المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ساعة اينشتاين الأخيرة



وليد سليمان
28/10/2006, 05:01 PM
ساعة اينشتاين الاخيرة


الى زهرة رميج وعايدة النوباني ومحمد قصيبات
كانوا يلقبونه اينشتاين، ولم يكن ذلك بدون سبب. فلم يكن يستعصي عليه أي نوع من الساعات، حتى الأكثر تعقيدا في مكوناتها كالساعات الألمانية. وسواء تعلق الأمر بالساعات السويسرية، الأكثر دقة في العالم، أو الساعات الايطالية المعروفة بأناقتها، أو الساعات الانجليزية غالية الثمن،كان اينشتاين موجودا دائما ومستعدا لقبول التحدي.
كانت ورشته تتمثل في علبة كرتونية، يضعها أمامه في أحد شوارع العاصمة الأكثر حركية، ويضع عليها جميع لوازمه كالمفك والكلابة والعدسة المكبرة غيرها من أدوات صنعته. كان يقرفص على الأرض أمام علبته الكرتونية، ومقابل مبلغ زهيد جدا يصلح لك ساعتك على الفور، وقيل لي انه موجود هناك منذ أكثر من عشرين عاما .
خلال هذه السنوات العشرين، مرت علي يدي اينشتاين جميع أنواع الساعات، وأكثرها تعقيدا. وكان يشعر بالرضى لكونه لم تستعص عليه طيلة هذه السنوات الطويلة أي ساعة مهما كانت عبقرية صانعها ومهما كانت براعة مصممها. .

***
كنت أعمل في دكان لبيع الملابس يقع في مواجهة الرصيف الذي ينتصب عليه اينشتاين، وهو ما سمح لي بمراقبة دقيقة لحركاته دون أن يتفطن إلى وجودي. وهكذا كنت أراه عندما يأتي في الصباح بشعره المشعث، ويبدأ في ترتيب أغراضه على علبته الكرتونية.
ما إن تعطي لاينشتاين ساعتك المعطلة، حتى يشرع في إصلاحها على الفور، إن لم يكن مشغولا بإصلاح ساعة أخرى. وبحركات دقيقة، كانت تتكرر طوال أشهر وأشهر، كنت أراه يضع العدسة المكبرة في إحدى عينيه، ثم يفتح الغطاء الخلفي للساعة بعد أن يقربها من أذنه، وكأنه بذلك يستمع لنبضها ليعرف علتها.
كانت لاينشتاين عينان جاحظتان وشعر رمادي مجعد وطويل يصل إلى كتفيه. ولاحظت خلال أيام مراقبتي له الطويلة أنه كان يرسل خصلات شعره الطويل خلف كتفيه، وحين تقع بين يديه ساعة يجد بعض الصعوبة في إصلاحها، كنت تشعر باضطراب حركاته، وتراه يمسك شعره بيده اليسرى ويشده بشريط مطاطي.
لم يكن اينشتاين في الغالب يحدد ثمنا عند إصلاحه الساعة المعطلة، بل كان يأخذ بصمت ما يجود به عليه الزبائن. ومهما كان المبلغ الذي تعطيه له، لم يكن حتى ينظر إليه، بل يضعه في جيب سترته السوداء البالية، ويواصل عمله بصمت. ولكن، أحيانا، عندما يتطلب إصلاح ساعة من الساعات الكثير من الوقت، كان اينشتاين يخرج من صمته، ويطلب دينارا. وقد فهم زبائنه في ما بعد، أن الدينار يعني بالنسبة إليه أن عملية الإصلاح كانت شاقة جدا.

