المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسات في الادب العبري



أبوبكر خلاف
29/03/2007, 01:41 AM
"أنا من اليهود" شظايا القهر الثقافي
...*محمد عبّود

احترت كثيراً في نقل قصة "أنا من اليهود" إلي اللغة العربية. القصة بديعة، ومهمة، وفي ظننا أنها خطيرة أيضا، من حيث ما تقدمه من ممكنات لفهم الواقع الإسرائيلي المعاصر. ناهيك عن فوزها بجائزة "أحسن قصة قصيرة في "إسرائيل" لعام 2005"، تلك الجائزة التي تمنحها صحيفة هآارتس كبري دور النشر الإسرائيلية، والتي تحظي، وتحظي جوائزها باحترام النخبة المثقفة في "إسرائيل".

احترت رغم أن المؤلف اختار عنوانا باللغة العربية، لقصته العبرية، "أنا من اليهود"، ورغم أن القصاص الإسرائيلي "ألموج بهر" (35 سنة) حظي باعتراف جمعي في "إسرائيل"، وصار نجماً في سماء الثقافة هناك، ومن أبرز كتاب هآارتس نفسها تلك الصحيفة العصية علي الأقلام،إلا إذا كانت موهوبة بحق.

وزاد قلقي من أن نتناول معطيات القصة التي تناقش إشكالية هوية اليهود الذين "هاجروا" لإسرائيل قادمين من الدول العربية بمنطق معنا أم علينا؟ لما تنطوي عليه القصة من طاقات تأويل متعددة، وهو منطق تبسيطي كفيل بأن يحول هذا القاص العبري إلي شيطان رجيم، أو يحوله إلي صديق ونصير الثقافة العربية. لمجرد أنه أشار إلي قمع الدولة الإسرائيلية والموقفين يجانبهما الصواب حتما.


لكن بتشجيع من أصدقاء أعزاء، وثقة في أهمية القصة، ومقدار الوعي المتراكم عن الأدب العبري بجهود أساتذة أجلاء مثل د. رشاد الشامي أستاذ الأدب العبري بجامعة عين شمس، قررت أن أنقل هذه القصة المهمة والملهمة للقارئ العربي، مزودة بدراسة عنها، أرجو أن تكون بمثابة إضاءة للنص الذي ينطوي علي قدر من الخصوصيات الثقافية، التي تميز المجتمع الإسرائيلي. وهو مجتمع هجرة يحتضن جماعات سكانية من مشارب، وثقافات متعددة، أخضعوا منذ عام 48 لسياسة "بوتقة الصهر" التي سعت بكل قوة لدمجهم قسريا في نسيج ثقافي - اجتماعي واحد علي مدي أكثر من نصف قرن (كل ذلك لكي ننتج كلنا نغمة واحدة، صداها مبحوح، وننتحل لغة أخرى غير موجودة- أنا من اليهود). وتأتي هذه القصة التي حظيت باعتراف رسمي إسرائيلي لتفضح هذه السياسة، وتتمرد عليها، وتقدم بُعداً أدبياً لحركات احتجاج سياسي أسسها اليهود النازحون من الدول العربية مثل حركة الفهود السود في الـ80، ومظاهرات ضد التمييز الاجتماعي لصالح اليهود الأوربيين في "وادي صليب" التي رفعت شعار "إشك- نازي" في إتهام صريح للإشكناز بالنازية، والتعامل الفوقي مع اليهود الشرقيين مواطني الدرجة الثانية في إسرائيل. والآن إلى قصة "أنا من اليهود".



***

أن تقص، أو تحكي، يعني أن لديك "خبراً" يهم الآخر -كما يهمك- أن تنقله إليه، ولأن أهمية هذا الخبر محض افتراض في ذهنك أنت، وقد يكون بال الآخر فارغاً منه، فلابد من أن ينطوي قصك الخبر علي سمات خاصة به، تعمل كضامنة لإيجاد تلك الأهمية. وكلما تداخلت سمات القص الأدبي، وإعلام الخبر إلي حد الالتباس الماهوي بينهما، وانعدمت أي إمكانية لتمييز أحدهما من الآخر، هنا نكون أمام "أدبية" القص. وقد عرف الإنسان "القص" منذ دخل في علاقة اجتماعية مع الآخرين، ومن ثم كان القص بمفهومه العام متغلغلاً في لحمة النسيج الاجتماعي، وبفضله انتقلت المعارف والخبرات، والأخبار من جيل إلي آخر.


وليس هناك شك في أن الأدب يشكل واحداً من أهم السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات، والتي يصعب في كثير من الأحيان رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية، وما شاكلها.وذلك لأن الأديب بوصفه فنانا أي كائنا ذا حساسية شعورية خاصة .. مؤهل بهذه الحساسية لالتقاط خفايا الحركة الباطنة من محيط المجتمع، وتسمع نبضاتها الهامسة عبر آذان رادارية، وعين مجهرية. الأمر الذي يوفر للعمل الأدبي ثراء وفيراً من الحقائق والمعلومات التي يمكن للباحثين التقاطها وجمعها وتنسيقها وربطها بمعارفهم السابقة عن الواقع الاجتماعي موضوع العمل الأدبي، ومحل البحث. ولكل هذه الأسباب، ولغيرها يمكننا الاعتماد علي قصة "أنا من اليهود" في كشف أحد الجوانب الخطيرة في المجتمع الإسرائيلي، متمثلاً في إشكالية الهوية التي تهدد بتفجير صراعات وتمردات علي محاولات تسييد ثقافة معينة في هذا المجتمع علي حساب ثقافات فرعية أخري (subcultures).


- تدور القصة باختصار شديد حول شخص "يهودي شرقي" من أبناء الجيل الثالث أو الرابع، أي أنه لم يتعلم اللغة العربية في القاهرة، ولا صنعاء ولا "بغداد" التي تعود جذوره إليها. اندمج آباؤه وأجداده في المجتمع الإسرائيلي الذي تحتل فيها ثقافة اليهود الأوربيين المرتبة الأولي، وتعرف بالثقافة الاشكنازية أو الغربية. فقد كان لقاء المهاجرين القادمين من بلاد الشرق إلى المجتمع الإسرائيلي لقاء صدمة. فقد تكشف لهم فجأة أن ثقافتهم اليهودية الأصيلة بدلا من أن تكون جسرا، شكلت حاجزا بينهم وبين المجتمع الجديد. فهي تثير الاحتقار والعداء، كما أن حاملي هذه الثقافة يوصفون بأنهم أقل شأنا وغرباء على المجتمع الجديد. فظهر لديهم ما عرف بـ "أزمة هوية".


غير أن هذا الشخص ذو الملامح الشرقية، كان يسير في الشارع، عندما بدأ يشعر بشعور غريب، لقد انقلب لسانه تجاه الحلق، وتغير نطقه للكلمات، وصار ينطق العبرية، بلهجة عراقية، وهي كارثة عظيمة، خاصة أن ملامحه تثير ارتياب رجال الشرطة، فهو دائما في نظرهم فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية "إرهابية"، فما بالك بطريقة نطقه التي تغيرت فجأة، لتصبح أقرب ما تكون لطريقة نطق جده أنور (عليه السلام). ذلك اليهودي العراقي الذي قدم لإسرائيل محملا بثقافة عربية إسلامية نهل منها في بغداد، لكنه اكتشف أن الثقافة العربية عملة غير قابلة للصرف في "إسرائيل". وكما يقول العالم الإيطالي الشهير جرامشي:"الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة". لذلك فضلت "إسرائيل" تسييد الثقافة الأوربية، فالدولة الناشئة في المنطقة بعد 48 تعتبر نفسها طليعة الحضارة الغربية. ولا تريد أن تكون نقطة عربية تذوب بسهولة في محيط عربي أوسع، ومن ثم أصبح من الضروري أن يتخلص "اليهود الشرقيون" من الثقافة العربية التي حملوها معهم إلى "إسرائيل" لكي يتمكنوا من الاندماج في المجتمع.


وكان القرار الرسمي إتباع ما يسمي بسياسة "بوتقة الصهر" دمج المجتمع كله في نسيج واحد. وأبرز تجليات هذا النسيج هو اللغة، وطرق النطق، لا يصح أن تكون هناك طرق نطق بولندية، ومجرية، وأوكرانية، وبلجيكية، وعراقية، ومصرية، ومغربية، وإلا أصبح المجتمع على حافة الانهيار.



وإذا كان اليهود القادمون من الدول العربية يمتلكون جهاز نطق قادرا علي أداء الحروف الحلقية (ع. ح. أ. هـ.) بعكس اليهود الغربيين، فإن الغرب أحق أن يتبع، ومن لا ينطق العين همزة مخففة، ومن لا ينطق حرف الخاء بديلا عن حرف الحاء صعب النطق، فليتحمل السخرية، ونظرات الاحتقار، وربما التضييق في مصادر الرزق (أمي فعلت ذلك في صباها، تفاديا لغضب المدرسين ونظرات التلاميذ الساخرة).

قد يندهش القارئ العربي، والمصري خصوصا من أن تكون طريقة النطق معيارا للكفاءة والكفاية الاجتماعية، لكن الواقع أن العلاقة بين اللغة والهوية في "إسرائيل" كانت ومازالت واحدة من مظاهر القهر، والتمييز الثقافي الذي تجاوب معه اليهود المهاجرون من الدول العربية في البداية، فما أن يفتح اليهود الشرقي فمه حتى ينكشف المستور. لكن الجدير بالملاحظة أن أبناء الجيل الثالث والرابع رفعوا لواء التمرد، وجاهروا برغبتهم في الحفاظ علي خصوصيتهم الثقافية، وقد فجرت هذه الرغبة جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية والفكرية الإسرائيلية منذ سنوات حول هوية "اليهود" القادمين من الدول العربية. هل هم يهود شرقيين، أم يهود سفاراديم أم "اليهود العرب" نسبة إلي الدول التي قدموا منها؟!


اليهود العرب

بداية من المهم أن نعرف أن علماء الاجتماع يقسمون المجتمع الإسرائيلي إلي يهود غربيين مواطنون من الدرجة الأولي، ويهود شرقيين (سفاراديم) مواطنون من الدرجة الثانية ومصطلح اليهود الشرقيين يوضع في مقابل اليهود القادمون من الغرب (أوروبا) أما اليهود السفاراديم، فنسبة إلي يهود الأندلس في القرون الوسطي الذين انتشروا بعد ذلك في الدول العربية.



وقد أثار مصطلح "اليهود العرب" ضجة هائلة في الساحة الثقافية العبرية، خاصة أن تياراً نخبوياً من "اليهود الشرقيين"، وبخاصة العراقيين، بدأ يكرس لهذه الفكرة. فكتب عالم الاجتماع "الإسرائيلي" يهودا شنهاف، (وهو أيضا من أصول عراقية) كتاباً بعنوان "اليهود العرب"، يرفض فيه جميع التسميات السابقة، ويصل فيه لنتيجة مفادها أن مصطلح "اليهود الشرقيين" مرفوض جملة وتفصيلاً لأن اليهود القادمين من مصر أو العراق أو المغرب أو اليمن أو تونس أو ليبيا أو غيرها من الدول هم أصحاب ثقافة عربية محضة. كما أن مصطلح "اليهود الشرقيين" غير دقيق لا اجتماعيا ولا جغرافيا، فهم شرقيون بالنسبة لأي بقعة جغرافية، فلسطين لا تقع شرق اليمن، ولا شرق مصر، ولا شرق العراق.


