المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أصول القراءة المعرفـية للنص القرآني من خلال أطروحات الجابري - الحلقة الثانية



فؤاد بوعلي
06/06/2007, 08:28 PM
[align=justify]في إطار متابعة ''التجديد'' لما يتيسر في موضوع القراءات الجديدة للتراث عموما وللنص القرآني على وجه الخصوص، نقدم للقراء هذه المادة التي يتناول فيها الباحث عبر حلقات ثلاث بعد التمهيد جوابا عن كيف استقبلت طروحات الجابري حول النص القرآني؟ وما هي الشروط المؤطرة لقوله سواء في جانبه الموضوعي أو الإيديولوجي أو المنهجي.ثم تناول الأصول الاستدلالية والمنهجية للقراءة الإيبستمية للنص، والتي تنتهي عمليا إلى الحكم بتاريخية النص وزمنية الرسالة وبشرية مستقبلها الأول بما يكاد يجردها من صبغتها النبوية، وكذا تناول ما يتعلق بترتيب النزول للوصول إلى نسبية النص وعقلانيته وصلاحية إعمال الشك الديكارتي فيه، لينتهي الجابري إلى رفض المعجزات و النظر للنص كجزء من التراث العقلاني،وحاول الباحث في الأخير الإجابة عن سؤال: ما هو الجديد الذي أتى به الجابري؟ وفيما يلي الجزء الثاني من هذه الحلقات:

ب ـ الشرط الإيديولوجي : إن الهدف الرئيس عند الكاتب هو تقديم تعريف القرآن للقراء العرب والأجانب بعيدا عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي . فحديث الكاتب ليس بريئا ، بل هو مدفوع برغبة عميقة لإعادة قراءة النص إلى مجال البحث الأكاديمي والدفاع عن عقلنته في وجه التيارات التي تستغله من أجل مطامحها السياسية . وهو في عمله هذا لا يستطيع الانفكاك من موقف إيديولوجي تقوده النخبة العلمانية التي تدعو إلى مراجعة فكرية لموقع النص داخل فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي ومحاولة ربطها بمجال الإنتاج حتى يسهل تطويعه للنظر الإنساني النسبي . فما يميز النص القرآني هو إقراره بغياب مؤسسات التأويل التي تمتلك الحقيقة كما كان معروفا في أوروبا وبالتالي فمعرفته مشاعة بين كل الناس والجميع يمكنه المشاركة في عملية القراءة . هذا الموقف هو مساهمة في تحرير النص من سلطة العقل الفقهي وعرضه على العقل الفلسفي والتأويلي .''والحق أن ما يميز الإسلام رسولا وكتابا ، عن غيره من الديانات هو خلوه من ثقل الأسرار التي تجعل المعرفة بأمور الدين تقع خارج تناول العقل '' .8 هذا إضافة إلى أن حديث الجابري كان مؤطرا بالبحث عن أسس تاريخية وفكرية لقضايا الحوار الحضاري المنتشرة في عالم ما بعد أحداث أيلول .'' إن هدفنا هنا من طرح التصور اليهودي والمسيحي للوحي والنبوة في وقت يكثر فيها الحديث عن حوار الديانات والحضارات هو إبراز خصوصية تصور كل من الديانات السماوية الثلاث ، لموضوع هو أساس الاختلاف بين هذه الديانات ومنه تتفرع المسائل الأخرى المختلف حولها ''.9 إن الكتاب في مجمله موجه بقضايا إيديولوجية معاصرة وله غاية أساسية في الجواب عن الأسئلة الفكرية والسياسية الحديثة ، لذلك يعترف منذ المقدمة أنه يجمع بين التاريخ والسياسة بدعوى أن الإسلام هو من جمع بينهما .10

