المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة فنلندية / ترجمة : نهاد عبد الستار رشيد



نهاد عبد الستار رشيد
30/10/2006, 08:20 PM
ﭙنتي هانبا Pentti Haanpää


(ﭙنتي هانبا)، (1905-1955)، الّف عشر روايات وثلاثمئة قصة قصيرة. كتب عن الخشابين، ورجال الغابات، والمزارعين والملاكين الصغار، اسلوبه المتميّز جعله واحداً من اكثر كتّاب القصة القصيرة شعبية في الادب الفنلندي. تكمن قوة هانبا في قصصه القصيرة. انه يكتب في مجال الادب الذكوري، عن عالم الرجال: قطع الاخشاب، واعمال يدوية مرهقة أخرى، اضافة للتجوال لمسافات طويلة سيراً على الاقدام، والحرب، والصيد، والرياضة.
لغته ذكورية ايضاً: وغير مهذبة، وخشنة احياناً، وكثيفة وبليغة. مقياس هانبا للعواطف والانفعالات تتدرج على نطاق واسع ومتنوّع،و لكن توجد نغمه جهيرة غالباً ما يتردد صداها في عمله. انها واحدة من الخصائص التي تمنح اعمال هانبا طابعها الخاص والمتميز: انهماكه بالرديء والقبيح.
من المستحيل تفهّم هذا الانهماك الاساسي في عمل هانبا من دون معرفة البناء الداخلي لعالم قيمه. قبل كل شيء، انه يقيّم الجمال، وهذا لا يعني انه محبّ للجمال، بل ان هانبا يعتبر كل القيم الاخرى كقيم زائلة وغير جديرة بالاعتماد... ولكن ما هو مؤكد ومحدد، القيمة الجمالية للعالم: الكلمة جميلة وقبيحة مثل الناس تماماً. يحتوي السرد الخيالي الآن، طبعاً، على رمزين آخرين بالاضافة الى الشخصيات: الرواية والكاتب. بوسعهم جميعاً ان يكتشفوا و يجربوا العاطفة والانفعال، لكن النتيجة مختلفة: حين تشعر احدى الشخصيات بالابتهاج، فهذا لا يعني بالضرورة ان الراوية يشعر بنفس الانفعال... يعتقد هانبا ان الجنس البشري طفيلي ويترك اثاراً قبيحة على سطح الارض. تكمن مشكلته في الرداءة والقبح المتمثلان بالاغلبية. يتضح هذا المفهوم بشكل جلي في مجموعته القصصية الصادرة عام (1950) تحت عنوان (المحبة) Hyväntekeväisyyttä ، والتي تعد واحدة من افضل مجموعاته القصصية واكثرها قوة وحيوية. هناك شخصيتان: رجل عجوز ومحطّم على وشك الافلاس، واحد سكان الغابات الخلفية الاصليين...
هناك وجهة نظر اكثر اتساعاً، تنعكس في جميع قصص هانبا، القصيرة منها والطويلة تقريباً. يُظهر الكاتب التناقضات والتباينات بين الاشياء القبيحة والجميلة بطريقة تشير الى ان الشخصيات لا تدرك ولا تعي عنصر الجمال، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الرواية.
يشير هانبا في واحدة من قصصه القصيرة بان الغابة في اثناء التجمّد الشتوي القاتم جميلة للغاية، الا ان الرجال في القصة منهمكون بافراط في العمل اليومي، والتسابق من اجل امتلاك مزيداًمن الاراضي... من ناحية ثانية، يؤكد هانبا بان الجنس البشري، الشرير والقبيح، محاط بالجمال المتسّم بالحب والسعادة... وبان الكاتب حرّ في التركيز على التباينات.


ﭙنتي هانبا Pentti Haanpää

(ﭙاتسو، فنان معسكرات الخشب المنشور)