ويصل "يهودا شنهاف" إلي أن اليهود القادمين من الدول العربية ورثوا عاداتهم وتقاليدهم من الحضارة العربية والإسلامية، فكتبوا أدبا باللغة العربية، ومنهم من حفظ القرآن، والشعر العربي، ومنهم من حمل أسماء عربية خالصة، وظلت ثقافتهم عربية حتى في أبسط تجلياتها. فاليهود المغاربة يمارسون السحر والشعوذة، ويقبلون علي زيارة الأضرحة، ويتناولون الأطعمة المغربية. ويهود العراق ثقافتهم مازالت بابلية، ومنهم أدباء كتبوا بالعربية مثل شمعون بلاس، وسامي ميخائيل، وسمير نقاش الذي توفي مؤخراً.



وقد افرز النقاش العام في "إسرائيل" حول هوية اليهود القادمون من الدول العربية، علي الصعيد الثقافي حركة القوس الشرقي التي تنادي بجميع الأفكار السابقة، وعلي الصعيد السياسي أفرز أحزاب، وحركات احتجاج سياسي، وعلي الصعيد الفني أفلام روائية ووثائقية تسجل معاناة هذه الشريحة الاجتماعية.لكن علي الصعيد الأدبي أفرز هذا النقاش العام قصة بديعة حظيت باعتراف جمعي عندما فازت بجائزة صحيفة هآارتس التي تتمتع باحترام عريض من النخبة الإسرائيلية.



حيلة أدبية
- يستخدم مؤلف القصة ألموج بهر حيلة أدبية مشهورة، سبق أن استخدمها "سارماجوا" في "بحث حول العمي" 1995، ففي هذه القصة الإسرائيلية يفقد البطل قدرته علي النطق، ولكنه لا يصاب بالخرس، فهو فقط يفقد لكنته الإسرائيلية، ويشرع في الحديث بلكنة عراقية، كان يتحدث بها جده، وتتسبب هذه العودة إلي الجذور في زيادة شعوره بالتهميش (هامشيته).

- يشك اليهود في كونه عربيا (يعتقله رجال الشرطة مراراً وتكراراً)، ويتنكر له العرب، أما زوجته فتصاب بعدوي طريقة النطق القديمة، لكن لأن أبيها من اليمن، وأمها من تركيا، فتختلط علي شفاها اليمنية بالتركية. وتنجح هذه الحيلة الأدبية البسيطة في فضح مؤسسة القمع الإسرائيلية ممثلة في (الشرطة، وهيئة الإذاعة) التي تراه عربيا، في الوقت الذي يراه العرب (وجهاء فلسطين قبل 48) مجرد يهودي، غريب في بلادهم. وتحول لشخص "ثقافته العربية" هي العدو اللدود "لقوميته اليهودية".

وتتطور القصة، التي تفتقر لعنصر الحبكة، لكنها تقوم علي "الموقف" المتدفق والمتصاعد. ويصل الموقف إلي ذروته بأن تتحول العدوى إلي "وباء" يقتنص إسرائيليين آخرين، يعودون للحديث بلكنات آباءهم وأجدادهم، ولا يتوقف الأمر علي اليهود الشرقيين، بل تصل العدوي لليهود الإشكناز. وتبدأ الثقافات الفرعية (subcultures) في التمرد علي الثقافة السائدة، وتشق عصا الطاعة علي المؤسسة الإسرائيلية التي تبذل أقصي جهد ممكن باستخدام أدواتها (الشرطة - الإذاعة - التجسس علي بطل القصة مصدر العدوى).

لكن يتضح فجأة أن الأمر ليس ثورة اجتماعية، لكنها الزيارة الأخيرة التي تقوم بها الصحة قبل الوفاة، أنها "حلاوة الروح" والسبب ليس مثيراً، وهذا ما يجعله أكثر قوة أدبية. لقد نجحت السلطات في إيقاف الطوفان، وهدم برج بابل قبل بناءه، بالتأكيد علي اللغة العبرية السليمة كشرط للحصول علي عمل ومصدر رزق، وبذلك حاصرت الثقافة العربية وهو ما حدث في الواقع بالفعل عندما احتل الاشكناز المناصب القيادية المهمة، وتركوا للشرقيين الوظائف الحقيرة.


وعلى الرغم من ذلك لا يبدو الراوي مستعداً للعودة إلي لكنته السابقة، التي بذل والداه جهداً مضنياً ليكتسبوها، هم وآبناؤهم. وبناء علي نصيحة جده الذي يتجلي له بصوته فقط، يختار الصمت، ليؤكد أن هذا الصمت لا يشعر من حوله بالأمن، فيقتادوه إلي المعتقل مرة أخري. وإذا كان الصمت ليس حلا، فربما تقوم الكتابة بهذا الدور. (ها أنا اكتب قصائد احتجاجية ضد العبرية باللغة العبرية).

فاعلية العنوان

اختار الأديب ألموج بهر أن يصك عنوان قصته باللغة العربية، وهو اختيار صادم للقارئ العبري لا محالة، لكنه اختيار موفق أدبيا إلي أبعد الحدود كما أنه معبر للغاية عن توجه القصة. فغني عن البيان أن للعنوان دور مهم في سيميوطيقا الاتصال الأدبي. وهو بهذا المعني ليس زائدة لغوية للعمل، ولا هو عنصر من عناصره انتزع من سياقه ليحيل إلي العمل كله، وإن كان كذلك في حالات متعددة. ونحن في غني عن التأكيد علي أن كاتب / مرسل العمل يعطي عنوان قصته نفس ما أعطاه للعمل من عناية، واهتمام. بل ربما كانت "عنونة" العمل أكثر مما نظن إشكالا، فمقاصد "المرسل" منها تختلف جذريا عن مقاصده من عمله، وتتنازعها عوامل أدبية، وأخري براجماتية، وربما أضفنا العامل الاقتصادي (التسويقي). وهكذا تتعقد وظائف العنوان، وتتعدد، ونكون أمام إشكاله الرئيسي وخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار تمتعه بأولية التلقي. فلا شك أن فاعلية القارئ (المتلقي) تنصب أول ما تنصب علي العنوان الذي يمثل أعلي اقتصاد لغوي ممكن، وهذه الصفة علي قدر كبير من الأهمية، إذ أنها في المقابل ستفترض أعلي فاعلية تلق ممكنة، باعتباره مرتكز التأويل رقم (1).



إذن لقد أراد "ألموج بهر" أن يودع في العنوان أعلى إنتاجية دلالية قادرة علي توريط المتلقي في العمل الأدبي، وقد نجح في ذلك إلى أبعد مدى، خاصة أن العنوان مصاغ بلغة عربية يفهمها القارئ العبري نتيجة التقارب الشديد بين اللغتين سواء في ضمير المتكلم (أنا) العربي، و(إنِي) العبري، وتطابق حرف الجر (من)، والتناظر الملحوظ بين مفردة (هايهوديم) العبرية، و(اليهود) العربية. أضف إلي ذلك أن الكاتب / المرسل "يهودي شرقي" أو "يهودي عربي" مشكوك دائما في ولائه، وظل في خانة الطابور الخامس فترة طويلة بسبب ملامحه الشرقية، وثقافته العربية.والأهم من ذلك المفارقة الأدبية في العنوان، والصدمة التي سيخلفها في ذهن القارئ الإسرائيلي الذي يسمع دائما في بعض المظاهرات الفلسطينية الشعار الأشهر (اذبح اليهود). والذي ينقل للعبرية كما هو دون ترجمة حتى دخل في صميم مفردات اللغة.



- حاول الأديب على صعيد البناء اللغوي أن يطابق بين واقع حال بطل القصة وراويها الذي انقلب لسانه، فصار معقوداً، وبين مستوي الكتابة وطبيعة اللغة المسكوبة علي الأوراق، وقارئ القصة بالعبرية يدرك ذلك بسهولة، اللغة متلعثمة..متناثرة، والكاتب يلجأ أحيانا إلي جمل تقترب من تركيب الجملة العربية ليقترب الشكل من المضمون في هذا العمل الأدبي المتكامل (بحلول شهر تموز...).



تبدو ملامح السخرية قوية في القصة من الثقافة السائدة، أو الثقافة الاشكنازية، وأحفاد اليهود الغربيين المتنفذين في "إسرائيل"، ويتغطرسون بثقافتهم، ومع ذلك يقعون أسرى الثقافة الأمريكية الأرقى من وجهة نظرهم، والنموذج الذي يجب احتذائه (إيقاع التغيير عندهم سيسير ببطء، لأن أولادهم المتغطرسين يظنون أن لكنات آباءهم وأجدادهم كانت في الأصل أمريكية!!). وكذلك السخرية من رجال الشرطة القساة الغلاظ علي يهودي شرقي مثلهم، رغم أن هذه المهنة"الحقيرة" في "إسرائيل" والتي لا يقبل عليها الإشكناز بسبب مخاطر العمليات الفدائية، يحتلها اليهود الشرقيون. والمفارقة أن الشرطي الشرقي يقمع المواطن الشرقي!


- تخلو القصة من الحبكة، ولكنها تقوم علي الموقف الدرامي المتصاعد الفائض بالتفاصيل التي تخدم علي الفكرة الرئيسية، ومع ذلك لا تفتقر القصة لجمال اللغة، وشعرية الأسلوب وهو ما يكسبها صفة الأدبية، ويخرج بها عن إطار المقال الاحتجاجي، خاصة وأن سائر عناصر القصة القصيرة كالزمان والمكان والشخصيات متوفرة بها بشكل جلي.
- تحتفل "إسرائيل" هذا الشهر بالذكرى 58 لتأسيسها، وتأتي هذه القصة لتشكل صرخة احتجاج عاصفة ضد سياسة "بوتقة الصهر". ومن المفيد أن نعلم أن "يهودا شنهاف" يرصد في الفصل الأخير من كتابه "اليهود العرب" ما يسميه: "وقائع عملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته"! موضحا أن اللقاء بين الصهيونية وبين اليهود العرب تميز منذ بدايته ( أو منذ نقطة الصفر، إذا ما اقترضنا اصطلاحاته) بتداخل المنطقين القومي والكولونيالي فيه. ومن أجل شمل اليهود العرب في "المشروع القومي" ( على المقاس الصهيوني الحصري) كان على هؤلاء المرور في سيرورة إلغاء لعروبتهم أو حسب تسمية المؤلف كان عليهم التعرّض لعملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته". صحيح أن هذا الإلغاء أو التطهير جرى تبريره، من طرف الصهاينة أنفسهم، بأحاديث عن العصرنة والتقدم (بالنسبة لهؤلاء اليهود)، لكن الذي هدّد القومية الصهيونية لم يكن "تخلف" أو "تقاليد" اليهود العرب وإنما عروبتهم المشدّد عليها من قبلهم هم أنفسهم كما يقول "شنهاف". فقد هدد الماضي العربي ليهود الشرق بمسّ وحدة الصف الإسرائيلية المتجانسة ظاهريًا وأن يموّه الخط الفاصل الضروري (سياسيًا) بين اليهود والعرب. وفي هذا الشأن ردّد بن جوريون المقولة التالية: "نحن لا نريد بأن يكون الإسرائيليون عربًا. يتوجب علينا أن نكافح روح الشرق التي تخرب أفرادًا ومجتمعات".



