المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البراجماتية



Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
29/10/2006, 04:47 PM
البراجماتية*

شهدت الدراسات اللغوية في السنوات الأخيرة تزايدا في الاهتمام بالبراجماتية Pragmatics. ومن بين أسباب تزايد هذا الاهتمام هو أنه جاء كرد فعل لتناول عالم اللغة الأمريكي نعوم تشومسكي للغة باعتبارها أداة مجردة ، أو قدرة عقلية منفصلة عن استخدامات اللغة ومستخدميها والوظائف التي تقوم بها. وكرد فعل من جانب "علماء الدلالة التوليديين generative semanticists ([1]) ضد نظرية تشومسكي ، اتجهوا إلى كم هائل من الفكر الفلسفي الذي يوضح أهمية استخدامات اللغة في فهم طبيعتنا. وحتى يومنا هذا فإن معظم المفاهيم المهمة في البراجماتية قد تم استمدادها بصورة مباشرة من فلسفة اللغة. وعندما تم إرساء نطاق أوسع لعلم اللغة في الولايات المتحدة اقتداء بأوروبا ، سرعان ما اتخذت البراجماتية حياة مستقلة لها ، وذلك لأن المسائل التي تتعرض لها تتسم بأنها مثيرة للاهتمام ، وبأنها مهمة في حد ذاتها.

نشأة المصطلح ومعناه العام

قبل أن نبدأ في استعراض المقصود بالبراجماتية بشيء من التفصيل ربما كان من المفيد أن نلقي بعض الضوء على نشأة المصطلح.

يرجع الاستخدام الحديث للمصطلح "البراجماتية" Pragmatics إلى عام 1938 عندما استخدمه الفيلسوف تشارلز موريس Charles Morris . وكان موريس معنيا برسم الخطوط العريضة لعلم الرموز أو العلامات ، أو السِّيْموتِيَّة Semiotics. وفي إطار السيموتية قام موريس بالتفرقة بين ثلاثة فروع مختلفة ، وهي :

(1) نَظْم الجملة Syntax أو Syntactics (دراسة نَظْم الكلام) باعتبار أنه دراسة "العلاقة الشكلية بين الرموز أحدها بالآخر".

(2) علم الدلالة Semantics وهو دراسة "علاقة الرموز بالأشياء التي تشير إليها".

(3) البراجماتية Pragmatics وهي دراسة "علاقة الرموز بمفسري هذه الرموز".([2])

ويشرح الفيلسوف واللغوي الأمريكي ردولف كارناب Rudolf Carnap ([3]) مجال كل من هذه الفروع الثلاثة فيقول إنه في مجال البحث اللغوي لو أشرنا صراحة إلى المتحدث أو مستخدم اللغة ، فإننا نكون نعمل في إطار حقل البراجماتية. أما إذا قمنا فقط بتحليل التعبيرات وما تشير إليه ، فإننا ننتقل إلى مجال علم الدلالة. وأخيراً ، إذا ابتعدنا عما تشير إليه العبارات وحللنا فقط العلاقات بين التعبيرات ، فإننا ندخل دائرة نظم الجملة.

وبتبسيط شديد ، فإنه يمكننا القول إنه إذا كان نظم الجملة يبحث في كيفية ارتباط الكلمات ببعضها البعض ، وإذا كان علم الدلالة يختص بدراسة المعنى ، فإن البراجاماتية تختص باستخدام اللغة من وجهة نظر وظيفية ، بمعنى أنها تحاول تفسير أوجه التراكيب اللغوية بالإشارة إلى عوامل غير لغوية.([4])

مجال البراجماتية

وسَّع بعض العلماء مثل موريس من نطاق البراجماتية عندما قال إنها "تتناول الجوانب الحيوية biotic للسيميوتية ، أي جميع الظاهرات النفسية والبيولوجية والاجتماعية التي تحدث عند قيام الرموز بوظائفها".([5]) وهذا النطاق أوسع بكثير مما يندرج حاليا تحت البراجماتية اللغوية ، نظرا لأنه يشتمل على ما يعرف الآن باسم علم اللغة النفسي([6]) ، وعلم اللغة الاجتماعي([7])، وعلم اللغة العصبي([8]) ، وأشياء أخرى كثيرة.

