المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بصراحةٍ وبلا خوف : مقالاتٌ في العولمة والأفق العربي



سامي العامري
25/05/2007, 01:29 AM
بصراحةٍ وبلا خوف : مقالاتٌ في العولمة والأفق العربي

***********************************************
سامي العامري - 2007
كولونيا
******

الأحلام بوصفها هاوية !

*******************

هذه هواجس نفسٍ تتوق للمعرفة ,
الذكرى العزيزة تغمرك بدفئها كالشمس وكالشمس أيضاً تفيض عليك بكرمها دون أن تطلب منها ذلك , أي أنَّ الكثير من الأشياء والتفاصيل الحياتية تلوح غير مهمة وعادية بحكم تكرارها فانت لا تلتفت اليها كعلبة السجائر التي أمامي الآن مثلاً ولكن لأنّكَ رميتها على المنضدة فوقفتْ على أحد جوانبها بشكل غير مألوف فقد لاح أمام ناظريك موقفٌ قديم شبيه بهذا الموقف وهذا بدوره استدعى شريطاً لا ينتهي من الأشخاص والذكريات فلا يسعك أحياناً إلاَّ أن تبتسم وقد تضحك كثيراً وقد تبكي حَدَّ الإجهاش .
أردتُ أن أقول أنّ الماضي الغني العميق لا يتبدَّد وإنما يأخذ أشكالاً والواناً وروائح هي من صميم الحاضر فتحسُّ بفيضٍ عجيبٍ من الحيوية فتندفع لتفعل شيئاً ما , شيئاً موازياً للحالة المعنوية التي انت عليها فلا تلبث هذه المشاعر أن تتداعى أمامك بهيئاتٍ عديدة تشبه الرؤى , فاذا كنتَ من المصابين بمَسِّ الشعر او الكتابة فستنتهي هذه المشاعر الصافية الى كلماتٍ على الورقة , الى فعلٍ إبداعيٍّ صافٍ مُمْتَنٍّ حتى اذا فتحتَ نافذتك سرعان ما تتلقَّفُهُ الريح الى حيث مجالهُ الحيوي الآمن الأ وهو الغد , فما حاضرك إلاّ واسطة ينتقل من خلالها ماضيك الحميم الى مستقبلك الأكثر حميمية ,
وأقول : أكثر حميمية لأنَّ جمال الأشياء البعيدة , الصعبة المنال يتجلَّى في كونها ما زالت في طور الإكتشاف , طور التكوُّن , مازالت سِرَّاً , صلاةً , وعداً .
وهنا يتبادر الى الذهن سؤالٌ مُلِحٌّ : ولكن ماذا عن الماضي التعس للإنسان !؟
فأُجيب بأني لا أبحث في المعقول ولكن أحاول تصيُّد شذراتٍ من اللامعقول !
ومن وحي هذا الهاجس كتبتُ في العام الماضي :

أحياناً تغمرني الغبطةُ ولَهاً بالمجهولْ
أهو الأوحدُ من بين المعقولات المعقول ؟

ومع ذلك , فالماضي الحزين التعس لا يزول أيضاًَ ولكنك اذا كنت من ذوي الإرادة القوية فانك تكبت ماضيك الأليم في سحابة نهارك , تقمعهُ بما يتيحهُ لك يومك الجديد من أفعال منها المادي ومنها ما يتّصل بالأفكار ولعلَّ عالم الأفكار أهمُّها وكذلك بما تمتلكهُ من فلسفةِ حياةٍ وطبيعة إيمانك بالأشياء وأمَّا أثناء النوم حيث تتلاشى الإرادة وتستيقظ اللا إرادة , اللا شعور فهنا مرتع المأساة وميدان ميادينها !
ذلك أنك عشتَ وتعيش في عصرٍ قاسي الشروط ولا تزال تحاول الخلاص من ضغوطهِ لكي تقترب من وسادتك غير قلقٍ بشأن ما سيجلبهُ لك اليوم التالي او كيف ستكون معالمهُ ولكن أنّى لك وقد نزفتَ قبل أن تخترق الرصاصةُ جسمك !؟
الجنرال المهزوم يقف وسط أشلاء ضحاياه ويحلم أنَّ تؤدي له التحية رغم ذلك
والمرأة تدخل حلزوناً بحجم حريتها وتحلم بمحيطٍ دون رجال
والعالِم يرى في أحلامهِ عالَماً يسوده النظام والقوانين فيعِدُّ نفسهُ لإختراعٍ جديد .
ذو الموهبة الصلعاء يمضغ غليوناً ويحلم بجمهورٍ يطارد مؤلَّفاتهِ
والحزبي يرى حزبه وقد عَمَّرَ على رأس السلطة كما لا تعمِّر التماسيح
والطائفي يرى غرمائه أدنى منزلة منهُ فعلاقتهُ مع الله وصلتْ الى درجة الميانة
ومتصوّفةُ النفط لا يهمُّهُم من هذه الجلبة شيءٌ فالله دائماً في جيوبهم
والبعثيُّون بعد أن حرَّروا القدس وأخواتها يسعون بمؤآزرة الأشقاء الى تحرير مانهاتن
والإسرائيليون يحلمون بتجنيد حتى أعمدة الكهرباء وإلاّ فكيف تستقيم فكرةُ ربِّ الجنود ؟
كلُّ هذا يتمُّ في عالم الأحلام
ولكن أنتَ , بماذا تحلم ؟ وكيف تستقبل نهارك بعد نومك الذي يشبه المغامرة أحياناً ؟ ولكن ليس كلُّ البشر سواسية فهناك من لا يقيم للأحلام وزناً بل إنهُ ربما لا يحلم أبداً ولا أقول هذا من منطلق الشعور بالإحباط فانا أفهم عصري
ومن مكارمهِ مثلاً أنهُ جعلني أُجاورُ مَن يربح او يخسرُ آلاف اليوروّات في الروليت ليلاً وفي الصباح يمتشقُ قلمَهُ ليُعبِّرَ عن عظيم ألمهِ بسبب معاناة الأطفال والنساء والشيوخ في العراق وفلسطين من جَرّاء الحصار والقتل والجوع والأمراض ويجد مَن يصَدِّقُهُ من الأبرياء او من المُغفَّلين والحَمقى ويجد في بعض الأحايين مَن ينشر لهُ كُفرَهُ هذا
ولكنني لستُ بصدد هذا الموضوع ولا أجتهد في تأويل الأحلام وإنما أرمي الى القول بأنَّ الإنسان يتحدَّد يومُهُ وحتى غدُهُ تبعاً لحساسيتهِ ولهذا أرى أنَّ أغلب الناجحين عملياً هم اللا أباليون , فبعضهم يرى طريقه مرصوفاً بالهياكل العظمية والدماء ولكنه مع ذلك يركلُ هذه الجثة ذات اليمين وتلك المرأة المولولة ذات الشمال كالنفايات ويستمر في السير وكأنهُ على موعد مع عشبة الخلود !
ومثل هكذا بشرٍ , وقد وصل الكثيرُ منهم بعضَ البلدان الصناعية المتقدمة ,
يضجرون مثلاً من زحمة المواصلات في المناسبات او كثرة الضجيج في الأنفاق !
واذا ناموا فقد تكون هذه النقطة لا غير هي ما يُعكِّر صفو أحلامهم !
تسأل واحداً منهم أثناء النهار أن يسلِّفك عشرة دراهم من عملة هذا البلد على أن ترجعها له بعد يومين او ثلاثة فيعتذر اليك رغم معرفتك بأنه يستطيع تسليفك , الأمر لحد هذه اللقطة جداً عادي ولكن ما الذي يجعلهُ يلوح غير عادي ؟ ما يجعلهُ غير عادي هو أنك لا تسلم منه فانت غداً على الصفحات الأولى من صحف الصباح !
لماذا لا يعمل ؟ هل قصَّرَتْ الدولةُ في منحه فرصة عمل ؟ لماذا لا يكفُّ عن التدخين ؟ فتقول لهُ : أستاذ أنا أعتذر وفي نهاية الشهر ساعطيك عشرة دراهم هِبةً من عندي ولكن فقط خلِّصْني من لسانك !
وطبعاً وصل الكثير منهم الى اوروبا وغيرها ورغم أنهم وصلوا متأخرين إلاّ أنهم استطاعوا - بطُرُقٍ هُم وحدهم يعرفونها - الحصولَ على الإقامة والعمل والتحدُّث بعدة لغاتٍ حتى المنقرضةِ منها !
ضربتُ قبل قليل مثالاً عن الرجل الذي يُسلِّفك عشرة دراهم , ومثالي لم يكن اعتباطاً فهو قد حصل قبل أسابيع , ومشكلتي مع هذا الشخص أنه يسكن في طريقي اليومي المؤدي الى وسط المدينة , سألتهُ في إحدى المرات متعمِّداً :
هل حصلَ لك وأنْ حلمتَ بي في الليالي السابقة ؟!
أجاب : ولماذا أحلم بك ؟!
قلتُ : انا رأيتك في الحلم قبل عدة ليالٍ وكنتَ ترتدي زيَّ انضباطٍ عسكري وحاملاً عصا وتركض ورائي !
سألَ وهو يحاول أن يكون مَرِحاً : وهل مسكتُكَ ؟
قلتُ لهُ : صحيح , إن مشكلتي كانت السيجائر وقد سألتك لأنهُ لا أحد من معارفي كان قريباً مني ولو أعطيتني العشرة دراهم في ذلك اليوم لكنتُ كتبتُ بحماسٍ عن مواضيع عديدة تشغلني فقد كنتُ مهَيَّئاً تماماً لهذا العمل ولكن السيجارة .
لا جدوى من ذكر نصائحهُ ووصاياه لي فقد بدا أنهُ يفهم الكتابة وكأنها صنعة بإمكانك أن تستبدلها بأخرى وكم حقدتُ على نفسي لأنني تركتُهُ يتسلَّل الى أحلامي , هذا الخنفوس !
ومرَّةً أخرى ,
كَمَنْ يسير على حافة نهر عميق بينما العاصفة تدفع به وهو يقاوم السقوط في النهر , هكذا هي الحال بالنسبة للحلم عند أكثر الناس تفاؤلاً من جيلنا الذي أُبتليَ بالحروب والكوارث , الحافة هنا هي ومضاتٌ جميلة قد مَنَّ بها علينا هذا العصر الشحيح دون وعيٍ منهُ ! أمّا العاصفة فهي سِهام الماضي التي تدفع بك الى القاع ,
والقاع هنا ذو شعابٍ مختلفة منها ما يوصل الى الجنون ومنها الى قتل النفس ومنها الى الإدمان ومنها الى المازوكية والعبث والفوضى او اليأس وقد أَوصلَ ويوصلُ الى الجريمة , ناهيك عن الأمراض الأخرى التي أصبحتْ لا تثير الإنتباه لشيوعها كالإنطواء والصمت شبه الدائم والكآبة وغيرها .
ومع هذا , ومضاتٌ قليلة بسيطة ودون ملامح محدَّدة تعلِّمني أحياناً كيف أكافح لئن أتحدَّثَ مع هالةٍ غير مرئية اسمها الغد ,
قال المُتسوِّل : ليس أمامي سوى أنْ أحمل صحني وأطرق باب الغد !
قلتُ : أمّا انا فلا أطرقهُ مثلك إلاّ اذا حَلمتُ وحينذاك يصبح ُ فعلُ التسوُّل شيئاً يمكن فهمهُ وتبريرُهُ !