- تؤكد القصة علي أن أسلوب التعامل الفوقي والعنيف الذي يسلب الهوية، هو السبب الرئيسي لتوالد الأحزمة الناسفة، التي تنشأ في العقول والقلوب أولاً، وقد لا يكون هذا دافع للمبالغة بالقول أن الأديب يدافع عن العمليات الاستشهادية، ولكنه درس ينبغي تأمله والوقوف أمامه، والدرس هنا موجه للقارئ العبري المستهدف بالعمل الأدبي، ويجره للتفكير في الممارسات العنيفة التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر.


- تعد القصة صرخة متأخرة ضد القهر الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه الإشكناز ضد السفارديم، بذريعة أنهم قادمون من بلاد عربية "متخلفة" وبالتالي لا يحق لهم تولي المناصب القيادية. وإن أرادوا الحصول علي تذكرة الدخول في الهوية "الإسرائيلية" عليهم احتذاء الثقافة الإشكنازية، وأبرز تجلياتها طريقة نطق اللغة العبرية، "اليهود العرب" ينطقون الحاء، والعين، والصاد، والإشكناز لا يستطيعون إلي ذلك سبيلاً، والحل علي الترتيب نطق الخاء، والهمزة المخففة، والسين، وتخفيف القاف إلي كاف. ومن ثم من لا يفعل ذلك يصبح سفارادي متخلف.وعلي ذلك فهذه القصة صرخة ضد سياسة بوتقة الصهر التي انتهجتها "إسرائيل" منذ تأسيسها، لإفراز نسيج اجتماعي واحد منسجم وبعد 58 سنة تثبت هذه السياسة فشلها ويستفيق المارد الشرقي، والروسي، والإثيوبي، وهناك نبوءات حول يقظة بطيئة داخل الثقافات الإشكنازية الفرعية.


- يدس الأديب في قصته مفردات ذات دلالة قوية، فعند تحديد زمن القصة يستخدم شهر تموز هو الشهر الرابع في السنة العبرية، وقد جلب يهود العراق هذا الاسم معهم من بابل في القرن الخامس ق.م، ويرجع هذا الاسم إلي الإله البابلي القديم "تموز"..رب الخصب والنماء الذي يموت وقت الحصاد كل عام ويبعث مع الربيع. وذكر الإله تموز في العهد القديم بسفر حزقيال ..(جلست النساء يبكيين تموز). حزقيال 8:14


______________________
*محمد عبّود / مترجم وباحث في الشئون الإسرائيلية
aboud13@hotmail.com

فكري ال عيسى
29/03/2007, 04:15 PM
السلام عليكم
خالص الشكر للاخ الفاضل ابوبكر خلاف على هذا الموضوع الممتع والمفيد
وهذه هي حقاً الصورة الفعلية للمجتمع الاسرائيلي الذي تمثل العنصرية والتفرقة حجر الاساس في كيانه, والا فكيف تقاس المواطنة بلكنة النطق ؟
وكيف يكون هناك مواطن درجة اولى(مدلل) ومواطن درجة ثانية؟
شكراً مرة اخرى لابي بكر خلاف والى مزيد من المواضيع الحلوة

:fl: فكري ال عيسى:vg:
:wel:

ريمه الخاني
30/03/2007, 01:48 PM
قلما نجد ادبا نظيفا يتحدث عن هذا الامر بالذات....وبصدق الواقع
اسجل قرائتي واعجابي ونقله باسمك لمنتدى
تحيتي لك

أبوبكر خلاف
17/05/2007, 04:32 PM
حنة وميخائيل.. صورة للصراع داخل المجتمع الإسرائيلي


بقلم : طلعت رضوان

هذه الأرض وطن لشعبين: من الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيار آخر (عاموس عوز)

إذا كان الأدب الرفيع هو الذى يعيد صياغة الواقع من خلال رؤى جمالية، تُخرِج الكامن من أعماق شخصيات هذا الواقع، تعكس أبعادها النفسية والفلسفية، إذا كان هذا هو أبسط تعريف للأدب رفيع المستوى، عميق المعنى، فإن قراءة رواية (حنة وميخائيل) (1) للكاتب الإسرائيلى عاموس عوز ينطبق عليها هذا التعريف، خاصة أنه من خلال شخصيات الرواية قدم للقارئ صورة أدبية لكل تناقضات المجتمع الإسرائيلي. وأن هذه التناقضات هى التجسيد الحى للصراع داخل هذا المجتمع،..

وذلك على عدة محاور:
المحور الأول: هو أن المجتمع الإسرائيلى متعدد الأعراق، أى متعدد الأجناس، وبالتالى فهو متعدد الثقافات واللغات، لدرجة أن أكثر من شخصية تتحدث العبرية بصعوبة وركاكة (ص 24،68،69،176،191) ورغم أن هذا التعدد العرقى كان سببا لافتقاد التجانس المجتمعى بين أفراد شعب يعيش على أرض وطن واحد، وتسبب فى نزاعات تصل أحيانا إلى حد الحروب الأهلية، إلا أن هذا الافتقاد للتجانس فى المجتمع الإسرائيلى لم يخلخل انتماء الإسرائيليين للدولة التى يعيشون على أرضها وللنظام الذى يحكمهم. فما هو السبب..؟ السبب أن الإسرائيليين (غربيين وشرقيين، علمانيين وأصوليين) يؤمنون أن دولة إسرائيل الوليدة هى حقيقة لا يجب التشكيك فيها، وبالتالى فإن أى تشكيك فى إسرائيل كدولة، وأى تهديد لهذه الدولة ، يجعل(كل) الإسرائيليين يقفون ضد هذا التهديد. أى أن مفهوم (الوطن) هو الذى (وحّد) كل الإسرائيليين. ويكون الاختلاف داخل هذا المجتمع حول الحق الفلسطيني.

فالأصوليون ينكرون أى حق للفلسطينيين ويشجعون على استخدام العنف ضدهم. وكان الكاتب موفقا وهو يجعل عين البطلة (حنة) تقرأ على أحد الجدران فى مدينة القدس كتابة حمراء غير واضحة من أيام منظمات العمل السرى اليهودى هذه العبارة: بالدم والنار سقطت يهودا. وبالدم والنار ستنهض يهودا وتعلق حنة قائلة لم أحب الفكرة التى وراء هذا الشعار. بل أحب ترتيبها الداخلي. نوع من التوازن الخطر لا أستطيع أن أشرحه (ص 84، 90) وفى المقابل نجد ميخائيل يقول لابنه عن حرب عام 1948 هنا كان العرب، ونحن هنا(171) ووالد ميخائيل يحكى لابنه عن عرب أشرار وعرب أخيار (107) وحنة تتكلم فى مونولوج داخلى عن فلسطين البعيدة (188) أى أن الرواية تعكس صورة التيارين الرئيسيين فى المجتمع الإسرائيلي: تيار الأصوليين الذين يرفضون أى حق للفلسطينيين فى إقامة دولتهم تأسيسا على مرجعيتهم الدينية. والتيار العلمانى (وكذلك فصائل اليسار الإسرائيلي) الذين يدافعون عن حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم.

هذا الموقف الذى جسده الكاتب فى الرواية هو تعبير صادق عن قناعته الشخصية، إذ قال فى حديث صحفى إن النزاع العربى الإسرائيلى على الأرض هو نزاع ليس بين حق وباطل، وإنما بين حق وحق وفى كتابه هنا وهناك فى أرض الميعاد قال إن هذه الأرض وطن لشعبين، ومن الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيار آخر، لذا فإن عليهما أن يتقاسماها بشكل ما (ص 13، 15 من مقدمة المترجم).

المحور الثانى: فى الرواية هو تقديم صورة للأصوليين داخل المجتمع الإسرائيلى فى مقابل صورة العلمانيين. فتتذكر حنة طفولتها كنا نتجول فى شوارع بعيدة. نجوب الغابات جوعي، نركض لاهثين نعذب الأطفال المتدينين: (22) وحنة أثناء فترة الخطوبة مع ميخائيل رفضت أن تدعوه إلى غرفتها والسبب أن أصحاب المنزل متدينون (29) بل أنها بعد الزواج وعندما كانت مريضة وزوجها على جبهة القتال أطمأنت عندما زارها رجلان من الجيران للاطمئنان عليها. وتخشى لو أن رجلا واحدا هو الذى زارها والسبب كما تقول حنة لو جاء واحد منهما بمفرده، سيفتح الباب للأقاويل الشريرة (153) ووالد ميخائيل عند زيارته للمرة الأولى لابنه بعد الزواج، وعندما سأل على عنوان بيت أبنه، ضلله الأطفال المتدينون (64) بل إن عمات ميخائيل الأربع تتعجبن فى حيرة وتتساءلن لماذا يعيش ميخائيل بين المتدينين بدلا من العيش فى مناخ ثقافى متحضر (81).

هذه الصورة التى تركز على أن الأصوليين فى المجتمع الإسرائيلى غير متحضرين، يؤكد عليها الكاتب فى مواضع عديدة. إذ بينما تسير حنة وميخائيل فى مدينة القدس، ينقض على ميخائيل يهودى ضخم أمسك بزر معطفه وقال فى وجهه ويل لك يا مُعكر صفو إسرائيل، إن شاء الله تموت اندهش ميخائيل فهو لا يعرف الرجل الذى أضاف فليكن الموت من نصيب كل أعداء الرب.آمين يا رب العالمين وعندما تهيأ ميخائيل ليقول للرجل أنه ليس من أعدائه، أنهى اليهودى الضخم الموقف قائلا تفو عليك وعلى كل عائلتك إلى الأبد. آمين آمين (85).

واليهود المتدينون فى إسرائيل المدافعون عن الديانة العبرية يرون أن البنات كلهن من عمل الشيطان الرجيم (56) والسيدة (هاداساه) صديقة حنة تنتقد الجامعة العبرية فهى جامعة حديثة العهد، ومع ذلك يديرونها بأكثر الطرق أصولية (57) وإذا كان الأصوليون فى كل دين يحاولون إثبات أن كتابهم المقدس سبق العلم فى الاكتشافات العلمية، فإن والد ميخائيل يتكلم عن شك الخبراء فى الآية التوراتية التى تقول أرض حجارتها من حديد. ومن جبالها يُقطع النحاس الموجودة فى سفر التثنية (108) وميخائيل بعد حرب عام 1948 يرفض الذهاب إلى أى مستوطنة (كيبوتز) فى النقب. وترى عمته (جينيه) أنه بذلك أحسن صنعا، لأنه توجه للدراسة فى الجامعة ليخدم الشعب والدولة بعقله ومواهبه وليس بعضلاته (109) والسيد قاديشمان الأصولى المتعصب يقول سنقوم باحتلال القدس، الخليل، بيت لحم ونابلس خيرا فعل الرب بشعبنا حين منع الحكمة عن الذين يدعون الزعامة فينا، وجعل على قلب أعدائنا غشاوة بيده يأخذ وبيده الأخرى يعيد، ما لم تستطع تحقيقه حكمة اليهود يتحقق بفضل غباء العرب. قريبا ستندلع حرب كبيرة وستعود لنا الأماكن المقدسة (134).

