المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأملاتٌ بين الغمامِ: رؤية نقدية لقصة"ذكريات فوق الغمام" للأديبة السامقة حنان الأغا



د. مصطفى عراقي
02/06/2007, 06:43 AM
تأملات بين الغمام

رؤية نقدية لقصة:
ذكريات فوق الغمام
للأديبة السامقة : حنان الآغا



أولا: القصة:


ذكريات فوق الغمام

صعدت درجات السلّم المعدنيّ بسرعة حتى وصلت الدرجة الأخيرة ، ثم توقفت للحظة ، قررت بعدها المضيّ إلى الداخل دون أن تلتفت وراءها .
ابتسمت لها العينان الوادعتان اللتان تبثان الثقة والارتياح - أهلا وسهلا ، تفضلي سيدتي ، وأشار بيده إلى مقعدها مع انحناءة خفيفة ، وابتسامة لا تفارق ثغره .
تمنت لو كان مقعدها قرب النافذة حيث تحب أن تجلس دائما ، وتنبهت إلى أنها لم ترد على ابتسامته وهي تشكره ، وتذكرت أنها ربما لم تبتسم منذ مدة طويلة، فالتفتت إليه وقد رسمت ظل ابتسامة على وجهها ، ولكن التوقيت خانها ، لقد كان في هذه اللحظة يهب ابتسامته لراكب آخر .
جلست في مقعدها تغالب النعاس ، تثاءبت وفكرت أنها ستحاول النوم طوال الرحلة على غير عادتها ،ستعوض ما فاتها من نوم خلال الأيام الماضية ، أيام القرارات الصعبة ،نعم أليست هي امرأة القرارات الصعبة ؟
تمنت لو أن الموت لم يغيّب أمها ، تلك المرأة المتفردة بين الأمهات بهاء وحنانا .كانت مصدرا لطاقة عجيبة دافئة بثت فيها القوة ، وأسست في روحها أماكن دائمة للفرح والضحك ، والأمل والتحدي . أحتاجك يا أمي كيانا حقيقيا لا ذكرى ولا عِبر. أريدك يا أمي قربي كي أضحك ، كي أعود طفلة أتفيأ ظلال روحك ودفء حضنك .
أعادها الصوت الهادىء من شرودها الناعس :
_ سيدتي ، هلا ربطت الحزام من فضلك ؟ رفعت رأسها لتجد تلك الابتسامة التي يعتقد كل من يتلقاها أنها موجهة إليه بالذات . وفكرت أنه من اللائق أن ترد له ابتسامته : هل يمكنني الجلوس قرب النافذة؟ وقالت لنفسها أن هذا هو يوم الابتسامات الجوية!
_ طبعا سيدتي ولكن بعد الإقلاع . ثم تلكأ قليلا : لقد رأيت صورتك وقرأت الخبر عن دراستك ، ثم أشارإلى الصحيفة في جيب المقعد ، فتمتمت بكلام لم يصل إلى مسامعه لكنه اعتقد أنها شكرته . فكرت وهي ممسكة بطرفي الحزام أنها لن تنام قبل أن تشهد الإقلاع ، وأنها لن تفوّته أبدا . نظرت حولها كي لا تضبط متلبسة ، وبهدوء تسحّبت إلى المقعد المجاور قرب الكوة التي تفصلها عن الكون . ربطت حزامها في اللحظة التي انطلق فيها صوت قائد الطائرة يعلن عن بدء الرحلة إلى بلاد الضباب ، وتصادف مرور المضيف مسرعا ، فمنحته نظرة اعتذار عاجلها بابتسامة وهو يسيرمبتعدا بخفة.
ألصقت وجهها بالكوة وركزت نظرها على الجناح الذي كان يهتز بعنف مع تسارع حركة الطائرة على المدْرج ، وتدريجيا خفت الحركة وبدأت الطائرة ٌإقلاعا ناعما ، فشعرت كما دائما بارتفاع الطائرة وهبوط قلبها .هي لحظة الفصل بين الأرض والفضاء، بينما هو كائن وما سيكون ، بين حياة قائمة وموت محتمل !هي اللحظة التي تصبح فيها خلوا من الإرادة . فكرت في أمها وفي الشمس التي تركتها هناك ، وفي الضباب الذي سيلف كيانها بعد ساعات قليلة ، وتألمت ، بل غضبت .هل علينا أن نقايض الدفء بالصقيع ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام؟
