المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كدت أفعل



سيد يوسف مرسي
24/02/2023, 03:51 PM
كدت أفعل

زهى الحنين واخضرفي قلب عباس ، فقد آن الأوان ليعود إلى مسقط رأسه ، مضى أرعين سنة عمره منفي الغربة بعيداً عن أهله ، وما عادت سواعده تساعده أن يستمر في عمله الشاق ،أتى إلى هذه المدينة صبيا يافعاً ،حين التحق كصبي في أحد ورش السيارات ، تغطي وجهه وملابسه الزيوت والشحوم ، قاضيا معظم ساعات النهار وجزءً من الليل تحت بطون السيارات ، ينام أربع إلى خمس ساعات بمكانه الذي أعده له صاحب الورشة بها ، ثم لعب الحظ معه فجأة فاشترى تلك الورشة من ورثة صاحبها ، باتت الورشة ملكاً له ، تدر عليه المال الوفير ، فقد استطاع أن يديرها بطريقة مختلفة جذبت إليه زبائن جدد ، زيادة على إتقانه لمهنته ،فاكتسب العديد من الصداقات والمعارف ، تزوج عباس بنت أحدأقربائه الذين يسكنون معه في تلك المدينة ، حيث أنجبت له ثلاثة أولاد ، قام بتربيتهم مع أمهم وتعليمهم تعليما جيدا ، لكن شتان بين ما يريد المرء ويبتغي وبين خفايا الدهر له ..! ، لقد فارقه أولاده الثلاثة وتفرقوا بعيدا عنه ، ثم ماتت زوجته وبات وحيدا في الدار ، وقد تعدى عمره الستون واقترب من السبعين عاماً ، فأهمل الورشة وتدهورت حالتها ، كما تدهورت صحته أيضا بعد فارقته أم أولاده ، فلم يعد كما كان من قبل ،ومل الحياة وأحس بالضجيج يروم رأسه لأول مرة منذ أن وطئت قدماه المدينة ، وأحس بالضيق ينتاب صدره فقرر العودة إلى مسقط رأسه بأحد قرى الصعيد ، فقد ألب عليه قلبه وألب عليه وجدانه أن يرحل بعيداً ، ويكفى ما قضاه في تلك المدينة وما تحصل عليه فيها ، فقد يجد هناك راحة نفسه ويقضي ما تبقى له من عمر في هدوء وسكينة بعيداً عن ضجيج المدينة وسخطها ....

