المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السلم ... صياغة قصصية على لا وعي الطفولة .



الدكتور ياسر منجي
29/10/2006, 04:35 PM
السلم " 1 "
- ربما إذا قرأت المعوذتين مع آية الكرسي ؟!!!
إنني أعرف عدد درجات السلم الموصلة إلى شقتي ، و أستطيع حتى في الظلام أن أتجاوزها في قفزات معدودة ...... اللعنة ...... لماذا ترتبط ليالي الشتاء دائما بانقطاع التيار الكهربي ؟!!
و لكن ماذا لو ..؟!! .. آسف إنني لست ضعيف الإيمان ، و لكن أليست العفاريت كائنات خارقة لها القدرة على قراءة أفكارنا ؟ .. ( يعرفون أنك خائف .. أنت ترتعد هلعا و أذناك تفيضان بالدقات الهادرة لصدرك ) .. فرق بين أن تقرأ المعوذتين و أنت مسترخ مطمئن ، و بين أن تترك مهمة قراءتها لعقلك الباطن من فرط شلل عقلك الواعي رعبا .. ( وعيك غارق في الظلام الرهيب الذي ينتظرك ليحتويك في غياهب بير السلم ) .
- قل يا حبيبي : " قل أعوذ برب الفلق " ...
كانت أسعد اللحظات في حجر جدتك المكتنز الوثير و هي تستقبلك بفرحة عينيها الكفيفتين لتعلمك من قصار السور كل صباح
- ما تضربش قطة و لا كلب ، إذا شفت قطة سوده قول : " بسم الله الرحمن الرحيم "
كانت عيناها المليئتان بالعتمة تشعان بفرح يغمرك و هي تفتح لعينيك الطفلتين عوالم لم يمنعها عماؤها من أن تجوبها معك بذهن يدخر آلاف القصص المبهرة ، و حب بلا حدود ينسيك حتى غياب أمك في المستشفى بعد ولادة أخرى متعسرة لأخ آخر مات عقب ولادته مثل سابقه .
- لماذا يأخذون أمي في كل مرة ؟ متى سوف ترجع ؟ ما معنى " المستشفى " ؟
كانوا يجيبون إجابات مقتضبة لا معنى لها ثم يتهامسون حينما يظنونك قد نمت .. كلمات يحاولون أن يجعلوها عادية يومية بينما يفضحهم الهلع الناضح من أصواتهم
- الأوضة اللي ولدت فيها معمورة ... أختها اللي تحت الأرض ضربت العيل ... أم عزت المغسلة شافت صوابع زرقاء على جسم الولد الميت ... فوزية بتحلف إن البخور ضرب في الأوضة ساعة الولادة ... الولد الأولاني مات مخنوق لما سابته لوحده .
و عندما تتوسل إلى خالتك كي تأخذك معها إلى المستشفى تعرف أنها لن ترفض طلبك ... تحملك على كتفيها النحيلتين رغم اعتراض الناس بأنك قد كبرت و أصبحت في الثالثة
- الله أكبر .. خمسة في عينكم . . أمه غلبانة و ما بيعيشلهاش عيال .. هو اللي حيلتها .. كان سخن و عيان طول الليل .. خمسة في عينك .. " قل أعوذ برب الفلق "
قالتها خالتي و هي تدفع إحداهن بعنف لكي تنزل من الحافلة في طريقنا إلى المستشفى
- حاسبي ياختي ... الله أكبر عليكي أمه بيموت لها العيال .. " قل أعوذ برب الفلق "
أندفع منفلتا من خالتي و صراخها الملح بأن أعود إليها كيلا أتوه .. أمرق من خلال سلم كبير أبيض يفوح برائحة الفنيك .. يلتف لكي يذيبني في غابة رخامية بيضاء ليس لها حنان حجر جدتي و لا أمان كتف الخالة .. أرتعد .. أنكمش في ركن السلم .. يمرق جسد ضخم مكتنز لقط أسود يزيد رخام السلم برودة .. أنفجر في البكاء .. يطل سواد آخر حبيب ، يطل السواد الحبيب مع جلباب الخالة ليحتضنني بيد و يحمل باليد الأخرى سلة أطعمة .. ندور يمينا ثم يسارا فنجد أمي في عنبر يكتظ بالنسوة اللائى أجهدتهن صراعات الولادة .
- خالتي .. لماذا يعلقون أمي من قدميها هكذا ؟!!!
تنطلق ضحكة فاجرة من امرأة يبدو من شكلها و سلوكها أنها تقيم منذ زمن بالعنبر إقامة فندقية ممزوجة بهالة من البلطجة .. علامات الصحة على وجهها و جسدها رغم ارتدائها ملابس المرضى .
تنصرف مع خالتك بعد انتهاء الزيارة و تعودان للبيت .
- خالتي .. لماذا يعلقون أمي من قدميها هكذا ؟!!
- لا تخف يا حبيبي .. إنهم فقط يميلون بالسرير لأعلى حتى يثبتوا لها " بيت الولد " !!!!!!!
تدلفان إلى مدخل البيت المترب .. الدرابزين الخشبي مثبت فيه مسمار صديء عند نهاية بسطة السلم الأولى .. تواجهكما غرفة " رجاء " و زوجها بائع الحشيش .. فوق بابهما شراعة ذات ثلاث قطع زجاجية ملونة تلمع بضوء خافت و ضحكات ماجنة ..بينما صوت الخالة ينسل في ظلمة السلم :
- بسم الله الرحمن الرحيم ، ع الشمال و ع اليمين .
تستدير للخلف فتلمح القطع الزجاجية البراقة بينما تواجهكما غرفة الخبيز ذات الفرن الطيني و حوائط البوص .. الحاجة " حسنة " بتسمع العفاريت ( بتبرجس ) فيها بالليل .. " قل أعوذ برب الفلق " .
- إفتحي يامة
- أختك ازيها ؟
- الحمد لله ، ربنا ستر .. الداية بنت ال... كانت حتموتها .
لماذا تموت في مكانك رعبا ؟ لماذا تشعر بأن قدميك لم تعودا ملكك و لماذا يتشنج حلقك من فرط الجفاف ؟! .. لماذا دائما كلما حاولت مواجهة الخوف تضبط نفسك متهما بالهروب منه ؟! .. لماذا دائما تتوقع ما لا يحمد عقباه ؟!
إنه يسخر مني ... قطعتان من الزجاج البراق .. أنا أعلم انه يتربص بي في ظلام السلم .. يتركني حاليا ليتسلى بعذابي حتى تحين اللحظة التي يفتك فيها بي .. إنه ماكر .
ضحكات ماجنة تتهادى من شقة المهندس الذي يجاورك في نفس الطابق .
ربما إذا أطلقت ساقاي للريح إلى أسفل حيث الشارع .. أستنجد بالناس .. استأنس بعواميد النور ؟!! ..( يا لك من أبله عديم النضوج ) .. قطعتان من الزجاج البراق .. ( هل نسيت أنك قد قطعت أكثر من نصف مسافة السلم ؟!! .. الأسهل عليك أن تصعد لأعلى .. هذا إذا كنت تستطيع !!! )
" قل أعوذ برب الفلق " .. (..هو يعلم أنك خائف .. ترتعد و أن شفتيك تنطقان بينما قلبك يقاسي آلام المصروعين في واد آخر .. أنت لا تملك الاختيار و لا تستطيع .. أنت حتى لا تملك الاختيار الحتمي في أن تبقى مكانك .. حاول الهرب!!! ) .
" قل أعوذ برب الفلق " .. ربما لو أستعد بإخراج مفتاح الشقة من جيب البنطلون .. ( ينظر إليك بعينيه الزجاجيتين البراقتين نظرة ساخرة واثقة من سهولة الفتك بك ) .. ما تضربش قطة و لا كلب .. إذا شفت قطة قول : بسم الله الرحمن الرحيم .
- ما هذا يا أستاذ ؟ ما هذا العرق الغزير ؟
قالها جارك المهندس عندما فوجئ بك متخشبا أما م شقته فوق السلم فور عودة التيار الكهربي .
- خش يا منيل . قالتها صديقته التي تتردد عليه في بعض الليالي لبعض الشئون الهندسية
- خش يا منيل .
قالتها ممطوطة أنثوية و هي ترمقك بنظرة متفحصة و كأنها تعنيك بال ( منيل ) .. كانت على وشك مغادرة الشقة .. توجهت إليك مباشرة بالحديث و هي تميل لأسفل لتلتقط قطا أسود يملكه صديقها و تضمه لصدرها المكتنز :
- أصله دايما يسهينا و يخرج برة الشقة .. ما صدقت النور رجع عشان أخرج ( أجيبه ) .. ما تتفضل تستريح يا أستاذ ، واضح انك ( تعبان ) .. إتفضل شوية شاي ( سخنين ) في الليلة البرد دي
- شكرا ... و لكنني لا أستطيع !!