***

لم يكن اينشتاين يحب الكلام. وقد باءت محاولاتنا جميعا لاستدراجه في الكلام بالفشل.
كان دقيقا، مثل الساعات التي يصلحها. وبفضل ما اشتهر به من إتقان في عمله، صار الزبائن يتوافدون عليه من كل مكان ويفضلونه على الدكاكين التي تطلب الكثير من المال لإصلاح الساعات، وهي مبالغ ترتفع كلما كانت الساعة أكثر تعقيدا.
طيلة كامل يومه الطويل، لم يكن اينشتاين يقطع عمله إلا عند الظهر، حيث يغتنم أول فرصة تقل فيها حركة الزبائن قليلا، ليأكل رغيفا من الخبز مع قطعة من الجبن. فهكذا هي حياة اينشتاين: خبز وجبن وعمل.
وفي الخامسة بعد الظهر، يضع اينشتاين كل لوازمه في كيس بلاستيكي، ثم يضع ذلك الكيس في علبته الكرتونية، ويغادر المكان.

***

مازلت أذكر ذلك اليوم جيدا. فبالرغم من أنه يوم من أيام الربيع، إلا أن الحرارة قد بلغت حدا لا يطاق. وقد لاحظت قبل الظهر بقليل أن اينشتاين كان يشد شعره الطويل بالشريط المطاطي. وعرفت حينئذ أن الساعة التي كان يقوم بإصلاحها كان فيها بعض الصعوبة.
لم أدرك خطورة الموقف إلا في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر حين عدت بعد الغداء لأفتح الدكان. ولاحظت على الفور ان اينشتاين لم يكن في حالة عادية. لقد كان وجهه يبدو محتقنا وقد تحول لونه إلى أزرق يميل إلى البنفسجي. كان عرق غزير يغطي كامل جسده، وكأنه غطس للتو بملابسه في حوض ماء. وكان يمسك بين يديه ساعة لم تكن تبدو - في ظاهرها- مختلفة عن غيرها من الساعات، إلا أن اضطراب اينشتاين ونظرته الزائغة كانا يدلان على مايكابده. لقد أخرج من كيسه كل الأدوات تقريبا، وهذا لم يحدث أبدا منذ عرفته. وحينئذ أيقنت أن أمرا خطيرا سوف يحدث.
انشغلت قليلا ببعض الزبائن. وحين هدأت الحركة في الدكان رفعت رأسي قليلا وصوبت نظري نحو المكان الذي يجلس فيه اينشتاين. إلا أني لم أتبين شيئا في أول الأمر. لقد كان الناس متجمهرين حول اينشتاين، وجعلوا بازدحامهم رؤيته غير ممكنة. تعجبت من ذلك، فصحيح أن الناس يزدحمون أحيانا حوله لإصلاح ساعاتهم، إلا أن الأمر لم يصل أبدا إلى ذلك الحد.
بات أكيدا من خلال احتشاد الناس، وازدياد عددهم بسرعة كبيرة، أن شيئا قد حدث أو هو بصدد الحدوث. وطلبت من زميلي في الدكان أن يعتني بالزبائن ريثما أعود.
توجهت إلى الرصيف الآخر حيث ينتصب اينشتاين عادة، ولكن ازدحام الناس منعني من الاقتراب منه ولم أستطع حتى رؤيته.
سألت شخصا كان يقف بجانبي عما يحدث. ولكن جوابه لم يكن كافيا لتوضيح ما يحدث. وكان الجميع يكررون : “جن اينشتاين”، ولكن دون أن يوضح أحد ما جرى. ورحت أدفع الجمهور المزدحم بمنكبي محاولا الوصول إلى اينشتاين لرؤية ما حل به. ولم أتوصل إلى ذلك إلا بعد جهد شاق.

