المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما التراث؟ رفعا للالتباس



سمير بسباس
15/06/2007, 09:26 PM
ما التراث؟ رفعا للالتباس
الدكتور سمير بسباس
"كل المجتمعات هي حضور لشيء لم يعد قائما
وإعلان متواصل لشيء سيكون"
كرنيليوس كستورياديس


التراث مفهوم مفارق. فهو ما يتركه آباؤنا وأجدادنا ومعالجته تتطلّب منّا أن نعكس مسيرة التاريخ : ننطلق من حاضر إلى ماضي نتفهّمه، نحلّله ونصوغه صياغة جديدة ونطوّره، نتفحصه ونتجاوزه. لكن هل هذا يعني أنه مشروع أو رسالة علينا المحافظة عليها وصونها كما هي وتبليغها أو بعثها من جديد؟ هل التراث معطى تاريخي موحّد، تَرِكة أم أنه زادنا نكمل به مسيرة بدأها أجدادنا دون مراجعة ومنه ننهل كلّما دعت الحاجة وإليه نعود كلما واجهتنا أزمة واعترضتنا عوائق؟ هل هو وصيّة أم بلاغ أم كتاب متعدّد الفصول، متغيّر الأطوار حافل بالتلوّنات والإنقطاعات والتحوّلات علينا أن نرفع عنه الأختام ونخطّ فيه فصلنا الخاصّ؟ هل هو وزر وقدر محتّم أم دفتر للرسومات أم وقف من الأوقاف؟
العديد من المثقفين التراثيين يحصرون التراث في الثقافة العالمة من فقه وعلم كلام ومنطق وفلسفة ويستثنون منه ما عدا ذلك أو لربّما يحشرونه في "الفلكلور" أو في الثقافة الشعبية التي ليست من اهتماماتهم. لكن أليس من التراث أيضا البناءات والمعمار بصفة عامة والمعارف المشتركة لعموم الناس وتجارب الشعوب في التأقلم مع المحيط ومقاومة الآفات الزراعية والحفاظ على الماء والتربة والبذور وما تركه لنا أجدادنا من فنون وموسيقى ومقامات وأثر أدبي ورسوم ونحوت وما انتقاه فلاحونا من بذور ونبات...؟ لا يمكن اختزال تاريخ البشرية في مجرّد رواية لتاريخ الفلسفة. فالتاريخ العربي الإسلامي لا يمكن قصره على كتابات الفارابي وابن سينا وابن رشد ولا على تأويلات الغزالي وابن تيمية وغيرهم من الفقهاء. الأفكار ليست انعكاسا للواقع وإن ارتبطت به. هي تعبير خاص عن أوضاع تاريخية وهذه الأخيرة لم تترقب بروز هذه الأفكار لكي تتكرس وتتجسد في التاريخ. بمعنى آخر التاريخ لا يتلخّص في تاريخ الأفكار.
ما التراث إذن؟ عبد الله العروي يلخّص ذلك في "مجموع الأعمال الإنسانية، التقنيّة، العلميّة، الفنيّة، الاجتماعية، الشكلية، السلوكيّة، الأدبيّة،... وقد تبدو لنا منتظمة أو متناثرة... فلا وجود لتطابق كلّي بين المستويات. فالتناسب لا يعني الإسقاط (مثلا بين النحو وعلم الكلام، بين تخطيط المدينة والهيئة الاجتماعية، بين التصوير الأدبي ومركز الله في الكون...) فلا يستخلص من ذلك أنّ كلّ ظاهرة هي بمثابة وعاء يحلّ فيه معنى واحد (كذلك فإنّ) التناسب لا يعني العلّة والتحديد..." نحن نعتبر أنّ هذا التعريف هو الأقرب للحقيقة، حقيقة التراث. فعدم التناسب التام أو الجزئي بين مستويات وجوانب هذا التراث مرجعه أنّ المجتمع بدلالاته المخيالية العامة والمؤطّرة لسلوك وأفكار ونشاطات البشر لا يمكن له أن يتطابق تطابقا تامّا وبصفة كلّية مع نشاطات الأفراد والمجموعات بالرغم من أنه يجسّد الإطار العام والذهنية التي تتحكّم في المجتمع. لكن الصحيح أيضا أنه داخل هذا الإطار المنغلق تبرز تعبيرات مستقلّة وإبداعات فرديّة وجماعيّة متميّزة من فكر وأدب وفن ومعمار. فالإطار الشامل وإن كيّف المجتمع بدلالاته فإنه غير قادر على القبض على كلّ عناصره. فروح الشعب كما عبّر عنها أبو القاسم الشابي تفيض على هذا الإطار ولا تلتزم به بصفة مطلقة وهذا ما قصده عبد الله العروي بقوله إنّ التناسب لا يعني الإسقاط. فعلى سبيل المثال" إنّ روسيا إلى حدّ القرن التاسع عشر لم يكن لها أيّ موقع في تاريخ الحرية بالرغم من أنها اكتسبت موقعا متقدما وهاما جدا مثلها مثل بيزنطة، في تاريخ الرسم والمعمار والموسيقى وغيرها من الفنون" . من بين المكونات الأساسية للتراث هناك ما نسميه بالخلق التراثي ونرمز به إلى ذلك الخلق الذي يتجاوز الدور الوظيفي والأدواتي إلى مجال واسع تنغمس فيه الرؤى والمخيلات. يطلق عليه البعض بأعمال الفكر أو روائع الفكر Les œuvres de l’esprit وهذه الأعمال وإن ارتبطت بمحيط عام فهي تخلق معانيها وتحيل لذاتها في نفس الوقت الذي تحيل فيه لعالم رحب قابل للوجود والتصور بما لا نهاية له وبدون