*******************


التباهي بالكهوف

*************

في مقالةٍ لي نشرتْها صحيفةُ الوفاق من لندن عام 1995 ( وانتهزُ هذه الفرصة لأُحَيّي هيئةَ تحرير تلك الصحيفة الجميلة أينما هُم الآن فقد كانوا مثالاً للحرص والوطنية وإيصال الكلمة الهادفة حتى أصبحتْ صحيفتهم في سنواتٍ قليلةٍ ملتقىً لأصواتٍ مختلفة وأقلامٍ مرموقة ) مقالتي تلك قلتُ في سطورها الأولى :
حتى حادي العيس أصبحَ يُسَوّي أمورَهُ الحياتية عِبْرَ الهاتف النَقّال ( الهاندي ) !
والمشكلة هذه في كياني الى اليوم , وأعني بها حادي العيس التكنولوجي !
وهي واحدٌ من أَقدم أَمراضي النفسية !
المشكلة هي أنَّ العرب في أغلبهم ما زالوا غير مُقْنِعين وما يُحوّلُ هذه المشكلة الى ملهاةٍ ويمنحَها دراما مُتَفَرِّدة هي أنَّ أُلي أَمرِها يُفاخرون بها فكيف تُداوي مَن يتبخترُ في شوارع العالم بوَرَمٍ خبيثٍ يسكنُ جسمَهُ ؟ لقد حوّلهُ هذا الوَرَمُ لضخامتهِ الى شخصَين !
وهو لا يعي هذه المأساة بل كما قلتُ يتباهى بها .
كتبَ لي أحد الشعراء الذين أُوِدُّهم قبل عشر سنواتٍ عن قصيدة لي كانت موزونةً بدقةٍ ما سَمِعَ بها الفراهيدي !
ولكنَّ طريقة التناول كانتْ حديثة , كتَبَ غاضباً : ( بدو وكومبيوتر ) !
والحقيقة أنَّ عبارة : بدو وكومبيوتر , هي من العبارات التي تصدق على الكثير من تفاصيل واقعنا وهو فصامٌ إنْ عمَّقتْهُ الثورةُ التكنولوجية الحديثة فقد نشرتْ في نفس الوقت كلَّ سوءاتهِ على الحبال , فالإنسان العربي اليوم هو اثنان , واحدٌ يُجاهد لئن يجِدَ له موطيءَ قدم في عالم المعرفة المُتجدّدة دائماً ويكونَ له دورٌ مؤثِّرٌ فيها
وآخرُ وهو صاحب الورم الخبيث الذي يفخر به , يجاهد لئن تكون لهُ الصدارةُ دائماً في عالم السيرك
الأوَّل صريحٌ والثاني مُخاتل
الأوَّل شجاعٌ والثاني نعامةٌ تُوُهِمُها ضخامةُ جناحيها أنها من أكبر النسور
الأوَّل مُتَعَدِّدٌ والثاني مُقْتَصِرٌ على نفسهِ
الأوَّل مُتَحَوِّلٌ والثاني كحمير الطاحونة يدور حول نفسهِ
الأوَّل يُشَيِّد بتواضع والثاني يهدُّ بغرور
الأوَّل فقيرُ الحال غنيُّ الروح والثاني غنيُّ الحال فقيرُ الروح
الأوَّل يعرف الإيمان والثاني يُشَوِّهُهُ
الأوَّل إنسانٌ والثاني لم يصلْ بَعدُ مرحلةَ القرود !
ومِن بين ما دعاني الى كتابة هذه السطور التي يكمن خلفها الأسف والسخرية والمرارة هو ما تطالعنا بهِ بعضُ الفضائيات بوقاحةٍ ونفاجةٍ وبشكلٍ شبه يوميٍّ مِن مَشاهدَ تُقَدِّمُها مخلوقاتٌ على اعتبارها من العرب وهي تتصَنَّعُ الإبتسام مُقَدِّمةً نماذج دعائية لبضائعَ غربية حديثةٍ يوحي إسلوبُ تقديم الشخص لها بأَنَّ البضاعةَ تلك مصنوعةٌ في بلَدهِ حيث أمارات الزهو والفرح على وجههِ او وجهِها .
مَن يقول لهذا الناحل المُتَيَّم : ليتَكَ تُقَدِّم بضاعةً تَوَصَّلَ الى صناعتِها بلدُكَ كالصابونةِ مثلاً .
كان البعضُ يقول من باب الثقة والتحذير أحياناً : إنَّ غداً لناظرهِ قريب . وها نحن اليوم نعيش في ( الغد ) فهل أصحابُ الأورام الخبيثة هذه ما هُم إلاّ بقايا حلمٍ مُزعج على وشك أن يتبدَّد
ام لكلِّ بحرٍ جَزْرُهُ ام ام ام ... ؟
هناك مَن يُريد يائساً التبشيرَ بمنظومةِ أفكارٍ جديدة قد لا نجانبُ الحقيقةَ إذا سمَّيناها منظومة الكهوف !

************


فضحُ المتطفِّلين من حين الى حين !