بينما يرى بعض العلماء الآخرين مثل اللغويَّيْن كاتز ، و فودَرْ Katz an Fodor أن للبراجماتية مجالا أضيق كثيرا يقتصر على دراسة المبادئ التي تحكم استخدام اللغة ، وأنها لا علاقة لها بوصف التراكيب اللغوية. وإذا ما أردنا ربط هذا التحديد بالتفرقة التي قام بها تشومسكي بين القدرة أو الكفاية اللغوية Competence([9]) والأداء اللغوي Performance ، فإننا يمكن أن نقول إن البراجماتية تُعني فقط بمبادئ استخدام اللغة المتعلقة بالأداء فحسب.([10])

ولتوضيح العلاقة بين البراجماتية وغيرها من مستويات التحليل اللغوي فإننا نورد تلخيصا لما يراه كاتز ، و فودَرْ([11]) من أنه حيث ينتهي مستوى نَظْم الجملة ، والفونولوجيا يبدأ مستوى علم الدلالة ، ويلي ذلك مستوى البراجماتية ، ويوضح الشكل التالي هذه العلاقة.



نَظْم الجملة ، الفونولوجيا (أ دراسة النظام الصوتي)

Syntax and Phonology

علم الدلالة Semantics

البراجماتية Pragmatics




أما لفينسون ([12]) فيذكر أن البراجماتية تقع حيث ينتهي علم الدلالة وحيث يبدأ علم اللغة

الاجتماعي وربما علم اللغة النفسي أيضاً. ومرة أخرى ، يمكننا تصوير هذه العلاقة كما يلي:



علم الدلالة Semantics

البراجماتية Pragmatics

علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics

(علم اللغة النفسي) (Psycholinguistics)




والآن ننتقل إلى استعراض بعض تعريفات البراجماتية :

من تعريفات البراجماتية

(1) من بين التعريفات المحتلمة للبراجماتية([13]) هي أنها دراسة جميع جوانب المعنى التي لا تحتويها أولا تنتظمها النظرية الدلالية. ولكن هذا التعريف يستلزم تحديد الإطار الواسع لـ"المعنى" والذي يعتمد عليه التعريف. وهذا المعنى الواسع ينبغي أن يشمل المحتوى الساخر ironic ، والمجازي (أو الاستعاري) metaphoric ، والضمني (أي الخاص بالإيحاءات غير المباشرة) implicit للاتصال والكامن في القول المنطوق أو المكتوب ، ومن ثم لا يمكن قصره على المحتوى التقليدي لما يقال. وبعبارة أخرى ، فإن مجال البراجماتية هو المعنى (بأوسع معانيه) ناقصا أو مطروحا منه الدلالة (أي المعنى كما يحدده علم الدلالة).

(2) ومن بين تعريفات البراجماتية ما يقوم على التفرقة بين معنى الجملة sentence ومعنى المنطوق utterance ، بحيث يختص علم الدلالة بدراسة معاني الجمل بينما تقوم البراجماتية بدراسة معاني المنطوقات. وفي هذا التعريف نستخدم "المنطوق" بالمعنى الذي أشار إليه بار – هيلل Bar – Hillel باعتباره جملة (أو في بعض الأحيان سلسلة أو مجموعة من الجمل) مرتبطة بسياق معين ، وهو على وجه التحديد السياق الذي يتم نطق الجملة أو مجموعة الجمل فيه.

ويقبل كثير من اللغويين هذه التفرقة ولو بصورة ضمنية. ولكن هناك مشكلة تكتنف هذا التعريف تتمثل في أنه في بعض الحالات النادرة يضم معنى الجملة جميع أوجه معنى المنطوق ، وذلك عندما يعني المتحدث بالضبط ما يقوله ، لا أكثر ولا أقل. وفي هذه الحالة فإن المضمون أو المعنى لابد وأن يُعزى إلى كلا علم الدلالة والبراجماتية معا.