عميقاً في البراري، اذ لا صوت سوى صوت التنهيد الفطري الحزين للغابة، من اليسير الخضوع لمزاج السأم والكآبة. قد يحدث لك احياناً ان تبدد حياتك في مثل هذا المكان، فيما تتواصل الحياة الحقيقية في مكان آخر، في اماكن اكثر سكاناً، واكثر رمزاً للنشاط الانساني، واكثر ضياء وابتهاجاً...
حين تسقط شجرة، تكون قد قطعت وتراً من تلك الآلة الموسيقية، الغابة. تنشرها زنوداً من خشب، تنتزع اللحاء: يبدو ذلك كله مملاً وعقيماً تماماً. يواصل المطر، احياناً، هطوله لايام عدة: الاشجار تتصبب ماءً وبرداً، وتتدلى من طرف كل ورقة ابرية قطيرات ماء. تحاول الوصول الى ملتجأ معسكر الخشب المنشور، لكن كوخ الاستراحة ذا السقف الواطيء، في عمق الغابة، يبدو مكاناً موحشاً، الوجوه المعروفة مملّة للغاية، والحديث لا طائل تحته. تشعر كأنك تعرف مسبقاً ما سيقوله كل رجل. والطعام، ايضاً، هو نفسه كالمعتاد، نفس عصيدة ، دقيق الذرة المغلي في الماء ، القديمة والعديمة النفع. منظر القدر، بجوانبها المسودّة لا يبهج النفس: تعرف جيداً ما تحويه، واوراق اللعب القذرة تلك، كم تثير الاشمئزاز! تكفي رؤيتها ان تشعرك بالتلوث...
ثم يأتي (ﭙاتسو)- ﭙاتسو الاحمق، بعد ايام من التجوال في الغابة، يصل من خارج العالم، حيث هنالك اناس اخرون، ومعسكرات أخر. بعضنا، طبعاً، يعرفه من وقت سابق: رجل قصير بعض الشيء، لا احد سيحسبه بريئاً خالياً من سوء النية...
" أتريد لقمة اكل ؟ " يسأل احدهم.
" حسناً، ان شئت... "
المعسكرات متباعدات عن بعضها، لا يتوفر الطعام دائماً في حقيبة الظهر،الموارد المالية ضئيلة...
يُجبر (ﭙاتسو)، في احوال كثيرة، على تذكّر القول القديم: دع رجلاً يأكل ما يكفيه ليوم، وشخصاً تافهاً لاسبوع... وسرعان ما ستتضح لك ، وانت تراقبه، مدى شراهته للطعام . الخبز، الزبد، عرق الشواء، تتلاشى كلها امام عينيك: وجبات حساء ومواخير ايضاً، ان وجدت. لكن (ﭙاتسو) عندما اكل كفايته، مسح سكينه بساق بنطلونه، واعادها الى غمدها ، وتجشّأ تجشؤاً جيداً، وسوف يقول: " والان سوف اريكم بعض تعابير قسمات وجهي. "
لان (ﭙاتسو) كان فناناً صادقاً لا مثيل له: في فن اظهار التعابير على الوجه لاضحاك الاخرين. لا تبدو بشرة وجهه ورأسه متصلة بجمجمته في أي موضع منها. الاذنان يتحركان، والانف بوسعه ان يتلوى بنفسه في أي اتجاه، والفم سيتمطى، وينقبض، ويلتوي على الجنب، ويندفع الى الامام، ويدور كالخذروف. كان الاداء مدهشاً، خصوصاً، ان لم تكن قد شاهدته سابقاً، اذ تجلس فاغر العينين ، وتتساءل عما اذا كان بالامكان حقاًان يحدث ذلك... اوه، لا، انها تختلف تماماً عن الحياة العقيمة التي يعيشها (ﭙاتسو)، كان يسير لمسافات طويلة على الاقدام ، من معسكر الى آخر، حاملاً رسالته. وقد تتساءل، ما هي رسالته ؟ بالنسبة لقاطع اشجار يشعر بالضجر، وبوطأة التوحّد، وقد ظلمته واضطهدته حياته في الغابة، فان مشهد هذا القناع المتغيّر والمتقلّب، والتواءات تقاسيم الوجه الغريبة والمضحكة هذه، يجب ان تجلب، من دون شك، فكرة المواساة والسلوان احياناً: لم يعتبر هذا الرجل أحمقاً، وهكذا حياة انسانية، حياة طائشة لا غير؟
كان (ﭙاتسو) الاحمق فناناً، يعيش بمنزلة لا تقل عن منزلة مُبشّر متجوّل، عبر ممارسة موهبته. كان قاطع الاشجار يقدّم له، بابتهاج بالغ، حصة من طعامه، وربما نقداً معدنياً او نقدين اثنين ايضاً، وسوف يعلن (ﭙاتسو) طوعياً وبكفاءة:
