محمد صباح الحواصلي
28/10/2006, 10:03 PM
كان صاحبي يحب الشعر
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
"بيد أن العمرَ يمضي"
طاغور
ومضى صاحبي ..
طوته سنون صلصالها من جحود ونسيان ، وأمسى في ذاكرة الصحاب حدثا قديما لا يُشتهى. غابتِ العيونُ عن وجههِ ، وغابَ في الإهمال عن الأوقاتِ الجميلة. بيد أنه ما يزالُ في ذاكرتي ، فوق صفحةِ الماءِ ، حيث كنا وجهين أديمهما من نضارةِ الصباح ، وحيث ينداح لألاء الشمس دوائر كلما رمينا حصاة على وجهينا فوق سطح الماء.
وصار أن مضى صاحبي في متاهة الغياب. امتطى صهوة الخدر في أقبية لندن وحلق في فضاء من مسك وعنبر.
- " أيرس .. يا عرش النشوة ، يا حلمي المجنح ، أما آن لنا أن نلجَ بوابة المطلق؟ "
وهكذا يا صاحبي ولجت بوابة العدم.
كان صاحبي يحبُ الشعرَ ، كما يحبُ الأطفالُ الدهشة ، كما النجومُ تحبُ عتمة المساء.
البداية كانتْ شعراً خالصا. ذات مرة قال لي : " في البدء كان الشعر. كان مخبوءاً في العيون البدائية. كان ذلك قبل أن يكونَ الكلام ، ويصير للبحار سماء ، وللسماء نجوم وأطيار. ثمة ، لست أدري أين ، ربما في مملكة الله ، كان أول الشعر. "
أتذكر ، يا ملاء الأمس ، أتذكر سيرنا الطويل في ليل دمشق المحمل بالوعود؟ نجدل الأفكار البكر بالشوق والجنون. لو تدري كم كنت مغرما بقراءاتك الشعرية عبر عتمات الطريق. هو ذا صوت أمل دنقل أسمعه عبر صوتك المتمرد الحزين.
" آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهضُ في وجهِ الشروق
ربما ننفقُ كلَّ العمر .. كي ننقبَ ثغرة
ليمرَ النورُ للأجيال .. مرة!
ربما لو لم يكنْ هذا الجدار ..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!! "
ها أنذا أسألُ صاحبي .. أسألُ دروبَ المساء ، أسألُ بيته القديم ، أسألُ السماء. هل منكم من رأى صاحبي؟ لا تسألوني عن أوصافه. يكفي أن أقولَ لكم : كان صاحبي يُحبُ الشعرَ ، يحبُ بكارة الأشياء.
عن نفسي سأخبرك . سنونٌ مضَتْ وأنا أمضغُ كالقاتِ خارجَ أسوار الوطن . حسبْتُ أنني ممن يجيدونَ البحث عن خاتم سليمان ، ولم أحظَ إلا بالخيبة والاهتراء . والآن ، ها قد عدت إليكم مزقا من أحلام قديمة .. بقايا من ذكريات.
لقد عدت يا صاحبي ، فأين أنت؟ تعالَ ، لا تجيء. لأن شرطَ لقائنا أن نعودَ كما كنا شجرتين باسقتين من أحلام وعطاء.
أينَ أنتَ يا صاحبي؟
أصحيحٌ أنَّ ما كان بيننا وبين الشمس من وعودٍ قد غابَ وراءَ قسوةِ الجدار؟ أصحيحٌ أنْ ليس لنا في وعودِ الغدِ مطرحٌ؟ وأنَّ ما كانَ ، كانَ محضَ سراب؟ ثم ماذا عن الصحاب؟ ما أخبارُ عبد الرزاق ، وفؤاد ، ويوسف ، وإبراهيم ، وكنعان؟ علمتُ أنهم أمسوا من ضحايا هذا الزمن العنين. أحدهم ابتلعته رتابة الأيام ، وآخر ترك ريشته على طاولة في خمارة قديمة وغرق في أم كلثوم ، وآخران كانا في السجون ، أما الأخير فلست أدري أما يزال يكتب قصائد سريالية على الجدران؟
كان صاحبي يحبُ الشعرَ .. كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد. بعدها عبرنا أجملَ الأيام وأشدها خيبة وإيلاما. وها أنذا أسألُ الطرقات الحزينة ، أسألُ رشاشات الضوءِ في الحواري العتيقة ، أسألُ السماء: هل منكم من رأى صاحبي؟ لا تسألوني عن أوصافه .. كان صاحبي يحبُ الشعرَ ، يحبُ بكارة الأشياء.
قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
"بيد أن العمرَ يمضي"
طاغور
ومضى صاحبي ..
طوته سنون صلصالها من جحود ونسيان ، وأمسى في ذاكرة الصحاب حدثا قديما لا يُشتهى. غابتِ العيونُ عن وجههِ ، وغابَ في الإهمال عن الأوقاتِ الجميلة. بيد أنه ما يزالُ في ذاكرتي ، فوق صفحةِ الماءِ ، حيث كنا وجهين أديمهما من نضارةِ الصباح ، وحيث ينداح لألاء الشمس دوائر كلما رمينا حصاة على وجهينا فوق سطح الماء.
وصار أن مضى صاحبي في متاهة الغياب. امتطى صهوة الخدر في أقبية لندن وحلق في فضاء من مسك وعنبر.
- " أيرس .. يا عرش النشوة ، يا حلمي المجنح ، أما آن لنا أن نلجَ بوابة المطلق؟ "
وهكذا يا صاحبي ولجت بوابة العدم.
كان صاحبي يحبُ الشعرَ ، كما يحبُ الأطفالُ الدهشة ، كما النجومُ تحبُ عتمة المساء.
البداية كانتْ شعراً خالصا. ذات مرة قال لي : " في البدء كان الشعر. كان مخبوءاً في العيون البدائية. كان ذلك قبل أن يكونَ الكلام ، ويصير للبحار سماء ، وللسماء نجوم وأطيار. ثمة ، لست أدري أين ، ربما في مملكة الله ، كان أول الشعر. "
أتذكر ، يا ملاء الأمس ، أتذكر سيرنا الطويل في ليل دمشق المحمل بالوعود؟ نجدل الأفكار البكر بالشوق والجنون. لو تدري كم كنت مغرما بقراءاتك الشعرية عبر عتمات الطريق. هو ذا صوت أمل دنقل أسمعه عبر صوتك المتمرد الحزين.
" آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهضُ في وجهِ الشروق
ربما ننفقُ كلَّ العمر .. كي ننقبَ ثغرة
ليمرَ النورُ للأجيال .. مرة!
ربما لو لم يكنْ هذا الجدار ..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!! "
ها أنذا أسألُ صاحبي .. أسألُ دروبَ المساء ، أسألُ بيته القديم ، أسألُ السماء. هل منكم من رأى صاحبي؟ لا تسألوني عن أوصافه. يكفي أن أقولَ لكم : كان صاحبي يُحبُ الشعرَ ، يحبُ بكارة الأشياء.
عن نفسي سأخبرك . سنونٌ مضَتْ وأنا أمضغُ كالقاتِ خارجَ أسوار الوطن . حسبْتُ أنني ممن يجيدونَ البحث عن خاتم سليمان ، ولم أحظَ إلا بالخيبة والاهتراء . والآن ، ها قد عدت إليكم مزقا من أحلام قديمة .. بقايا من ذكريات.
لقد عدت يا صاحبي ، فأين أنت؟ تعالَ ، لا تجيء. لأن شرطَ لقائنا أن نعودَ كما كنا شجرتين باسقتين من أحلام وعطاء.
أينَ أنتَ يا صاحبي؟
أصحيحٌ أنَّ ما كان بيننا وبين الشمس من وعودٍ قد غابَ وراءَ قسوةِ الجدار؟ أصحيحٌ أنْ ليس لنا في وعودِ الغدِ مطرحٌ؟ وأنَّ ما كانَ ، كانَ محضَ سراب؟ ثم ماذا عن الصحاب؟ ما أخبارُ عبد الرزاق ، وفؤاد ، ويوسف ، وإبراهيم ، وكنعان؟ علمتُ أنهم أمسوا من ضحايا هذا الزمن العنين. أحدهم ابتلعته رتابة الأيام ، وآخر ترك ريشته على طاولة في خمارة قديمة وغرق في أم كلثوم ، وآخران كانا في السجون ، أما الأخير فلست أدري أما يزال يكتب قصائد سريالية على الجدران؟
كان صاحبي يحبُ الشعرَ .. كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد. بعدها عبرنا أجملَ الأيام وأشدها خيبة وإيلاما. وها أنذا أسألُ الطرقات الحزينة ، أسألُ رشاشات الضوءِ في الحواري العتيقة ، أسألُ السماء: هل منكم من رأى صاحبي؟ لا تسألوني عن أوصافه .. كان صاحبي يحبُ الشعرَ ، يحبُ بكارة الأشياء.