عبد العزيز غوردو
06/06/2007, 01:38 AM
معروف أن المقارنة تمكن من تحديد الشبه والاختلاف بين الأشياء والمواضيع وهي مقدمة رئيسة للتعميم. والمنهج المقارن عموما يعتمد على بحث وتفسير الظواهر الثقافية والاجتماعية والمعرفية انطلاقا من إبراز الأصول المشتركة أو القرابة التكوينية بين الظواهر.
طبق المنهج المقارن بصفة خاصة أوجست كونت في علم الاجتماع ("دروس في الفلسفة الوضعية" 1830-1842). وفي الفيلولوجيا (فقه اللغة) المقارنة تطور في ألمانيا على يد ياكوب جريم وأوغست فريدريك وأوغست شلايماخر ، كما طوره فرديناند دي سوسير في سويسرا، وأعطاه دفعة قوية علماء اللغة الروس: بودوين دي كورتيني وأ. ن. فيسلوفسكي وأ. ك. فوستوكوف وف. ف. فورتانوف وغيرهم...
من أقدم من نبه للمنهج المقارن في مجال التاريخ الفيلسوف ومحلل اللغة الألماني ك. ف. همبولت (1767-1835) Karl Wilhelm Humbolt خاصة في مؤلفه "حول مهمة المؤرخ" (1821)، لكنه ظل أسير نظرية كانط الفلسفية رغم أنه كان يميل للمثالية الموضوعية في تحليله للتاريخ الاجتماعي. (ظل يعتقد بأن تاريخ البشرية لا يمكن أن يفهم من وجهة
نظر علمية، بل يمكن استبداله بعلم الجمال).
سبق لدوركايم E. Durkheimأن نبه إلى أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما إلا عبر التفسير، ولا يمكنه أن يفسر إلا عبر المقارنة.
وفي سنة 1907 كتب كلوتز G. Glotz بأن المنهج المقارن أتاح للعلوم المختلفة إمكانية تحقيق تقدم شبيه بالمعجزة، فلماذا لا يشمل هذا التقدم مجال التاريخ أيضا؟
بعد ذلك (في المؤتمر العلمي "بأوسلو Oslo" في عشرينيات القرن الماضي) تأسف بلوك M.Bloch على جل المؤرخين لأنهم لم ينتبهوا بعد لفائدة المقارنة في مجال التاريخ، ولأنهم بذلك يستهترون بمستقبل هذا العلم.
وضع التاريخ المقارن في عشرينيات القرن الماضي مصاقبا للتاريخ الوطني الذي نحا خلال الحرب الكونية منحى إثنيا عنصريا يكرس تفوق شعوب على أخرى. وعلى هذا قدم التاريخ المقارن نفسه على أنه نهاية للآلام المترتبة عن التاريخ الوطني، بما أنه يتجاهل الحدود الدولية، فالمؤرخ يعتبر مقارنا إذا كان يتبنى وجهة نظر عالمية.
في سنة 1933 قدم شارل سينيوبوس (Ch. Seignobos, Essai d’une histoire comparée des peuples de l’Europe, Paris, 1933.) محاولته عن التاريخ المقارن بين الشعوب الأوربية، لكن الطابع الذي غلب عليها كان وصفيا، مما جعلها دون الطموح الذي ينشده التاريخ المقارن.
بعد ذلك تعالت موجة المنادين بضرورة إيجاد مكان تحت الشمس للتاريخ المقارن ( P.A. Brunt , H. Metteis, R. Coulborn, R. W.Kaupe. وغيرهم...) إلا أن أشد المنافحين عن هذا النوع من الكتابة التاريخية يظل، وبامتياز، مارك بلوك، من خلال عمله "Rois thaumaturges" سنة 1924م، وكذلك من خلال رسالة كتبها في السنة نفسها لصديقه بير H.Berr حيث ذكر بأن ميوله كلها تجنح نحو التاريخ المقارن. ثم أكد ذلك عندما نشر نصين لمعالجة مفهوم هذا النوع من التاريخ (1928 و1930) أعاد فيهما بصياغة متطورة ما كان دوركايم قد قرره منذ مدة طويلة، حيث ذكر (بلوك) بأن ممارسة التاريخ المقارن تعني البحث من أجل التفسير عبر مقارنة (استخراج نقط الاتفاق ونقط الاختلاف) معطيات لمجموعات اجتماعية متباينة.
