المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صور الإرضاع في اللغة العربية ... لمسة بيانية



منذر أبو هواش
07/06/2007, 08:46 PM
صور الإرضاع في اللغة العربية ... لمسة بيانية
الكاتب الدكتور جلال أمين نشر في (المصري اليوم) مقالا ناريا حول رضاعة الكبير تحت عنوان (هؤلاء الشيوخ العظام ... وفتاواهم المدهشة قال فيه ما يلي:

(أما رئيس قسم الحديث فكان الموضوع الذي تكلم فيه هو إرضاع الكبار ... أي قيام امرأة لديها قدرة على الإرضاع بتسليم ثديها لرجل لا لطفل رضيع، وضرب مثلا لذلك بقيام امرأة عاملة بإرضاع زميل لها في العمل في غرفة مغلقة ... الخ.)

لقد قام هذا الكاتب الكبير (وللأسف الشديد) بتحريف وتضخيم هذه المسألة الشرعية الخلافية، وفسر إرضاع الكبير هنا على أنه تسليم المرأة ثديها لرجل غريب رغم بداهة ما في ذلك من مخالفة شرعية لا تخفى على صبي صغير. ولا يخفى على المتخصصين ما في هذا التفسير من تعسف وتحريف ومغالاة، علما بأننا لم نسمع مثل هذا التفسير المغلوط والمخالف لأبسط القواعد الشرعية من أي من علماء المسلمين الأوائل أو المتقدمين، ولا حتى من العلماء الأطراف في هذه القضية.

ربما يتبادر إلى أذهان كثير من الناس من أمثال هذا الكاتب الكبير أن فعل الإرضاع لا يكون إلا بتسليم المرضع ثديها لمن يرضع، فهذه أكثر الصور شيوعا لفعل الرضاعة، ولكن هل يوجد للرضاعة في لغة العرب صورة غير هذه الصورة أو معنى غير هذا المعنى.

الشيء المشترك الذي يجمع بين الناس الذين لا يرون فعل الإرضاع إلا على هذه الصورة التقليدية هو أنهم لم يسمعوا قط بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة (رضي الله عنها) حول رضاعة الكبير، وهو حديث أبي حذيفة (رضي الله عنه) الذي تبني قبل تحريم التبني في الإسلام غلاما اسمه (سالم)، وأنه لما بلغ الغلام سالم المتبنى مبلغ الرجولة، التبس الأمر على أمه بالتبني أم حذيفة وشق عليها دخوله عليها (لكونه قد كبر ولم يكن ابنا بيولوجيا حقيقيا لها)، وأنها ذهبت تستفتي الرسول (عليه الصلاة والسلام)، فقال لها: (أرضعيه تحرمي عليه). ومن المعروف لدى المفسرين العلماء وحتى لدى المسلمين البسطاء أن إرضاع الكبير المحرم يعني سقايته لبن الرضاعة من إناء بمعزل عن المرضع المحرمة عليه.

لن أعيد هنا مناقشة المسألة التي أشبعها العلماء بحثا ودراسة، فقال بعضهم أن الحديث منسوخ بما جاء بعده وبعد تحريم التبني في الإسلام، وقال بعضهم إنه خاص بسالم (رضي الله عنه)، وقال آخرون إنه عام محكم، والقول بأنه عام محكم يعني أنه يكون فيمن يكون حاله كحال سالم (رضي الله عنه)، وهو أمر غير موجود قطعاً، لأن الشرع قد أبطل التبني وحرمه. كما أن قلة من العلماء استدلوا بالحديث المذكور على أن رضاع الكبير مؤثر ومحرم، من بينهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله الذي ربط ذلك بالتفصيل، وقال إذا دعت الحاجة إلى إرضاع الكبير وأرضع ثبت التحريم، وإلا إذا لم يكن ثم حاجة لم يثبت.

ومن المعروف كذلك أن العلماء اتفقوا على أن الرضاع المحرم هو رضاع من دون الحولين لبناً أكثر من خمس رضعات، وأنه لا يحرم من الرضاع إلا من كان في الحولين، لقوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة" [البقرة:233]، ولقوله ( صلى الله عليه وسلم): "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" رواه الترمذي من حديث أم سلمة (رضي الله عنها)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئاً، ا.هـ.

أضف إلى ذلك استدلال العلماء بالنهي النبوي عن الخلوة بالنساء (الحمو الموت) الذي حذر فيه من خلوة قريب الزوج لزوجته، ولو كان الرضاع موجباً لتحريم الخلوة لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لدعاء الحاجة لبيانه لقال مثلا إذا كان للزوج أخ وهو معهم في السكن فهو محتاج إلى أن يخلو بزوجته، ولو كان ثمة علاج لهذه الحالة الواقعية التي يحتاج الناس إليها لقال الرسول عليه الصلاة والسلام ترضعه وتنتهي المشكلة، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع دعاء الحاجة إليه في هذا الأمر العظيم، دل هذا على أن لا اثر في رضاع الكبير، وهذا هو الراجح وأنه ينبغي تجنب إرضاع الكبير مهما كانت الظروف حتى لا يقع في مشاكل.