*****************************

في عصر التقنياتِ الحديثة التي أضحتْ لا مَفرَّ منها وأنها إبنةُ اليوم والغد لا شكَّ أنك تفرح بزوال الشرطيّ الثقافيّ الذي طالما كان للكتّاب بالمرصاد , هذا الشرطيُّ الذي ارتبط بعهد الدكتاتور صدام والكانتونات والإحتكارات والتخلُّف دوماً , ولم يتبقَ مِن رقيبٍ فِعليٍّ سوى إحساس الكاتب بالمسؤولية .
أمّا ما يُرى من بهلوانياتٍ كتابية تُسمى شعراً في العديد من المواقع اليوم فقيمتها لا تتعدّى فترة ظهورها على الصفحات الثقافية
وكلُّ هذا طبعاً عائدٌ الى السرعة التي هي أُولى سمات هذا النوع من الصحافة التي لم تتبلور عندنا بَعْدُ ,
ومنها على سبيل المثال أنك ترى بعضاً مِمَّن يحاولون عبثاً منذ فترةٍ عِبْرَ عددٍ من المواقع بَثَّ روح الشلَّة كما في السابق حينما كانت لهم صولة في الصحافة المطبوعة حيث تشير صفحةُ التعريف بمواقعهم الى أنَّ ما يهمُّهم أولاً هو تعزيزُ قِيَمِ الحرية والإبداع فتحاول أن تُصدِّق فتجرِّبَ أن تبعثَ لهم بنصٍّ مُعَيَّن له قيمةٌ في نفسك فلا ينشرونهُ أي أنك تصبحُ بقدرةِ قادرٍ لا حُرّاً ولا مبدعاً !
ولعلَّ مِن أطرفِ ما رأيتهُ خلال السنوات الماضية معركةً جرتْ بين مجلَّتَين مطبوعتين وكنتُ الشاهدَ على مرارتها حيث رئيس تحرير المجلة الأدبية الأُولى يتَّهم رئيس تحرير المجلة الثانية بأنهُ سطا على بيتٍ من قصيدتِهِ الفلانية ثُمَّ يُدرِج المقطعَ المسروق وهنا يجيبهُ رئيس تحرير المجلة الثانية بعد شتائم سوقية قائلاً : بل أنت الذي سرقتَ مني المقطع التالي من القصيدة الفلانية ثُمَّ يُدرِجُ المقطع المسروق , فيعود الأوّل فيذَكِّر الثاني بالبيتِ الذي ( لَطَشَهُ ) منهُ قبل سنةٍ وهكذا ...
وَجهُ الطرافةِ والمرارةِ هنا هو أنَّ كِلا المُحَرِّرَين يَعتبرُ كونَهُ شاعراً أمراً مفروغاً منهُ وتحصيلاً حاصلاً في حين أنكَ متيقِّنٌ والقارىءُ معك أنهما لا يَمُتّان للشعر بِصلةٍ , لا الذّامُّ ولا المذموم !
ولكن هؤلاء المدعومون من قبل مؤسّسات مالية وجهات سياسية معروفة وغير معروفة هم من عشاق الضجّات المفتعلة كالتي فَعَلَها البعضُ حَوْلَ الصُوَر التي نشرتْها عددٌ من المواقع والمجلات عن عقيل علي وهو إما سكران نائم على مصطبة او في موقف آخر يُرثى لهُ ولمّا مات هذا المسكين وحيداً واستراح , كلٌّ ابدى أسفهُ فراحَ يرثيه بالمطوَّلات التأبينية وأية مطوَّلات !
وقد تصحُّ هنا عبارة ( الشيء بالشيء يُذكر) فأقول : حينما انتقلتُ من مدينة هامبورغ الى كولونيا وكان ذلك قبل أكثر من عشر سنواتٍ كنتُ قد نويتُ التقليل من تناول الخمر إن لم أقلْ الإقلاع عنها نهائيّاً والبدءَ بحياة أكثر جدية او عملية علماً أنني لولا الآلام النفسية المُبكِّرة التي كان واحدٌ من منابعها الأساسية هو بقائي فترةً مُغثية في أحد سجون نظام صدام وحياتي كجنديٍّ لاحقاً في حرب الخليج الأولى , لولا هذه التجارب وغيرها لما لجأتُ الى الخمر
أقول : حينما وصلتُ الى كولونيا كان أوّل ما فعلتُ هو محاولة أخرى
لدخول المستشفى حيث نوعٌ من العناية الطبية ولكن لا فائدة كما يبدو ولا علاجَ لها إلاّ بالتحايل المؤقَّت .
ولمّا وجدتُ أنّ قضيّتي لا تعني الناسَ من قريبٍ أو بعيدٍ وأنَّهم لا يحسنون سوى التأبين قرّرتُ نكايةً بهم أن لا أموت !
ومِمّا كتَبتُهُ في تلك الفترة :
ما زالَ في جَعبةِ قلبي بارقٌ او فُرَصُ
فهؤلاءِ عند عُرسِ أيامي فَحَسْبُ
الأصدقاءُ الخُلَّصُ !
حتى إذا ما لَفَّ بنيانَكَ ضَعْفُ
يأتون في المشفى اليكَ
لا مؤاساةً وإنما كي يتَشَفّوا !
وقد نالتْ أبا الطيّب الحُمّى وهو في مصر فكتبَ مطوَّلتَهُ المعروفة التي يقول في بيتين منها :
ولا أُمسي لأهل البُخلِ ضيفاً
وليس قِرىً سوى مُخِّ النَّعامِ
ولمّا صار ودُّ الناسِ خِبّاً
جزيتُ على ابتسامٍ بابتسامِ
وإذا عرفنا أنَّ النعام لا مخَّ له وأنَّ الخِبَّ يعني المجاملات فستكتمل الصورة !
ولكن مِن الأخطاء التي لا يُحسن بي تكرارُها هو انتظاري العسلَ من الزنابير!
جلستُ قبل سنواتٍ الى شخصٍ مُحِبٍّ للشعر كما تشير بطاقتُهُ الشخصية !
وأكثر من هذا يقول بأنهُ يكتبهُ .
في الحقيقة , انهُ لا يُحسن الأوزان التي طال الحديث حولها فمنهُ الحديث البطران ومنهُ الحريص ومنهُ المخاتل كأبي بريص ! وهي عندي من الأدوات المهمة التي من المفترض أن يُلِمَّ بها الشاعر حتى وإنْ لم يُردْ الكتابةَ وفقَها ولكن هذا الشخص كما إتضح لي لاحقاً يكتب لفئة معينة
ومثل هكذا فئة اذا القيتَ على مسامعها كلاماً منثوراً وقلتَ لها قبل الإلقاء بأنَّ هذا النصَّ الذي سأقرأهُ عليكم يعتمد البحر الطويل او الكامل او الوافر فإنها لا شكَّ ستصدِّقك أثناءَ القراءة وبعدها ! أي أنهم بكلمة أخرى لا يطلبون منك سوى أن تكفَّ عن تذكيرهم بأهمية الموسيقى الشعرية وزناً وألفاظاً وعدا هذا تستطيع أن تكتب ما تشاء ,
ويقولون : ولسنا مع هذا متعصِّبين فنحنُ نقبل بها الى جانب قصيدة النثر !
وطبعاً هم يقولون ذلك من باب شفقة المنتصر ! مع أن العكس هو الذي يجب أن يحصل , ومع هذا انا ضد التعصب ولماذا التعصُّب حين تجد حرصاً وجهداً وقيمة فنية او فكرية في العمل الأبداعي الذي تقرأهُ ؟
وعلى أية حالٍ أطلعتُ هذا الشخص على نصٍّ لي فاستحسنه - علماً أنهُ يعرف بأني كثيراً ما أميلُ الى كتابة قصيدة الوزن - فعرضتُ عليهِ نشر هذا النص في العدد القادم من مجلتهم الفصلية فتململ قليلاً وهو يأخذه قائلاً بأنه ليس المحرِّر الثقافي وإنما يجمع بعض المواد الثقافية أحياناً ويعطيها للمحرِّر , والبتُّ بالموافقة على النشر ليس بيده ولكنه مع هذا سيوصلهُ للمحِّرر المسؤول , وبعد شهرٍ حين صدر العدد الجديد قلَّبتُهُ فلم أجد نصي فاتَّصلتُ به سائلاً عن مصير النص , فأجاب بأنَّ المحرِّر قرأ القصيدة فأعجبتْهُ ولكنَّ ما منعهُ من نشرها هو أن العدد الأخير الذي صدر كان مُخصَّصاً لقصيدة النثر لذلك فسوف ينشرها في أحد الأعداد القادمة كما أعتقد فقاطعتُهُ قائلاً : ولكن نصّي كان غير موزون , أي قصيدة نثر كما تسمونها أنتم !
ومنذ ذلك اليوم بدأتْ القطيعةُ او الحرب على قصيدتي وقد كان كلُّ ذلك بسببي فلو صَمَتُّ لنشروا نَصّي النثري في العدد المخصَّص للقصائد الموزونة ولَكُنْتُ قد سبَّبتُ لهم فضيحةً !
ولكن ما يشفعُ لذلك الشخص أنهُ كان نظيفاً ولطيفاً ,
ولمّا عرفتُ أنْ لا صاحبي ولا المُحرِّر الثقافي يفقهُ من الأوزان شيئاً تذكَّرتُ بيتين لعلَّهما للرصافي او للزهاوي :
ومُدَّعٍ في حياة البحر معرفةً
ما حازها أحدٌ في الأعْصُرِ الأُوَلِ
فقلتُ : صِفْ ليَ كيف البحرُ مُمتَحِناً
فقالَ لي : الحوتُ ذو قرنينِ كالجَمَلِ !
ومن جانبٍ آخر , والحقُّ يقال , هناك العديد من المجلاّت والصحف المطبوعة القديمة استطاعتْ نظراً لأصالتها وعراقتها واحتضانها الإبداع الجميل أن تثبِتَ نجاحَها واستمرارَها كما على مستوى الإعلام المطبوع كذلك في شبكة النشر الإلكتروني أُتابعها انا كما يتابعُها القرّاءُ بمتعةٍ .


**************


الجواهر فيما ينطقهُ عدنان الظاهر !