***

حين اقتربت من اينشتاين أخيرا وتمكنت من رؤيته، لم أصدق ما رأيت. لقد كان في حالة تدعو إلى الشفقة:كان ينتف شعره ويضرب على صدره مقربا ساعة صغيرة من أذنه اليمنى من حين لآخر. وكانت حركاته تصبح أكثر هستيرية، إلى درجة أن البعض حاول التدخل لتهدئته ومنعه من ضرب نفسه. ولكن لم ينجح أحد في ذلك.
كان الوقت قد تأخر قليلا. ولم يبدأ الناس في مغادرة المكان إلا مع حلول الظلام. وكان علي في الأثناء أن أعود إلى الدكان لمساعدة زميلي في تلبية طلبات الزبائن. ولكن حين عدت لم أجد أحدا. حتى اينشتاين ذهب، ولاحظت أنه قد ترك علبته الكرتونية وأن لوازمه مبعثرة في المكان.
وصل فضولي إلى حد لم يعد من المكن تحمله. إلا أني لم أجد من يروي هذا الفضول ويشرح لي ما جرى بالضبط. فقد راح الناس كل لحاله، وأغلقت كل الدكاكين تقريبا. وعدت أنا أيضا إلى البيت، محاولا تخيل ما حدث، مترقبا الغد بنفاد صبر علني أعرف أخيرا ما حدث.

***

لم نعرف في الغد الكثير من الأشياء، ولكن أول ما لاحظته عند قدومي إلى عملي في الصباح، هو غياب اينشتاين على غير عادته، ورأيت بقايا علبته الكرتونية ولوازمه وقد داستها الأقدام.
كان علينا أن ننتظر إلى آخر النهار لمعرفة التفاصيل الكاملة لما حدث لاينشتاين في ذلك اليوم المنحوس، بعد أن قمنا بتجميع شظايا الحكاية.

وهاكم ما حدث بالضبط:
أتى اينشتاين في صباح ذلك اليوم على عادته، وشرع في إصلاح ساعة تركها أحد الزبائن بعد أن اتخذ مكانه ورتب لوازمه. ولم تمر دقائق حتى أتى زبون آخر يريد إصلاح ساعته. كان يبدو أنه على عجلة من أمره، وترك لاينشتاين ساعته على أن يعود لاسترجاعها في الغد.
لقد عرفنا من ذلك الزبون في ما بعد أنه قد اشترى ساعته تلك قبل أيام بثمن زهيد جدا، فهي واحدة من تلك الساعات التي تستورد من تايوان، وتباع في أكياس بالوزن. ورغم أنها في ظاهرها تشبه ساعة سويسرية باهظة الثمن، إلا أنها مجرد نسخة مقلدة لماركة معروفة.
في البداية، ظن اينشتاين أنها ساعة عادية، تكفي بضع دقائق أو ساعة على الأكثر لإصلاحها. إلا أنه ما إن أزال الغطاء الخلفي، حتى تبين له أنها ساعة ليست مثل كل الساعات، فخلف ظاهرها شديد الإتقان لا تحتوي الساعة في الداخل إلا على قطع معدودة، حتى أن الإنسان ليستعجب كيف يمكن لها أن تعمل بعد تخفيض مكوناتها إلى ذلك الحد.
لقد بدأ اينشتاين يشعر بالقلق حين مرت عليه أكثر من ثلاث ساعات ولم يتوصل إلى فهم طريقة عمل الساعة. وبعد أربع ساعات كان قد فكك جميع مكونات الساعة تقريبا: من زنبركات، ودواليب، ولوالب وبراغي متناهية الصغر، ومحاور…
لم يسبق لاينشتاين أبدا أن واجه مثل ذلك الموقف. ولم ير في حياته أبدا ساعة يد في مثل تلك البساطة. ومع ذلك، فان تلك البساطة قد جعلت الساعة في منتهى التعقيد.
في آخر النهار بدأ اينشتاين يشعر بالحمى وبصداع رهيب في رأسه، فأخذ خرقة طويلة من جيبه وربط بها رأسه عل الصداع يختفي.
لم يسبق لاينشتاين طيلة حياته أن عجز عن إصلاح ساعة مهما كان نوعها أو مصدرها أو دقة مكوناتها أو تعقيدها. كانت كل ساعة بالنسبة إليه تحديا جديدا، وكان إصلاح ساعة من الساعات بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت. فماذا حدث في هذه المرة؟
لم ير اينشتاين في حياته ساعة مثل تلك الساعة. لقد عجز لأول مرة في حياته عن إصلاح ساعة…