على الجانب الآخر يُبرز الكاتب الوجه المضاد للأصوليين، فرغم وجود ظاهرة التعصب الدينى داخل المجتمع الإسرائيلى فإن العلمانيين لهم حق الدفاع عن أنفسهم وإعلان معتقداتهم، وأكثر من ذلك فإن والد ميخائيل تَعود أن يصف نفسه بأنه يمارس الإلحاد (112) وميخائيل مثل والده. تقول حنة نحن لا نشعل شموع السبت، لأن ميخائيل يرى فى ذلك نفاقا من جانب الذين لا يتمسكون بالمبادئ الدينية وفى نفس المشهد يقول ميخائيل أبى لم يعرف ما هو مدى الصدق فى المبادئ الدينية. وحين أنضم أخى عمانوئيل لحركة شباب يسارية، حينذاك فقط توقفت العادات الدينية فى بيتنا يوم السبت. و(إن) تمسكنا بالقواعد الدينية كان واهناً للغاية فقد كان أبى رجلا متشككا (120).
والتعصب الدينى يصل إلى درجة أن تقول أحد الشخصيات الثانوية جميع أبناء إسرائيل متساوون أمام الرب إلا أولئك الذين حلت عليهم اللعنة منه سبحانه (122) أى أن التعصب الدينى يُكَرس لإقصاء كل مختلف والدعاء عليهم باللعنة من منظور الإيمان العبراني، وإذا كان هذا الإقصاء يشمل الفلسطينيين، فهو يشمل أيضاً الإسرائيليين الرافضين للمرجعية الدينية العبرانية، وهذا أحد أهم بؤر الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو ما اهتمت الرواية بإبرازه. وتكتمل الصورة عندما يرفض ميخائيل أن يلتحق بأية مدرسة دينية. وقد شاركته زوجته حنة فى ذلك وقالت ميخائيل مصمم تماما على أن يكون ابنه تقدميا فى آرائه (169). وحنة تكتشف فى ابن جيرانها الفتى يورام موهبة الشعر، ولكنه يكتب شعرا يستمد مادته من التوراة فتقول حين تكون السيطرة التامة فى يدي، أنوى أن اقنع يورام بأن يختار حياة متهورة، بمعنى أن أشجعه على أن يكون شاعرا وليس مدرسا للتوراة (162) وتصف تلاميذ المدرسة الدينية للبنيين (تحكموني) بأنهم بدوا لى أكثر همجية، أكثر عنفا من السنين السابقة (175) والسيدة (دوباه جليك) تجد أساسا مضحكا للتزامن بين التراتيل الدينية وبين المطر. ولهذا انفجرت فى ضحك أجش (188).


المحور الثالث: هو الموقف من مصر، استنادا إلى الإيمان العميق بحرفية ما جاء فى التراث الدينى العبرى المعادى لأجدادنا المصريين القدماء، تدور أحداث الرواية (دون أن ينص الكاتب على ذلك صراحة) فى أجواء حرب عام 1956. يقول الدكتور أورباخ الذى يعالج حنة هذه أيام مهمة ومن الصعب جدا فيها الابتعاد عن الأفكار التوارتية. حسنا بالأمس احتل الجيش الإسرائيلى بالدبابات جبل سيناء، تقريبا كما توقع سفر الرؤيا. تقريبا يوم القيامة (150) ويقول السيد قاديشمان فى هذا الوقت قواتنا تطارد جيش فرعون الهارب. والبحر لم ينغلق لم ينغلق لمجرمى مصر (155) وكما ذكرت فى المحور الأول، فإن الإسرائيليين (أصوليين وعلمانيين) يوحدهم الدفاع عن بقاء إسرائيل، لذلك نرى ميخائيل (رغم رفضه للمرجعية الدينية) يقول هناك قاعدة معروفة وضعها المستشار الألمانى بسمارك، مفادها أنه حين يهاجمك حلف من القوات المعادية، عليك أن تبحث عن أقواهم وتضربه أولا. وهذا ما يحدث هذه المرة أيضاً. سنخيف الأردن والعراق حتى الموت وبعد ذلك نستدير فجأة لنضرب مصر وتعلق حنة قائلة أنا حملقت فى زوجى كأنه يتحدث إلى باللغة السانسكريتية (135).


ويذكر الكاتب على لسان حنة أن التلاميذ فى المدارس يتعلمون قصة الخروج من مصر والضربات العشر. أبدى معظم الأولاد فزعا شديدا، ربما مشوشا من قسوة المصريين ومعاناة العبريين. أما جونيه (ابنها) فقد سأل أسئلة تتعلق بانشقاق البحر الأحمر كان لديه اعتراض منمق على أقول التوراة (184) وأثناء الحرب يذيع الجيش الإسرائيلى البيان التالى توغلت قوات جيش الدفاع الإسرائيلى هذا المساء إلى داخل صحراء سيناء واحتلت الكونتيلا ورأس النقب وسيطرت على مواقع بالقرب من نخل على بعد 60 كم شرق قناة السويس. صحراء سيناء هى المهد التاريخى للأمة الإسرائيلية (146، 147).


المحور الرابع: يتناول علاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين. وهذا المحور تجسده حنة التى تدور أحداث الرواية على لسانها، حنة شخصية مركبة شديدة التعقيد. تهاجمها الأحلام الكابوسية دائما. رغم استقرار حياتها الزوجية، ورغم تقدم زوجها فى أبحاثه وفى وضعه الاجتماعي، ومع ذلك تشعر دائما بأنها على حافة الخطر. هل هو خطر ذاتى أم خطر عام..؟طوال صفحات الرواية يختلط الذاتى بالعام. فهى فى طفولتها كانت تلعب مع طفلين عربيين (توأم) عن هذا التوأم قالت كنت أميرة وهما حارسي. كنت قائدة مغوارة وهما الضابطان. كنت القبطان وهما الملاحان. جاسوسة وهما العينان (22) ولكن العلاقة بينها وبين الطفلين العربيين تتعقد تقول أحيانا كنت أحثهما على التمرد وبعد ذلك اخضعهما بيد حديدية (29) ورغم ذلك فهى تحكى لميخائيل وأنا فى الثانية عشر من عمرى وقعت فى حبهما معا. كانا ولدين جميلين وفجأة تراهما ذئبان رماديان. همجيان قرصانان بحريان (36) وفى حلم آخر يتدرب التوأم العربى على استخدام القنابل اليدوية (81) ورغم ذلك فهى فى يقظتها تتمنى أن يكون هذا التوأم العربى ضمن المعسكر العربى الذى يسعى للسلام (157).

فى الصفحات الأخيرة من الرواية، عندما قررت الانفصال عن زوجها (رغم أنه زوج مثالي) فإنها ترى التوأم العربى فى أحلام يقظتها ومعهما صندوق متفجرات وأجهزة تفجير ورشاشات محشوة ومصوبة ومسحوب منها زناد الأمان. رغم ذلك فإن الخطر فى هذا الكابوس لازال مشوشا فتقول أصابع تلتمس طريقها إلى الزناد، تجمعات صراصير مختبئة، فجأة يدوى انفجار مروع. وهج من الضياء فى الأفق الغربي. بقايا أصداء منخفضة تُجلجل فى كهوف الجبل على وجه الأودية ندى ثقيل. نجمة. كتل من الجبال الصماء. ريح هادئة تلامس وتداعب أشجار الصنوبر. الأفق البعيد يصير باهتا ببطء. وعلى الوادى الفسيح تهبط سكينة باردة (من ص 194 - 196) وحنة إذا كانت ترى التوأم العربى فى أحلامها الكابوسية وهما ينقضان عليها، فإنها ترى أيضاً سائق التاكسى الإسرائيلى (رحاميم رحيمون) وهو يطوق خاصرتها كإنسان همجى متوحش (138) أى أن إحساسها بالخطر نابع من إحساس عام بتركيبة المجتمع الإسرائيلي، فهى ترى أن مدينة القدس أوهام وليست مدينة (34) والقدس مدينة تبعث على الحزن. فى كل ساعة وفى كل موسم تثير القدس حزنا مختلفا (63) والقدس قلعة أشباح يسكنها أصحاب الأرواح الشريرة (82) وتقول أيضاً من الذى بإمكانه أن يستوطن القدس..؟ أتساءل أنا. حتى ولو عاش هنا مائة عام. إنها مدينة الأفنية المغلقة. مخنوقة خلف جدران كثبية. تعلوها قطع زجاج مكسور. حاد. لا قدس. بل فتات متساقط عمدا كى يضلل الأبرياء. قشور داخلها قشور. إننى أسجل هنا أننى من مواليد القدس. أما أن القدس مدينتي، فهذه لا استطيع أن اكتبها (84، 85) وأكثر من ذلك قالت كانت القدس بعيدة ولم تستطع أن تتعقب آثاري، ربما تحولت فى النهاية إلى غبار، فهى تستحق. لم أحب القدس من بعيد. أضمرت لى الشر. أردت لها سوءا (192).

إن شخصية حنة من الشخصيات المهمة فى الأدب العالمي. والكاتب برع فى تضفير همومها الخاصة بالهم العام. فهى مشغولة بفلسفة الوجود وتسأل زوجها من أجل ماذا نعيش..؟ قل لى من فضلك يا ميخائيل (178) وهى تعترض على زوجها عندما تلاحظ أنه يردد كلمات محفوظة عن أبيه فتقول له إن أباك هو الذى يتحدث الآن من حلقك عندما يرد عليها لم أفكر فى ذلك. لكن الأمر ممكن وطبيعي. فأنا ابن أبي ولكنها ترفض منطقه فتقول الفظيع ليس فى أنك ابن أبيك الفظيع أن أباك يبدأ الحديث فجأة من حلقك، وجدك زالمان وجدى وأبى وأمي، وبعدنا يكون يائير (ابنها) كلنا كأننا نتعاقب شخصا إثر شخص. كلنا مسودات نسخة جديدة تظهر بعد الأخرى مسودة طبق الأصل. بعد أن تتلف بالكرمشة تلقى فى سلة المهملات. وتظهر مسودة أخرى بتغيير بسيط. يا له من انعدام للجدوى. يا له من فتور يا لها من نكتة سخيفة (181) حنة ترفض أن يكون مجتمعها نسخ كربونية. لذلك يتفهم القارئ هواجسها وكوابيسها عن الذين يهددون حياتها تخشى من التوأم العربى ومع ذلك تحن لطفولتها معهما، وتتمنى أن ينضما إلى العرب المناصرين للسلام تعشق الحياة بطريقتها الخاصة، لذلك كان الكاتب موفقا وهو يقدمها فى السطور الأولى من الرواية وهى تقول أكتب لأن أناسا أحبهم قد ماتوا. أكتب لأننى حين كنت صبية كانت لدى القدرة على الحب. أما الآن فإن قدرتى على الحب تموت. أنا لا أريد أن أموت (19).

