المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مساحة كبيرة من الود قصة قصيرة



أيمن خالد دراوشة
22/05/2007, 08:37 PM
مساحة كبيرة من الود

قصة قصيرة
أيمن خالد دراوشة
الدوحة / قطر / ص . ب : 36238
************************************************
كانت الأيدي التي تمتدُّ إلى القصعة كثيرةً .. الطَّعام قليلٌ لكنَّه يكفي.. كان كلَّ يومٍ بعد صلاة الظُّهر يقف أمام دكَّانه يدعو
النَّاس إلى قصعته ، يقول : " لم أتعوَّد أن آكل وحدي .. "
أيَّامٌ كثيرةٌ مرَّتْ ، آثار مرورها تبدو مرسومةً واضحةً على وجهه ، أخبارها في عينيه الهرمتين،كان مُغترباً في نيجيريا، حدَّثني مرَّةً عن نسائها اللَّواتي لايلبسْنَ إِلاَّ مايسترالعورة، ولكنَّ أحداً لايجرؤ أن يتكلَّم معهنَّ ، تحدَّث عن المسلمين وحسن تعاملهم، وعن اللبنانيين النَّشيطين الَّذين يملكون المتاجر الكبيرة والفنادق السِّياحيَّة ..
كان لا يقدِّم الطَّعام إلاَّ إذا كنتُ موجوداً ، وفي حالة انشغالي أو عدم وجودي لأمرٍ ما ، يأخذ بعض الطعام ويركنه لي حتَّى أحضر ،يأتيني إلى المسجد إذا تأخَّرتُ في صلاة الظهر ، وإذا لم يجدني هناك يأتيني إلى حجرتي ..
كان يخصُّني إن كان لديه شيءٌ من السَّمك أو الدَّجاج ، أو اللحم من دون الآكلين ، وكثيراً ما كان يؤثرني على نفسه، فيجلس معهم يأكل الأرز أو العصيدة أوِ الوزف ، ويضع لي الطَّعام في مكانٍ آخر بعيداً عن الحضور حتَّى لا يأكل أحدٌ معي ، كنت أرفض هذا التصرف ، وأقبل في النِّهاية نتيجة إصراره وعناده ، وفي إحدى المرَّات مدَّ مدير المدرسة يده إلى قصعةٍ مغطَّاةٍ فوق الطَّاولة،فنهره قائلاً:
"هذا للأستاذ – يقصدني – " فأنا المدرس الوحيد الغريب في تلك المدرسة ، وأما الباقون فهم مواطنون .
كانت الأيام تمضي بطيئةً ثقيلةً ، لم أشعر ببطئها أو ثقلها قبل مجيئي إلى بلدي هنا ، لقد خفَّف عبد الرَّبِّ الكثير ممَّا كنت أعاني ، قلت له يوماً متأسياً : " لقد تأخَّرتِ الرَّسائل يا عبد الرَّبِّ ، فمنذ شهرٍ لم أستلم رسالةً من أهلي " .
" – خيراً إن شاء الله ، وكِّل أمرك إلى الله يا أستاذ .. "
وكان لا يكتفي بذلك ، بل يذهب إلى حيث السيَّارات ، ويطلب من سائقيها وبإلحاحٍ شديدٍ أن يمرُّوا على عبد الغني في تَعِزَّ ويسألونه عن الرسائل ..
كان بيت عبد الرَّبِّ في أعلى الجبل ، وكان لا يذهب إليه كثيراً ، بل يأتي إليه الطعام مع أحفاده ، وزوجته تحضر إليه الشَّاي بعد صلاة الفجر ..
عبد الرَّبِّ يحبُّ زوجته كثيراً ، قال لي يوماً :
" – تصوَّر يا أستاذ ، أيقظتني زوجتي لصلاة الفجر ، فقلت لها: وما يدريك يا امرأة أنَّ الفجر قد قرُب ؟ ، ردَّت عليَّ بإصرارٍ : قم وتوضَّأْ سيؤذِّن بعد قليلٍ . وفعلاً يا أستاذ ما إن توضَّأْتُ حتَّى سمعت المؤذِّن يقول : الله أكبر .. الله أكبر .. لا ساعة لديها ، فهي لا تعرف ما السَّاعة ؟ لقد كانت تعتمد على خبرتها ، وساعتها الوحيدة هي النجوم ، إنَّها امرأةٌ نشيطةٌ يا أستاذ،تكنس البيت،وتصنع الطعام،وتعتني بالبقرة والغنمات،
تُحضر لها العشب من الجبال، كم عانينا يا أستاذ ! وكم مرَّت علينا أيَّامٌ كلُّها أشكالٌ وألوانٌ! حزمة القصب بخمسةٍ وعشرين ريالاً ! فلو نزل المطر ما كنَّا بحاجةٍ للقصب يا أستاذ ، أنا أشتري للبقرة كل يومٍ بمئة ريالٍ قصباً ، والأسعار ارتفعت.
أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في ذهني، لكنِّي ألوذ بالصَّمت دائماً حيالها ، كنت أشاركه في إحساساته ، أستمع إليه بانتباهٍ شديدٍ ، وقد أُبدي بعض الملاحظات أحياناً ، الحذذر مطلوبٌ ، وخاصَّةً أنا لا أعرف الكثير من طبائعهم وعاداتهم ..