ج ـ الشرط المنهجي : بهذا المؤلف يكون الجابري وفيا لمقدمته المنهجية التي اختطها في ''نحن والتراث'' التي تقوم على قراءة نقدية عقلانية لنصوص التراث العربي حتى غدا زعيم العقلانية العربية . وبتعبير جورج طرابيشي : '' الجابري هو وحده الذي استأثر دون من تقدمه بامتلاك حقوق ملكية التعبير وبامتياز تمثيل العقل العربي تحليلا ونقدا وترويجا للمفهوم بما هو كذلك في المجال التداولي للثقافة العربية المعاصرة ''.10 ويبرز هذا المنحى العقلاني ـ الذي سوف نتعرض له بالدرس والتحليل ـ بقراءته النقدية لمختلف الروايات والمصادر التاريخية . إضافة إلى محاولته تبني منهج علمي موضوعي يقارب النص بعيدا عن ظلال الانتماء العقدي . ''إن خطابنا هنا لن يكون خطاب دعوة ، ولا خطابا مضادا لأية دعوة . إنه خطاب ينشد التعبير عن الحقيقة كما تبدت لنا من خلال موقف حيادي موضوعي من الوقائع وتعامل نقدي مع المصادر . وإذا كان لا بد من تقديم مثال على ما نطمح إليه هنا من الحياد الموضوعي والتعامل النقدي فلنقل أننا سنسلك المسلك نفسه الذي سلكناه في الأجزاء الأربعة من كتابنا نقد العقل العربي ''.11 وهو وإن كان يعترف باختلاف المجالات ، لأن القرآن ليس تراثا ، فإن حضور العنصر المنهجي في مقاربته يتمثل في إخضاعه للتحليل النقدي وضبط ترتيبه وإعادة هيكلة معماره . وبذلك يظل الجابري نسقيا في استعماله لنفس الآليات الإجرائية . وهذا ما يبدو خلال القضايا المتناولة .

3 ـ الأصول الاستدلالية والمنهجية للقراءة الإيبستمية للنص:

بالرغم من دعاوى الكاتب بأن دراسته تبغي البحث عن حقيقة النص القرآني وفق فهم معاصر، فإن وراء أكمة الحديث ثلة من الأسئلة التي شغلت الجابري وتحكمت في معمار الكتاب . حيث تتلخص مصادرات الجابري في محاولة ضبط أبعاد الظاهرة القرآنية التي حددها في ثلاثة : بعد زمني يتجلى في العلاقة بالرسالات السماوية عبر ضابط الوحدة وتغليب الانتماء العقدي على الخلاف التشريعي ، وبعد روحي تتضمنه تجربة الوحي من خلال عنصري الزمن والبشرية ، وبعد اجتماعي من خلال تبليغ الدعوة وما يرتبط بذلك من عقلنة للنص وإخضاعه لنسبية المجتمع .

والواقع أن الكتاب ، انطلاقا من عنوانه ، يبين أنه وقوف عند عتبة النص ، بحيث يحاول تقديم قراءة شمولية لمحتوياته دون الدخول في دهاليز التفسير والتأويل . فهل هناك فعلا فرق بين التفسير والقراءة ؟ . لا يمكن أن نبرأ صاحبنا من تقديم جملة من التوجيهات الدلالية للنص القرآني من خلال اعتماده لفهم معين مثل تفسيره قوله تعالى : ''لايمسه إلا المطهرون '' بأن المقصود ليس المصحف ـ كما هو متداول في الثقافة الشعبية ـ بل المقصود هو اللوح المحفوظ . مما يعني أن طهارة القرآن تخضع للمساءلة ونقل النص من مستوى القدسية إلى مستوى الطبيعية . فالكتاب (مدخل) من بين مداخل عدة تحاول مقاربة أوجه النص المختلفة كما تحيل عليه صيغة التنكير الدالة على العموم .كما أن الجزء الأول الذي نحاول بسط الحديث عنه هنا لا يخرج عن كونه تعريفا بالقرآن ، والثاني سيتناول ''موضوعات القرآن'' . ودون الاحتفاظ بالتقسيم الجابري المبني على ثلاثة أقسام : وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث ومسار الكون والتكوين والقصص القرآني ، سنوجز الحديث عن أهم قضايا الكتاب التي شغلت صاحبنا وترددت في محاور عدة حتى أمكن القول بأنها العلل المؤسسة للقول الجابري : وحدة الأصل العقدي ، والأمية والعوائق المعرفية ، وجمع القرآن وترتيبه :