(3) ومن تعريفات البراجماتية أيضا ذلك التعريف الذي يتخذ من الربط بين المعنى والسياق أساساً له. ومؤدى هذا التعريف أن علم الدلالة يختص بالمعنى خارج إطار السياق ، أو بالمعنى غير المعتمد على السياق ؛ أما البراجماتية فتختص بالمعنى في السياق. وعلى هذا فإن البراجماتية هي دراسة العلاقات بين اللغة والسياق، وهي العلاقات الأساسية اللازمة لفهم اللغة. وعبارة "فهم اللغة" هنا مستخدمة بالمعنى الذي يقصده العاملون في مجال الذكاء الاصطناعي لجذب الانتباه إلى حقيقة أن فهم منطوق ما ينطوي على قدر أكبر بكثير من مجرد معرفة معاني الكلمات والعلاقات النحوية بينها. إذ إن فهم المنطوق يشتمل على القيام باستنتاجات تربط بين ما يقال بما هو مفترض بصورة متبادلة بين المتحدثين ، أو بما سبق قوله.

(4) ومن بين التعريفات الأخرى للبراجماتية هي أنها دراسة مقدرة مستخدمي لغة ما على ربط الجمل بالسياقات التي تُعتبر هذه الجمل مقبولة أو ملائمة فيها. وبمعنى آخر فإن النظرية البراجماتية ينبغي من ناحية المبدأ أن تتنبأ بالنسبة لكل جملة سليمة التكوين في لغة ما ، وعند قراءة دلالية معينة لها ، بمجموعة السياقات التي يمكن أن تكون هذه الجمل ملائمة أو مناسبة فيها.

(5) غير أنه من المشكلات التي تكتنف هذا التعريف أن المتحدثين بلغة ما لا يلتزمون دائما بالمعايير السائدة ، إذ إنهم قد يسيطر عليهم الغضب والانفعال فيصبح ما يقولونه "غير ملائم" في سياقات أو مواقف معينة.

مثال للمعرفة المتبادلة

ولتوضيح المقصود بالمعرفة المتبادلة ، فإننا نورد القصة التالية : أرادت (آية) أن تعطي (إسلام) هدية في عيد ميلاده ، فذهبت وأحضرت حصالتها ؛ وهزتها ولكن لم يصدر عنها صوت ؛ ولذلك فلابد من أن تصنع لـ (إسلام) هدية بنفسها.

ولكي يفهم القارئ أو السامع القصة السابقة ، فإنه لابد من أن يشارك الكاتب أو القائل الحقائق التالية : (1) أن الهدايا عادة تُشترى بالمال ؛ (2) أن الحصالات تُستخدم لحفظ النقود؛ (3) أن الحصالات تصنع عادة من مادة كثيفة مثل المعدن أو البلاستيك ؛ (4) أن النقود داخل وعاء مصنوع من مادة كثيفة تُصدر صوتا بصفة عامة عند هزها.

ويوضح المثال السابق كيف أن المعرفة المفترضة بين المتكلم والسامع أو الكاتب والقارئ تلعب دورا عظيما في فهم ما نقرأه أو ما نسمعه.

ولإلقاء مزيد من الضوء على دور السياق في البراجماتية ، يمكننا أن نقول إن البراجماتية ما هي إلا دراسة الدور الذي يلعبه السياق في المعنى الذي يقصده المتكلم أو المقصود من العبارة المنطوقة. والمقصود بالسياق هنا هو كل ما نستبعده من علم الدلالة فيما يتعلق بالعلاقات بين المعاني. وعلى هذا فإن البراجماتية تتعلق بأي جانب من جوانب المعنى لا يضمه علم الدلالة.



البراجماتية : مثال عملي

ربما أدت المناقشة النظرية المجردة لمجال البراجماتية إلى ترك القارئ دون أن يحيط إحاطة كاملة بطبيعة الظاهرات البراجماتية. ونقدم هنا مثالاً([14]) لعله يساعد على توضيح أنواع الحقائق التي تهتم بها النظريات البراجماتية. ولنأخذ محادثة بسيطة بين شخصين تتكون من ثلاث جمل ، ونسأل أنفسنا عن المعلومات التي تقدمها لنا هذه المحادثة ، أكثر مما يعطيه لنا المحتوى الدلالي للجمل المكوِّنة للمحادثة. وبتحديد أكثر ، يمكن أن نسأل عن النواحي الضمنية أو الإيحاءات التي تحملها الجمل عن السياقات التي تُستخدم فيها هذه الجمل. وهذه هي المحادثة التي سنرمز للمتحدِّثَيْن فيها بالرمزين (أ) ، (ب).

