أكثره، وقل عدده، وحظر معظمه. ومعان قد أخذ عفوها، وسبق إلى جيدها: فأفكاره تنبث في كل وجه، وخواطره تستفتح كل باب، فإن وافق بعض ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان. ولعل ذلك البيت لم يقرع قط سمعه، ولا مر بخلده، كأن التوارد عندهم ممتنع، واتفاق الهواجس غير ممكن.........
ثم يمضي قائلا: فلا تشتغلن بهذه الطائفة ما دمت تنظر بين المتنبي وأهل عصره وأخر المنازعة في هذا الرأي وإن كان الخلاف الأكبر، فإن لكل مقام مقالا. وإنما خصمك الألد، ومخالفك المعاند الذي صمدت لمحاكمته، وبدأت بمنازعته ومحاجته من استحسن رأيك في إنصاف شاعر، ثم ألزمك الحيف على غيره، وساعدك على تقديم رجل، ثم كلفك تأخير مثله، فهو يسابقك إلى مدح أبي تمام و البحتري ويسوغ لك تقريظ ابن المعتز وابن الرومي، حتى إذا ذكرت أبا الطيب ببعض فضائله، وأسميته في عداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور ونفر نفار المضيم، فغض طرفه وثنى عطفه، وصعر خده وأخذته العزة بالإثم... ثم يقول:
خبرني عمن تعظم من أوائل الشعراء، ومن تفتتح به طبقات المحدثين، هل خلص لك شعر أحدهم من شائبة وصفا من كدر ومعابة؟ فإن ادعيت ذلك وجدت العيان حجيجك، والمشاهدة خصمك، وعدنا بك إلى إضعاف ما صدرنا به مخاطبتك، واستعرضنا الدواوين فأريناك فيها ما يجول بينك وبين دعواك........
فأبو الطيب واحد من الجملة فكيف خص بالظلم من بينها". وأنت واجد من أمثلة هذا الظلم في كل كتاب وصل إلينا في موضوع "المساوئ" و"السرقاب" و"الأغاليط" ومن هذه:
1-الإبانة عن سرقات المتنبي لأبي سعد محمد ابن أحمد العميدي المتوفى سنة 433 هـ.
2-الكشف عن مساوئ شعر المتنبي لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الشهير بالصاحب المتوفى سنة 385 هـ.
3-سرقات المتنبي ومشكل معانيه ابن بسام النحوي وهو على الراجح صاحب "الذخيرة" المتوفى سنة 450 هـ.
4- الرسالة الموضحة للحاتمي المتوفى سنة 388هـ الذي ابتدأ النقد على المتنبي في الرسالة عن مناظرته، وابتدأ بيان مآخذ المتنبي في "الرسالة الحاتمية" المطبوعة بالكاثوليكية سنة 1931م في بيروت.
وأنت واجد أيضا شيئا من هذا الباب في كتاب " الفتح على أبي الفتح" لمحمد بن أحمد بن فورجة المتوفى في أواسط القرن الخامس الهجري. وله أيضا "التجني على ابن جني" وهو يرد في الكتابين على أبي الفتح عثمان بن جني في شرحه لديوان المتنبي المسمى بـ" الفسر".
ونحن واجدون أيضا شيئا مما قيل في "المساوئ" في كتاب " الوساطة عبد العزيز الجرجاني وفيما كتبه الثعالبي في "اليتيمة" وإن كان عبد العزيز الجرجاني و الثعالبي قد تكلما كثيرا على إحسان المتنبي في شعره وقد ردا على ما ادعى من "مساوئه" و"أغاليطه".
وقد وصل إلينا شيء مما قيل في المتنبي مما صنفه السابقون بين مادح له مثن عليه وقادح له متنقص منه ومن هؤلاء.
1- عبدالله بن عبد الرحمن الأصفهاني المتوفى سنة 385هـ وكتابه " الواضح في مشكل شعر المتنبي" 2- وللمعري الشاعر المشهور شرحان على ديوان المتنبي سمى أحدهما "معجز أحمد".
3- ولعلي بن أحمد الواحدي شرح للديوان (نشره فريدرخ ديتريصي في برلين سنة 1861)
4- ولأبي البقاء العكبري عبد الله بن الحسين المتوفى سنة 616 هـ شرح هو "التبيان" (ط. مصطفى الحلبي بالقاهرة 1936 م). وللأستاذ الدكتور مصطفى جواد -رحمه الله- دراسة تتصل بنسبة الكتاب إلى العكبري نشرت أكثر من مرة.