كان من الممكن أن تتابع العمل على أطروحتها هناك فلماذا قرار الرحيل!
رجعت إلى اللحظة الحاضرة ومسحة كآبة لا بد تمددت فوق صفحة وجهها ، وتنبهت للصوت اللطيف ينحني باتجاهها - سيدتي، هل تقبلين دعوتنا إلى مقصورة القيادة؟
راقتها الفكرة . ربما اطلعوا على الصحيفة ، ثم _ نعم بكل سرور .دخلت المقصورة على أصوات مرحبة من الطاقَم ، وطُُلب إليها الجلوس في مقعد ملاح لم يلتحق بالرحلة.
قال الجالس بجانبها :هذه الأزرّة ستقومين بتشغيلها ، هذا للتحكم بدرجة الحرارة وهذا لمكيفات الهواء وهذا ... وأحست بوجهها يعبق حرارة ، فسألها : ماذا تشرب السيدة ؟
_عصير ليمون . لم تكن هي من أجابت ولكنه صوت ما ، لم يكن وقعه غريبا ولكنه لم يكن مألوفا .رفعت رأسها تبحث عن مصدر الصوت فلم تجده ، إلا أنه استأنف - أتذكر طفلة في الحادية عشر ذات شعرطويل ورداء أزرق زرقة ماء الأعماق ، وصباح خريفي مشمس ولعبة الحجلة فوق سطح بيت جميل .ولم تحظ بفرصة للتساؤل ، فقد استمر الصوت الآتي من أحد الطياريْن – كانوا أربعة أطفال هي وأخويْن وأختهما .
سمعت صوتا داخلها يقول كنت ألعب معهم فوق السطح . كنت أرتدي ثوبا أزرق بحريا ، وكان شعري طويلا.وأكمل الصوت : كان الدور ليس دورها للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض ، وكانت تتراجع إلى الخلف خطوة خطوة لتفسح المجال لصاحب الدور .
ومن داخلها استأنف صوت الذكرى : كنت أتراجع خطوة خطوة
هو- فجأة طارت هبوطا كالسهم باتجاه الحديقة .
صوت داخلها : لم أعرف إلا أنني كنت أطير وأقع فوق كوم تراب أبيض .نعم لقد اتسخ.. واستدار الطيارمقاطعا وهوينظر إليها بعينين زرقاوين تشع فيهما ابتسامة كبيرة : اتسخ ثوبك وشعرك وبكيتِ .
فقالت بشرود تام : بكيت معتقدة أن أمي ستغضب من شكلي المعفر بالتراب الأبيض. وتابعت : كنت مازلت أستلقي عندما نظرت إلى أعلى ووجدت ستة عيون سوداء وبنية وزرقاء تحملق بي في خوف ،
نعم ،هي هذه العيون .
نظرت باتجاهه وكان يضحك وينظر إليها ، وسأل عن عنقها فوضعت يدها بعفوية على عنقها وهمست لنفسها : عنقي كان يؤلمني من أثرالسقطة . ثم أحست بنفسها تتحول طفلة في لحظة وهو طفل أشقر بعينين زرقاوين.
ها هو صندوق ذكرياتها المفرحة يفتح أمام روحها وعينيها ، وها هي تنطلق واحدة إثر أخرى: وجه أمها الحنون ، أصدقاء البراءة ، سماء الخريف المشرقة وضحكات الطفولة .ها هي تضحك تارة وتدمع تارة ، وتتلاحق اللقطات وتتسابق في الزمن أماما ووراء وفي المكان هنا وهناك .وهي التي اعتقدت أنها ستكون عصية الدمع والفرح.
نظرت إلى العينين الزرقاوين فبادرها هامسا : ستفاجأ أمي اليوم .استعدي لاستقبال حافل . واستدار إلى شاشته والفضاء أمامه .
______________
حنان الأغا
2006