حينما توفت زوجته وأحس عباس بالوحدة ، نصحه بعض المقربين منه بالزواج من أخرى ترعاه وتقوم على خدمته ، فقد لاحت الفكرة في رأسه ولم يجد مفراً من تنفيذها .. سرعان ما أوقعة القدر مع تلك السيدة التي كانت تقل عنه بخمسة وعشرين عاما ،قد سبق لها الزواج من غيره ثم طلقت ولم تنجب من زوجها الأول . عرفها عباس حين جاءت لتصلح عنده سيارتها[ اللادا ] ، وقد حصل انسجام بينه وبينها ، فقد عرف عباس عنها الكثير بعدما فارقته ، تكررت زيارة نادية إلى ورشة عباس ، ثم فوجئ عباس أنه يطلب يدها للزواج ،، تلقت نادية ما قاله عباس بترحاب وغبطة كأنها كانت تعد وتخطط لذلك الأمر .. سُرّ عباس بالأمر وسرعان ما تم الزواج بينهما ،، كان يتمنى عباس أن زواجه سوف يحل عن صدره الضيق ويسعده ، وتعود حياته إلى الأحسن ، لكن نادية كانت مختلفة تماما عن أم أولاده . كان يترك الورشة ويعود لبيته فيجدها غير موجودة به وقد خرجت دون أن تستأذنه ، يستيقظ ويصلي الفجر وينتظرها أن تقوم من نومها كي تعد له كوباً من الشاي ،فيجد لا جدوى من الانتظار ، فيراها دائما كاسدة نائمة لا تألو بالاً بانتظاره ، فيخرج من البيت إلى الورشة مكتئباً والدنيا ضاقت في عينيه كأنها خرم إبره ، حاول عباس كثيراً بأسلوبه أن يغير من سلوكها لم يجد جدوى معها ، يراها دائما تنظر إليه دون رد منها ، في داخله يغلي مثل بركان مكتظ من الحميم ،يود لو انفجر ليخرج حممه في الخواء ، لكنه يمسك نفسه ويكظم ويتمالك خشية أن يعلو صوته فيسمعه الجيران ،وهو الذي دائما محل تقدير وإعجاب واحترام بينهم ، أليس هو الذي كان يوفق بين المختلفين منهم ويصلح بينهم ؟!، فلو أن أحدَا سمعه فينقل ما يدور بينه وبين زوجته إلى أحد من أولاده ، لا يريد أن يضع أولاده في مشاكله أو يعلمهم بما بينه وبينها ، ... حتى راودته رأسه في العودة إلى مسقط رأسه ، فقد يجد هناك الهدوء والراحة التي يبتغيها ، قد تكون عودته إلى مسقط رأسه مفتاح السعادة له ، هكذا توسم في أمره ، لم يفكر في غير هذا ، قد حبست بنات فكره وتقيدت ، حادثها عباس فيما ينوي فعله ، وراح يراودها ويحبذها للذهاب معه ومرافقته إلى بلدته ، رفضت نادية الفكرة رفضاَ باتاً ، أمهلها عباس بعض الوقت ، وراح يدبر أمور عودته ، تراقبه نادية عن كثب في تحركاته وبصمت منقطع النظير .. عقد عباس العزم وحدد يوم مغادرته المدينة الصاخبة ، قرر أن يطلقها ويعطيَها حقها في نفسه دون أن يبيح لها بذلك ، كانت الأمور تجرى بسرعة خلف ظهره ..
في اليوم المحدد خرجللشارع يبتغي مصرف المدينة الكائن في شارع التحرير ، ترجل من سيارته بعد ركنها في جانب الشارع ، ليعبر للجهة اليسرى منه ، وطئت قدماه الشارع ... اندفعت سيارة تجاهه تريد دهسه بسرعة جعلته يلقي بنفسه بكل قواه ليتفاداها وينجو من قدر كان (متربصاً به ، ذُهِلَ المارون بدهشة والتفوا حوله يباركون له نجاته من موت محقق ، لا يدري عباس كيف نجا من الموت بأعجوبة ..!، انتصب وجلس على الرصيف يسترد أنفاسه ، ويستعيد وعيه وأوصاله ، شكر الله على نجاته .. كان عباس قد قضى طلبه من المصرف ثم عاد أدراجه بسيارته .. أمام أحد المراكز التجارية لمح عباس نادية وهي تقف على شرفة المركز التجاري منزوية مع شاب ، يتبادلان الحديث عن قرب ، حاول أن يكذب عينيه ، فرك عينيه بيديه .. حدق جيدا فيما رآه ، أحس بالنار تهب في جسده ، إنه لم يشك فيها أبداً ، والخيانة ليست من دأبه ولا طبعه ، جلد بالصبر نوازعه ، راح يستغفر الله وعيناه لا تفارقهما لحظة ، ..يبدو أن الحديث بينهما قد انتهى ..!، كانت الثورة التي اشتعلت به هدأت بعض الشيء حين انتحى بنفسه وجلس على أحد المقاهي .. حرك بنات فكره بعناية وهو يدير أمره ، قرر عباس بعد تفكير عميق ، أنه لا داعي للاحتفاظ بتلك المرأة معه ، ولا داعي لاستمرارها في حياته سيمضي إلى مسقط رأسه وهناك سيطلقها اتخذ القرار وكان عليه أن يتحرك ، عليه إلا أن يأخذ ملابسه وحقيبته التي أعدها من منزله ، سيعود لأخذها ثم ينصرف عنها للأبد .. كان عباس متيقنا إنها عادت إلى المنزل قبله ، دائما يحتفظ بنسخة من مفاتيح الباب ، أخرج المفتاح من جيبه كعادته ،وضعه في ثقب (الكالون ) لكنه لم يستجب للدخول ، حاول عدة مرات لكنه لم يجد جدوى من ذلك ، طرق على الباب بغيظ شديد عدة طرقات حتى أن طرقاته على الباب وصلت للجيران الذين أطلوا برؤوسهم ليقفوا على الأمر ، بات عباس في وضع مُزْرٍ أمام الجيران وهم يرونه يقف محتاساً وزوجته لا تريد أن تسمح له بالدخول .. غادر عباس المنزل وهو في قمة الغيظ وقرر أن يتخلص منها ذهب إلى أحد أصدقائه ليبيت عنده ليلة واحدة حتى يتدبر أمره ، قضى عباس ليله في أرق لم ينم كما تعود وهو يضرب كفاً بكف .. في الصباح خرج على وجهه ، ذهب إلى هناك ، كان يعرف طرق ومسالك تعبرها نادية دائما ، راح يتربص لها ويتحين لها اللحظة للتخلص منها ، ترجل من سيارته كي تراه ويجرها بعيداً عن الزحام ، اقترب منها وحاول أن يكلمها ، لكنها صرخت في وجهه بقوة وفظاعة ، انهالت عليه بوابل من السب والقذف .. اشتد غضبه وانهال عليها ضرباً أمام الناس ، حمى الوطيس بينهما وتدخل الناسُ بينهما ، فرت نادية من تحت قبضتة لتنجو بحياتها عابرة على الناصية الأخرى وقبل أن تصلها ..تدخل القدر يقوم بما كان ينوي عباس أن يقوم به ، فتأتي عربة طائشة لتلقي بها أرضاً وعباس على الضفة الأخرى من الشارع يشهد الموقف ...

====== بقلم : سيد يوسف مرسي ======