للحديث عن التاريخ المقارن لا بد إذن من توافر شرطين أساسيين:
أولا) نوع من التماثل والمشابهة بين الظواهر الملاحظة.
ثانيا) نوع من التباين والاختلاف بين المجتمعات التي أنتجتها.(Bloch, 1928, 17).
هذا المنهج يمكن أن يطبق، حسب بلوك دائما، بطريقتين:
- المقارنة بين مجتمعات متباعدة في الزمان والمكان، بحيث يتعذر تفسير التماثل بوحدة الأصل أو بالتأثير المتبادل.
- مقارنة، عبر الدراسة المتوازية، مجتمعات متجاورة متزامنة، لتقصي، ولو جزئيا، الأصل المشترك. (Bloch, 18-19).
إن النتائج التي يمكن الحصول عليها عبر هذا المنهج لا يمكن أن تكون إلا ثرية. إذ فضلا عن الوظيفة الكشفية Heuristique التي تسمح باكتشاف ظواهر لم تكن لتخطر على البال، لو تمت محاصرة الظاهرة المدروسة في وسط بعينه، يقدم المنهج قابلية المساعدة على تأويل وتفسير الظواهر التاريخية، ومن ثم الحكم عليها، بكيفية مؤسسة على وقائع من أزمنة أو أمكنة متباينة (أو منهما معا).
رغم ذلك فالواقع أن التاريخ المقارن ما زال يفتقر لمنهجية حقيقية تحدد بدقة أهدافه وصلابته العلمية . وهو ما يدعو لمزيد من الاجتهاد للدفع "بالمقارنتية" Le comparatisme إلى أبعد الحدود. ونأمل أن يكون هذا العمل خطوة في هذا الاتجاه.
.................................................. ............................
- من أشهر الدراسات التي أنجزت باعتماد هذا المنهج: K. A. Wittfogel, Oriental Despotism : A Comparative Study Of Total Power, New Haven, 1957.
- استعمل بلوك فعلExpliquer وكنا نود الاستعاضة عنها بكلمة Herméneutique التي تترجم عادة للعربية بالتفسير والتأويل، لكنها حادة الدلالة في اللغة الفرنسية.
- لمزيد من الاطلاع على التاريخ المقارن (المنهج والمتابعة الكرونولوجية) يمكن الرجوع إلى: Brève histoire de l’histoire comparée, dans G. Jucqois-Ch, Vielle (Ed), Le comparatisme dans les sciences de l’homme, Approches pluridisciplinaires, Bruxelles, 2000, p.301-327.
طبق المنهج المقارن بصفة خاصة أوجست كونت في علم الاجتماع ("دروس في الفلسفة الوضعية" 1830-1842). وفي الفيلولوجيا (فقه اللغة) المقارنة تطور في ألمانيا على يد ياكوب جريم وأوغست فريدريك وأوغست شلايماخر ، كما طوره فرديناند دي سوسير في سويسرا، وأعطاه دفعة قوية علماء اللغة الروس: بودوين دي كورتيني وأ. ن. فيسلوفسكي وأ. ك. فوستوكوف وف. ف. فورتانوف وغيرهم...
من أقدم من نبه للمنهج المقارن في مجال التاريخ الفيلسوف ومحلل اللغة الألماني ك. ف. همبولت (1767-1835) Karl Wilhelm Humbolt خاصة في مؤلفه "حول مهمة المؤرخ" (1821)، لكنه ظل أسير نظرية كانط الفلسفية رغم أنه كان يميل للمثالية الموضوعية في تحليله للتاريخ الاجتماعي. (ظل يعتقد بأن تاريخ البشرية لا يمكن أن يفهم من وجهة
نظر علمية، بل يمكن استبداله بعلم الجمال).
سبق لدوركايم E. Durkheimأن نبه إلى أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما إلا عبر التفسير، ولا يمكنه أن يفسر إلا عبر المقارنة.
وفي سنة 1907 كتب كلوتز G. Glotz بأن المنهج المقارن أتاح للعلوم المختلفة إمكانية تحقيق تقدم شبيه بالمعجزة، فلماذا لا يشمل هذا التقدم مجال التاريخ أيضا؟
بعد ذلك (في المؤتمر العلمي "بأوسلو Oslo" في عشرينيات القرن الماضي) تأسف بلوك M.Bloch على جل المؤرخين لأنهم لم ينتبهوا بعد لفائدة المقارنة في مجال التاريخ، ولأنهم بذلك يستهترون بمستقبل هذا العلم.