======================================







ثانيا: القراءة:


دلالات العنوان ، وآثارها في القصة :

يوحي العنوان بدلالات تلقى آثارها على النص القصصي كما تتجلى في سياق القصة على النحو الآتي :
الدلالة الأولى: الذكرى : التي تلجأ إليها هروبا من ابتسام الواقع العمليّ ، والترحيب الآلي!
"فالتفتت إليه وقد رسمت ظل ابتسامة على وجهها ، ولكن التوقيت خانها .. لقد كان في هذه اللحظة يهب ابتسامته لراكب آخر "
وكما تتجلى في ذكرى الأم من جهة ، وذكريات لعب الطفولة البريئة من جهة أخرى
وسوف ندرك مدى الارتباط بينهما حين نسمع مناجاة بطلتنا لأمها الغائبة :
" أحتاجك يا أمي كيانا حقيقيا لا ذكرى ولا عِبر. أريدك يا أمي قربي كي أضحك ، كي أعود طفلة أتفيأ ظلال روحك ودفء حضنك".
وهكذا يرتبط استحضار صورة الأم باستعادة ذكريات الطفولة في اتصال حميم:
"وجه أمها الحنون، أصدقاء البراءة ، سماء الخريف المشرقة وضحكات الطفولة".
الدلالة الثانية: الصعود والارتفاع :
وسوف يتجلى في اختيار الطائرة مسرحا للقصة ، من الناحية الواقعية وكذلك الارتفاع على "ما وراءها " من الناحية المجازية حين
" صعدت درجات السلّم المعدنيّ بسرعة حتى وصلت الدرجة الأخيرة ، ثم توقفت للحظة ، قررت بعدها المضيّ إلى الداخل دون أن تلتفت وراءها ".
كما نلاحظ فكرة الارتفاع حتى في اللعبة التي كانت
"للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض"
أما مكانها فهو أيضا دال على الارتفاع ؛ إذ كانت ":لعبة الحجلة فوق سطح بيت جميل".
ولكن علينا ألا ننخدع بإلحاح القاصَّة على ملمح الصعود فهو ليس صعودا محضا ، بل العجيب هنا هو ارتباطه بالهبوط في ثنائية متلازمة :
"فشعرت كما دائما بارتفاع الطائرة وهبوط قلبها"
حتى الطائرة رأتها قاصتنا في داخلها وقد : "طارت هبوطا كالسهم باتجاه الحديقة"
وكذلك في ذكرى اللعبة تقول: " لم أعرف إلا أنني كنت أطير وأقع فوق كوم تراب أبيض"
الدلالة الثالثة: الغمام :
بما يوحي من ضبابية ، وعدم وضوح حيث تغيم الرؤية بين القرارات الصعبة و:
" الضباب الذي سيلف كيانها بعد ساعات قليلة، وتألمت ، بل غضبت ..هل علينا أن نقايض الصقيع بالدفء ؟ والشمس بالغمام؟ وتراب من نحب بنصب من رخام"؟