" والان سأريكم بعض التعابير الغريبة على وجهي. "
حدثت ل(ﭙاتسو) اشياء كثيرة اثناء رحلاته. كان في طريقه، ذات يوم، الى معسكر بعيد ومنعزل، مع رجلين اخرين. لانهم وافدون جدد الى تلك المناطق، لم يسبق لهم السماع ب(ﭙاتسو) الاحمق، فنان الغابات الخلفية. كان الوقت مظلماً ، والجميع نائمين ، عندما وصلوا الى المعسكر . اشعل الرجلان ناراً في الموقد، فتحا حقيبتي الظهر، وتناولا وجبه مُشبعة، وتلمّظاً شفاههما كثيراً، فيما كان (ﭙاتسو) مضطجعاً وهو يحدّق ويبصق. وكالعادة، ليس لديه مؤن، ولكن ليس من عادته ان يستجدي. بدلاً من ذلك، دمدم متذمراً:
" لا تُذكيا النار في ذلك الموقد، الان، والإ اصبحتما في وضع سيىء "
قَبِلَ الغريبان الاهانة بذل، وذهبا للنوم. لكن احدهما استيقظ في الصباح ليجد حقيبته تتدلى من كلاّبها، وقد انكمشت، وهي فارغة تماماً. قال بصوت مرتفع، وهو يحدّق اليها في حيرة متنامية:
" كانت هذه الحقيبة ممتلئة في الليلة الماضية، وتحتوي على ارطال من الغذاء، تكفيني لمدة اسبوع، والان هي فارغة. هل أخطأ احدهم، ام هناك لصوص على مقربة؟ "
من (ﭙاتسو)، المتخم والمسترخي على اريكته، جاء الجواب:
" لم تكن هناك اية سرقة، انا من التهمه كله، كان عملاً شيطانياً، ألاتستحق ذلك، لتسخينك ذلك الموقد؟ لم يغمض لي جفن طوال الليل، وتلك هي الحقيقة. " بعد التشاور، حسم نُزلاء المعسكر الامر بينهم، لو تبرّع كل رجل، لاصبح بامكانهم تعويض ما فقده الغريب. الا انه شعر بعضهم، ايضاً، بوجوب استنباط عقوبة ما بحق (ﭙاتسو). تمّ ابلاغه بان يقوم برحلة ويقدّم عرضاً في تغيير تعابير وجهه الى كبير عمال المعسكر، الذي لا يحبه أي من الرجال.لذا ، رحل (ﭙاتسو). كان كبير العمال غريباً ، ايضا ، في تلك المناطق ، ولايعرف شيئاً عن (ﭙاتسو). رفع بصره من دون اهتمام عندما ظهر في مدخله رجل قصير بعض الشيء، لا احد سيحسبه بريئاً خالياً من سوء النية.
" هل جئت طلباً للعمل؟ سأل، مقلّبا النظر في (ﭙاتسو) بعناية.
" كلا، " قال (ﭙاتسو). " جئتُ لاعرض تعابير قسمات وجهي. "
ثم باشر في عمله. الاذنان رفرفتا جيئة وذهاباً، والانف تلوى الى عقد، وامتدّ الفم اولاً من أذن ثم الى اخرى، ثم دار من جانب الى آخر، وتمطّى من الذقن الى الجبين. أخذ كبير العمال يُحدّق مدة طويلة بذهول، فاتحاً عينيه الى اقصى مداهما، لكن خطر في باله، اخيراً، انه اصبح في موضع سخرية. وعبر تجوال مرهق سيراً على الاقدام على هذا النحو، كيف يجرؤ الرفيق؟
هاجم (ﭙاتسو) باهتياج، ووجّه اليه العديد من الرفسات والدفع حتى اخرجه من المكتب.
كان (ﭙاتسو)، من ناحيته، قد أصيب بآلام بالغة واغتاظ عندما رأى تعابير وجهه لم تلق التقدير اللازم . بوجه متجهّم، ودون ان يتفوه بكلمة مع احد، غادر المعسكر واستأنف تجواله، بحثاً عن الذين يفهمون رسالته. مهما كانت... ربما لاحظ قاطع اخشاب، يشعر بالضجر وبوطأة التوحّد، وقد ظلمته واضطهدته حياته في الغابة، التواءات الوجه الرائعة هذه،و لويات قسمات الوجه تلك لاضحاك الاخرين، ويعلن بقوة مع نفسه في انفجار مفاجيء من التنوير: لمَ هكذا حياة الانسان_ حماقة فحسب!

ابراهيم درغوثي
25/10/2007, 09:59 PM
عوالم عجيبة هذه القادمة من بلاد الثلج
كم نحن في حاجة الى مثل هذه الترجمات التي تفتحللأدب العربي
نوافذ جديدة على آداب أخرى