*****************************


في العام 2004 عندما صدرتْ عن دار سنابل في القاهرة مجموعتي الشعرية الأولى ( السكسفون المُجَنَّح ) فرحتُ بهذه الباكورة ! لسبب بسيط هو أنني كتبتها بهدوءٍ وصمتٍ خلال عشر سنوات من التشرُّد بين برلين وبايرن وهامبورغ وفرانكفورت وهانوفر من عام 1986 حتى عام 1996 بعيداً كثيراً عن الصحف والمجلات وقرقعة المطابع ! أي أنني أحسستُ ولو وهماً بأنَّ سنوات التشرد لم تذهب هباءاً او لم تكن عابثة , وفي ثقافتنا كما في بقية الثقافات الأخرى تتردَّد مقولة أشبه بالحكمة : اذا كانت النهاية حسنة فكلُّ شيءٍ حسن . الآن أتذكّر أفراح تلك السنوات وأتراحها حيث كنت حاملاً حقيبتي وكأسي وكوابيس الحرب التي أبتْ إلاّ أن تكون نديمي المُخلِص الوحيد وهنا أعيد مقولة كفافيس الشهيرة التي طالما كرّرتُها وآمنت بصدقها ( اذا انت تدمّرتَ في هذه البقعة الصغيرة من العالم { أرض الولادة } فستجدها خراباً أينما حللتَ ) وكتبتُ كذلك ديواناً ثانياً في تلك الفترة ( العالَم يحتفل بافتتاح جروحي ) غير أني فضّلتُ أن أنشر أولاً مجموعة ( السكسفون ... ) لأسباب نفسية وكان العائق المادي هو ما يمنعني من نشر كتاباتي وانعدام المُعين فمن يُساعد سكّيراً غير معروف !؟ ولكن لا يُهمّ فانا لا أبالي وكنت على تواصل معيّن مع الوسط الثقافي من خلال الصحف وبعض المجلات ونشرتُ عدة مرات في صحف ومجلات مختلفة كالإغتراب الأدبي والثقافة الجديدة والناقد وألواح ولا أنسى صحيفة الوفاق وغيرها ولكني لم أكن جادّاً في مسألة النشر في تلك الأثناء ( معظمها كانت تمارين ) ومن أصدقاء تلك المرحلة كان الشاعر حميد العقابي والشاعر جمال مصطفى ولهما يعود الفضل في تقويم قصائدي ونصوصي من خلال تواصلي معهما عِبْرَ البريد حيث يقيمان في الدانمارك .
كانت هذه سطوراً توضّح بعض ملابسات هذا الديوان قبل صدوره .
وهناك فيما بعد إذا بي أعثر على قراءة نقدية لمجموعتي منشورة في موقع الكاتب العراقي اضطلع بها الناقد الدكتور عدنان الظاهر وكنت في تلك الفترة قد استطعتُ شراء جهاز كومبيوتر ودخول الإنترنيت بِحُرِّية أخيراً !
في الحقيقة فرحتُ بهذه القراءة المسؤولة والتي تنمّ عن تذوّق راقٍ للشعر ورؤية نقدية متقدّمة , والطريف أنني تركتُ الأستاذ الظاهر يمارس طرح كافة وجهات نظره حول مجموعتي بحرية ولكنه ما إن وصل الى قضية البحور العربية حتى ثارت ثائرتي ! أمّا لماذا ؟ فهنا الجواب : أتذكّرُ وأنا طالبٌ في المرحلة المتوسطة ببغداد أني ( عارضتُ ) مدرِّس اللغة العربية بشأن أحد الأبيات في مادة المطالعة والنصوص فقد كان يُعلِّمُنا أن ننقر على الرَّحلات ( المقاعد ) نقراً خفيفاً كما كان يفعل هو كي تترسّخ الأوزان في ذاكرتنا ففعلنا وبعدها استشهدَ ببيتٍ ثمّ قال : هذا البحر يسمونه الكامل . فقلتُ له مُقاطِعاً : العفو استاذ , هذا الوافر وليس الكامل ! فالتفتَ نحوي جميعُ الطلاب بخوفٍ وكان المدرِّس لطيفاً معي ومشفقاً ومشجِّعاً وأتذكّر أنه كان من جنوب العراق وحين بيَّنتُ له الفارق بتلعثمٍ صاح بي ضاحكاً : ما أراكَ إلاّ خريج حوزات !
علماً أنني شيعيٌّ من حيث المَولد ولكن ليست لي علاقة بالحوزة لا من قريب ولا من بعيد وإنما هو شغفي المُبَكِّر بالشعر .
أقول : ما إن قرأتُ رأي الدكتور الظاهر حول ما اعتقَدَهُ أوزاناً مرتبكة في بعض قصائد مجموعتي حتى كتبتُ رَدَّاً منفعلاً من ثلاث صفحات وأردتُ نشرهُ ولكني في النهاية أحسستُ بأنَّ فيه ما قد يجرح فعدتُ فأهملتهُ او قلْ مزّقتُهُ ! قائلاً لنفسي : ربّما لن يتناولَ أحدٌ ديوانك بمثل هذا الحرص فلماذا تتغافل عن ذلك وتهتمُّ بأمور غير جوهرية سيّما وأن الصراحة عملة نادرة في عالم المحسوبية والمجاملات والعلاقات ؟
ولا بأس هنا أن أذكر طُرفةً , فقد أرسل لي أحد الأصدقاء إحدى مجاميعه الشعرية فشكرتهُ في رسالة قائلاً له : سأكتب حول مجموعتك متابعةً وأبعثها الى الصحيفة الفلانية , فَرَدَّ على اقتراحي بنبلهِ المعهود قائلاً : شكراً ولكن أرجوك لا تفعل ذلك لأنهم سيقولون : شلّة يمدحون بعضهم بعضاً .
فقلتُ ضاحكاً وانا أقرأ عبارته تلك : مَن قال لك أني سأمدحك ؟!
وأخيراً حول عملية تصُّرفي بالتفعيلة أقول للناقد والكاتب عدنان الظاهر : إنها كانت قليلة ومقصودة وتدخل في نطاق التجريب النغمي إن جاز التعبير .
أمّا بصدد ما أسماهُ لوحة عزاء وندب ولطم خدود , أقول له : شكراً وهو كذلك فانا لم أكنْ جندياً سجيناً تارة وهارباً ومُطارَداً في الداخل تارة أخرى فحسب وإنما عابراً خطوطَ النار الى ايران كذلك بعدما تساوت عندي الحياة والموت . وأمّا عن ألف الفعل الثلاثي الممدودة من قبيل نما ورنا وصبا وجعلها مقصورة : نمى رنى صبى , كما قال فأجيب : أولاً تمكُّني من اللغة العربية أمرٌ لا غبارَ عليه وأُرجِعُهُ على سبيل المثال الى قصيدة ( الألوية ) ليرى كم عمدتُ فيها الى استخدام الجزالة والبلاغة والبيان كلغةٍ أمّا كشعرٍ فهي حافلة بالصورالشعرية الجديدة وقد نشرتها في مواقع عديدة , ثانياً لا توجد في اللغة العربية قاعدة بشأن الألف الممدودة والمقصورة في أحيان كثيرة حسب علمي وإلاّ فوفقَ أية قاعدة نُجيز القول : سعى بالألف المقصورة وكبا بالألف الممدودة مثلاً ؟ وثانياً أظنَّ أنّ مسألة الألف هذه حصلت في مجموعتي مرتين , واحدة منها كانت إملائية والنقطة الثالثة هي أني دخلتُ المانيا وانا أتحدّث الإنجليزية بشكل حسن ثمّ توجّبَ عليَّ أن أتعلّم الألمانية ولأنّ الأنجليزية هي اللغة الأولى في العالم ولغة العلم لذلك لم أُردْ هجرها وهذا يعني أني أتعلّم لغتين أجنبيتين في وقتٍ واحدٍ وهذا كما هو معروف إرهاقٌ لا أعرف كيف أسميه ثم بصدد الأخطاء الإملائية وقد زال أغلبها الآن كما أحسب , لا ننسى طول فترة اغترابي : ربع قرن !
وفي آخر مقال لي قبل اسبوعين والذي يحمل عنوان ( الأحلام بوصفها هاوية ! ) قلت : بدى , والأصح طبعاً : بدا بالألف الممدودة ولكني لم أنتبه الى هذه الملاحظة إلاّ بعد أن أرسلتُ المقال للنشر في موقع صوت العراق فلجأتُ الى نشر المقال في مواقع أخرى مصحَّحاً وقسْ على ذلك .
أمّا عن سؤالهِ حول اسم : سانت باولي الذي ذكرته في الديوان فأقول : نعم إنّ تخمين السيد عدنان الظاهر صحيح تقريباً فسانت باولي حيٌّ في مدينة هامبورغ معروف بعاهراته ومخدِّراته قريب الشبه بحي سوهو في لندن الذي ذكره
وعلى أية حالٍ سوف تصدر مجموعتي السكسفون المجنّح منقّحةً مرةً أخرى من خلال شبكة الإنترنيت في العام القادم وأقول في العام القادم لأنني أنوي هذا العام إصدار مجموعتيَّ الجديدتين ( العالَم يحتفل بافتتاح جروحي ) و ( ما زال الشاعر على قيد الجنون ) بعد أن أصدرتهما إصداراً خاصّاً قبل عدة أعوامٍ وبنُسَخٍ محدودة جداً وستكونان بالتأكيد مصحوبتَين بإضافات عديدة .
جزيلَ الشكر للناقد والكاتب الدكتور عدنان الظاهر على الآراء القيمة والأفكار السديدة ولا أنسى شفافيتَهُ وهو يتناول قصائد المجموعة .

*****************


خرمشاتٌ حول المرأة تنفع هذا وتضرُّ ذاك !