أدوات القصّ :
وتجيد قاصتنا توظيف أدواتها توظيفا فنيا موفقا ،وأهمها :
1- المكان والزمان :
تجيد قاصتنا تضفير عنصري الزمان والمكان
حيث نطالع المكان (الطائرة) مسرح الحدث الحالي مضفرا مع الزمان (اللحظة الحاضرة) ،
والحديقة مسرح ذكريات الصبا ولعب الطفولة ، مع لحظة الذكرى الحميمة (الماضي)
2- الألوان:
تنهض الألوان (وهي وسيلة فنية أثيرة لدى قاصتنا) بدور رئيس في رسم المشهد، لاسيما اللون الأزرق :
" ورداء أزرق زرقة ماء الأعماق"
"كنت أرتدي ثوبا أزرق بحريا"
وبهذا يتجلى إحساسها بقيمة اللون في عيون الأطفال :
" نظرت إلى أعلى ووجدت ستة عيون سوداء وبنية وزرقاء تحملق بي في خوف".
ولكنها تنحاز هنا أيضا إلى زرقة ماء الأعماق عندما :
"أحست بنفسها تتحول طفلة في لحظة وهو طفل أشقر بعينين زرقاوين"
وتتلاعب القاصة بالألوان فتجعل اللون الأبيض هنا دليلا على الاتساخ لأنه سيخدش الزرقة في بوحها:
"بكيت معتقدة أن أمي ستغضب من شكلي المعفر بالتراب الأبيض"
3: الأصوات:
أما الأصوت هنا فقد حلت محل الشخوص حيث استحالت جميع الشخوص هنا مجرد أصوات بالنسبة إليها وكأنها لا تكاد تراهم ، أو لا تريد أن تعني نفسها بفتح عينيها لترى أحدا :
إن كل اتصالها مع العالم الخارجي يجيء من خلال حاسة السمع:
"أعادها الصوت الهادىء من شرودها الناعس"
"انطلق فيها صوت قائد الطائرة يعلن عن بدء الرحلة.."
"وتنبهت للصوت اللطيف ينحني باتجاهها :- سيدتي، هل تقبلين دعوتنا إلى مقصورة القيادة؟
"دخلت المقصورة على أصوات مرحبة من الطاقَم "
"لم تكن هي من أجابت ولكنه صوت ما ، لم يكن وقعه غريبا ولكنه لم يكن مألوفا .رفعت رأسها تبحث عن مصدر الصوت فلم تجده "
بل تسند الإكمال إلى الصوت بصفته الفاعلَ لا إلى الشخص المتكلم ذاته ، فتقول:
"وأكمل الصوت : كان الدور ليس دورها للقفز فوق المربعات المرسومة بالطباشير على الأرض".
وكأنه استحال صوتا ، مجرد صوت.
ليس فقط في تعاملها مع العالم الخارجي بل مع العالم الداخلي أيضا ،
حتى الذكرى لم تعد سوى صوت في هذا الغمام الكثيف.
"ومن داخلها استأنف صوت الذكرى"
تدفق الخاتمة:

وكعادة قاصتنا تأتي الخاتمة متدفقة في صور سريعة متلاحقة وكأنها تطوي الأحداث طيا للوصول إلى النهاية المرجوة!
"وتتلاحق اللقطات وتتسابق في الزمن أماما ووراء وفي المكان هنا وهناك ..وهي التي اعتقدت أنها ستكون عصية الدمع والفرح ،
نظرت إلى العينين الزرقاوين فبادرها هامسا : ستفاجأ أمي اليوم .استعدي لاستقبال حافل .. واستدار إلى شاشته والفضاء أمامه ."
لاحظ أن الختام كأنما أراد أن يعوض البطلة عما افتقدته فبدلا من أمها هناك سيقدم لها أمه هو ،
وبدلا من اللعب القديم البريء ، سيهيئ لها الاستقبال الحافل!
فهل سيجدي ذلك؟
هل سيبدد الغمام؟
هل سيعيد الشمس ؟
هكذا يترك بطلتنا ( و نحنُ القراءَ معها ) يتأملون في فضاءٍ ممتدّ، كالفضاء الذي أمامه.

ودمت بسعادة وإبداع


مصطفى

د. مصطفى عراقي
29/04/2010, 12:47 PM
رحمك الله يا أديبتنا الجليلة أختنا الفضلى الأستاذة حنان الأغا
وأسكنك فسيح جناته