لقد قلنا سلفا أن مختلف الردود والنقاشات التي تناولت قراءة الجابري للنص القرآني قد وقفت عند حدود القضايا التفصيلية في حديثه . وهو أمر لم يستطع ملامسة جوهر القراءة الجابرية . وكما قال جورج طرابيشي : '' إن نقد الجابري ينبغي أن يدحض الإشكاليات لا النتائج'' .26 وفي هذا نعتقد أن قارئ الجابري لا ينبغي أن يعتد بتصريحاته ومواقفه التبريرية '' الاعتذارية''، بل ينبغي الرجوع إلى تفكيكاته وأسسه المنهجية . فما الذي أضافه كتاب الجابري؟ وبعبارة أخرى : ما هي القيمة المضافة داخل حرب القراءة وسوق التأويل ؟

إن الجابري لا يستنسخ قراءة متداولة ، ولذلك لا نجد أثرا للكتابات الحديثة داخل قائمة إحالاته . بل هو يبشرنا بقراءة معرفية إيبستمية للنص . فما هي مقومات القراءة المعرفية ؟

إن قراءة الجابري لا تتم إلا في سياق عام وآخر منهجي : الأول يتعلق بظروف النص والمحاولات الحداثية من أجل تحريره من قبضة علماء التراث والانطلاق به نحو التجديد . والثاني يرتبط بالسيرورة المنهجية للجابري التي اختطها لنفسه منذ كتابه ''نحن والتراث'' والتي لا يمل من الإشارة إليها في هذا الكتاب حتى يبدو نسقيا في فكره ومنهجيا في تصوره . يقول في المقدمة : '' لعل كثيرا من القراء الذين يتابعون أعمالنا يذكرون أننا قد حددنا لأنفسنا منذ ما يزيد من ربع قرن (منذ مقدمة نحن والتراث 1980) منهجا ورؤية فيما نقوم به من أبحاث في موروثنا الثقافي ''.27 فبالرغم من اختلاف مجال الاشتغال وآلياته ، بحكم اعترافه أن القرآن ليس من التراث ، يحب الجابري أن يبدو متسقا في فكره وغير متحول مما جعله بحق أحد أساطين الفكر العربي المعاصر بل رأى فيه جورج طرابيشي عقبة إبستمولوجية في وجه كل تجديد أو اجتهاد .لأنه ملك مفاتيح العقلانية وطبع قراءة العقل العربي للتراث بطابعه الخاص . فما هي عناصر هذه القراءة الجابرية للتراث والقرآن ؟

لعل الجديد عند الجابري إبان إصدار ''نحن والتراث'' هو موقفه المتميز من القراءة الإيديولوجية للتراث العربي التي شاعت في السبعينات من خلال كتابات مروة ومهدي عامل وعبد الله العروي صاحب العرب والفكر التاريخي وغيرهم من دعاة الماركسية العربية . ولذلك اقترح الجابري قراءة للتراث تجمع بين الإيديولوجي والمعرفي حيث يبحث في التوظيف الإيديولوجي للكتابات الفلسفية العربية دون الإخلال ببنائها الإيبستمولوجي ودون الدخول في الصراعات التراثية كما فعلت القراءات السلفية بأنواعها الثلاثة : الدينية والليبرالية والماركسية التي لا تختلف إلا في نوع السلف المقتدى به . لذا يقترح علينا قراءة تجعل المقروء معاصرا لنفسه ولنا في نفس الوقت . فهو معاصر لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي . ومعاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية . فعندما يتناول تراث الفارابي فإنه يعالجه من خلال إشكالية التوفيق بين الدين والشريعة ودوره الإيديولوجي في صراع الطبقات داخل المجتمع العربي ، لكن من خلال عرضه على أسئلة العقلانية المعاصرة وإنتاجات الفلسفة الحديثة . بهذا الشكل يكون الجابري قد حقق قراءة معرفية متميزة على مستويين : منهجا ورؤية . فمن حيث المنهجية المعتمدة يعترف بثلاثيته البحثية الموضوعية : المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والبحث الإيديولوجي . وبذلك يتم وصل القارئ بالمقروء بالبحث عن الحقيقة الموضوعية للطروحات التراثية . ومن حيث الرؤية يتبنى الباحث وحدة الإشكالية داخل الفضاء التداولي العربي الإسلامي . إذ كل فكر هو تاريخي بطبعه ونتاج لسؤال معرفي محدد ومن هنا يأخذ البحث التاريخي للفكر مشروعيته.