************************************

كونٌ يراقبُنا ضَجِراً من نَفسهِ ومنّا
وأرضٌ نتراشقُ على سطحِها بالآثام
أُحسُّ أنَّ شيئاً ما يوشك أن يحصل , شيئاً كبيراً كالحقيقة ولكنهُ بعيدٌ عن الحقيقة الى درجة الخيال !
وهنا بعضُ غَصّاتٍ وخلجاتٍ هي حياتي , وصحوُها المُمِضُّ وأحياناً الذاهلُ , لم أفكِّرْ أبداً من اين وكيف أبتدئ وأقول لنفسي : لا تجهدْ نفسك يا هذا , فليكنْ كلَّ شيءٍ او لا شيئاً إطلاقاً , وطبيعةُ الكتابة الحيَّة – اذا كنتَ تطمحُ لها - تتجلّى في كونها تُقرأُ من عِدَّة وجوهٍ وما انت بالصائغ الحريص على تَلأْلؤ جواهرهِ بشكلٍ دائم ,
وفي هذه الأثناء وبينما انا أسجلُّ بعض ذكريات الماضي المتناثرة باحثاً عن قرائنَ ! او سِكَكٍ تربط فيما بينها نوعاً ما , بَرَقَ في خاطري اسمٌ كنتُ أحسبهُ من تهويمات حلمٍ يعود الى ليلة الأمس , ولكنَّ الأمر لم يكنْ كذلك , الإسم كان نوال السعداوي , وقبل أيامٍ كان يوم المرأة العالمي وبما أنَّ الذكرى التي دعتني للكتابة عنها كانت أنثويةً أيضاً من حيث لا أدري فقد سرحتُ :
السعداوي هذه الثائرة التي تُحسُّ أنها ليستْ امرأةً فرداً وإنما جيلٌ بكاملهِ ,
وكتابُها المُهمُّ ( أُبصقُ عليكم ) وهو واحدٌ من مؤلَّفاتها التي تُرْجِمتْ الى عدة لغاتٍ منها الألمانية كان فضيحةً وإدانةً وكشفاً مريراً لطبيعة العقلية العربية المريضة التي تظلم المرأةَ وتُضلِّلُ بسطاءَ الناس باسم المُقدَّس , هذه المرأة هالتْني باسلوبِها وصراحتِها وتمزُّقِها حتى كتبتُ عنها قبل أكثر من عشر سنواتٍ مقالاً مُطوَّلاً نشرتُهُ في إحدى الصحف العراقية .
إنَّ تمزُّقات السيدة السعداوي كامرأةٍ عربية حريصةٍ أمرٌ مفهومٌ تماماً ويستحقُّ الإحترام
ولكني لستُ مثلَها في تَحَمُّلِ فترة الغوص الطويلة في قاع التخلُّف والإنحطاط العربي تعريةً وتحليلاً دون أن يمدَّني أحدٌ بأوكسجين
فهل كانتْ تتنفَّسُ الهواءَ المُذابَ في الماء ؟!
لا شكَّ أنَّ يوم المرأة العالمي هو مناسبةٌ أَهلٌ للإحتفاء بها وتكريمها ,
وممّا نلاحظهُ أنَّ العالمَ يُجلُّ هذه المناسبة ويُعزِّزُها سنوياً بشتّى الفعاليات والدعم المادي والمعنوي حتى باتَ يُخشى على حقوق الرجُل من الإنحدار الى مهاوي النسيان !
وأفكِّرُ أحياناً فأقول :
قد يدفع التطوُّرُ البشريُّ الجينيُّ بالمرأة الى حَدِّ الإستغناء عن الإتصال الجسدي بالرجل من أجل حفظ النوع , بطريقة ما , بأية طريقة , فَقِوى الحياة مليئة بالإمكانات بل إنَّ هذه الإمكانات كما يخبرُنا علماءُ البايلوجيا والعضويات لا نهائيةٌ لذا فلا عَجَبَ أنْ يتمَّ التكاثرُ البشَريُّ مستقبلاً عن طريق الإنشطار مثلاً !
حينما كنتُ يافعاً قالتْ لي زوجةُ أخي الأكبر وهي حينَها معلِّمةُ مدرسةٍ إبتدائية وكانت قد مضتْ فترةٌ قصيرةٌ على زواجها من أخي , قالت : أتمنّى لو أنني ولِدتُ ذَكَراً .
فاعتبرتُ نفسي وقتَها لسذاجتي محظوظاً لأني ولِدتُ ذَكَراً وبما أنَّ الزمنَ مضى ويمضي وقد كبرتْ هي في السنِّ بما يكفي فمن المؤكَّد أنها قد وضعتْ إصبعَها الآن على الداء وعَرفَتْ أنَّ الخللَ لا يكمن في كونِها أُنثى وإنما الجرح ينزف في مكان آخر .
أريد أن أروي حكايةً طريفةً ومحزنة من حوادث كثيرة مرَّتْ في حياتي :
في سنوات تشَرُّدي في المانيا والتي استمرَّتْ عشر سنوات وكان تشرُّدي طوعيّاً إنْ صحَّ التعبير إذْ انني بسبب تجربتي القاسية مع نظام صدام وتجارب أخرى وصلتُ الى مرحلة من اليأس واهتزاز الكثير من القناعات وهو ما أوصلني الى نوعٍ صعبٍ من الإدمان على الخمر , كنتُ يوماً جالساً في حديقة عامة أعتدتُ المجيءَ اليها حيث التقي مع العديد من المشرَّدين الأصحاب وكان لديَّ شعورٌ قاسٍ بالوحدة في ذلك اليوم فلا أحد في الحديقة العامة ما عدا فتاة لا أعرفها كانت تجلس قريباً مني وفي يدها زجاجة نبيذٍ وكان هذا في مدينة فرانكفورت ,
رغبتي في التحدُّث الى شخصٍ ما – والخمرُ أحياناً تجعل المرءَ اجتماعيّاً أكثر - دَفَعَتْني الى النهوض والجلوس بدون مقدِّماتٍ الى جانب الفتاة , كانت طيبةً وساذجة , وذكرى الكلامِ المؤلم لزوجةِ أخي حول أُمنيتِها كانت ما تزالُ في بالي ,
سألتُ الفتاةَ مباشرةً : هل تتمنّين لو كنتِ ذَكَراً أي شابّاً لا شابّةً !؟
أجابتْ بدون إبطاءٍ : نعم , أتمنى هذا !
سألتُها : ولماذا ؟
أجابتْ : لأنني هنا مثلاً مُضْطَرَّةٌ الى الذهاب عدَّة مراتٍ في الساعة الى المرافق العمومية أمّا الرجل فأنهُ يذهب بكلِّ بساطة ويقف خلف أية شجرة وتنتهي المشكلة !
قلتُ لها : إنّها لَمأساةٌ فعلاً !
إنَّ الفتاةَ هنا ليس لديها ما تحتجُّ عليه من القوانين الإجتماعية لبلدِها وإنما تنتظر حصول المعجزة او المستحيل على أحرِّ من الجمر !
وهنا حكايةٌ آخرى فَمِن الأفلام المصرية في زمن الصِّبا وما أكثرَها ! فلمٌ تظهر فيهِ امرأةٌ سمينة كثيرةُ الخصام مع الناس وخاصةً الرجال منهم وفي إحدى اللقطات حصلتْ لها مُشادَّةٌ كلامية مع رجلٍ لسببٍ ما وتطوَّرتْ المُشادَّة فما كان من المرأة السمينة تلك إلاَ أنْ ضربتْ رأسَها برأس الرجل بشِدَّةٍ أي نطحَتْهُ او بالتعبير العراقي ضربتْهُ ( كَلَّهْ ) في موقفٍ شديد الفكاهة , فسقط الرجل مَغميّاً عليهِ !
لا أدري لماذا لا أنسى هذه اللقطة رغم مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً عليها حتى أنني أحياناً وبدافعٍ طفوليٍّ أستعيدها او بتعبير أدقَّ هي التي تفرض نفسها على عقلي وخيالي
كلَّما ارى مشهداً في الحياة قريب الصِلة يذَكِّرني بها فأضطرُّ لوضع يدي على فمي أحياناً
لأخفي ضحكي عندما أكون وسط الناس سواء في الشارع او في القطار وأحياناً أفتح ما في يدي كتاباً كان ام جريدةً مُدَّعياً أنني أقرأُ موضوعاً ساخراً في حين أن بالي يدور حول تلك المرأة السمينة المُمَثِّلة فلا أتوقَّف عن الضحك ,
أريد أن أقول : من الواضح أن الكثير من الرجال العرب لا تنفعُ معهم الكلمةُ الطيبة بصدد تقديرهم لمعنى حقوق المرأة وقيمتِها وإنما على المرأة العربية أن تتقنَ فنون ( الكَلاّت ) وتمارسها معهم !
واقول مرَّةً أخرى : لا تنفع مع هؤلاء الكلمةُ الطيبة
فَهُمْ مُخدوعون على أحسن ما يكون عليه الخداع .
والمتنبي يقول :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ
وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمُ
إنَّ موضوع المرأة وإحترام كيانها وحريَّتها كان وما زال بالنسبة للظلاميين من كلِّ الوانهم عدوَّاً يفوق تهديدُهُ لوجودهم تهديدَ عدوٍّ ضخمٍ يقف على ابوابهم بكامل جاهزيَّتهِ , ومشكلتهم هي أنهم أنفسهم ليسوا أحراراً , وحتى اذا افترضنا أنَّ الحرية بالنسبة الى وضْعِنا تُمنَح ولا تُنتَزَع فمن أين لأحدهم أن يمنحها ؟ إنهم يخافونها لأنَّ عقولهم التي لم ينبتْ عليها الريشُ بَعْدُ تُصَوُّرُ لهم الحريةَ واحداً من إثنين : إمّا الفوضى او الإلحاد في حين أنها هي ما يكفلُ النظامَ ويمنح الإيمانَ تعبيراتهِ , وهكذا نرى أنَّ مشكلتهم مُرَكَّبة .
وقد لفظتُ كلمةَ الحرية هنا بدون تحفُّظ بينما الكثير من المفكِّرين يتحدَّثون عمّا يسمونهُ هامش الحرية ولكني عنيتُ بها الشعورَ بالوجود وبكونِكَ تحيا وتُشارك وهذا الشعور داخليٌّ قريبٌ من التوهُّج , وهو لا يتمُّ بدون حصول المرء على أساسيّاتِهِ التي فُطِرَ عليها ومنها حقُّ الإختيار بمعناه الواسع ضِمْنَ إمكانياتٍ تقترحُها الحياةُ عليك , واذا كان كلُّ شيءٍ في سُلَّمِ تطوُّرهِ سائراً سيراً حثيثاً وباصرارٍ نحو غايةٍ نُحسُّها فالعقيدة – أيةُ عقيدةٍ - ليستْ استثناءاً واذا اعترفنا بهذه النقطة بالذات نكون قد وضَعْنا الأساسَ الصحيح للأجيال القادمة كي تتقبَّل فكرة الدين فلا يعود الدين عائقاً وإنما بريقُ أملٍ مستمرٍّ يدفعُ الإنسان دائماً لفعل الخير ,
انا هكذا أفهم الدين وليس قائمةَ تابواتٍ ,
والشرورُ التي يُحذِّرُ البعضُ عندنا من اقترافها وكأنَّ لديهم قصبَ السبق في اكتشافها تُنبِّهُ وتُحَذِّرُ من مساوئها كلُّ الأديان والعقائد بل إنَّ الإنسان السَّويَّ يترفَّعُ عن أنْ يقترفَها سواء اكان عنده دينٌ ام لا ,
إننا نجعلُ من حياتنا سلسلةً لا تنتهي من القمع والحرمان واللا منطق
ونحن نفعل كلَّ هذا لأننا لسنا شُجعاناً إزاءَ حقيقة الموت وهذه المشكلة هي جوهرُ مشاكلِنا
والعالم اذا احتفل كلَّ عام من أجل المرأة فليس للمطالبة بحقوقها إنما في الغالب لتوكيد هذه الحقوق وترسيخها فهو يكاد أن ينسى أنهُ حقوقيَّاً وإنسانياً يتكوَّن من جنسيَن : إمرأة ورجل , فالفارق شبه معدومٍ ولا اقول هذا لأنني أعيش في بلدٍ أوروبيٍّ فليذهبْ أحَدُنا مثلاً الى أيةِ غابةٍ من غابات الدنيا لم يصلْها ظلُّ المدنية بعدُ وليتَحَقَّقْ من ذلك بنفسهِ , ولكنْ نحن العرب من دون كلِّ ثمرات الطبيعة عَصِّيون على النضج , فكلُّ ما هو فَجٌّ في حياتنا قائمٌ على ما لا أدري كم من الأقدام والسيقان لحدِّ أننا يجب أن نجعل الكثير من المناسبات المهمة منطلقاً للتذكير بحقوق المرأة عندنا وإلاّ فَحَريٌّ بالمرأةِ العربية أنْ تجعلَ من مناسبة عيدها السنوي يوماً للإضراب عن الحديث مع الرجل !