اللمسة البيانية

عرفنا مما ذكر بأعلاه أن إرضاع الكبير المحرّم عن طريق سقايته لبن الرضاعة بشكل غير مباشر من إناء بمعزل عن المرضعة المحرّمة عليه ومن دون المخالفة الشرعية باستلام ثديها هو أحد صور وأحد معاني فعل الإرضاع في اللغة العربية.

هذا بالإضافة إلى الصورة التقليدية المتعارف عليها لفعل إرضاع الطفل الرضيع من خلال استلامه ثدي أمه أو ثدي مرضعته بشكل مباشر، ونظرا لأن إدرار اللبن وفعل الإرضاع بهذه الصورة تنفرد أو تختص به الإناث من دون الذكور، تُمنع صفة (فاعلة الإرضاع) من التأنيث فيقال (مرضع أي ذات لبن) عندما يكون إدرار اللبن والإرضاع بهذه الصورة المباشرة هو المقصود مثلما نقول حائض , طالق , طامث، عاقر، قاعد، كاعب, ناشز و ناهد، وهي كلها صفات تنفرد بها المرأة من دون الرجل طبقا للقواعد المرعية في فصيح لغة العرب.

في لغة العرب تعتبر أفعال المرضعة مع رضيعها كلها أفعال إرضاع مهما اختلفت صورها، فإلقامها ثديها هو إرضاع (وهو الصورة التقليدية الشائعة لفعل الإرضاع)، وتقديمها لبنها بواسطة كوب أو إناء أو رضّاعة هو إرضاع، وعناية المرضعة برضيعها ورعايتها له وحمله على صدرها على هيئة الإرضاع (وإن لم يستلم ثديها) هو إرضاع.

ونظرا لأن كافة هذه الأفعال التي تقوم بها المرضعة (ما عدا الإرضاع المباشر) يمكن للرجل أن يقوم بها، فلا يصح لغة أن نصف المرضعة بالمرضع في الصفات والصور التي يمكن فعلها من قبل النساء ومن قبل الرجال على حد سواء.

ودليل ذلك في قوله تعالى في الآية (2) من سورة الحج:

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى
وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ

قال سبحانه وتعالى (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) ولم يقل (كُلُّ مُرْضِع)، لأن (مُرْضِع) من الصفات الممنوعة من التأنيث التي تنفرد أو تختص بها الإناث من دون الذكور، وهي تدل على صور (المُرْضِع) وتدل في الوقت نفسه على صور (الإرضاع) التي تنفرد بها الإناث من دون الذكور.

أما قوله (مُرْضِعَةٍ) تأنيثا لصفة (مُرْضِع) فيؤدي إلى استبعاد المرأة القادرة على در اللبن ومباشرة الإرضاع من الثدي من السياق، ويعني أن المراد والمقصود هنا هو الإشارة إلى صورة أخرى من صور الإرضاع تكون مشتركة بين الذكر والأنثى، ويستطيع كل منهما القيام بها.

صورة الإرضاع المقصودة هنا هي حمل الطفل الرضيع ووضعه على الصدر في وضع الإرضاع (وهذا أمر يمكن للرجل أيضا أن يفعله)، لأن المرأة تذهل عن الرضيع إذا كانت غير مباشرة للرضاعة، فإذا التقم رضيعها الثدي واشتغلت برضاعته لم تذهل.


وهذا الفرق الدقيق بين معنى (المرضع) ومعنى (المرضعة) يشبه الفرق بين (المرأة الحامل) و (المرأة الحاملة)، فالمرأة الحامل حامل في بطنها، أما المرأة الحاملة فهي الحاملة بيديها أو على ظهرها، فالحمل الأول (حمل الجنين) صفة تختص بها المرأة، وأما الحمل الثاني فهو (حمل الأشياء باليدين أو على الظهر أو بأي شكل كان)، وهي صفة مشتركة بين الذكر والأنثى، ولذلك فهي تذكر مع الذكر، وتؤنث مع الأنثى.

والله أعلم،

منذر أبو هواش

فوزي علي
08/11/2007, 09:14 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيرا على اللمسة البيانية رغم انني لست بلغوي.
الفرق بين المرضع والمرضعة لطيف. لكن لم أجد أي عزو لأي من مصادر اللغة أو التفسير في اللمسة البيانية. هل ذلك من اجتهادك أخي العزيز؟

للعلم هذه أول مرة أكتب في المنتدي. أتممت التسجيل البارحة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

منذر أبو هواش
08/11/2007, 11:09 PM
الفرق بين المرضع والمرضعة لطيف. لكن لم أجد أي عزو لأي من مصادر اللغة أو التفسير في اللمسة البيانية. هل ذلك من اجتهادك أخي العزيز؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخي فوزي،

أشكرك على تخصيصي بمشاركتك الأولى، وأنتهز هذه المناسبة للترحيب بك بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن إدارة الجمعية والمنتديات.