5- ولابن هشام المصري صاحب "مغني اللبيب" كلام في شعر المتنبي نثره في مواضع من "المغني".
6- وللشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة 1073هـ شرح هو "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" طبع على هامش "التبيان" للعكبري (القاهرة 1308 هـ).
ولنعرض لما سمي "سرقات المتنبي" أو "مساوئه" فنجد أن في شعر المتنبي من الفرائد الخرائد ما ادعي أنه مأخوذ من شعراء سبقوه كان من بينهم جماعة ممن خمل ذكرهم فلا يعرفهم إلا خاصة الخاصة.
ولا بد لي أن أقول شيئا فيما سمي "السرقة الشعرية" أبعد به هذا النوع من الأدب إلى حد كبير، ذلك أن كثيرا مما دعي بـ"السرق" في الشعر لم يكن في حقيقة الأمر سرقا. إن اتفاق المعنى لا يمكن أن يكون سطوا وأخذا فقد يرد المعنى لناس كثير من الناس ممن لا يعرف أحدهم الآخر ولم يقف له على أثر. أفلا يجوز أن يتفق المعنى للعربي والعجمي، فهل يقال أن أحدهم أخذ عن الآخر.
لا أريد أن أنكر "الأخذ" إنكارا مطلقا متعللا بمقولة الجاحظ "إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء" ولكني أسعى إلى أن أقول: إن أهل النقد أفرطوا في الكلام على السرق فذهبوا مذاهب بعيدة وصنفوا السرق أصنافا عدة. ولا أستطيع أن أعزو إلى السرق ما سموه "وقوع الحافر على الحافر" كقول امرىء القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقول طرفة بن العبد:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
أليس هذا مما عرض للرواة من الخطأ والوهم؟ ولم لا يكون شيئا من ذلك وقد عرفنا ما كان من أمر الشعر الجاهلي وطرائق روايته؟
لقد قالوا إن المتنبي في قوله:
وكأنها نتجت قياما تحتهم
وكأنهم خلقوا على صهواتها
قد سطا على قول جابر بن الطائي السنبسي:
كأنهم خلقوا والخيل تحتهم
وهم أسود وفي أنيابها الأجل
قال المتنبي:
وعطاء مال لو عداه طالب
أنفقته في أن يلاقي طالبا
وقالوا إنه مأخوذ من قول الخبز أرزي:
وينفق أمواله في طلا
ب طلابها طائعا مستديما
وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
قالوا إنه مأخوذ من قول محمد بن البيدق الشيباني:
الظلم طبعك والعفاف تكلف
والطبع أقوى والتكلف أضعف
أقول: عرف الناس شعر المتنبي ولهجوا به ونسوا ما ورد قريبا منه وهذا دليل أصالة لا تنكر، فماذا يكون السرق والأخذ وهي معان يعرفها الناس كافة؟ ألا ترى أن المعربين قد نسوا قول أبي العتاهية:
والحلم من خلق الكرام وكم
برق به يتسهل الصعب
حين أخذهم أبو الطيب ببيته الخالد:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
ثم كيف يكون مطلع أبي الطيب العامر:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
مأخوذا من قول المعرج الرقي:
يا محل الأرام والعين أهلا
لك في القلب منزل ومحل
إن هذا الشيء يأباه أهل النصفة من النقاد.
وما زالت دنيا الناس إلى يومنا هذا تردد قول أبي الطيب:
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
إن هذين البيتين من بليغ الشعر وعجيبه فكيف يتأني للعاقل الأريب أن يقرنهما ببيتي أبي الهندي الرياحي:
لا تغبطن ذليلا في معيشته
فالموت أهون من عيش على مضض
لا يوجع الصخر نحت المرء جانبه
ولا من الذل ذولب بممتعض
ثم لا يكتفي بهذا بل يقول بالأخذ والسرق، هذا شيء لا سبيل إلى الأخذ به. ويبقى أبوالطيب على حق حين يقول:
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة
وثبن الجبال وخضن البحارا
ثم إنه على حق حين قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
(يتبع ـ بمشيئة الله ..
عن مجلة المورد العراقية)