***
الدفاع عن بقاء دولة إسرائيل رغم اختلاف التيارات السياسية والثقافية، الدعوة إلى السلام، إدانة الأصوليين اليهود، الصراع بين الأصوليين والعلمانيين هذه المحاور التى تناولتها الرواية هى أيضاً مواقف الكاتب الذى قال للناقد الأمريكى (دافيد سباتر): على السطح فى إسرائيل هناك ثقة فى النفس هائلة، رصيد ضخم من اللامبالاة، ومن إجابات سخيفة تدور فى أى ذهن وتتمثل فى لا تنزعج نحن نستطيع أن نحل كل شيء. ونتغلب على كل صعوبة، ولكن هذه الثقة تطفح على السطح فقط، بينما فى العمق، وفى داخل طيات الضمير والعقلية الإسرائيلية، هناك شعور قديم بالفزع اليهودى التقليدي. هذا الفزع يبرهن عن نفسه فى الشعور بالذنب تجاه العرب، ويؤدى فى حالة بطلة هذه الرواية إلى نزوات انتقامية وفى حديث آخر سأله أحد النقاد الأمريكيين: هل لازال يأمل أن دولة علمانية ديموقراطية تستطيع البقاء فى إسرائيل..؟ فقال التطرف الدينى والتعصب حقق ارتفاعا هائلا. ليس فقط فى القدس، ولكن فى أماكن كثيرة أخرى من العالم تحت سيطرة الإسلام، المسيحية وبالتأكيد اليهودية. سيؤدى ذلك إلى سيطرة الدينيين الأصوليين على القدس، إننى لن اعتبر موجة التطرف الدينى فى إسرائيل ظاهرة عابرة إنها ثابتة وقائمة.


وعاموس عوز مؤلف الرواية عضو فى حركة السلام الآن. وعضو فى لجنة السلام الفلسطينية الإسرائيلية ومع إقامة الدولة الفلسطينية. وخلال الاعتداء على لبنان عام 1982 قاد مظاهرة ضد مناحم بيجين رئيس الوزراء الأسبق مذكرا إياه أن هتلر قد مات، ونشر قصة قصيرة فى مجلة اليوم السابع تدور حول أم تشعر أن احتلال القدس فى حرب عام 1967 يساوى إصبعا واحدا من أصابع ابنها الذى فقدته فى تلك الحرب (من مقدمة المترجم من ص 11 - 15).

***

تبقى ملحوظة خاصة بالمترجم: فإذ كان ابن ميخائيل عندما سمع قصة خروج اليهود من مصر كان لديه اعتراض منمق على أقوال التوراة وإذا كان من حق أى مترجم التعليق على أية أخطاء تتعارض مع لغة العلم، وهو ما فعله العديد من المترجمين، لذلك كنت أتوقع من مترجم رواية (حنة وميخائيل) أن يستشهد بأقوال العلماء الذين فندوا افتراءات بنى إسرائيل ضد أجدادنا المصريين القدماء، أمثال جيمس فريزر الذى نفى أن يكون قد صدر أمر من أحد الفراعنة بطرح كل أطفال العبريين فى الماء (2). أو سيجموند فرويد الذى كتب أن القصة التى ترويها التوراة عن موسى والخروج ليست أكثر من أسطورة دينية (3). أو د. محمد بيومى مهران الذى كتب انتهت الأمور باليهود أن نسوا لمصر أنها أطعمتهم من جوع، وآوتهم من تشرد، فردوا لها الجميل نكرانا، وكانوا عليها للفرس أعوانا وفى حاميتهم جنودا. وهم أعوان الهكسوس وخونة وجواسيس وأذناب لأعداء البلاد (4) وكتب شفيق مقار أن اليهود كانوا رعاة رحل جياع تسللوا عبر حدود مصر ليأكلوا وينهبوا (5) وكتب جورج هربرت ويلز أن قصة استيطان بنى إسرائيل مصر واستعبادهم فيها وخروجهم منها قصة صعبة التصديق للغاية. ففى تاريخ مصر ذكر لأقوام من الرعاة الساميين سُمِح لهم بالإقامة فى أرض جاسان (محافظة الشرقية حاليا) بإذن من الفرعون رمسيس الثاني. وفى هذا السياق قال التاريخ أن من جعل أولئك الناس يلجأون إلى مصر كان الجوع، إلا أنه لا ذكر هناك إطلاقا فى أى شيء مما سجله تاريخ مصر لشخص اسمه موسى، أو أى ذكر لسيرته، كما أنه لا ذكر هناك لأية ضربات أو كوارث طبيعية حلت بمصر أو لأى فرعون غرق هو وجنوده فى البحر الأحمر (6).
لم يقدم مترجم الرواية هذه الخدمة لقارئه، وإنما اكتفى فى الهامش رقم (41) بأن لخص قصة الخروج كما وردت فى سفر الخروج.


ولازال الألم يعتصرنى وأنا أقرأ فى الرواية على لسان أصولى يهودى فى هذا الوقت قواتنا تطارد جيش فرعون الهارب. والبحر لم ينغلق لمجرمى مصر (ص155) واستدعيت كل قراءاتى فى علم النفس لأعرف الحالة الشعورية للمترجم وهو يترجم افتراءات بنى إسرائيل ضد أجدادنا المصريين القدماء وضد المصريين المعاصرين. طبعا فشلت محاولتى واستبعدت أن يكون المترجم من المؤمنين بالتراث العبرانى المعادى للحضارة المصرية، ولكن آلمنى أكثر أن المترجم قرأ العهد القديم. فكيف لم يكتشف أن المجرمين الحقيقيين من واقع معظم أسفارا العهد القديم هم اليهود، وبالتالى كانت أمامه فرصة للرد على أكاذيب الأصوليين اليهود من واقع كتابهم الذى يقدسونه.وكمثال واحد فإن إله العبرانيين يُحرض بنى إسرائيل على سرقة المصريين فيقول لهم حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين (الخروج 3: 18 - 22) وأكثر من ذلك فإن هذا الإله العبرانى ينزل بنفسه فى منتصف الليل ليقتل كل بكر فى أرض مصر (الخروج 11: 4-7).


ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- ترجمة رفعت فوده. الناشر: الدار العربية للطباعة والنشر والتوزيع ط1 عام 1994.
2- الفولكلور فى العهد القديم ترجمة د. نبيلة إبراهيم - هيئة الكتاب المصرية عام 1974 - ج 2 ص 12.
3- موسى والتوحيد ترجمة د. عبد المنعم الحفنى - ص 84، 109، 135.
4- تاريخ الشرق الأدنى القديم - ج 3 ص 325، 384.
5- قراءة سياسية للتوراة، الناشر: رياض الريس للكتب والنشر ص 92.
6- نقلا عن شفيق مقار، المصدر السابق ص 311.

أبوبكر خلاف
18/05/2007, 12:01 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه المشاركة سنخصصها في مجال الادب العبري ومايتصل به من دراسات..

والله الموفق:fl:
المنتدى العبري

أبوبكر خلاف
19/05/2007, 02:01 AM
دراسة في شعر الشاعر الصهيوني بيالك*



ظلت الأسئلة تطرق جنبات عقلي حين أبحرت في هذا الموضوع - متى سيكون لنا شاعر قومي؟! و كيف يمكن اعتبار الشاعر قوميا ً ؟ و كيف اعتبروا هذا شاعرهم القومي؟!…

على الرغم من أنه مات قبل إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 إلا أنه يعتبر القصيدة الصهيونية الأكثر شهرة و الشاعر القومي الأول لإسرائيل ، لما أحدثه شعره من طفرة فنية في الشعر العبري الذي كان غارقاً في تقليد الشعر الأوروبي من ناحية و في تقليدية الأساطير و الكتابات التلمودية القديمة، عمل بياليك على تطوير لغته الشعرية عن طريق المحافظة على القالب الشعري التقليدي مع تطويره بقوالب الشعراء الأوروبيين المعاصرين له ،

كتب بياليك النشيد الوطني لإسرائيل (الأمل) :
طالما في القلب تكمن
نفس يهودية تتوق
وللأمام نحو الشرق
عين تنظر إلى صهيون.
أملنا لم يضع بعد،
حلم عمره ألفا سنة،
أن نكون أمّة حرّة على أرضنا،
أرض صهيون والقدس


كما شارك بياليك في الترجمة الثالثة للقرآن الكريم إلى العبرية في عام 1936 وكانت آخر طبعاتها عام 1987 بواسطة الحاخام الصهيوني (يوسف ريفيلد) الذي ولد في القدس وكان أبرز عناصر الحركات الصهيونية في فلسطين ،يعتبر شعر بياليك تجسيدا ً واضحا ً لحياته المضطربة المشحونة بعاطفة الكراهية و الخوف .


يُتم مبكر ووحدة :
ولد حاييم نحمان بياليك في العام 1873 ببلدة (رادي) الأوكرانية ، سابع أبناء الزيجه الثانية لكل من (اسحق يوسف بياليك)،(دينا بريفا) عمل والده المنحدر من أسرة يهودية متدينة أرثوذكسية تاجرا ً للأخشاب مما أتاح لبياليك العيش في جو من الترف حتى بلغ السادسة من عمره و فقد والده تجارته ، و سافرت الأسرة إلى بلدة زهيتومير للبحث عن فرصة للعيش و هناك عمل والدة كحارس لحانة ثم توفي بعد عام ، تاركا ً زوجته الأرملة المفلسة مما جعلها ترسل بياليك ليتربى في كنف جده لأبية (يوسف بياليك)المتدين الصارم و الذي حرص على تلقين بياليك التعليم اليهودي التقليدي ، إلا أن اهتمامات والدة بياليك بالثقافة الأوروبية و اللغة الروسية أثرت في توجهاته كثيرا ً مما جعله يتطلع إلى التوسع في طرق سبل العلم فسافر إلى (فولوزين) في ليتوانيا و هو في الخامسة عشرة من العمر لدراسة العلوم الإنسانية ، بعد أن سيطرت عليه فكرة التحرر من التعليم الأرثوذكسي و كان يحلم بإكمال دراسته في الجامعة الربانية في برلين .

يوشيفا و أحاد هاعام :
في فولوزين التحق بياليك بالأكاديمية التلمودية –يوشيفا-و درس الفلسفة و الشعر الروسي ، و قد بدأت بوادر التيار الصهيونى و العلمانية في السطوع ، و هناك انضم بياليك إلى تكوين سري للطلبة الصهاينة الأرثوذكسي و الذي كان يستمد مبادئه من تعاليم (أحاد هاعام)الذي يعتبره معلمه الأعظم و الذي أثر في شعر بياليك و جيله بالكامل و قال عنه بياليك "اليوم الذي تشرق فيه مقالة جديدة لأحاد هو عطلة بالنسبة لي "،حيث منحهم أحاد الإطار الفكري الفلسفي الذي ساعدهم على ترجمة ولائهم اليهودي بعيدا عن السياق الديني التقليدي و أشار بياليك إلى ذلك في إحدى قصائده:
تحل بركتنا من كل بذرةفكرة ..بذرتها في قلوبنا المقفرة..

كان (أحاد هاعام) المولود في العام 1856ببلدة (سكفيرا)الأوكرانية، الذي اهتم بدراسة التاريخ و الرياضيات و العديد من اللغات كالروسية و الإيطالية ،قدم إلى (أوديسا) عام 1886 و شارك فى أعمال رابطة أحباء صهيون حتى أصبح زعيمها الروحي فيما بعد و قد حل اسم (أحاد هاعام) محل اسمه الحقيقي(اشير جينتسبرج) بعد نشر مقاله (ليست هذه الطريق) في مجلة (هامليتس)، و التي أسس بعدها رابطة سرية أطلق عليها (بني موشيه)لتطوير الشعور القومي اليهودي ، حارب أحاد جميع المشروعات الصهيوينة التي سادت في تلك الآونة حتى مشروع هيرتزل فكان دوما يري أن القلة المختارة فقط هي التي يجب أن تهاجر إلى فلسطين لتبني حضارة تشع في كل مكان و هذا هو المبدأ الذي تبناه بياليك فيما بعد مما يعكس الخطوط المتقاطعة بين مشروع هتلر و المشروع الصهيوني حيث قال بياليك"أنا أيضا ً مثل هتلر أؤمن بفكرة الدم " و دعي في قصيدته (آخر موتى الصحراء ) يهود الشتات إلى عدم الالتفات إلى الضعفاء منهم و الاستمرار في السعي لتحقيق الهدف و المضي للبلاد التي يحلمون العيش فيها مما يعكس الفكر الصهيوني في التخلص من جيل العبودية مذكرا ًإياهم بالمآسي التي تعرضوا لها نتيجة الإصرار على مشروعاتهم الفاشلة:
و في الرمال دفنا ستمائة ألف من الجيف النتان .

