المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما بين القمع والإرهاب



د.سليم صابر
24/05/2007, 05:45 AM
ما بين القمع والإرهاب

يستحضرني الماضي بحمله الثقيل في ظل الأحداث المتسارعة في لبنان عموما وفي الشمال خصوصا. تستحضرني ذاكرة الحرب الأليمة واللئيمة. كما تستحضرني المجازر التي عاشها الأهل في الجبل من قبل الدروز والحركة الوطنية آنذاك. مع ذلك لم أتردد يوما في الدفاع عن خياراتي الوطنية ومبادئي الشحصية رغم كل الذي حصل. واليوم يستحضرني الخوف، وتَخِزني علامات الاستفهام كالشوك في الجسد أمام ما يجري. خوفي هذا نابع ليس مما يحدث وما يمكن أن يتحضّر في لبنان من مؤامرات، فهذا الوطن العزيز على القلب عاش المحن ولا يزال يعاني من الويلات ليخرج منها شامخا يلملم جراحه وينتعش ويتابع مسيرة النهوض والحياة. إنما هو خوف نابع من معتقدات موضوعة على المحك في ظل التجاذبات الحاصلة والمواقف المتشنجة التي تشهدها الساحة اللبنانية. أيام الحرب الأهلية اللبنانية لم يكن هناك من تردد وقد عقدت العزم وآمنت بالخيار الذي اتخذته ضد المخططات الصهيونية الهادفة إلى تقسيم البلدان العربية إلى دويلات ضعيفة تابعة لها وتلجأ أليها للاستقواء. خذخ المؤامرة وجدت من اليمين اللبناني المتطرف مركبة جيدة وحصانا تمتطيه لتحقق مآربها. كان الخيار في حينه واضحا لا لبس فيه ولا جدل، حيث الالتزام بالوطن من خلال تطلعات اليسار الديمقراطية والإيمان بالدور الوطني الذي اضطلعت به على الساحة خلال سنوات الحرب. ورغم المجازر التي تعرض لها المدنيون في قرى الجبل والنزوح والتهجير لم يضطرب الفكر، بعكس دمعة النفس وأساها، ولا اهتز هذا الكيان كون الحرب تشمل مختلف المناطق ويتعرض الجميع للمذابح دون استثناء. وكان المبرر أن العقيدة والإيمان هو أهم من أية معركة آنية ومرحلية تحصل. والآن؟ أه من الآن! وأنا أراقب ما يجري على الساحة اللبنانية مجددا. انظروا إلى ردود الفعل المتباينة والمجتزأة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار المعطيات المتواجدة والمطروحة أمامنا.
همي في كل ما يجري النظر بموضوعية إلى الأحداث دون إدخال العاطفة، تماما كما تقبلت مقتل المئات في قريتي إبان الحرب، ليس دفاعا عن فئة إو عن موقف ما، بل محاولة في فهم حقيقة الأمور وتوضيح الرؤيا. وإن لم تكن هناك انتهازية في التنقل من موقع لآخر، بحثا عن تبعية للاحتماء بها، تبقى معتقدات النفس راسخة لا تتزحزح ولا تهتز، وذلك إيمانا مني بأن المواقف لا يمكن أن تتغير والمبادئ لا يمكن أن تتبدل مهما يمر الزمن. وتبقى القناعات هي هي مهما يشاع من أقاويل ومهما تتبدل الظروف ومهما تختلف المعطيات على الأرض.
إنساني مؤمن بأحقّية القضية الفلسطينية وقد دافعت عنها مرارا وتكرارا ودفعت الثمن غاليا في حينه للمواقف التي اتخذتها وللنضال الذي مارسته ضمن إتحاد الطلاب العرب في بروكسل آنذاك، مما اضطرني إلى مغادرة هذا البلد والبحث عن وطن آخر لإكمال دراستي وتخصصي. هذا ما أكسبني الجرأة في المواجهة والدفاع عما أراه صحيحا ومحقا. هذه الجرأة بالذات تجعلني اقف لقول الحقيقة مهما كلفت من أثمان. إنه أمر مقدس ولا تراجع عنها حتى وإن آلمت الذات. وبكل الجرأة التي تمتعت بها في الظروف الصعبة أغود لأحاور النفس وأحثها على البحث عن الحقيقة مهما كانت موجعة.