( أ ) : لكن هل يمكنك التفضل بالمجيء إلى هنا مرة أخرى الآن حالا ؟

(ب) : ولكني لابد أن أذهب إلى القاهرة اليوم يا سيدي.

( أ ) : إذن ما رأيك في يوم الثلاثاء ؟

ليس من الصعب أن نرى أنه لكي نفهم هذه المحادثة فإنه لابد من أن نقوم بعدد كبير من الاستنتاجات التفصيلية عن طبيعة السياق الذي نفترض أن المحادثة قد تمت فيه. وعلى سبيل المثال فإننا نستنتج الحقائق التالية :

(1) أن هذه الجمل ليست هي نهاية المحادثة (أو بدايتها).

(2) أن (أ) لا يوجه سؤالا إلى (ب) بل يطلب منه أن يذهب إليه في وقت الكلام (أو في وقت لاحق له مباشرة) ؛ وأن (ب) يوحي بأنه لا يستطيع ذلك (أو يفضل ألا يفعل ذلك) ؛ وأن (أ) يكرر الطلب مع تغيير الوقت إلى وقت آخر.

(3) أن (أ) يريد من (ب) أن يحضر الآن ، ويعتقد أن (ب) من الممكن أن يحضر ، ويعتقد أن (ب) ليس هناك بالفعل ؛ ويعتقد أن (ب) لم يكن على وشك الحضور من تلقاء نفسه ، ويتوقع أن (ب) سوف يرد إما بالقبول أو بالرفض ، وإذا قبل فإن (أ) سوف يتوقع أيضا أن يحضر (ب) ؛ ويعتقد (أ) أن طلبه يمكن أن يكون حافزا لـ (ب) لكي يذهب إليه ؛ وأن (أ) ليس في مكانة تسمح له بأن يأمر (ب) بالحضور ، أو أنه يتظاهر بهذا بمعنى أنه يتصرف كما لو كان ليس في هذه المكانة.

(4) أن (أ) يفترض أن (ب) يعرف أين يوجد (أ) ؛ وأن (أ) و (ب) ليسا في المكان نفسه؛ وأن أيا منهما ليس في القاهرة ؛ وأن (أ) يعتقد أن (ب) قد سبق له التوجه من قبل إلى المكان الموجود فيه (أ).

(5) أن اليوم الذي تتم فيه هذه المحادثة ليس الثلاثاء ، أو الأربعاء في الأسبوع نفسه (أو، على أقل تقدير ، هكذا يظن (أ) ).

(6) أن (أ) ذَكَرٌ (أو هكذا يعتقد (ب))([15]) ؛ وأن (ب) يعترف بأن (أ) يتمتع بمنزلة اجتماعية أعلى منه (أي من (ب)) [أو أنه يلعب دور من هو أعلى منزلة منه].

ومن الاستنتاجات الأخرى أن التفسير الطبيعي الذي يقوم به شخص يلاحظ هذه المحادثة أو يقوم بتحليلها ، هو أن (أ) ، (ب) يتحدثان تليفونيا وليس وجها لوجه.

ومن الأمور التي لا تخلو من طرافة حول فهمنا لهذه المحادثة هي أنه إذا كان (أ) يعـرف مقدما أن (ب) لا يستطيع التوجه إليه لسبب أو لآخر فإن موقفه أو مسلكه في هذه الحالة ينطوي على بعض المراوغة. أما إذ كان (أ) يعرف أن (ب) يعرف أنه يعرف أن (ب) لا يمكنه أن يحضر ، فإنه لا يمكن تفسير قوله باعتباره طلبا على الإطلاق ، بل إن قوله هذا يدخل في نطاق النكات ، إذا كان الشخص حبيس حجرة مغلقة بالمفتاح وضاع مفتاحها مثـلا؛ أو أن قوله يدخل في نطاق الاستهزاء ، إذا كان الشخص عاجزا عن الحركة ، كأن يكون ثملا في حالة سكر بَيِّن تجعله عاجزا عن الوقوف على قدميه أو السير.

