المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سحر المساء



مصطفى لغتيري
29/10/2006, 12:13 AM
كانوا ثلاثة ورابعهم البحر, اجتذبهم سحر المساء نحو الشاطئ.. في قلب كل منهم أمنية, توشك على التحقق. ليست هذه الأمنية سوى احتضان أعينهم لمشهد احتجاب الشمس. قدروا أن لحظة الغياب لا تضاهى. الاحمرار الناضح من تلابيب القرص حين يوشك على الرحيل, ألهب عواطفهم, فصمموا على المشاهدة..في انتظار اللحظة الموعودة, تجاذبوا أطراف الحديث. البحر – بطريقته – يشاركهم لعبة الانتظار.. باستمرار يبعث نسائم تذكي في نفوسهم نشوة التوقع.. الشاطئ فارغ, موحش.. وحده صوت انكسار الموج يلعلع في الأجواء.. في أوقات متقاربة, يرسل كل منهم بصره في اتجاه الأفق البعيد, يستبطئ الشمس المستقرة في عليائها.. أشعتها لا تزل تحتفظ ببعض العنفوان, كلما تطلعوا نحوها تعشي أبصارهم. فلم يكن بد – حينئذ – من تفاديها.
فجأة أثار أحدهم انتباه رفيقه إلى شيء ما يتقاذفه الموج.. من موقعهم على الشاطئ, يلوح ككتلة سوداء مطموسة المعالم.
- أنظر في هذا الاتجاه, هناك شيء ما في أعماق البحر.
رد أحد مرافقيه :
- قد يكون إحدى علامات شباك الصيد.
رمقه بنظرة متشككة, ثم عقب مجادلا.
- لا, لا يمكن ذلك.. إنه – باستمرار – يغير مكانه.
سيماء الانتباه تربعت على وجوههم, لم يسعفهم تمددهم على الرؤية الواضحة. هبوا واقفين, اقتربوا من المياه. أعناقهم اشرأبت نحو الجسم الطافي, محاولين اكتناه سره, أعينهم لا تبارحه. بدا لهم يدنو تدريجيا من الشاطئ كلما تقدم نحوهم, كبر حجمه. تأجج الفضول في أعماقهم. ألسنتهم داهمها الخرس. فقط عيونهم جحظت, وهي ترنو إلى البعيد, احتمالات شتى انتهبت أذهانهم. بعد لحظات من الصمت, اقترح أحدهم.
- لم لا يتطوع أحدنا لاجتلاء الأمر ؟
أجاب الآخر :
- وما يدرينا أن الأمر يستحق.
قال ثالثهم : ما علينا إلا الانتظار.
في تلك الأثناء, لاحظوا أن الجسم الطافي ينحرف نحو اليسار. انجذبوا نحوه. أقدامهم تحركت في
اتجاهه.قوة غامضة فرضت سطوتها عليهم, فتقلص العالم من حولهم. أضحى – حينها – نقطة واحدة, تحتضنها أبصارهم.
تدخل أول من وقع بصره على الجسم :
- يبدو انه صندوق .
عقب أحد مرافقيه : - إنه يتحرك ببطء . ربما يكون ممتلئا.
كلمة ” ممتلئ ” رانت بثقلها على عقولهم, انتعشت مخيلاتهم, فارتسمت في أعماق كل منهم صور تستكنه أعماق الصندوق.
في غفلة منهم, تسلل غبش أول الليل, الرؤية أضحت ضبابية, شيئا فشيئا ابتلعت الظلمة جزءا من الجسم, أصبحوا بصعوبة يقتفون أثره. صاح أحدهم :
- لم أعد أرى شيئا .
قال أول من رأى : - دقق النظر, إنه يكاد يصل فقط يحتاج دفعة قوية .
حاول الذي وهن بصره أن يمعن النظر, عله يرى شيئا, وحين خاب سعيه, تعلق برفيقه, محاولا الرؤية من خلاله.