وقد ظل الجابري وفيا لهذه المقدمة المنهجية في كتابه الجديد من خلال تعامله مع النص القرآني وفق مبدأ : جعل المقروء ( النص القرآني) معاصرا لنفسه وللمتلقي . وتحقق المعاصرة من خلال ربط النص بفضائه الإنتاجي '' فالظاهرة القرآنية ، وإن كانت في جوهرها تجربة روحية ، نبوة ورسالة ، فهي في انتمائها اللغوي والاجتماعي والثقافي ظاهرة عربية ، وبالتالي يجب أن لا ننتظر منها أن تخرج تماما عن فضاء اللغة العربية، لا على مستوى الإرسال ولا على مستوى التلقي ''.28 أما جعله معاصرا لنا فيتم من خلال التناول الموضوعي لقضاياه على مستويين : مستوى التجربة الدينية التي هي ذاتية في جوهرها كما كانت عند الرسول وهذه إحالة إلى التوجه العلماني ، ومستوى الفهم والمعقولية من خلال استيعاب النص ومعالجته . ومعنى ذلك أن الجابري يضع النص في إطاره الموضوعي الإنتاجي والحاجة المعرفية الحالية له .وهنا يتكيز عن القراءات الأخرى باستحضاره لمعرفة النص وتركيزه على الجانب الإيبستمي في قراءته من خلال جمعه بين أصول استدلالية تفرقت في باقي القراءات والتي نعتقد أن أهمها هي :

أ ـ تاريخية النص : يوظف الجابري ترسانة من المفاهيم والروايات بغية رد كل التراث التفسيري الذي يتعامل مع القرآن بوعي ديني يتجاوز التاريخ ويعلو عليه ووصل الآيات بظروف بيئتها وزمانها وبسياقاتها المختلفة . فالقرآن ينتمي ثقافيا واجتماعيا إلى وسطه الإنتاجي كما يوضحه النص السابق من خلال مستويات : زمنية الرسالة وبشرية المستقبل الأول ومنهج الترتيب و نسبية النص.

أولاـ زمنية الرسالة :من خلال التأطير التاريخي لظهور الدين الجديد يحاول الجابري ، في أكثر من مناسبة ، الإشارة إلى الارتباط اللزومي بين النص والواقع الذي ظهر فيه . فالقرآن له مقدمات واقعية لبروزه تتمثل في التمهيد الذي قدمته الأديان التوحيدية مثل الأريوسية والحنيفية من خلال تبشيرها بظهور الدين الجديد وإيمانها ببشرية الرسول بدل التنزيه والتأليه الذي قدمته المذاهب المسيحية السابقة . إضافة إلى مجموعة من المؤشرات التي تثبت التركيز على السياق الثقافي للنص القرآني ولصاحبه من نحو:

ـ تفسير استقبال النجاشي للمهاجرين المسلمين بوجود علاقة عائلية بينه وبين الرسول نظرا لإقامته السابقة في شبه الجزيرة وليس ما توافق حوله الرواة من اعتقادات روحية وإيمانية.29

ـ التفسير الاقتصادي للدعوة المحمدية من خلال تبرير رفض قريش للدعوة بكونها مس خطير بموردهم الاقتصادي الأساسي أي الأصنام .

ـ ارتباط الجهاز الاصطلاحي للنص القرآني بالفضاء التداولي حيث تكثر فيه خلال المرحلة المكية ثنائيات من قبيل : توحيد / شرك ، إيمان / كفر...

ـ استحضار النسبية البشرية في جمع القرآن حيث لا يستبعد وجود أخطاء في الصحف وطرق جمعها وعدد الآيات المتوفرة فيها .

د. فؤاد بوعلي
أستاذ في التواصل واللغويات العربية
نائب رئيس الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب
رئيس تحرير مجلة واتا للغات والترجمة

الهوامش

[font=Wingdings]8 ـ[size=3]
http://www.attajdid.ma/def.asp?codelangue=6&ref=2