ومن الواضح أن جميع الاستنتاجات السابقة لا تدخل في إطار المحتوى الدلالي للجمل الثلاث. ولكنها ، بالأحرى ، تعكس قدرتنا على أن "نحسب" من واقع الجمل المتتابعة الافتراضات السياقية التي تشير إليها هذه الجمل ، أي الحقائق الخاصة بالعلاقات المكانية ، والزمانية ، والاجتماعية بين المتحدِّثَيْن ، ومعتقداتهما ومقاصدهما وهما يقومان بتبادل حديث معين.

البراجماتية التطبيقية : البراجماتية وعلاقاتها بغيرها من المجالات

للبراجماتية تطبيقات محتملة في جميع المجالات التي تنطوي على كيفية فهم المنطوقات. وتضم هذه المجالات بعض المجالات التي لا تُعني بصورة مباشرة بالمشكلات العملية ، مثل دراسة البلاغة والأدب. غير أن هذه المجالات تضم أيضا مجالات تهتم بصفة أساسية بحل مشكلات الاتصال ، وهي المجالات التي يحتمل أن تكون تطبيقات البراجماتية فيها ذات أهمية عملية مباشرة. وهناك أربعة مجالات على وجه الخصوص تبدو واعدة في هذا المضمار ، وهي (1) علم اللغة التطبيقي (أي النظرية الخاصة بتعلم اللغات الأجنبية أو الثانية ، والممارسات الخاصة بها)([16])؛ (2) التفاعل بين الإنسان والآلة ؛ (3) دراسة صعوبات الاتصال في التفاعل وجها لوجه ؛ (4) دراسة صعوبات الاتصال التي تنشأ عندما لا يكون الاتصال وجها لوجه. وفي هذه المجالات الأربع ، فإن تطبيقات البراجماتية تَعِدُ بالحد من مشكلات الاتصال. وسوف نتناول كلا من هذه التطبيقات واحدة بعد الأخرى.

(1) علم اللغة التطبيقي :

يقوم تطبيق البراجماتية على مشكلات تعلم اللغة الأجنبية أو الثانية على افتراض مؤداه أنه بالرغم من العالمية المحتملة لعمليات مثل التضمين implicature([17]) ، فإنه من المحتمل أن تكون هناك فروق ذات مغزى ليس فقط في بنيات اللغات ولكن في استخداماتها أيضا.([18]) وحتى في الحالات التي تكون فيها سمات عالمية مشتركة كامنة في الاستخدام ، كما يبدو أنه الحال بالنسبة للتعابير المهذبة([19])، فإن هناك مجالا واسعاً لسوء التفاهم بين أشخاص ينتمون إلى ثقافات مختلفة. فعلى سبيل المثال ، فإن المتحدثين بالألمانية يبدون أكثر مباشرة بصورة ملحوظة من المتحدثين بالإنجليزية مثلا حينما يتعلق الأمر بالطلبات أو بالتعبير عن الشكوى.([20]) ومن هنا فهناك مجال لدراسة نظامية للبراجماتية التقابلية ، التي تحدد المجالات المحتملة لسوء التفاهم والتي تنشأ من افتراض المتعلم للغة أجنبية أن تراكيب معينة في اللغة التي يتعلمها سوف يكون لها نفس التضمينات implicatures ، والافتراضات المسبقة presuppositions ، والاستخدامات في المحادثة ، مثل بعض التراكيب الشبيهة بها في لغتـه الأصلية. وهناك الكثير من الأبحاث تجري حاليا حول مثل هذه الموضوعات.