**********************


السياسة بين الجِينات والجِنِّيات !

***************************

استبشرنا خيراً بزوال الطاغية , وفي هذه الحالة , الحالة العراقية يكون استبشار العاقل والضحية في محلِّه فهو يدرك بعمقٍ الطبيعةَ الإجرامية المهولة للنظام السابق ويفرزها ببصيرتهِ وقبل هذا بجروحه التي ما زالت تصاحبهُ في حَلِّهِ وترحالهِ فما يحصل الآن مهما تمادى في الغَيِّ والعُتوِّ واللا مسؤولية بل واللا إيمان ما هو إلاّ دليلٌ آخر على مدى الخراب الذي أحدثهُ الزمن العفلقيّ في الكثير من النفوس وهو صنيعة بعثية بامتياز ولا يُهمُّ ما يرتدي من مسوح , انفصالية , طائفية , قومية , تكفيرية وهذا التبعيث اللا شعوريّ يجسِّدهُ – أوّل ما يجسِّدهُ - عدمُ المبالاة إزاء تناثر أجساد الضحايا بأحلامها وأحزانها وتأريخها , ورغم الأسى والإحساس الشقيِّ بالظلم فانه دون شكٍّ كان مفترَضاً او على الأقل كان الشعور بالخوف من حصول ما هو قريب منه موجوداً وكان على العاقل أن يُعدَِّ نفسهُ لمواجهة بعض تداعياتهِ لأنَّ الماضي القريب لم يكن عادياً بكلِّ المقاييس ولا أظنُّ أنَّ إنساناً يمتلك أخلاقاً ووعياً يتمنّى عودة الحكم السابق او أيِّ حكمٍ على شاكلتهِ درءاً لخطر الحالة الراهنة وتمزّقاتها وحتى لو تمنّى بعضهم ذلك فعجلة الزمن لم تعدْ حديدية متباطئة في المعيار المعاصر وليس فقط لا يمكن إرجاعها الى الوراء بل لا يمكن إيقافُها او في الأقل التقليل من سرعتها , إنها رهيبة السرعة ونحن مرتبطون بها وإن كان ارتباطنا لا يزال هلاميّاً وغير مُحدَّد المعالم وهذا الخراب أيضاً والذي كنا نأمل أن يقف القدرُ الى جانبنا فيجعله أقلَّ وحشية , ليس غريباً على تربة تشرَّبتْ تأريخياً بالدماء وإنْ كان الأعنف والأفظع إلاّ أن المقاييس العالمية الآن اختلفتْ فما عادت الكثير من المفاهيم تحمل نفس المدلولات السابقة في الغالب والتي كانت تنتمي لحقبة الحرب الباردة كالوطن الواحد والحدود الواحدة بالمعنى السياسي والجغرافي او اللغة الواحدة او الثقافة الواحدة بمعنى الإنعزال داخل أُطُرٍ قومية مُحكمة الإغلاق فما يقع اليوم للعراقي مثلاً أصبح يُؤَثِّرُ على الأمريكيّ والصينيّ والقوقازيّ وبالعكس ,
إنه الإقتصاد , هذا هو الوطن الجديد الذي أصبح العالم ينضمُّ تحت لوائه وهو كاسحٌ لنا وكاسحةٌ لنا كذلك علومهُ السياسة بوعودها , بجيناتها , بجِنِّياتها !
ورغم أنَّ لدينا من الجِنيّات ما يكفي إلاّ أنّ واحدة منها لفتتْ نظري أكثر في مرحلتنا هذه وهي أننا برغم ترديدنا - ترديداً ميكانيكيَّاً طبعاً - القولَ المأثور للإمام علي : مغبونٌ مَن تساوى يوماه . فأيامنا ما تزال متساوية متشابهة تندبُ بعضها البعض , أيامنا توائمُ نَسَخَها الزمنُ نَسْخاً تحسدُنا عليه العلومُ الحديثة
والطبُّ الحديث !
وأعود فأقول ما صار بديهية : إنه الإقتصاد , السوق هو ما يرسم العلاقات الدولية ومهما كان رأيك بنمط الدولة هذه او تلك فلا بدَّ أنك واجدٌ نقاطَ تلاقٍ معها أمّا العقلية الآيدلوجية التكفيرية فلن توصلنا إلاّ الى مستنقع الإفلاس الأبدي حيث نبقى نعوم في نفس الترعة ومع نفس الضفادع !
إنَّ الحضارة الحديثة تحاول إعادة الإعتبار لمبدأ التعاون المشترك الذي استُهلِكَ
بفعل رطانة الساسة او ربَّما إنها , أَيْ الحضارة , في بعض أوجهِها تحاول إعادة الإنسان سواء بشكلٍ واعٍ او غير واعٍ الى جذوره الأولى حيث لا تَمايُز إلاّ بقدر ما يتعلَّق الأمر بنوع الإستجابة والتفاعل والإغناء , ومن الحَيف أن يكتفي المرء او الدولة بدور المتفَرِّج ,
إنك ترى سلبيات هذه الحضارة وإجحافاتها وهي كثيرة ولكنْ طبيعيٌّ أنَّ الحلَّ لا يكون في مقاومة هذه الحضارة فهذا عبث وألعابُ صبيان وإنما العقل السليم يقول : عليك أن توجِّه لها نقداً وتقترح وتبادر وحتى تلعن اذا كنتَ مؤمناً بأنَّ هذا العالم مارقٌ وينمو ويترعرع في حضانة إبليس !
الحلُّ أن نجعل أنفسنا ننتمي ولو نفسياً لهذا العصر ونعتبر أنفسنا مسؤولين ومَعنيين بما يحدث له إنْ سلباً او إيجاباً
إننا ابتُلينا بمشكلة أسمِّها اللف والدوران فلا أحدٌ يقف على رأي ثابت في القضايا المُلحَّة وأتذكَّر وانا فتىً في السابعة عشر من العمر أني سمعتُ جملة : لا يا مولاي , صحيحٌ أنّ ما ذكرتَهُ آيةٌ قرآنية ولكنَّها حمّالة أوجه .
وهذا التعبير العتيد ( حَمّالة أوجه ) هو الذي يجعلنا عموماً نُفسِّر جوانب حياتنا الحساسة وأحياناً المصيرية تفسيراً لا يخرج عن المزاجية فإنْ قلتَ له إن القرآن على سبيل المثال يقول : تعالوا الى كلمة سواء بيننا . فانه يجيبك : ومَن رضي غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منهُ . وهكذا .
إنَّ الحرص على الدين الحقيقيَّ لا يتمُّ من دون إستنطاق خطابهِ الإنساني وما فيه من قيَم سلمية عادلة متسامحة أمّا أنْ تأتي إلى الناس بمُفخَّخَتكَ ناسياً أنْ لا إكراه في الدين فهذا شأنُ الذين لا يسأمون من الإساءةَ للدين وشأنَ البعثيين حينما جعلوا مفردة العروبة أشبه بالسُبَّة لتفنُّنهم بالمزايدة عليها وفيها .
كما أنّ الحرص على نَيل الحقوق القومية هو الآخر لا يحصل إلاّ من خلال
النهوض ببلدٍ غنيٍّ حُرٍّ آمنٍ موحَّدٍ , لا عن طريق الإستعانة بالظَلَموت !
إنَّ معايير الحداثة اليوم تتخلَّلنا كالهواء فهل تريد أن تناصبَ الهواءَ العَداء ؟!
لا مَخرجَ لنا إلاّ بالمشاركة الواعية لعصرنا وأن نعيشه بتحوّلاته ونجاحاته وإخفاقاتهِ وفي سعيه لكسر الرتابة فما نراه اليوم من منجزاتٍ ستصبح في عرف العالم المعاصر خلال عقدٍ او عقدين من الزمن أشياءاً شديدة الكآبة لتكرارها ورتابتها , أمّا صلافة بعضنا القائلة بإمكانية العيش دون الحاجة الى التعايش مع الغرب الكافر فهذهِ تذكِّرني بمقولة أخرى قريبة منها كان يحلو لرفسنجاني أن يردِّدها حيث يقول : إنَّ ايران قادرة على العيش دون أمريكا .
هذه رؤية رجلٍ لا يستطيع قراءة الأحداث والتطورات الدولية بعناية وهو قولٌ فيه الكثير من الغرور وأمّا عن حالة العراق في عهد المخابرات والمعتقلات والقبور الجماعية فكان صدام يجيب عندما يُسأل عن إمكانية ممارسة الديمقراطية الحديثة في العراق بالقول : لا , إنَّ وضع العراق يختلف . وهو في الحقيقة تهرُّبٌ او تبرير لدكتاتوريتهِ او للـ ( ديمقراطية ) البعثية التي وضعتْ العراق على حافة هاوية سحيقة وأرجعتْ الحاكم مرّة أخرى الى فترة النضال السلبي ( نضال الحفرة ) !
لذا فحالنا اليوم بوجود التيارات التكفيرية ودعاة النفاق القومي والبكاء زوراً على ضياع هوية العراق أقول : إنّ كلا الطرفين يجهل العراق الذي عاش العديد من الإحتلالات في تأريخه القديم والحديث وهما يردَّدان نفس النغمة الصدّامية بينما العراق يتقافز بينهما , بين هذين الفريقين الأحمقَين كرجلٍ يتقافز حافياً على صفيحٍ من جمر , وأظنهما قد باركا القرار الأخير والحصيف جدّاً والذي يقضي بمنع سفر المرأة العراقية دون موافقة ولي أمرها !! هذا القرار الذي يعامل المرأة في وطنها وكأنها أسيرة حرب ! أقول : نعم , إنّ البعثيين يُطوّبون مثل هكذا قرارات وكل قرارٍ من شأنه إشعال الفتنة أكثر والى جهنم بـ ( حرائر العراق ) ! وهما , السلفي والصدّامي بتنافسهما على حيازة ميداليات الفضائح ولشدّة غفلتهما يُذكِّراني بالحكاية التالية التي حصلت في فترة من فترات العهد العثماني إذْ يقال أنهُ زارَ مُفتي أنقرة مُفتي الشام في الشتاء وبينما هما يجلسان حول النار قال مفتي الشام : النار فاكهة الشتاء . فردَّ عليه مفتي أنقرة قائلاً : صدق الله العظيم .
فكتَمَ مفتي الشام هذا الخلط وفيما بعد زار مفتي اسطنبول مفتي الشام أيضاً فحكى له مفتي الشام تلك الحكاية فردَّ مفتي اسطنبول قائلاً : سامح الله صديقنا مفتي انقرة , لا يعرف التفريق بين الآية القرآنية والحديث الشريف !!