محمد فؤاد منصور
08/07/2007, 02:10 AM
الأخ الدكتور ياسر منجى
أحييك على هذا النص الثرى والذى لاأعرف كيف هان على النقاد أن يدعوه يمر حتى يصل إلى الصفحة الأخيرة دون أن يعلق عليه أحد وهاأنا أدفع به من جديد لعله يحظى بما يليق به من حفاوة القراء والنقاد .قصة مكتملة الأركان تعد نموذجاً جميلاً لفن القص الذى لاشك أن الكاتب يملك أدواته ببراعة وإقتدار ، لقد جعل فرائصى ترتعد فرقاً وانا أتابع حالة الهلع التى مر بها بطل هذه القصة وهو يعبر السلم المعتم ، لغة سهلة محملة بشجن جميل أضافت لها اللغة الدارجة عبقاً خاصاً.. أنتظر المزيد من إبداعاتك أيها الفنان القدير وأعدك أن نستقبلها بما يليق بمبدع فى مكانتك .لك تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl: :fl: :fl:

معتصم الحارث الضوّي
08/07/2007, 02:56 AM
لوحة شعبية رائعة من كاتب قدير .

فائق تقديري لإبداعك المتميّز

الدكتور ياسر منجي
08/07/2007, 08:43 PM
البديع، سابغ الكرم الأستاذ/ محمد فؤاد منصور
حقيقة لا أستطيع أن أصف مدى سعادتي و أنا أقرأ كلماتك الآسرة التي أسبغت فيها من فيض يراعك على هذا العمل.:fl:
و لو لم يكن من تقدير له بعد طول انتظار سوى مروركم الكريم لكفاه و زيادة.
و بالمناسبة، فالنص المدرج أعلاه هو واحد من مجموعة قصصية تحت الطبع حاليا، حاولت أن أتناول من خلالها بالمعالجة فكرة إحباطات الطفولة و صدر المراهقة، و هي بعنوان "و لكني لا أستطيع".
خالص احترامي.

الدكتور ياسر منجي
08/07/2007, 08:47 PM
سفيرنا في المهجر، الأستاذ/ معتصم الحارث
ها نحن نلتقي مرة أخرى في موضع آخر من المواضع التي توالي دوما إثرائها بنشاطك الدائب و كرم مساهماتك القيمة في شتى المجالات العلمية منها و الأدبية.:wel:
شكرا يا أخي للمتابعة و دمت لنا
خالص احترامي