(2) التفاعل بين الإنسان والآلة :

في مجال التفاعل بين الإنسان والآلة (أي دراسة الصعوبات التي يمر بها الإنسان في تعامله مع الحاسبات الإلكترونية) ، فإن للبراجماتية أيضا تطبيقات مباشرة. وتنشأ المشكلات في هذه الحالة من الحاجة إلى المزيد والمزيد من العاملين ذوي الخبرة بأجهزة الحاسبات الإلكترونية حتى يمكنهم استخدامها بنجاح. وإذا استطاع مبرمجو الحاسبات الإلكترونية أن يجعلوا اللغة المشتركة بين الآلة والإنسان تعمل بمقتضى أسس شبيهة باللغات الطبيعية وقواعد استخدامها ، فإن عصر الحاسب الإلكتروني لن يكون بحاجة إلى انتظار إعادة تعليم القوى العاملة وهو أمر بالغ الضخامة. ولكن تجنب هذا الانتظار يتطلب تحليلا مسبقا لخصائص استخدام اللغات الطبيعية ، وهو المجال الذي تَعِدُ البراجماتية بتقديم بعض العون فيه.

(3) الاتصال وجها لوجه :

كما أن هناك أيضا المساهمات التي يمكن للبراجماتية تقديمها لحل مشكلات الاتصال بيـن البشر الذين يتكلمون (تقريبا) اللغة نفسها. فعلى سبيل المثال ، فإنه من الممكن أن تقع حالات سوء تفاهم بين الجماعات ذات الانتماءات العرقية المختلفة ، وذلك نتيجة للتحليلات البراجماتية المختلفة للمنطوقات التي يكون محتواها الحرفي مفهوما تماما. إذ إن توجيه الأسئلة أو الاستجواب أو التلميحات ، إلخ ربما لا يتم تفسيرها بصورة صحيحة.

ومن المجالات الأخرى التي يمكن للتحليلات البراجماتية أن تكون ذات أهمية فيها هي تصميم (أو في الأغلب إعادة تصميم) كيفية مزاولة المؤسسات لعملها. وعلى سبيل المثال ، كيف ينبغي تنظيم محاكم الدعاوى الصغيرة small claims courts مثل التي توجد في أمريكا وبعض دول أوروبا ؟ هل ينبغي أن تتم إدارتها على أساس تبادل للمحادثة أكثر مما يتم في غيرها من المحاكم ؟ أو هل الإجراءات التقليدية في حقيقة الأمر أكثر مدعاة للبحث عن الحقيقة ؟

كما تنشأ بصفة مستمرة أسئلة مشابهة بين أولئك المهتمين بإصلاح الممارسات التي تتم في حجرات الدراسة وبتحسينها.

وهناك مجموعة مختلفة إلى حد ما من الاهتمامات تنشأ نتيجة لاحتمال وجود بعض الحالات المرضية اللغوية ذات الطبيعة البراجماتية بصفة أساسية ؛ فعلى سبيل المثال ربما تكون هناك صعوبات تنشأ عند إعادة تأهيل المرضى الذين يعانون من إصابات المخ التي تكون ذات طبيعة براجماتية بالتحديد. وإذا اتضح أن هذه هي الحال ، فإن المساعدة العملية لهؤلاء المرضى سوف تعتمد على تحليل براجماتي مسبق للاستخدام العادي للغة.

(4) الاتصال على البعد :

وأخيرا ، فإن هناك مشكلات اتصال مألوفة تنشأ عندما يتصل البشر ببعضهم البعض وقد تباعدوا في المسافة أو الزمن ، عن طريق الرسائل المسجلة أو المكتوبة. وتكمن المشكلة في أن اللغات الطبيعية مبنية ، إذا جاز هذا القول ، على افتراض التخاطب وجها لوجه ، ولذا فإن الكلمات الإشارية deictic terms / words([21]) يمكن أن تتعرض لخطأ التفسير عندما لا يتوافر هذا الشرط الخاص بالتخاطب وجها لوجه. وقد تكون الاعتبارات التحليلية مفيدة للغاية في تصميم التعليمات ذات الأهمية القصوى (مثل التعليمات على الطرق ، أو لعمال صيانة الطائرات ، إلخ) ، أو في الاستبيانات ، وغيرها من الاستخدامات العملية الصرفة للغة المكتوبة. كما أنها قد تفيد أيضا في تصميم البرامج الخاصة لتعليم الأشخاص الذي يعانون من صعوبات في اكتساب المهارات المتعلقة بتعلم القراءة والكتابة.