حقيقة اليوم تتناقض مع الماضي القريب، وهي تضع قناعاتي الشخصية على المحك ألا وهي الدفاع عن مبادئ انتميت لها وانتمت لي بكل تجانس وموضوعية. حقيقة اليوم تضع الجيش اللبناني في حرب ضروس مع منظمات إرهابية اتخذت من المخيمات شماعة تلوح بها متى ما حاول اللبنانيون استئصالهم منها، وتتخذ من الشعب الفلسطيني غطاء للاحتماء بهم، لا بل تتخذه رهينة لديها لمتابعة مسيرتهم الاجرامية الهمجية والتي لا تمت للقضية الفلسطينية بصلة. وإلا كيف يفسر الهجوم على الجيش اللبناني وذبح أفراده في أسرتهم؟ هذا الجيش الذي وقف مع المقاومة في حرب تموز الفائتة وسفط له أكثر من خمسين شهيدا يصبح هدفا لتلك الجماعة الإرهابية ودون مبرر. نعم لقد ذبح هؤلاء غدرا أكثر من ثلاثين جنديا في ليلة واحدة! لا بل أكثر من ذلك فقد انتشروا في المناضق اللبنانية الآمنة وقاموا بذبح كل نفر بلباس عسكري ودون مغرفة هؤلاء ماذا يحدث لهم وما السبب في تصفيتهم. أوَيحق لأي تنظيم مسلح، فلسطينيا كان أم لبنانيا، بالاعتداء على الناس والقتل لمجرد القتل؟ إن هذا يعيدنا إلى أيام القتل غلى الهوية إبان الحرب الأهلية. وليس غريبا أن نرى بأن جميع الفصائل الفلسطينية تقف موقف المناهض لهذه التنظيمات الإرهابية التي سيطرت على بعض المخيمات في لبنان، ذلك أن المناخ الهش في هذا الوطن سمح لها بالتغلغل واتخاذ الشعب الفلسطيني رهينة لسلاحها ومعتقدالتها التكفيرية المتطرفة. لا بل من مصلحة المنظمات الفلسطينية استئصالها نهائيا من المخيمات وأعادة الهدوء والطمأنينة إلى اللاجثين فيها. لذا نرى بأن ردود الفعل لديها أتت مؤيدة لخطوة الجيش وبادرت إلى التنسيق معه عسى تتمكن من إقلات الشعب الفلسطيني من قبضة هذه الزمرة الإجرامية المتطرفة والتي لا تمت للقضية الفلسطينية بصلة.