وضع التاريخ المقارن في عشرينيات القرن الماضي مصاقبا للتاريخ الوطني الذي نحا خلال الحرب الكونية منحى إثنيا عنصريا يكرس تفوق شعوب على أخرى. وعلى هذا قدم التاريخ المقارن نفسه على أنه نهاية للآلام المترتبة عن التاريخ الوطني، بما أنه يتجاهل الحدود الدولية، فالمؤرخ يعتبر مقارنا إذا كان يتبنى وجهة نظر عالمية.
في سنة 1933 قدم شارل سينيوبوس (Ch. Seignobos, Essai d’une histoire comparée des peuples de l’Europe, Paris, 1933.) محاولته عن التاريخ المقارن بين الشعوب الأوربية، لكن الطابع الذي غلب عليها كان وصفيا، مما جعلها دون الطموح الذي ينشده التاريخ المقارن.
بعد ذلك تعالت موجة المنادين بضرورة إيجاد مكان تحت الشمس للتاريخ المقارن ( P.A. Brunt , H. Metteis, R. Coulborn, R. W.Kaupe. وغيرهم...) إلا أن أشد المنافحين عن هذا النوع من الكتابة التاريخية يظل، وبامتياز، مارك بلوك، من خلال عمله "Rois thaumaturges" سنة 1924م، وكذلك من خلال رسالة كتبها في السنة نفسها لصديقه بير H.Berr حيث ذكر بأن ميوله كلها تجنح نحو التاريخ المقارن. ثم أكد ذلك عندما نشر نصين لمعالجة مفهوم هذا النوع من التاريخ (1928 و1930) أعاد فيهما بصياغة متطورة ما كان دوركايم قد قرره منذ مدة طويلة، حيث ذكر (بلوك) بأن ممارسة التاريخ المقارن تعني البحث من أجل التفسير عبر مقارنة (استخراج نقط الاتفاق ونقط الاختلاف) معطيات لمجموعات اجتماعية متباينة.
للحديث عن التاريخ المقارن لا بد إذن من توافر شرطين أساسيين:
أولا) نوع من التماثل والمشابهة بين الظواهر الملاحظة.
ثانيا) نوع من التباين والاختلاف بين المجتمعات التي أنتجتها.(Bloch, 1928, 17).
هذا المنهج يمكن أن يطبق، حسب بلوك دائما، بطريقتين:
- المقارنة بين مجتمعات متباعدة في الزمان والمكان، بحيث يتعذر تفسير التماثل بوحدة الأصل أو بالتأثير المتبادل.
- مقارنة، عبر الدراسة المتوازية، مجتمعات متجاورة متزامنة، لتقصي، ولو جزئيا، الأصل المشترك. (Bloch, 18-19).
إن النتائج التي يمكن الحصول عليها عبر هذا المنهج لا يمكن أن تكون إلا ثرية. إذ فضلا عن الوظيفة الكشفية Heuristique التي تسمح باكتشاف ظواهر لم تكن لتخطر على البال، لو تمت محاصرة الظاهرة المدروسة في وسط بعينه، يقدم المنهج قابلية المساعدة على تأويل وتفسير الظواهر التاريخية، ومن ثم الحكم عليها، بكيفية مؤسسة على وقائع من أزمنة أو أمكنة متباينة (أو منهما معا).
رغم ذلك فالواقع أن التاريخ المقارن ما زال يفتقر لمنهجية حقيقية تحدد بدقة أهدافه وصلابته العلمية . وهو ما يدعو لمزيد من الاجتهاد للدفع "بالمقارنتية" Le comparatisme إلى أبعد الحدود. ونأمل أن يكون هذا العمل خطوة في هذا الاتجاه.
.................................................. ............................
- من أشهر الدراسات التي أنجزت باعتماد هذا المنهج: K. A. Wittfogel, Oriental Despotism : A Comparative Study Of Total Power, New Haven, 1957.
- استعمل بلوك فعلExpliquer وكنا نود الاستعاضة عنها بكلمة Herméneutique التي تترجم عادة للعربية بالتفسير والتأويل، لكنها حادة الدلالة في اللغة الفرنسية.
- لمزيد من الاطلاع على التاريخ المقارن (المنهج والمتابعة الكرونولوجية) يمكن الرجوع إلى: Brève histoire de l’histoire comparée, dans G. Jucqois-Ch, Vielle (Ed), Le comparatisme dans les sciences de l’homme, Approches pluridisciplinaires, Bruxelles, 2000, p.301-327.