وكمثال آخر ، فإن مشكلات مثيرة للاهتمام تنشأ عندما لا يمكن لأخذ الدور في المحادثة أن يعمل بصورة سليمة ، كما هي الحال في الاتصالات عن طريق اللاسلكي ، أو التلكس ، أو إرسال الرسائل عن طريق النهايات الطرفية للحاسبات الإلكترونية. وتتمثل فائدة البراجماتية في إمكان تصميم بدائل للممارسات العادية. ولقد ظهر مؤخرا فقط احتمال تقديم نصائح أو حلول مبينة على دراسة كافية بمثل هذه الأمور البسيطة نسبيا والمهمة في الوقت نفسه ، وهي نصائح مبينة على الدراسة التفصيلية لاستخدام اللغات الطبيعية.

وبعد ، فنرجو أن نكون قد وفقنا في تقديم هذا العرض الموجز نسبيا للمقصود بالبراجماتية ، وفي تفسير سبب الاهتمام الذي حظيت به في السنوات الأخيرة ومازالت تحظى به حتى يومنا هذا. كما نرجو أن يكون المثال الذي قدمناه قد ساعد على تقريب مفهوم البراجماتية والمسائل التي تهتم بها. وأخيرا ، لعل الإشارة إلى الصلة بين البراجماتية وغيرها من المجالات قد ساعد على إلقاء بعض الضوء على أهميتها العملية.







--------------------------------------------------------------------------------

*صحيفة الرياض، الجزء الأول ، الخميس 22 جمادى الأولى 1415 هـ - 27 أكتوبر 1994 م ، ص 22. الجزء الثاني "البراجماتية التطبيقية: البراجماتية وعلاقاتها بغيرها من المجالات" ، الخميس 14 جمادى الآخرة 1415 هـ - 17 نوفمبر 1994 م ، ص 22.

([1]) من أهم هؤلاء العلماء ج. ل. أوستين J. L. Austin ، ب. ف. ستروسون P.F. Strawson ، هـ. ب. جرايس H.P. Grice ، ج. ر. سيرل J. R. Searle . وعلم الدلالة التوليدي هو العلم الذي يدرس العلاقات المنطقية بين كلمات اللغة. وبالتالي فإن علماء الدلالة التوليديين هم العلماء المهتمون بدراسة هذه العلاقات.

([2]) Charles W. Morris, “Foundations of the Theory of Signs”, In O. Neurath, R. Carnap and C. Morris (Eds.) International Encyclopedia of Unified Science, Chicago: University of Chicago Press, 1938, pp. 77-138.

([3]) R. Carnap, “Foundations of Logic and Mathematics”, Ibid., pp. 139-214.

([4]) Stephen C. Levinson, Pragamtics, Cambridge: Cambridge University Press, 1983, pp. 5,7.

([5]) Morris, Op. Cit., p. 108.

([6]) علم اللغة النفسي Psycholinguistics فرع من علم اللغة التطبيقي يدرس طريقة اكتساب اللغة الأم وتعلم اللغة الأجنبية والعوامل النفسية ذات العلاقة بهما. ويدرس أيضا عيوب النطق وعلاجها ، كما يدرس العمليات النفسية والعقلية المصاحبة للمهارات اللغوية المختلفة.

([7]) علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics فرع من علم اللغة التطبيقي يبحث في تأثير العوامل الاجتماعية على الظواهر اللغوية والفروق اللهجية.

([8]) علم اللغة العصبي Neurolinguistics علم يبحث في العلاقة بين اللغة والأعصاب والاضطرابات اللغوية العصبية.

([9]) المقصود بالقدرة أو الكفاية اللغوية Competence هو قدرة المرء من ناحية نظرية على تكوين جمل لغوية. ويقابلها الأداء اللغوي performance الذي هو استخدام اللغة كلاما أو كتابة.

([10]) Levinson, Op. Cit., p. 7.

([11]) J. J. Katz and J. A. Fodor, “The Structure of a Semantic Theory”, Language, 39 (1963), pp. 170-210[/align].

([12]) Levinson. Op. Cit., p.27.

([13]) Levinson, Op. Cit. pp.12, 15.
كما أن جميع التعريفات التالية ترد أيضا في كتاب لفينسون ، ص ص. 18-24.