فلنتجاوز جيف المتخلفين .
الذين ماتوا عبيدا - و لنتخط الشهداء‌!
فليتعفنوا بخزيهم متمددين على ربطاتهم .
التي حملوها على أكتافهم من مصر .


عاني بياليك من الصدام الذي حدث بين خلفيته التقليدية و التيار العلماني الذي قابله في فولوزين ،عاد في العام 1892 إلى زهيتومير و كتب قصيدة العودة و التي صور فيها الركون و القدم الذي عليه مثقفو عصره و انه عائد إليهم لا محالة لصعوبة اندماجه مع التجديد:
و كما كان دوما في الظلام
العنكبوت يحيك و يعلق خيوطه
و شبكتها المملوءة بالذباب الميت
في الزاوية المهجورة المظلمة
انتم لم تتغيروا
كل القدماء كالتلال
لا شئ جديد
سوف أنضم إليكم أيها الأزلام الشيوخ
سوف نتعفن جميعا حتى ننتن

و كان قد أمضى عاما كاملا في (أوديسا) تابع خلاله دراسته للروسية و الألمانية ، في العام 1892 تزوج بياليك من (مانيا أفيرباتش) و تاجر لفترة مع والدها إلا أنه فشل ،سافر في عام 1897إلى بلدة صغيرة على حدود بروسيا و عمل هناك كمدرس للعبرية و بدأت شهرته كشاعر، سافر بياليك إلى (أوديسا) مركز الثقافة العبرية في تلك الفترة لينضم لدائرة المثقفين و الكتاب التي أحاطت بأحاد هاعام ،عمل بياليك مدرسا ً في أوديسا وواصل دراسته للأدب الروسي و اغرم بكتابات دستوفسكي و بوشكين و شاؤول فروج و جوجول و قام بالعديد من الترجمات إلى العبرية، إلا أنه لم يشارك في الحياة الأدبية بشكل جرئ حتى ساعده(موسي ليب) في عرض أعماله على أحاد هاعام الذي كان يري في قصائد بياليك تطرفا ً كبيرا ً و بعدا ً شديدا ً عن نهج شعراء أحباء صهيون إلا أنه وافق على نشر أولى قصائد بياليك الطويلة (ها-ماتميد)عن طلبة التلمود الذين صورهم كقوة بطولية تحمي السامية في ظل اندثار التاريخ الأرثوذكسي لليهود التقليدين و التي نشرت في جريدة (ها –شيلوح) و التي كان يحررها أحاد هاعام)و التي كتبها على نهج مساير لأحباء صهيون مما ساعده على تعميق علاقاته بأدباء أوديسا، قابل بياليك الشاعر (ى.هـ.رافنيتزكي) صاحب دار نشر موريه و الذي ساعد بياليك في نشر العديد من الترجمات مثل يوليوس قيصر لشكسبير و أشعار شيلر ، كما شاركه في كتابة كتاب (القانون و الأسطورة)و الذي ضم ثلاثة أجزاء من الحكايات اليهودية الفلكلورية عبر التلمود و كذلك (كتاب الأساطير) ، إلا أن دار نشر موريه تم إغلاقها في أعقاب الثورة البلشفية فسافر بياليك إلى برلين في العام 1921 و أنشأ دار النشر (دفير).
في العام 1923 تمكن من طباعة أربعة إصدارات من أعماله المجمعة في مجلد حقق مكاسب هائلة ماديا ً مكنته من شراء قطعة أرض في تل أبيب و أدبيا حيث أصبح الشاعر القومي للصهيونية.


ملامح شعر بياليك:

التناقض و الميل الجامح للانتقام ، و التوتر بين التدين و العلمانية كانت أبرز سمات شعر بياليك الذي تنوعت قصائده ما بين الشخصية و القومية و أغاني الأطفال مثل قصيدته الشهيرة (إلى الطائر)و كذلك النثر الذي اهتم به على نحو لافت منذ العام 1908، تناولت قصائد بياليك الأولى قضية الإيمان و مرارة المنفى بلغة شعرية تقليدية إلا أنها اختلفت إلى حد كبير عن أعمال أسلافه، كان لشعوره بالوحدة و فقدان الأمان و لهو الطفولة أكبر الأثر على قصائده التي تجاوزت رمزيتها حدود التجربة الروحية و التي أطلق عليها الناقد حيرشوم شوليم (نوستاليجيا الصوفي) و التي كانت المكون الأساسي للشعر الرومانسي في المائة عام السابقة ، حتى أن قصائد الحب لدي بياليك جاءت متذبذبة ما بين الحب العذري و الجسدي ،الخصومة بين الطبيعة و الروح ، نجد الطبيعة في شعره لم تقتصر على الريف الأوكراني و كذلك لم تقتصر على ما ورد في النصوص التوراتية إلا أن شكل البيوت و المنازل في شعره و نثره صورت ما كان يراه في طفولته الأوكرانية ، كما تميز شعر بياليك بالمباشرة و التصريح و كان هذا يعتبر غريبا ً لدى المتلقي لشعر بياليك من الإسرائيليين الذين عاصروه و كذلك اعتماده على لهجة (الإيدش) الألمانية تلك التي تكثر فيها الكلمات العبرية و نطق بها يهود الاتحاد السوفيتي و أوروبا الوسطى و تكتب بحروف عبرية ،بينما كانت لهجة السفرديم هي الشائعة في بداية الهجرة إلى فلسطين و المستعملة لدى الجالية اليهودية هناك ، مما أثار شجنا ً لدى بياليك لصعوبة تغني أطفال إسرائيل بقصائده فكتب قصيدتين بلهجة السفرديم و كتب معظم أشعاره فيما بعد بالعبرية بلهجتها الأشكنازية التي سادت لدى يهود شرق أوروبا.
كما اعتمد بياليك على استعمال التفعيلة المؤلفة من مقطع طويل يتبعه مقطع قصير و هو ما يطبق عليه تفعيلة (الترويشة)بينما كان الشعر العمبقي هو السائد وقتها و الذي يعتمد على استعمال بحر عروضي يتكون من مقطع قصير يتبعه مقطع طويل أو مقطع غير مشدد يتبعه مقطع مشدد النطق .

الانعزال و رفض الاندماج مع الشعوب الأخرى:
تميل الشخصية الصهيونية بطبيعتها إلى الانعزال و رفض الاندماج مع الشعوب الأخرى، حيث يرى الصهيوني في الاندماج تخلياً عن القومية اليهودية و الذوبان في أتون الحضارات الأخرى ، و يعتبروا عملهم في بلاد العالم عبودية ، حيث أنهم يعمروا حضارات الغير و يفقدوا قواهم في غير صالح مشروعهم المقدس و هذا ما أشار إليه بياليك في أكثر من قصيدة و هو القائل "الأدب و القومية هما ظاهرتين لا يمكن التفريق بينهما " و لعل أبرز قصائده في هذا المنحى كانت تلك التي كتبها عام 1905 (حقا إن هذا قصاص الرب):
حقا إن هذا قصاص الرب و سخطه العظيم
الذي تنكره قلوبهم
زرعتم دمعتكم المقدسة ‌في كل المياه
و نظمتم من خيوط النور شعرا خادعا
و أفضتم روحكم على كل رخام أجنبي
وفي أحضان الأصنام و أغرقتم أنفسكم
و بينما لحمكم ينزف دما بين أسنان النهمين إليكم


و يرى أنهم في الشتات يكونوا الأضعف ، يدعوهم للتوحد فيما بينهم مذكرا إياهم بالمآسي التي حدثت لهم و تيههم الذي ذكر في التوراة و يظهر ذلك جليا ً
في قصيدته (آخر موتي الصحراء):
قوموا أيها التائهون في الصحراء ، اخرجوا من البرية
فمازال الطريق طويلا ، ومازالت الحرب طويلة .
عليكم أن تتحركوا كثيرا ، و أن تتيهوا في الصحراء .
فمازال الطريق أمامكم ممتدا و عريضا .
سنتيه أربعين عاما فقط ، بين الجبال -
و في الرمال دفنا ستمائة ألف من الجيف النتان .
فلنتجاوز جيف المتخلفين .
الذين ماتوا عبيدا - و لنتخط الشهداء‌!
فليتعفنوا بخزيهم متمددين على ربطاتهم .
التي حملوها على أكتافهم من مصر .

و يصف صورة اليهودي في الشتات و مدى وهنه و تعرضه للإيذاء و الاضطهاد

في قصيدته (إلى قائد الرقص):
لا قميص، لا حذاء، لا لباس وغطاء
لم الضجة، لا يصير كثرة العطاء، كثرة الجمل
عرايا حفاة كالنسور تخف
ترتفع إلى أعلى، إلى أعلى، إلى أعلى
نطير في العاصفة، نعبر في الرياح
من فوق بحور المصائب والضائقات
بأحذية أو دون أحذية، أليس الكل سواء
هكذا أو هكذا فنهاية كل رقصة القبر
يبرر بياليك شأنه شأن شعراء الصهيونية سبب الحقد و الكراهية التي تملأ روح اليهودي بما تعرض له من أهوال و اضطهاد فهو على حد قوله :
لا يقيم صداقات فإرثه الألم
والقلب يضمر العواصف
والعاصفة دم

التناقض في شعر بياليك:-
تأثر يهود أوروبا بموجة العلمانية التي سادت أوروبا في أواخر القرن السابع عشر و التي دعت إلى التحرر من الدين التقليدي و اعتباره مسألة ضمير شخصي مما عرف بعدها بحركات التنوير ، و نادت بإعمال العقل في الحياة و هجر الكنائس و دور العبادة التقليدية ، بدأت حركة تثقيف عصرية بين اليهود ، كانت بدايتها في ألمانيا ‌،‌عبر عنها بما سمي « حركة التنوير اليهودية » أو « الهسكالاه » التي بهرت بياليك و كذلك أحدثت لديه نوعا من التشتت فهو صاحب الميل الفطري للعلم و الميل الوراثي للتدين! فيظهر في بعض قصائده عمق الدعوة إلى سبيل الله ، و العمل على التمسك بالتقاليد الأرثوذكسية كما في قصيدته (على قلبكم المهجور):
في خراب قلوبكم نقشت المزوزاه
لذا تتراقص الأرواح الشريرة وتغرد
وفرقة المهرجين، رجال البطالة والفراغ
هناك يقيمون الاحتفال ويحدثون الضوضاء
حيث يري بياليك أن اليهود حين تخلوا عن عبادة الله صارت قلوبهم فارغة علقوا عليها المزوزاه التي يعلقونها على أبواب منازل اعتقادا بأنها تطرد الأرواح الشريرة.
و في قصيدته (هبط المحلاق) يصور مدى تعبده و يأمر اليهود بالتمسك بعبادة الله:
وكانت لهذا الرجل علية صغيرة
لها كوة صغيرة
كانت ملاذ روحه، لم يكن فيها ملاك
ولم يتسلط عليها شيطان
وللرجل صلاة واحدة، وكان عند الضيق
يصعد إلى هناك
يدخل الكوة يرتجف، يرتعد
يبتهل في هدوء
وطالت الصلاة كطول أيام حياته
لكن ذا الجلاب الأعلى لم يردها
منحه ما لم يطلبه، والأمنية
التي تمناها لم يعطه.
الرجل حتى اليوم الأخير، لم ييأس من رحمته
وظلت روحه تنتظر
وقلبه يصلي، يصلي (لكنه) مات
في منتصف الصلاة.


