المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "النكسة".. معنىً ومبنىً!



جواد البشيتي
06/06/2007, 01:36 PM
"النكسة".. معنىً ومبنىً!

جواد البشيتي

لقد حاروا المسؤولون عمَّا حدث في "وصفه"، ثمَّ حاروا في "تسميته"، ثمَّ تواضعوا على أن يُسمُّونه "نكسة"، وكأنَّ ما حدث، وعلى هوله، ليس فيه ما يجعل كلمة "هزيمة" مؤدِّيةً معناها الحقيقي، أو معناها الوافي.. وكأنَّهم أرادوا أن يقولوا: لن نعترف بـ "الهزيمة" ولو عَرَفْنا أنَّها حقيقة واقعة؛ لأنَّ "الهزيمة" لن تكتمل معنىً، وتَثْبُت وتتأكَّد، إلا إذا اعترفنا بأننا قد هُزِمْنا "في هذا الذي حدث" في الخامس من حزيران 1967، والذي إنْ وَصَفْناه بأنَّه "حرب" نُشوِّه "الحرب، معنىً ومنطقاً.

كان ممكنا أن نَنْظُر إليهم، وهُم في الصدمة، على أنَّهم كمثل ذوي ميِّت أبُوا الاعتراف بموته قبل دفنه؛ أمَّا أن يظلوا على إبائهم هذا حتى بعد 40 سنة من موته ودفنه فهذا ما يَسْتَغِلق علينا فهمه، ويصعب احتماله.

لا أعرف لِمَ وَقَع اختيارهم على كلمة "نكسة"، وصفا وتسمية، فأنتَ تقول، مثلا، إنَّ البرد "نكس مرض المريض"، أي أعاده إلى المرض. وتقول "نُكِس المريض"، أي عاوده المرض بعد الشفاء. وهذا إنَّما يعني أن لا وجود لـ "النَكْس (أو النكسة)" من غير وجود "المريض" الذي نَقِه من مرضه، أي الذي برىء؛ ولكن ظل ضعيفا. وتقول "نكس رأسه"، أي طأطأه من ذُلٍّ وخزي وإهانة. وأحسبُ أنَّ "النكسة"، في معناها هذا، تَصْلُح وصفا وتسمية لحال العرب، ولحال "رؤوسهم" على وجه الخصوص، بعد تلك "الحرب"، التي ليست بحرب.

وكنتُ سأفهم "النكسة" في جزء من معناها الحقيقي لو أنَّ "المنكوسين" أحْيوا الذكرى، أي هذا الشيء الذي لم يَمُتْ، والذي ليس بذكرى؛ لأنَّه واقع لم نغادره ولم يغادرنا بعد، بـ "تنكيس الأعلام"، فإنِّي لم أرَ عَلَمَا من أعلامهم "الخفَّاقة" يُنَكَّس، على كثرة تنكيسه حِداداً على ميِّت أقل شأنا من ذاك الذي مات سنة 1967 وهو "خير أمَّة أُخْرِجت للناس"!

نحن لم نُهْزَم؛ بل دَخَلْنا الحرب بكل ما أوتينا من مواهب الخطابة. أربعون سنة اسْتَنْفَدْناها ونحن نشحذ النصر على الجيش الذي لا يُقْهَر من عنده تعالى. أربعون سنة ونحن نُعْلَف في زرائب السلاطين، ونركع، ونركع، حتى ملَّنا الركوع، لا عقل لنا، ولا رأي، ولا أقدام. كل جُمْعَة نُجْلَد بخطبة غرَّاء، تتوعَّد اليهود ودولتهم بالويل والثبور وعظائم الأمور. نُغنِّي، كل يوم، "إلى فلسطين راجعون"، فـ "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون".

أربعون سنة والهزيمة تحاوِل تعليمنا الأبجدية العربية الصحيحة، فَمِن أجل أن نكون عربا لا يكفي أن تكون عيوننا سوداء، وأن نرتدي كوفية وعقالا وعباءة مصنوعة من وبر الجَمَل. لا يكفي أن نتمنطق بالخناجر المعقوفة، ونحفظ ألفية ابن مالك، وكتاب الأغاني، ومقامات بديع الزمان الهمذاني.. وأن نشرب القهوة المرَّة.

أربعون سنة ونحن أمَّة لا تثور، ولا تشكي؛ لا تغنِّي، ولا تبكي؛ لا تموت، ولا تحيا. أربعون سنة ونحن مُبْتَلون بذوي الآفاق التي تَتَّسِع لكل شيء، ولا يسعها شيء.. ونحن في حرب على تلك "الجزمة" التي خلقت للأمَّة المهزومة أفقا.

أربعون سنة وهُم متوفِّرون على صُنْع "ثقافة الهزيمة"، التي يسمُّونها "ثقافة السلام"، فما عُدْنا نرى من "الكتَّاب" من يكتب بالسِّكين، وبقطرات دمه. ما عُدْنا نرى إلا أولئك العاطلون عن التفكير، على رصيف الفكر يتسكَّعون، في مطبخ الباب العالي يأكلون، وفي زريبته يُعْلفون، وبسيفه الطويل يَضْرِبون. كسَّروا أقلامهم، وهدموا معبدهم، ومزَّقوا شريعتهم، وأتقنوا فن الركوع والسجود، وقضوا العمر في بلاط السلطان يستجدون، وبحمده يسبِّحون.

منذ أربعين سنة احترق المسرح؛ ولكن ما مات الممثِّلون. مخصيو اللسان والفكر عاشوا، أحصنة من خشب يركبون، وأشباحا وسرابا يقاتلون. عندهم استوى الفكر والحذاء، فبئس الفكر ونِعْم الحذاء!

أربعون سنة وهُم يجيبون الأمَّة المهزومة قائلين: اطْلبوا دعاءنا؛ لا تطلبوا سيوفنا، فسيوفنا من خشب ولو كانت أعلى من قاماتنا. اطْلبوا كل شيء، وأي شيء، إلا الحرب، فهي خيار الحمقى، وليست بنزهة؛ ولكن لتتجرأ إسرائيل على شنِّ الحرب علينا.. لتتجرأ، ولسوف نريها أي رجال نحن!