عيل صبر الرفيق الثالث, فتساءل :
- لم لا يتقدم ؟ يبدو أنه عالق.
قبل أن يحير صاحبه جوابا, انبثقت موجة كبيرة من ثنايا المارد الأزرق, الذي يبدو أنه استمرأ لعبتهم, فشاركهم فيها..طوحت الموجة بالجسم نحو الشاطئ..حثيثا هرعوا نحوه. غاصت أقدامهم في المياه فتبللت بعض ملابسهم..حين أشرفوا عليه استلقت علامات الخيبة على سحناتهم, لم يكن الجسم سوى برميل تافه..بعد جهد جهيد فتحوا سدادته. تدفق من أحشائه سائل أسود, يبدو أنه زيت محروق. تبادلوا النظر في ما بينهم, ثم تقهقروا نحو الرمال اليابسة.. حينئذ تذكروا, بحسرة, منظر الغروب الذي فاتهم.التزموا الصمت برهة من الزمن. وبشكل مفاجئ انفجرت من أعماقهم قهقهات قوية. امتزجت بهدير موجة انكسرت على الشاطئ. بعد هنيهة انكبتت ضحكاتهم. لاذوا بالصمت من جديد, وهم يتسللون في جنح الظلام, مغادرين البحر.. تصاحبهم أنفاس ندية، تخالطها أصوات أمواج شاردة. ما فتئت تتلاشى, حتى أضحت مجرد وشوشة, فاستقرت – إلى حين – في مسامعهم.

صبيحة شبر
29/10/2006, 12:56 AM
الاخ المبدع مصطفى لغتيري
اراد الاصدقاء شيئا
ولكن البحر لم يتح لهم ان يتمتعوا برؤية منظر
الغروب الساحر
وجعلهم ينشغلون
بصندوق به سائل اسود
يا لظلم المقادير
قصة ممتعة اسعدتني
تحية لابداعك الجميل

مصطفى لغتيري
29/10/2006, 03:06 PM
الصدبقة المبدعة صبيحة شبر.
دوما تسعدينني بتعاليقك المحتفية بما هوجميل وعميق في النصوص.
دمت مبدعية متذوقة للجمال.
تحياتي.

اشرف الخريبي
07/11/2006, 01:17 PM
هو سحر المساء وسحر الحدوتة الشيقة الماتعة
ايها الغالى
استمتعت بهذا النص بين مد وجزر طوال الوقت
محبتى لك


اشرف

مصطفى لغتيري
07/11/2006, 10:16 PM
العزيز أشرف.
شكرا على مرورك الطيب ، وكلماتك الأخوية.
متمنياتي لك بالتوفيق في مسيرتك الإبداعية.
تحياتي القلبية.

الشربيني المهندس
07/11/2006, 11:43 PM
مصطفي لغتيري
استاذ ـ كاتب
وانا اشهد بذلك امام سحر المساء
لقد كان ذلك امنيتي الكبري ان اتفرغ لمشاهدة الغروب
اها ارهاصات الميلاد والرحيل
كانوا ثلاثة ورابعهم البحر, اجتذبهم سحر المساء نحو الشاطئ..
في قلب كل منهم أمنية, توشك على التحقق
وغازلتهم الشمس
وداعبهم البحر بالاعيبه
وضحك عليهم مصطفي لغتيري والزمهم الصمت
فالتزموا الصمت برهة من الزمن. ولكن بشكل مفاجئ انفجرت من أعماقهم قهقهات قوية. امتزجت بهدير موجة انكسرت على الشاطئ. بعد هنيهة انكبتت ضحكاتهم. لاذوا بالصمت من جديد, وهم يتسللون في جنح الظلام, مغادرين البحر.. تصاحبهم أنفاس ندية، تخالطها أصوات أمواج شاردة. ما فتئت تتلاشى, حتى أضحت مجرد وشوشة, الامبراطور قادم يا رجالة .

مصطفى لغتيري
08/11/2006, 06:11 PM
مهندسنا الرائع.
ما فتئت -يوما بعد يوم- تفاجئني بخفة دمك ،وسحر عبارتك ،وقدرتك اللامتناهية على الحب والعطاء.. احتفاؤك بنصوصي يسعدني كثيرا ، خاصة وأنه من مبدع حقيقي ،أبدع ويبدع في لعبة الخيال بشكل لا يضاهى.
دمت لنا يا هندسة صديقا عزيزا ،ومبدعا جميلا.
تحياتي القلبية.