و يظهر وجه العملة الآخر في شخصية بياليك الذي يستنكر الانكباب على الكتب التوراتية القديمة و تشككه في جدواها بورقها الأصفر المتهالك و حبرها التلمودي المعتق و يظهر تمرده جليا ً على اليهودية التقليدية و من أشهر قصائده في هذا المجال (أمام دولاب الكتب) التي كتبها في العام 1910:
كانوا يعثرون على في ليالي الشتاء ، الليالي المتجهمة ،
منكباً على كتاب قديم ، ممزق الصفحات
مع أحلام نفسي و مخاوفها صامداً .
ترتعد أمامي على المائدة ،
ذبالة بهت ضياؤها بعد نفاذ الزيت من السراج
وفي أمعاء دولاب الكتب يجول فأر :
وفي الكانون جذوة‌ أخيرة من نار -
و أنا متسمر في لحمي من فرط الفرع
و أسناني تصطك من رهبة الموت .
يا عجائز الكتب إنني أنظر فيك ولا أعرفك
ومن بين حروفك لمن تعد تنظر إلى أعماق نفسي
الأعين اليقظة‌ ، تلك الأعين الحزينة لشيوخ غابرين
ولم أعد أسمع هناك همس شفاهها
في مدينة الذبح :

في إبريل من العام 1903 ، عشية عيد الفصح المسيحي ، حدثت أعمال عنف ضد اليهود في مدينة كيشينيف الروسية حيث أشيع أن يهودي قتل خادمة مسيحية ، فقتل نحو 49 يهوديا ًو قد أشار رئيس الدولة الإسرائيلي موشية كتساب في خطابه بمناسبة مرور مائة عام على تلك الأحداث إلى أن ما حدث كان نتيجة شيوع قصة فرية الدم والتي أشار إلى أنها خرافة!
و تعد هذه الأحداث نقطة التحول الكبرى في تاريخ الصهيونية إذ بدأ تشكيل جماعات الدفاع الصهيونية في روسيا و الهجانا في فلسطين و تأسست لجنة تاريخية في أوديسا للتحقيق في الأحداث برئاسة المؤرخ (شمعون دوبنوب) و ضمت العديد من المثقفين الصهاينة مثل تولستوي و مكسيم جوركي و بياليك الذي كتب قصيدة (عن المذبحة) تفاعلا مع الموقف و التي استهلها بالصراخ و العويل و اتهام الله بعدم الدفاع عنهم :

أيتها السماء ، استجدي رحمة من أجلي
إذا كان الله فيك
فالطريق عبرك إلى الله لم أعرفه بعد
صلي من أجلي
لأجل قلبي الميت..

و يري بياليك مدى المأساة و ضعف اليهود ووهنهم و غضب الله عليهم لأنهم يعيشوا في أراضي غير يهودية و تركوا تنفيذ تعاليم الدين و العمل على تكوين وطن لليهود مما جعله ينتقم منهم :

أيها المنفذ .. هذه رقبتي اذبحني!
اقطع رأسي كالكلب
أنت يد الله و فأسه
كل الأرض مشنقتي
و نحن ، نحن القلة !
دمائي –هي لعبة عادلة-
اضرب الجمجمة و دم القتيل
دماء الرضع و الكهول ستكسو ملابسك
و لن تزول أبدا ً
كما يذكر فيها الانتقام اليهودي الذي سوف يغرق العالم كله بالدماء :
ملعون هو من يقول : انتقم
إن انتقاما كهذا - هو ثأر لطفل صغير
لم يخلقه الشيطان بعد
يجعل الدم يغور إلى الأعماق
و يشق طريقه إلى القيعان المظلمة
و يأكل في الظلام و ينبش هناك
كل موجودات الأرض المتحللة
و في العام 1904 كتب بياليك قصيدة (في مدينة الذبح) حول المذبحة و مشاهد الموت هناك مما يعيدنا إلى ما أطلق عليه (أدب الشكوى) و الذي شاع بين شعراء اليهود في أوروبا حيث يستهل قصيدته بوصف مشاهد الموت :
اظهر و اذهب الآن إلى مدينة الذبح
شق طريقك نحو فناءها
بلمسة يدك و بأم عينك
لاحظ فوق الشجر و فوق الصخر و فوق السياج على طين الجدار
الدم المرشوش و الأدمغة الجافة للموتى ..
و في مقطع آخر يقول :
ماتوا كالكلاب
و في الصباح التالي بعد الليل الفظيع
الابن الذي وجد حيا ً
وجد جثة أبيه المقاوم على الأرض..
و يصل حقد بياليك إلى سب اليهود ووصفهم بالتخاذل و الكفر برب اليهود الذي تركهم للعذاب:
انظر إلى قلوبهم –النفاية الحقيرة
حيث لا ينمو فيها الثأر
و لم تخرج من شفاههم الشتائم البشعة
و لا القسم الكافر
كلمهم ، أشعل الحماسة فيهم
فليرفعوا قبضتهم ضدي و ليطلبوا رد إهانتهم
رد إهانة كل الأجيال من البداية إلى النهاية
و ليفجروا السماء و كرسي ملكوتي بقبضتهم .
و قبل أن ينهي قصيدته يلجأ إلى التحريض:
قم فاهرب إلى الصحراء
و احمل معك إلى هناك كأس الأحزان
و فرق هناك نفسك إلى عشرات القطع
وقدم قلبك فداء للحنق بلا حول و لا قوة
واذرف دمعتك الكبيرة هناك على قمم الصخور
و أطلق صرختك المريرة التي ستضيع في العاصفة

وصل بياليك و زوجته إلى تل أبيب في مارس عام 1924حيث كانت فلسطين ترضخ تحت الحماية البريطانية، أقام في منزل بني فوق قطعة الأرض التي اشتراها ، شغل بياليك العديد من المناصب كان أهمها رئيس اتحاد الكتاب و حاز على تأييد شعبي واسع ، حيث كانت الجالية اليهودية بفلسطين تعتبره أحد الناطقين باسمها قبل إعلان قيام الدولة العبرية ،كما كان يعقد حلقة بحث فلسفية ثقافية أسبوعية في تل أبيب أطلق عليها (لقاء السبت)،سافر بياليك إلى فيينا عام 1934 لإجراء جراحة إلا أنه مات في 4 يوليو 1934 و دفن في تل أبيب ، و بعد ثلاثة سنوات من وفاته كشف النقاب عن وصيته بتحويل منزله إلى متحف لروح الثقافة العبرية ضم مخطوطاته و كتاب آخرين..


----------------------------------------------

* الدراسة بقلم / شيرين يوسف ..مصر
١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦

ملحوظة:
القصائد المترجمة عن العبرية الواردة في المقال ترجمها إلى العربية كل من :الكاتب السوري فؤاد أبو زريق ، د. رشاد الشامي ، عدنان عبد الرزاق الربيعي ، أما المنقولة عن الإنجليزية فقمت بترجمتها نقلا عن النص الإنجليزي للمترجم Ruth Nevo.


المصادر:-
1-د.رشاد الشامي- الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية- دار الهلال -ديسمبر/ كانون الأول 2002.
2-ممدوح الشيخ-نحو رؤية عربية جديدة للهولوكوست. النازية والصهيونية من التماثل إلى التعاون-خاص بالمركز الإعلامي الفلسطيني.
3-د.رشاد الشامي - حييم نحمان بياليك . حياته و اتجاهاته الأدبية‌ ، أطروحة للماجستير في الأدب العبري الحديث ( غير منشورة).
4-د.رشاد الشامي - لمحات من الأدب العبري الحديث ، مع نماذج مترجمة ص 9 .
5- Ruth Nevo- the translator’s introduction to Chaim Nachman Bialik- Selected Poems, Jerusalem, Dvir Co, 1981.

أبوبكر خلاف
19/05/2007, 02:12 AM
ملامح الأدب العبري ...
بقلم : السيد نجم

مقدمة..

كان الأدب العبري حتى بداية القرن العشرين محصورا في شرق أوروبا, فيما كان عدد اليهود في فلسطين حتى 1855م لم يزد عن عشرة آلاف وخمسمائة نسمة.

في عام 1882م بدأت الهجرة الأولى, حتى بلغ عددهم خمسين إلفا في عام 1989م. في عام 1907م بدأت الهجرة الثانية التي أضافت حوالي خمسين ألفا أخرى, بينما بدأت الهجرة الثالثة في 1922م, وبلغ عددهم مائة وخمسة وستين ألفا عام 1930م.

منذ التاريخ الأخير بدأ يتبلور اتجاه ثقافي عبري, مواز إلى الاتجاه النشط في الاتحاد السوفيتي, أو الذي كان كذلك قبل الثورة البلشفية.. وقد استمر حتى بداية الحرب العالمية الثانية.

لم يكن الأديب العبري خلال الفترة المشار إليها متعايشا مع الواقع الجديد في فلسطين, وهو ما عبر عنه الناقد اليهودي "شاكيد جرشون" بقوله: "لقد مضى على وجود جسدي في فلسطين عشر سنوات, ولكن روحي مازالت هائمة في المنفى. إننى لم آت بعد لفلسطين, بل مازلت في الطريق إليها", وهو المسجل في كتاب "في فلسطين والشتات- الجزء الثاني- عام 1983 ص28)
وظل أدب تلك الفترة خاضعا لأدب المرحلة السابقة أو "أدب الهسكالاه" أو "أدب عصر التنوير اليهودي في شرق أوروبا".. أطلقوا عليه "الأدب العبري الفلسطيني". وهو ما تميز بالخصائص التالية:
- وصف الطبيعة وأنماط البشر, والفلسطيني منها, انحصر وصف الفلسطيني على أنه البدوي أو الفلاح, من أدباء المرحلة "موشيه سميلانسكى" أو "الخواجة موسى" (1874-1953)
- الأدب الطليعي, وهو المتهم بوصف الصراع بين المستوطنين والفلسطينيين أصحاب الأرض, أطلق عليهم لقب الرواد, منهم "يهودا بورلا (1886- 1968)
- القصص الريبورتاجية, وهى التي ركنت إلى وصف الصراع ورصده, مع الطبيعة والعربي. كما رصدت بداية الإحساس بالغربة, مع قص الأساطير ذات الطابع الديني والرومانسي, منهم "يوسف حييم" (18881- 1921), و"يوسف عجنون" (1970).

فلما كانت الهجرة الثالثة وما بعدها (خصوصا من المانيا منذ 1929م), انشغل الأدباء برؤية الواقع الفلسطينى الجديد الناشئ عن الصراع بين الصهاينة والعرب في الفترة (1920-1921م).. النزاع حول حائط المبكى في 1929م.. ثم أحداث ثورة 1936حتى 1939م.

خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات, عبر جيل "البالماخ" أو "جيل سرايا الصاعقة", حيث شارك عدد من الأدباء في أعمال عسكرية.. ليأتي بعدهم "جيل الدولة" أو "الموجة الجديد".. وهم أدباء التعبير العبري بعد إعلان دولتهم في 1948م.

وهناك رؤية أخرى في دراسة وقسمة الأدب العبري المعاصر.. بالنظر بداية إلى الإنتاج الأدبي لمواليد فلسطين من الأدباء أبناء المهاجرين إلى فلسطين.

بظهور "يزهار سميلانسكي" أو "ساميخ يزهار" وهو أيضا "س. يزهار" الذي ولد في فلسطين عام 1916م, عن أبوين يهود هاجرا إلى فلسطين من قبل. تميز أدب "س. يزهار" وقد قالوا عنه أنه صاحب إعجاز لغوي غير عادي في التعبير باللغة العبرية.
لعل مجمل ملامح هذا الجيل من الأدباء العبريين:
أنهم البناء الأول للهيكل الثقافي الجديد.. منهم "س. يزهار", "يجال موسينسون", و "موشيه شامير".. عاصر هؤلاء فترات الصدام المباشر مع الفلسطينيين أعوام 1921و 1929 و 1936 حتى 1939, ثم الصدام مع قوات الانتداب البريطاني.. بينما أبناء جيل الهجرات الأولى تعلم بواسطة "الحيدر" أو ما يشبه الكتاب في القرية المصرية قديما, تعلم مواليد فلسطين بمدارس علمانية بالإضافة إلى التعليم الديني.. رواد التهجير يمثلهم (جالوت) أو يهودي الشتات التقليدي, بينما هؤلاء يمثلهم شخصية (الإسرائيلي), وهو نمط للشخصية اليهودية جديد.. منهم تشكلت شخصية (الصبار) الذي شارك في معارك عسكرية, وهو ما أضاف خبرات خاصة ليهودي فلسطين.
أهم ملامحه الأدبية هو إفراز "الأدب المجند" المعبأ بالمفاهيم والقيم الصهيونية المتعالية المثالية, والعنصرية المتعصبة.
أما وقد أعلنت دولتهم في عام 1948م, فشعر الأديب العبري بالورطة النفسية.. حيث الحديث بلغة الـ "نحن" وغلبة العام على الخاص, وبالمصالح العامة قبل الخاصة.. وإلى هدف تم تحقيقه.. فكانت مشاعر الغربة والاغتراب, ونمط أدبي جديد.


ملامح عامة..

لقد عبرت الأيديولوجية الصهيونية عن جملة أفكار مترابطة ونابعة من جملة معتقدات وأساطير وأحداث تاريخية , بحيث أصبح وعي الملايين من العامة أو الخاصة, من اليهود ومن غير اليهود عاجزون عن التميز بين الحقيقي والخيالي, بين ما هو صحيح وما هو مزيف تاريخيا (1).
كما أن "الصهيونية " تدعي أنها تعبر عن يهود العالم, وبالتالي يدين لها بالولاء كل يهودي, ومن يرفض التفسيرات القومية للديانة اليهودية (باعتبار اليهودية ذات مفهوم قومي), يتهم بالخيانة. وهو ما كان مع "المجلس الأمريكي لليهود" الذي اتهم من قبل الحركة الصهيونية بالتنكر للدين اليهودي, وخيانة أصولها ومحاباة العرب وتأييد قضاياهم (2)
تنحصر الأفكار الرئيسية للصهيونية في عدد من المقولات: اليهود هم شعب الله المختار – اليهود هم شعب ذو مصير تاريخي وسمات خاصة لا تتصف بها الشعوب الأخرى – كل يهودي ينتمي إلى الأمة اليهودية ويجب على اليهود أن يطمحوا للعودة إلى موطنهم القديم فلسطين.
وضح تداخل الفكر الصهيوني مع الدين اليهودي, وقد رفع "هرتزل" الراية بمقولة شهيرة له, أن الغاية تبرر الوسيلة.

انتبه الساسة وأصحاب الرأي منذ بدايات الدعوة الصهيونية, إلى أهمية توظيف الأدب (الأدب العبري) من أجل تحقيق جملة الأهداف السياسية, ثم بات الأدب وسيلة تحت قبضة السلطة الحاكمة بعد إعلان دولتهم في 1948م. تلك العلاقة المتداخلة بين الصهيونية والأدب, وبين السلطة والكاتب (الأديب), عبرت عن نفسها في الآتي: (3)
1- الأدب العبري في إسرائيل يواكب أهداف السلطة, وهو أداة في يدها لتحريك الجماهير اليهودية, وهو أدب يحمل سمات الصنعة (أحيانا), بحيث أصبح الأدباء العبريون أبواق للسلطة الحاكمة, ولما تمليه الصهيونية, وأن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة. (4)
2- الأدب يخدم ما يسمى "بالقومية اليهودية", وارتباطها بفلسطين أرضا وتاريخا. وفقا للمبادئ التي قام قادة الحركة الصهيونية يخوضون على أساسها حملاتهم السياسية لتحقيق الأهداف الصهيونية.(5)

لقد أثمرت توجهات الصهيونية تلك في الأدب العبري, بتلك النظرة المتعالية نحو "الآخر" عامة, و "العربي" خاصة:
تقول الشاعرة "أنا جرينو" في إحدى القصائد التي تتعالى فيها على "الآخر":
"قالت لي أمي بأني
ابنة لشعب غنى بالأسفار.. والأغيار جهلة
حدثتني أن أكون بالمقدمة
لأني يهودية
قالت أمي "اننى ابنة شعب لا يقبل الضياع
واجبي مواصلة الدرب.. درب أبي
لمواجهة الأغيار الأعداء
ولو كانوا كل العالم" (6)
وما كانت لتلك النظرة إلى الآخر من وسيلة, إلا العنف, حتى وإن كان القتل والاغتصاب, وهو ما عبر عنه الشاعر "جبرائيل اليشع" قائلا:
"لا تطلب الغفران كقط ساعة النزهة
هذا زمن الذئاب المغتصبة
لا التنسك ولا الصومعة" (7)
وقد حاول بعض الأدباء العبريين تبرير ذلك العنف, بأن ما تعرض له اليهودي على يد النازي في ألمانيا, هو السبب, وهو ما قال به القاص الإسرائيلي "فشنر" في إحدى قصصه القصيرة.
أن اليهودي الموجوع بموت حبيبته "سارة" على يد النازي, يقتل "العربي" ثأرا من النازي!, سرد في قصته "الينبوع" يقول: "كان متعبا, ولكنه أحس جسده خفيفا بصورة لا تصدق, واستدار نحو الدبابتين, هذا من أجلك يا سارة, من أجلك".. حيث تابع معركته مع العربي. (8)
وهو المعنى نفسه الذي كرره الكاتب "فشنر" في روايته "لصوص الليل": يمارس الإرهاب في فلسطين , لماذا؟ لأن "دينا" قتلت في ألمانيا" (9)

هكذا, حتى أصبح قاتل العربي بطلا, وصفة البطولة ارتبطت بقتل العربي! ففي قصيدة للشاعر الاسرائيلى "أيوناثان غيفن" بعنوان "عدت من إجازتي", يقول الشاعر:
"يجب عليك أن تقتل
حين تعود وتقص على والدتك
أشياء كثيرة وجميلة
أشياء جميلة
لماذا القتال؟!
لماذا هذا السلوك من العرب؟!" (10)
قد تخبو نغمة العنف حينا, مثلما تلاحظ بعد معارك أكتوبر 73م, إلا أنه سرعان ما يعود, ويطفو على سطح الصفحات الأدبية بالصحف والكتب الأدبية. وهو ما تلاحظ عام 1982م أثناء معارك لبنان. فقد نشر الملحق الأدبي لجريدة "هآرتس" الإسرائيلية قصيدة بعنوان "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة" لشاعر يدعى "أكور" في 2-7-1982م يقول:
"لو كنت قائدا لمنطقة بيروت
المحاصرة والمختنقة لصرخت
في وجه كل أولئك الذين يطالبون
إعادة المياه
ويصرخون ويتألمون ويطالبون
إعادة الدواء والطعام
إلى المدينة المحاصرة"
يتابع الشاعر, حيث يطالب بأكثر من ذلك:
"لو كنت قائدا لجيشنا العظيم
لزرعت الموت والدمار
في كل المزارع والشوارع
في كل المساجد والكنائس" (11)
إنها الدعوة إلى "العنف" , إنها ملامح أدب عنصري غير إنساني, قال شاعر آخر في جريدة "دافار":
"ليل الألمان طويل, ونور عمرهم ضئيل
فنحن خالقوا المانيا, بيد حديدية فتية
ونحن قادرون على صنع نعشها, بلا اعتراض
أرض المانيا طوع يدنا, وروحها ترتعد
بعد الجبروت كأس ستجرعه مرارا" (12)
ويتكرر تبرير العنف والاغتصاب مرارا, فيقول الشاعر "بياليك":
لا يقيم صداقات فارثه الألم
والقلب يضمر العواصف
والعاصفة دم" (13)
لقد تعدى "البطل" الصهيوني, التفاخر بما هو عليه من باطل, وتبريرات للعنف والاضطهاد, إلى المزيد من الدعوة إلى الظلم والعنف بعامة, يقول شاعرهم متفاخرا بـ "القتل", مستمتعا بـ "الدم", سعيدا بـ "الحرب":
"أرى العيون الميتة الصامتة
أرى حكمة الدولة
حكمة الحرب في أفواه المجانين
الحساب سنجريه فيما بعد
أما الآن فأنا القاتل"
"لو أنهم تلاميذ مجتهدون
لكانوا استخدموا الدبابة من مسافة قريبة
ودمروا البيوت والشوارع ولم يتركوا أحدا
وبهذا يكونون قد حافظوا على طهارة السلاح" (14)
"اعتمر الخوذة استعدادا لمسيرة الدم
جائلا بعينين إلى النار الحمقى
امتشاق السيف جزء من آدميته
لرعشة الفرح وإحالة الحرب سعادة" (15)

لعله من غير السابق لأوانه, أن نردد ما ردده "غسان كنفاني", يقول: "لن يكون من المبالغة, أن نسجل هنا, أن الصهيونية الأدبية, سبقت الصهيونية السياسية, وما لبثت أن استولدتها, وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليعلب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نظمت لتخدم هدفا واحدا" (16)


----------------------------------

بقلم / السيد نجم ... كاتب مصري
Ab_negm@yahoo.com
نشرت في موقع أفق بتاريخ الأحد 01 يناير 2006

الهوامش:
1- شئون فلسطينية –العدد 47- يوليو 1975 ص15
2- سيكولوجية الإستراتيجية الصهيونية ومفهوم إسرائيل للسلام- ص117
3- الحركات الهدامة, ص187
4- العنف والسلام, ص13
5- شخصية العربي في الأدب العبري, ص10
6- الأدب الصهيوني الحديث بين الإرث والواقع, ص36
7- المرجع السابق ص40
8- في الأدب الصهيوني ص40
9- المرجع نفسه ص45
10- التربية الصهيونية ص49
11- هآرتس, قصيدة "لو كنت قائدا لجيشنا الأسطورة"- "أكور" في 2-7-1982
12- التربية الصهيونية, ص64
13- المرجع السابق ص46
14- الأدب الصهيوني الحديث, ص73
15- قصيدة نشرتها جريدة "معاريف" في 10-5-1978
16- في الأدب الصهيوني ص46