عبد الرَّبِّ في الثمانين من عمره ، إلاَّ أنَّه يملك حيويَّة الشَّباب ومرحهم ، لا يعبأ بالحياة كثيراً ، سواءٌ عنده أنقص لديه المال أم كثر ؟ ..
" – كم كان عندي من مالٍ يا أستاذ ! أترى هذه الدُّكَّان الخالية ؟ كانت مليئةً بقطع السيَّارات ، والأدوات المنزليَّة ، والبُرِّ والحلوى والسُّكَّر ... لم يبق شيءٌ ، ماتتِ الضَّمائر ، النَّاس الآن يعيشون في ضيقٍ شديدٍ ، عند الله تعالى لا يضيع شيءٌ ، أليس كذلك ؟!.. "
" – بلى يا عبد الرَّبِّ ،إنَّ الله تعالى لا يضيع لديه مثقال ذرَّةٍ ، إن كان خيراً يرَهُ ، وإن كان شرَّاً يرهُ ." .
كان إذا ذهب عبد الرَّبِّ إلى بيته في الجبل يُلقي إليَّ بمفاتيح الدُّكان ، وإذا انشغل بعملٍ آخر يطلب منِّي أن أجلس لأبيع التلاميذ قوارير الماء البلاستيكيَّة، والقزعة ( بزر البطيخ الصغير) وبعض الحلوى الرَّخيصة ، والمشروبات الغازيَّة ..
كانت زوجته ترسل طعام الإفطار لاثنين ، وكان إذا شاركنا شخصٌ ثالثٌ ينهض هو مكتفياً بما أكل من قليل الطعام ، تاركاً لنا الطعام كلَّه ، فنأكل بعده قليلاً ونشبع ، وكذلك اليمنيُّون يفعلون ، لا يأكلون إلاَّ إذا جاعوا ، وإذا أكلوا اكتفوا بلُقيماتٍ تُقيم أودهم ..
تذكَّرت ما كان يفعله النَّاس في القديم ، كانوا لا يدَّخرون مالاً ولا طعاماً ، وكانت أجمل الأوقات لديهم تلك الأيَّام التي يجدون فيها من يأكل طعامهم ، فإذا كثرتِ الأيدي الممتدَّة إلى الطعام ، بارك الله فيه ، وليس المهمُّ نوع الطعام ، وليس المهم كثرته ، بلِ المهم أن يُقدَّم للنَّاس فيأكلونه معاً سويَّاً ، المهم أن يأكلوا منه مجتمعين ، مبتدئين باسمِ الله ، ومنتهين بحمده ..
يقول عنه عبد الملك أستاذ الاجتماعيَّات :
" عبد الرَّبِّ في الزَّمن الصَّعب " .
الشَّمس حارَّةٌ تلفح وجوهنا بقسوةٍ ، وكان وجود عبد الرَّبِّ يخفِّف عني باستمرارٍ ، وكان يقول : " أصعب يومٍ عليَّ الذي أغادر فيه اليَمنَ السَّعيد " ..
كان إذا ما انتهى الدَّوام وذهب الناس إلى بيوتهم ، نبقى وَحِيدينِ ، في اللَّيلِ نجلس إلى المذياع نتصيَّد الأخبار ..
وأخيراً حان وقت العودة للأهل والأوطان ، فحضَّرت حقائبي منذ الليل ، وكانت فرحتي بالرُّجوع شديدةً ، نظَّفت المكان ، ورتَّبت الطَّاولة والسَّرير، نظرت إلى هذه الأشياء التي شاركتني وحدتي ، وتركْت عليها من آهاتي وأحزاني بصماتٍ واضحةً ، وحمدت الله أنَّها لا تتكلَّم ولا تستطيع أن تبوح بسرِّي ، وإلاَّ فضحتني وعرَّتْ ضعفي وقلَّة حيلتي ..
عبد الرَّبِّ قال لي : " لم أنم طول الليل يا أستاذ . "
أمَّا أنا لم أدرِ ماذا أقول له ، كل الكلمات لم يعد لها فائدةٌ ، السيَّارة جاهزةٌ للانطلاق ، لم أجرؤ أن أنظر إليه .
أخيراً نظرت إليه من خلال زجاج السيَّارة بعد أن ركبت ، فازداد وجهه تغيُّظاً، لوَّحت له بيدي عندما تحرَّكت السيارة بي للرَّحيل من اليمن ، وبقيت أنظر إليه حتَّى غابت السيارة في ثنايا الطريق ، لقد ترك لي مكاناً في أعماقي لا يكاد يستحلُّه غيره إلى أن يشاء الله ربُّ العالمين ..
************************************************** ******

ريمه الخاني
08/06/2007, 10:03 AM
هادئة ورخيه النصوص التي تحمل شيئا من رحمة التقى ورقته
تحية

ندى يزوغ
22/09/2007, 02:16 AM
مع كل الذكريات الجميلة التي يمكن أن يقضيها الانسان بغربته الا أن الوطن ينادي أعماقك و لا تستطيع سوى تلبية ندائه دون وعي أو تفكير تلك فطرة الخلق و ذاك هو ناموس الحياة..
احترامي لوصفك و سردك المحفز على المزيد من الاغتراف و التبحر..
احترامي لحرفك
ندى يزوغ
المغرب