في تلك الليلة، وبعد محاولات يائسة لإصلاح تلك الساعة التايوانية اللعينة، لم ينم اينشتاين، وقبل التحدي المتمثل في إصلاح الساعة، مهما كانت الظروف والمصاعب.
حل الفجر واينشتاين مازال يتصارع مع تلك الساعة العجيبة، ونسي حتى أن يغلق باب غرفته، ولم يعد يفكر حتى في الأكل أو النوم. وحين أدرك أن العجز قد بدأ يتسلل إليه، راح يضرب رأسه على الحائط بعنف، حتى بدأ الدم ينزف.

لا أحد يدري بالضبط ماذا كان يدور في ذهن اينشتاين وهو يعيش ذلك الموقف ويشعر فيه بالعجز، ولكننا عرفنا بقية ما حدث من صاحب غرفة السطوح البائسة التي كان يؤجرها اينشتاين منذ سنوات طويلة.

لقد أتى صاحب العمارة في ذلك الصباح ليأخذ أجرة الكراء. ولم يحتج لطرق الباب، فقد كان مفتوحا. ولكن أحدا لم يجبه. وارب الرجل باب الغرفة بحذر، ثم دخل على أطراف أصابعه مدفوعا بحب الاستطلاع، ولكن لا أحد في الغرفة: لا على السرير ولا على المقعد ولا في المطبخ…وقبل أن يدور على أعقابه رفع رأسه مصادفة دون أن يرتاب للحظة واحدة أنه سيرى فردة حذاء معلقة، ولكن خلف الحذاء كان هناك جسد بكامله يتدلى من السقف…

الشربيني المهندس
04/11/2006, 10:54 PM
العزيز وليد
ساعة اينشتين الاخيرة وعنوان مخادع يحتاج الي التقصي والبحث والتنقيب
هل الساعة بمعناها المادي أم المعنوي ..؟ وتسللت وراء سطور قصتك وقد اعجبني دور الراوي كبطل ثان في القصة ليضفي درجة الصدق الفني المطلوبة
وعذرا لقد خدعتني حيث وجدت نفسي في نهاية القصـة
وسامحتك لهذه النهاية الفنية التي اعادتني للعنوان لألمح التآلف والتوالد مع الصورة المسومة والدلالة الواعية لحالة عدم التوائم بين القديم والحديث بصورة أدبية وجمالية

وليد سليمان
08/11/2006, 04:47 PM
أخي الشربيني،

قراءتك لنصي مبدعة وعميقة وذكية. أليس دور المبدع الحقيقي هو ان يخاتل متلقيه ؟ أليست المعالجة الفجة المباشرة قد عفى عليها الزمن؟
شكرا على مرورك
مودتي وليد سليمان

مصطفى لغتيري
11/11/2006, 02:16 AM
جمالية القص تنبع من محاولة الخداع التي مارسها علينا الكاتب ليوحي إلينا بواقعية الحدث .. لكن وراء هذا المظهر الخادع يكمن عمق فني وجمالي لا يتوصل إليه القارئ إلا إذا مارس خداعا أكبر ،ولم يصدق الكاتب فيما حاول الإيحاء به.. "القصة هي كذبة متفق عليها بين القارئ والكاتب".. هناك رمزية إينشطاين ..رمزية الساعة .. رمزية الجنون..
شدني بكثير من الفضول أسلوب الكتابة الذي يستلهم الأسلوب الصحفي .. سرد أحداث بنوع من الحيادية والموضوعية .. التقدم بالحدث في خط مستقيم ومتنام..
المحصلة قصة تستحق وقفة تأمل عميقة.
تحياتي القلبية.

وليد سليمان
12/11/2006, 09:45 PM
أخي مصطفى لغتيري،

شكرا على مرورك وعلى قراءتك المتانية للنص.

مودتي
وليد سليمان