********************


المانيا من الشوفينية الى التَحَدُّث باللغة الأجنبية !

*****************************************

العنوان هنا فيه مبالغةٌ طبعاً ولكنْ فعلاً الفارقُ هائلٌ بين المانيا في أربعينيات القرن الماضي وبين المانيا اليوم , رغم أني في بدايةِ وجودي هنا في المانيا عشتُ عامين ذقتُ خلالهما الأمَرَّين وأكثر !
القضية باختصارٍ كانتْ عنصريةً ولكن من نوعٍ آخر , فلا هي بسبب كوني أجنبياً ولا لأنَّ الألماني يكره الأجنبي !
سأُبيِّن هنا شيئاً من ملامحها
فعندما وصلنا برلين الغربية سابقاً عام 1986 نحنُ كمجموعةٍ من العراقيين قادمين من طهران عِبر دمشق وبعد إقامة قصيرة في مركز توزيع اللاجئين وسط مدينة نورنبيرغ قاموا بفرزنا ثمَّ نقلنا الى قريةٍ صغيرة تقع على حدود النمسا , تُدعى فِلْ هوفن , كنّا نحو ثلاثين شخصاً من جنسياتٍ مختلفة وجميعنا من الرجال وهذه النقطة جزءٌ أساسيٌّ من الكارثةِ !
إنَّ هذا الفرزَ العشوائيَّ وربما المقصود سيسبِّبُ لنا لاحقاً مشاكل جمّة كلَّما أحاول أن أتناولها بطريقة شِعرية أفشلُ فأحنق على نفسي وهذا السبب في أنني أتلفتُ جميع كتاباتي السابقة عن هذه الفترة إلاَّ نصٌّ واحدٌ طويل ما أزال مُترَدِّداً في نشره لأنَّ بعض عباراتهِ متشنِّجة ولكن ما العمل ؟ فهي حقيقة رغم أنَّ الحكمة المأثورة تطلُّ عليَّ أحياناً هاتفةً : ما كلُّ ما يُعرَف يُقال ,
قد ألجأُ الى نشرهِ بعد حذف العديد من مقاطعهِ , وقد احتجتُ الى عدةِ سنواتٍ لكي أفهمَ ملابساتِ هذين العامين وطبيعةَ ظروفهما والآن وقد استطعتُ تحليل ذلك الماضي بكثير من الصفاء الذهني أكتشفتُ أنَّ الصُدفةَ لعبتْ دوراً كبيراً في هذه القضية ولعلَّ حقيقةَ أنني آتٍ من بلدٍ لم تبخلْ عليَّ ذئابُهُ البعثية بالسجن والضرب والإهانات في الحرب والسلم !
هي ما جعلني أهوِّن من الآثار النفسية التي تركَتْها قريةُ فلس هوفن في تلك الفترة او أتخطّاها بأقلِّ الخسائر الممكنة !
وبعد منحي اللجوء وإنتقالي الى مدينة هامبورغ أدركتُ أنَّ المانيا هي ليست تلك القرية الصغيرة البائسة فبدأتْ همومي تأخذ بُعداً إنسانياً !
في كلِّ المقاطعات والمدن الألمانية الكبيرة يلحظ المرء وجود أحياء خاصة بالأجانب غالباً ما يتكلَّم سُكَّانُها لغة بلادهم ويحملون تقاليد بلادهم خاصةً القُدامى منهم كالأتراك والإيطاليين واليونانيين ولكن بعد انهيار الإتحاد السوفيتي السابق أخذتْ هذه الظاهرةُ تترسَّخ وتطرح على بعض الألمان أسئلةً منها الموضوعي ومنها العجول وقد جَرتْ آخرُ موجةٍ من موجات معاداةِ الأجنبي في عهد هلموت كول ولكنْ بعد خطابهِ المؤثِّر المعروف والموجَّه الى الشعب الألماني انطفأتْ تلك الموجات التي جوبِهَتْ أيضاً بحملةٍ إعلامية وتظاهرات معاكِسة كبيرة وهي تُنَدِّد بجماعة مرفوضةٍ إجتماعيَّاً تُسمَّى بالنازيين الجُدُد وأتَذكَّر أنَّ كول قال في خطابهِ من بين ما قال – حيث ضربَ على الوتر الحسّاس - : اذا خرجَ الأجانبُ من المانيا فإنَّ الإقتصاد الألمانيَّ سينهار .
وإذا تركنا الجانبَ الإقتصاديّ لبرهةٍ نرى الألمانيين كثيراً ما يُفضّلون السفر وتمضيةَ الإجازات السنوية في أحد البلدان الآسيوية او البلدان العربية في أفريقيا الشمالية وهذه تجربتي معهم إذْ ما أنْ يأتي السؤال عن بلدك وتكون انت مع أحدهم في منزلهِ حتى يُسارع لإخراج ألبوم صُوَرهِ ليُريكَ بفرحٍ كم عدد البلدان التي زارها ومع مَن التقى في هذا البلد الآسيوي او ذاك البلد الشمال أفريقي و و ... الخ من الذكريات .
أردتُ من خلال كلامي هذا أنْ أُعيدَ توكيدَ حقيقةِ أنَّ الشعوب بقدر ما تنفتح على بعضها بقدر ما تضمحلُّ مظاهرُ التعصُّب وتسود لغةُ التفاهم والمحبةِ , واذا تحدَّثنا عن المانيا وكيف تبدو في أعينِ العالم فهنا بعض الإنطباعات والأفكار أحببتُ أنْ أسجِّلَها مُستَنِداً الى مُعايشتي ومشاهداتي وقراءاتي فأقول إنَّ المانيا هي البلد الذي اذا ذُكِر ذُكِرَتْ معهُ الفلسفةُ والموسيقى كرديفٍ مُلازمٍ , وهذا الرديف هو من السطوع بحيث يكاد أنْ يُغطّي على كلِّ ما سواهُ حتى أنَّ جرائم النازيين على فظاعتها ووحشيتها ورغم إستمرار تفاعل أحداث تلك المرحلة بشكلٍ ما بحُكم قربِها الزمني من بدايات هذا القرن الجديد , لم تُزَعزِعْ في كيان الكثير من البشَر تلك المكانة اللائقة من الإعجاب والإحترام لهذا البلد ودورِهِ الإنساني فكراً وجمالاً ,
والألمانيون الذين أعيش بينهم منذ أكثر من عشرين عاماً لم يتركوا أبداً جرائم هتلر تَمُرُّ سدىً بل هُم وبدافعٍ من تاريخهم القَلِقِ الحيِّ جعلوا من البشاعة هذه وباستماتةٍ عجيبةٍ