ليس من السهل الدفاع عن جيش ما، وأنا الذي أؤمن بأن الجيوش لا تُوَلِّد إلا العنف. ليس من السهل حمل راية الوطنية وأنا الذي لم أعد أؤمن بأية وطنية تتاجر بالنفوس والأرواح وتبتز الأبرياء. نعم إن المتاجرة بالقضية بات سمة هذا العصر البغيض وللأسف. وهنا أعود مجددا إلى الماضي القريب لأتساءل أين أصبح كل هؤلاء الذين ادعوا الدفاع عن القضية. أين أصبحت الحركة الوطنية اللبنانية الآن في ظل التشرذم الحاصل، وأين أصبح أطرافها؟ منهم من انتهى دوره الريادي إلى غير رجعة، ومنهم من تحوّل إلى المنظومة الأمريكية في تبعيته رغم ادعائه بالانتماء إلى الاشتراكية الدولية، ومنهم من غاب نهائيا عن الساحة لتحل مكانه تنظيمات أصولية متطرفة تمارس أقزع أنواع القتل شراسة. هذه هي نهاية حركة انتميت لها إبان الحرب الأهلية، رغم كوني مستقلا، وإنما الانتماء كان فكريا قبل كل شيء. وأجد نفسي الآن أنعي ذيولها وما خلفته من آثار سلبية على هذه النفس بعد طول معاناة. نعم إنها معاناة عميقة لم تنتهِ بعد، وقد لا تنتهي! إن اتخاذ موقف في ظل هذه الظروف السيئة ليس بالسهل، لا سيما حين يتعلق الأمر بالدفاع عن الجيش. ومع ذلك لا بد لي من التنويه بوعي هذا الجيش لما يحصل من حوله واستيعابه الأمور بروية وتؤدة. من هنا قبوله بالهدنة لتحييد المدنيين بالتنسيق مع مجمل الفصائل. ولكن أيمكننا أن نطلب منه التغاضي عما حصل؟ ربما لا يمكن للفصائل فتح معارك جانبية تلهيهم عن توجهاتهم الأساسية وتستنزف قواهم، وهم قي ذلك يغضون النظر عن تلك التنظيمات الإرهابية المتواجدة في المخيمات. إنما هذا الأمر لا ينسحب إطلاقا على الجيش اللبناني الذي فقد هيبته ويحاول استعادة قوته بعد تلك الليلة السوداء التي سفط له فيها الشهداء غدرا.
إن آثار الحرب لا يمكن أن تمحى من الذاكرة والشعب الفلسطيني بكل تأكيد لا يمكن له أن ينسى النكبة وتحويله إلى شعب لاجئ، ولا يمكنه ويمكنني أن أنسى المجازر التي ارتكبت بحقه، أكان ذلك في فلسطين أم في الخارج. كما لا يمكنني أن أنسى المجازر التي ارتكبت بحق أهلي في الجبل إبان الحرب الأهلية، ذلك أن المجازر في النهاية ما هي إلا صفقة همجية ووجهين لعملة واحدة. في نفس الوقت لا يمكن للفلسطينيين أن يتغاضوا عن وضعهم الإنساني المتردي في المخيمات، أكان ذلك في لبنان أم في بقية الدول العربية. ولكن لا يمكنني أيضا كلبناني التغاضي عن وجود تنظيمات متطرفة أصولية في هذه المخيمات. من هنا المعاناة العميقة التي أعيشها، فمن جهة أنا مع الشعب الفلسطيني في تطلعاته ومن جهة أخرى لا يمكن لأي إنسان تقبل وجود متطرفين في المخيمات يهددون أمن اللاجئين والوطن الذي أنتمي إليه على حد سواء.
لا بد في النهاية من الإشارة إلى أن الجيش اللبناني ليس جيشا قويا إذ ليس له القدرة السياسية ولا العسكرية على الفصل واستئصال هكذا تنظيمات من المخيمات، وإن لم نشارك الفصائل الفلسطينية نفسها في استئصالها والانتهاء منها، فعبثا يحاول الجيش التخلص منهم وعبثا يحاولون هم إعادة الأمن إلى مخيماتهم والطمأنينة إلى نفوس الناس، وعبثا يحاول اللبنانيون التنعم بوطن آمن يؤمّن لهم ولعائلتهم حياة من رغد العيش والرخاء كما يحلمون. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي يجب مواجهنها والانطلاق منها... هذه هي الحقيقة الموجعة التي أعاني منها!
إن المعتقدات لا يمكن لها أن تتبدل بسهولة، ولا بد من الإشارة أنني في قناعاتي أتجول والمخيلة في هذا الشرق ولا أجد ملاذا آمنا لأي إنسان حرّ، حيث النفس تتجاذبها تناقضات الخوف، وحيث الرعب من قمع الأنظمة يركعها حينا، والهلع من الإرهاب يقضي عليها حينا آخر. وما بين الإثنين لا بد أن نجد طريقا ثالثا يؤمّن لنا استمرارية العيش الكريم ويسمح لنا بمواكبة التطور والاندفاع نحو المستقبل بإيمان وحرية.

د. سليم صابر
إيطاليا
2007-05-24