زاهية بنت البحر
25/11/2006, 11:00 PM
لودققنا التفكير في هذه الحياة , لوجدنا أنَّ هناك أمورًا جانبية كثيرة , تأخذنا من الأمر الأهم الذي يكون نجم الساعة التي نحن فيها إلى الأمرالأقل أهمية ,طمعًا منا بمكسب طارئ كما يخيل إلينا, وعندما نعود إليه نجده إما أفلت من أيدينا, أو بات أقل أهمية مما كان عليه ,لذا فإعطاء كل شيء حقه من الاهتمام دون التعدي على الأهم أمر ضروري كي لانصاب بإحباط أوخسارة تكون كبيرة أحيانا لاسمح الله فنعود بخفي حنين
دمت مبدعًا أخي المكرم مصطفى لغتيري
أختك
بنت البحر

مصطفى لغتيري
02/12/2006, 11:45 PM
أختي زاهية .
شكرا على مرورك الطيب وتعليقك الجميل.
تحياتي القلبية.

هشام السيد
03/12/2006, 01:24 AM
أخي العزيز مصطفى نجيب محفوظ لغتيري
ما هذه البلاغة ، وهذه العظمة ، وهذه اللباقة ، وهذه الكياسة ؟؟؟
أنت مبدع بدرجة فنان ، وكاتب بدرجة أستاذ ، ولغتيري بدرجة مصطفى .:)
أقترح أن تغير لقبك المهني من( أستاذ - كاتب ) ، إلى ( كاتب فنان - أستاذ نبهان ) :)
لا تسعفني قريحتي في وصفك بما تستحق ، فأنت أكبر من كلماتي ، وأعظم من تعليقاتي .
تحياتي إلى ديكنز العربي .

مصطفى لغتيري
03/12/2006, 11:23 AM
أخي هشام.
شكرا على كرمك.. شهادتك هاته أعتز بها ، وأتمنى أن أكون عند حسن الظن.
تحياتي القلبية.

محمد فري
03/12/2006, 01:17 PM
العزيز مصطفى
انتبهت إلى هذا النص مؤخرا
وشد أنفاسي وأنا أتابع مع الثلاثة ذلك الشيء المجهول الذي سيقذف به البحر
وعلمت أن عنصر التشويق هنا قد بلغ جماليته المطلوبة
وأدركت بعد ذلك أن الرهان مثير هنا ومتعدد ( وحتى وإن لم تقصد ذلك )
فالمجهول دائما يسحرنا بضبابيته، والأشياء التي نعجز عن اقتحامها هي
الأكثر إثارة..بل ربما قد تشغل نظرنا عن أشياء أكثر سحرا مثل انشغال
الثلاثة عن جمال البحر وغروبه بصندوق يكتشفون تفاهته في الأخير..
الرتبة الرابعة للبحر ذكرتني برتبة أخرى عالقة في الذاكرة..غير أن البحر هنا كان
قوة فاعلة رئيسية
شكرا للمتعة
ومودتي الصادقة

محمــد فـــري

مصطفى لغتيري
03/12/2006, 03:55 PM
العزيز محمد فري.
شكرا على قراءتك العميقة للقصة.
لقد تم الاتصال بي من طرف لجنة الأنشطة الثقافية بكلية الآداب بالدارالبيضاء من أجل تنظيم لقاء ثقافي حول مجموعتي الأخيرة "مظلة في قبر" ،ولقد اقترحت إسمك للمشاركة في هذا اللقاء ،لإلقاء قراتك النقدية للمجموعة..
وقد حاولت الإتصال بك عبر الهاتف فلم أفلح في ذلك.. لذا إذا لم يكن لديك مانع للحضور ،فأرجو أن تخبرني بذلك لتأكيد مشاركتك.
اللقاء سيعقد خلال هذا الشهر ،واليوم سيحدد بعد تأكيد المشاركات .
ولك مني كل التقدير والاحترام .
تحياتي القلبية.