مُنطلَقاً وأساساً للجمال ومنهُ مثلاً مقدرتُهم المُلْفِتةُ على تحويل مشاعرِ الذنب التي استولتْ على أجيالهم بعد الحرب العالمية الثانية الى مشاعرَ خلاّقةٍ حيث أنَّ ما كان قمةً في العنصرية والشوفينية في ماضيهم القريب تمكَّنوا من مواجَهتِهِ بأناةٍ وصبرٍ ومِن ثُمَّ تهذيبهِ لا نكرانهِ كما يفعل العرب في تبرير أخطائهم وخطاياهم , قلتُ : تهذيبهِ وأَكاد أنْ أقول : تفجيرهِ ِلأنهم جعلوا منهُ ما يُشبهُ عنصر استفزازٍ لطاقاتهم المعرفية والأخلاقية ومن هنا كان حرصهُم الشديد في التركيز على طبيعة المناهج التعليمية ولا تستطيع إلاّ الأُمَمُ الحيَّة أن تحوِّل الكابوس الى حلمٍ جميل في خيال أبنائها فباتَ ما هو عنصريٌّ في السابق يتبلور الى ما هو وطنيٌّ فلا تعود مشاعر القرف من الذات ومن الأمس مُعَطِّلَةً للطاقات وروح المُبادرة والتي هي بدورها لن تكون بدون أملٍ , والفرد الألماني اليوم وطنيٌّ يعتزُّ أيَّما إعتزازٍ بوطنهِ والمُشرِقِ من تأريخهِ ويحسُّ بالسعادة كثيراً حينما يسمعُ على سبيل المثال عباراتِ ثناءٍ لبلدِهِ من قِبَل شخصٍ أجنبيٍّ وهذا ما عنيتهُ بكلامي السريع عن الأُمم الحية فهتلر الذي أراد بغباءٍ إثباتَ تفوّق بلده او جنسهِ عن طريق إشاعة الخراب يجيبُهُ الالماني اليوم بتحويل هذه النزعةِ الضيقة والساذجة الى نزعةٍ معرفية إنسانية سلمية إذْ تراهُ يطمح الى جعل وطنهِ مركزاً لها وهذا طبعاً طُموحٌ نبيلٌ ومشروعٌ حتى أنني كثيراً ما سمعتُ من الألمان الذين وُلِدوا مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية وبسببٍ من مشاعر الحَرَج وغير قليلٍ من مشاعر الخجل ! وكَمَنْ يتعلَّقُ بقشَّةٍ خوفاً من غرقٍ وشيكٍ يقولون : إنَّ هتلر كان نمساوياً وليس المانياً !
وطبعاً انا أفهم هذه الأحاسيس وأقدُّر جانبها النفسيَّ فالحديثُ حَولها ما زالَ يؤلمُ الكثيرَ منهم وهذه عندي هي الثقافة بمدلولاتها العميقة , أي التربية النفسية حيث الإنسان هنا نسيجٌ رقيقٌ شديد التأثُّر والإستجابة , نازعٌ الى الخلاص من الرثاء لنفسهِ بسببِ ماضيهِ التعس القريب وآملٌ بعزاءٍ يجسِّدهُ صمتُ الآخر !
والألمان ليسوا كالأمريكان واليابانيين مثلا فتأريخهم الضاربُ في القِدَم تَلَوَّنَ عِبْرَ مراحل تطوُّرِهِ بِهَمٍّ آخرَ لصيقٍ بثقافتهم حَدَّ الجنون الجميل وهو الموسيقى
لدرجةِ أنَّ بيتهوفن يؤلِّفُ واحدةً من أجمل سمفونياتِهِ وهو أطرش !
وكلُّ هذهِ روادعُ لذا فالمانيا في رأيي لا يمكن أن تسيطر على العالم عملياً كأمريكا اليوم مثلاً فالبَون واسعٌ ولا يمكن لألمانيا أن تغزو العالم كاليابان اليوم بالمُنتَجات الإلكترونية فقط فالبون هنا واسعٌ أيضاً وهذا التناغم بين ما هو علميٌّ خالصٌ وثقافيٌّ فنيٌّ خالصٌ مع ذلك لا يجعلُ المانيا بالضرورة جنَّةً على الأرض ولكنَّ الحقائق تشير الى أنَّها من أكثر البلدان استقراراً إقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وفي الوقتِ الذي نرى فيهِ العراق مثلاً تُبعثرُهُ التناحرات الطائفية والعِرقية والدينية وهم أبناء وطنٍ واحد وتأريخٍ واحد ومصيرٍ واحد نرى المانيا يعيش فيها منذ عشرات السنين ملايين الأجانب ومن شتى القوميّات والجنسيات والأديان والألوان وإذا اختلفوا مع الألمان في أمرٍ ما وهذا طبيعيٌّ فالطرفان لا يختلفان أبداً على ضرورة العيش بسلامٍ فهناك تفاعلٌ وأخذٌ وعطاءٌ
فالمانيا تزداد ثقافتها ثراء باحتكاكها المباشر مع الثقافات المتنوِّعة داخل أرضها , وإقتصادُها من جهةٍ أخرى يزداد متانةً وازدهاراً بوجود الايدي العاملة الأجنبية ومهاراتها المُتَحَصِّلةِ من طول فترة عملها في هذا الميدان او ذاك , وكلُّ هذا ينعكس دون شكٍّ على الأجنبي إيجابياً بما يكسبهُ من معارف مهمة وخبرات في بلدٍ متَقدِّم من جانب ومن مالٍ وضماناتٍ وغيرها من جانب آخر .
وأردتُ من خلال كلامي هذا أيضاً أن أطرحَ سؤالاً عن دور الموسيقى الراقية في تهذيب الغرائز وتذكير الإنسان بينابيعهِ السامية الخفية حيث يزول أمامها كلُّ ما هو عَرَضيٌّ وطاريءٌ كالأنانية والعنصرية والطائفية والأحقاد غير المفهومة , ومَرّة أخرى مع بيتهوفن , أتذكَّر أنني كنتُ في العشرين من العمر حينما قرأتُ مقولةً لهُ في أحد الكُتُب : إنَّ مَن يفهم موسيقاي لا تُعَذِّبهُ مصاعبُ الحياة اليومية . أعتقد أننا نكرهُ وننافق ونكذب ونقتل لأنَّ أرواحنا لم تتشبَّعْ كثيراً بالموسيقى !
وبما أني لا أحبُّ التصنيفات التي تجعل الفن درجاتٍ فتقول عن الموسيقى بأنها أسمى الفنون أرى أحياناً مع ذلك أنها فنٌّ ربّما يحتاج من المستمع الى ذائقةٍ قد تمثَّلتْ فنوناً قبلهُ وأحياناً أقول لا , الموسيقى تُفهَم بالسليقة وفي كلِّ الأحوال للأنغام الجميلة فعلُها الحيُّ في النفس ولها فيضٌ دافقٌ يشيع السرور .
وأمّا عن الفلسفة الألمانية وقد أشرتُ اليها في البداية فانا قرأتُ ما استطعتُ منها بدءاً من هيجل الى كانت الى هايديجر وغيرهم ولكني ولأسبابٍ مزاجية لم أتفاعلْ بشكلٍ عميقٍ إلاّ مع نيتشه لأنهُ ببساطةٍ لم يكنْ فيلسوفاً كبيراً فقط وإنما شاعرٌ كبيرٌ كذلك وعاشقٌ مجنونٌ للموسيقى فأضفى لوناً خاصّاً على الفلسفة وجعَلَها مُحبَّبَةً كثيراً خصوصاً باستعارته لغةَ الإنجيل إذْ انهُ كثيراً ما يبدأُ أفكارَهُ بلغة الواثق من نفسهِ ومن أفكاره : الحقَّ أقولُ لكم !
وهي اللازمة التي استعارها جبران خليل فيما بعد أيضاً في رَدِّهِ على ( هكذا تكلَّم زرادشت ) رغم أنَّ جبران لدرجة إعجابهِ بهذا الكتاب قال عنهُ بأنهُ أعظمُ ما عرَفَتْهُ كلُّ العصور !
اذا غلبَ على هذا الفصل – المقال الجانبُ المُشِعُّ من حياة هذا البلد والحياة فيه فقد حصلَ هذا بشكلٍ عفويٍّ ستزدادُ صورتُها وضوحاً عند حديثي عن جوانبها الأُخرى , عن حياةٍ ذات مستوياتٍ متفاوتة ومتمَوِّجة .

************************************************** **************************


كولونيا - 2007