الفرق بين المرضع والمرضعة معروف وثابت من الناحية اللغوية، وليس شيئا جديدا، وإن اختلفت الأفهام والتفسيرات، ويمكنك العثور على كثير من الإشارات القديمة والحديثة إلى هذا الفرق في المراجع اللغوية وكتب التفسير.

ورغم اتفاق العلماء والمفسرين على الخطوط الرئيسية لاختلاف المعنى بين الكلمتين إلا أن اجتهاداتهم أيضا قد اختلفت بدرجات متفاوتة، وقد اكتفيت هنا بتبيان المعنى الذي أرتاح إليه.

قال الزمخشري: "فإن قلت : لم قيل (مرضعة) دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثدييها الصبي، والمرضع هي ذات الإرضاع التي شأنها أن ترضع وان لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة." هذا ما ذهب إليه الزمخشري.

وقيل في المخصص: "نقول امرأة حائضةٌ غدا ومرضعةٌ غدا فلا ينزعون الهاء، لأنه شيء لم يثبت وإنما الإخبار عنه على لفظ الفعل وهو قولنا تحيض غداً وترضع غدا وقد يجوز أن يأتي في مثل هذه الهاء على معنى الفعل. كما نقول حائض: ذات الحيض ولم يجيء على الفعل، وتقول: هي حائضة غدا لا يكون إلا ذلك، لأنك إنما أجريتها على الفعل، على هي تحيض غدا، هذا وجه ما لم يجر على فعله فيما زعم الخليل. فدخول التاء على اسم الفاعل وسقوطها ليس للتأنيث أو التذكير وإنما على إرادة الفعل والنصب أو على الحدوث والثبوت أي على الفعلية والاسمية. وقد لا تلحق التاء صفة المؤنث استغناء عنها أو اتساعاً اما ما يستغني عن التاء فما كان من الصفات مختصا بالمؤنث، ولم يقصد به قصد فعله: من إفادة الحدوث، نحو: حائض، وطامث، بمعنى ذات أهلية للحيض، والطمث دون تعرض لوجود الفعل، فلو قصد انه تجدد لها الحيض أو الطمث في احد الأزمنة، لحقت التاء، فقيل (حائضة، وطامثة).

ومن ذلك (امرأة طاهر) من الحيض و (امرأة طاهرة) أي نقية من العيوب وكذلك (امرأة حامل) من الحمل و (حاملة) على ظهرها أو تحمل شيئا ظاهرا و (امرأة قاعد) إذا قعدت عن المحيض و (قاعدة) من القعود و (امرأة حامل) إذا حملت جنينا في بطنها و (حاملة) إذا حملت شيئا بيدها أو على ظهرها ففرق بينهما بالتاء لافتراق المعنيين، ولأن الأولى صفة تختص بها المرأة، والثانية صفة مشتركة بين الذكر والأنثى، ولذلك فهي تذكر مع الذكر، وتؤنث مع الأنثى."

فالفرق اللطيف يا أخي يكمن في الدقة والبلاغة الحاصلة من الاختلاف في استخدام الفرق بين الصفات المذكرة الممنوعة من التأنيث لفعل ما من جهة، والصفات المؤنثة بتاء التأنيث لنفس الفعل من جهة أخرى. وقد تنبه إلى هذا الفرق كثيرون.

والله أعلم،

منذر أبو هواش

:fl:

فوزي علي
09/11/2007, 08:32 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيرا...الشرح واضح كافي.
وأشكرك بخصوص الترحيب وان شاء الله أستفيد من هذا المنتدى ولعلي أفيد.

بالمناسبة هل كتابة الجملة التالية هكذا "الشرح واضح كافي" صحيحة؟ وان كانت كذلك ما اعراب كلمة "كافي". الاشكال في كتابة واعراب كلمة "كافي"؟ هل تحذف الياء؟

و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

منذر أبو هواش
09/11/2007, 09:24 AM
الصواب: الشرح واضحٌ كافٍ.

القاعدة أن الياء تحذف من الاسم المنقوص (المنتهي بياء)
إذا كان نكرة مرفوعة أو نكرة مجرورة ويعوض عن الياء بتنوين كسر.

{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ (الزمر 36)

:fl:

فوزي علي
10/11/2007, 12:19 PM
جزاك الله خيرا أستاذي الكريم ووفقكم الله وايانا الي اتباع سبيل المؤمنين