([14]) المثال مأخوذ من لفينسون ، ص47 وما بعدها ، بتصرف يسير.

([15]) ويمكننا أيضا إضافة الاستنتاج التالي : أن (ب) يتصرف كما لو كان يعتقد (أو تعتقد) أن (أ) ذَكَرٌ. ومعنى هذا أن (ب) لا يعتقد في حقيقة الأمر أن (أ) ذكر ، ولكنه يتظاهر بأنه يعتقد أو يظن ذلك.

([16]) جدير بالذكر أن هذا التعريف لعلم اللغة التطبيقي مستخدم هنا بمعناه الضيق. ويمكننا تقديم تعريف موسَّع لعلم اللغة التطبيقي Applied Linguistics بوصفه فرعًا من علم اللغة يبحث في التقابل اللغوي وتحليل الأخطاء وتعليم اللغات وعلم اللغة النفسي وعلم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة الآلي وصناعة المعاجم والترجمة.

([17]) المقصود بالتضمين implicature هنا هو إمكانية أن يعني المنطوق أكثر مما يقال بالفعل ، أي أكثر مما يتم التعبير عنه حرفيا عن طريق المعنى التقليدي للتعبيرات اللغوية المنطوقة. ومثال ذلك أن يسـأل شخص ما شخصا آخر : "هل يمكنك أن تقول لي كم الساعة الآن ؟ "فيرد الآخر بقوله : "لقد حضر بائع اللبن". والمقصود هنا أنه لا يعرف الوقت بالضبط ولكنه يستطيع أن يعطي بعض المعلومات التي يستنتج منها محدثه الوقت.

([18]) Dell Hymes, “Models of the Interaction of Language and Social Life”. In. J. J. Gumperz and D.H. Hymes, Directions in Sociolinguistics, New York: Holt, Rinehart and Winston, 1972, pp. 35-71.

([19]) P. Brown and S. Levinson, “Universals in Language Usage: Politeness Phenomena”. In E. Goody (ed.) Questions and Politeness in Social Interaction, Cambridge: Cambridge Deference and Politeness, Special Issue of International Journal of the Sociology of University Press, 1978, 56-311.

([20]) J. House and G. Casper, "polite markers in English and German", in F. Coulmas (ed.) Conversational Routine: Explorations in Standardized Communication Situations and Prepatterned Speech, The Hague: Mouton, 1981, pp. 157 – 185. See also J. Walters (ed.) The Sociolinguistics of Deference and Politeness, Special Issue = of International Journal of the Sociology of Language, 27, The Hague: Mouton, 1981.
([21]) المقصود بالكلمات الإشارية هو الكلمات التي تشير إلى أو تحدد فرداً معيناً أو مكاناً معيناً من بين مجموعة متجانسة من الأفراد أو الأمكنة ، مثل here , you , the , this في اللغة الإنجليزية ، وقد تكون هذه الكلمة نعتا أو أداة أو ضميراً أو ظرفاً.

عنتر عبد اللاه
17/11/2006, 03:32 PM
أستاذنا الكبير الدكتور أحمد شفيق الخطيب
نشكرك على هذه المقالات الرائعة حول علوم اللغة
استمتعت بما كتبته حول علم البراجماتية. وأسألك عن رأيك في ترجمته بعلم "التداولية" (تداول المعنى في السياقات المختلفة) وهو المصطلح الذي استخدمه اكثر من عالم عربي منهم الأستاذ الدكتور محمد عناني في كتابه الترجمة الأدبية وغيره من الكتب؟
مع تحياتي وإعزازي
د. عنتر

Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
17/11/2006, 08:28 PM
الأخ الكريم والزميل الفاضل د. عنتر
أشكركم على كلماتكم الكريمة.
وأستأذنكم في إجراء استطلاع حول استفساركم.
لاحظت في توقيعكم أنكم مدرس "اللسانيات". وأدعوكم للاشتراك في الاستطلاع حول ترجمة المصطلح Linguistics ، سواء أكانت هذه هي ترجمتكم المفضلة أم غيرها.
وشكرا لتفاعلكم.