أن تعتمد منطقا صارما أو عقلا مطلقا. فهي تنفتح على إمكانيات لا حصر لها. من هذه الأعمال نذكر الأدب والشعر والموسيقى والفنون المعمارية والتصوير والأعمال المسرحية... فما يميّز أعمال الفكر هذه أصالتها وبقاؤها حية على الدوام وعلى مدى الأيام والدهور وهذه حال الأعمال المسرحية اليونانية مثلا وروائع ابن المقفع والسمفونيات والروائع الموسيقية العربية غنائية كانت أو صامتة والهندسة المعمارية... وأهمية هذه الروائع تكمن في أنه لا يمكن الحديث عن خلق جديد ولا ابتكار دون أن تكون هذه الروائع حاضرة في الأذهان فهي تمثّل ما نسمّيه عادة بالذاكرة الحيّة للشعوب. الحديث إذن عن قطع نهائيّ Faisons table rase مع التراث سواء تلحّف بلحاف الثورية أو بلحاف النيوليبرالية التي لا تعترف للماضي بأيّة قيمة وتسعى إلى محق الثقافات والتنوّع بصفة عامّة هو ضرب من ضروب الانتحار لأن الإنسانية وهي تخلق وتتجاوز وتبتكر لا تنطلق من لا شيء. لا وجود لثقافة أفضل أو أقدر من ثقافة أخرى "ولا بدّ من إدانة كل الإدعاءات بأفضلية ثقافة على أخرى تجيز لها الهيمنة عليها أو حتّى محقها. فسقوط هذه الحماقات المتستّرة بمنطق مزعوم لا يعود بأي حال من الأحوال إلى خورها ومتاعبها ومصاعبها الداخلية فقط ولا للأحكام التي نصدرها على الاختيارات السياسية لكل مجتمع (والتي قد نضطر للقيام بها) وعلى المؤسسات السياسية التي تختص بها كل ثقافة وإنما يرتبط بمسائل تطال مستوى آخر من التحليل... (فلا يمكن) أن نحقّر من الهندسة المعمارية لمجتمع قائم على الطوائف المغلقة les Castes كالمجتمع الهندي وأن نعلن أنّها أحطّ وأقلّ قيمة من الهندسة المعمارية الغربية" . كذلك وبالمقابل فإنّ إعجابنا برائعة فنّية مهما كان مصدرها لا يعني بالضرورة أننا نصدر حكما إيجابيا على المؤسسة الاجتماعية أو على الإطار السياسي الذي ظهرت فيه مثل هذه الإبداعات.
"لقد انبهر الغربيون لعدم وجود منازل من الاسمنت الصلب في إفريقيا وتساءلوا عن أسباب صمود أشكال البناء "الخفيفة" (وهي صامدة إلى يومنا هذا) التي اعتمدت الإمكانيات المتاحة وتأقلمت مع المحيط وكانت ابتكارا خاصّا لهذه الشعوب".
التراث مثله مثل الهويّة حصيلة لتفاعل عديد الثقافات فنحن نجد آثاره في المجتمع الواحد وهذا مرتبط بمدى انتقال المعارف والخبرات والفنون واختلاط الشعوب. فالإرث العربي هو حصيلة لعمليّة تثاقف عاشتها شعوبنا بارتباط بثقافات وحضارات أخرى. فنحن نعاين بصمات الأندلس في بلدان المغرب العربي الكبير (موسيقى – معمار ...) وكذلك آثار الفنون والثقافة العربية على الثقافة الإسبانية. كما أن ما نعتبره ثقافة عربية هو حصيلة تبادل وتلاقح بين الشعوب العربية وشعوب أخرى وهذه حال كل الثقافات. لكلّ هذه الأسباب فإنّ الدفاع عن إرث ثقافي هو دفاع عن إرث الإنسانية قاطبة. فالتنوّع إثراء للحضارة الإنسانية ومصدر إلهام وخلق. فحتّى ونحن نتحدّث عن التراث العربي لا يمكن لنا أن نتجاهل التنوّع داخله. فعلى سبيل المثال تتوحّد المقامات الموسيقية العربية ولكننا نتحدّث أيضا عن المقام العراقي، والعتابى اللبنانية، والقدود الحلبية، والمالوف التونسي، والملحون المغربي، والوهراني والقسنطيني إضافة إلى التلوّنات الجهوية والمحلية... كذلك الحال بالنسبة للإيقاعات الموسيقية. ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة للمعمار والأدب ومختلف الفنون الأخرى وحتّى النفسية الخاصّة بكلّ شعب وأشكال تعبيره.
I- إثارة القداسة في التراث العربي
غالبية مثقفينا يقصرون التراث في الثقافة العالمة أو ما "سما" من العلوم والمعارف ولا يعيرون بغير ذلك ويدعون إلى إعادة البناء والتأسيس. ثم هم يكتفون بدراسة "البنيات" الفكرية أو "العقول" فيصبح البحث في التراث عبارة عن تواتر أفكار Filiation des Idées فتتلخّص دراساتهم في استخراج "جملة المبادئ والقواعد أو الحقول المعرفية لانتقاء ما صلح منها وتوظيفها ونقلها إلى حاضرنا".5 أمّا تراث الآخرين و"قضاياهم" فهي "غير قابلة للهضم ولا للتمثل"6 . فالتراث مقصور على الثقافة العالمة، حتّى وإن خضع للمساءلة والنقد والمراجعة، يتحوّل إلى معلم أثريّ يراعى في مقاربته مفهوم الأصل والجوهر.
لكن لماذا هذا التقديس؟ يفسّر فهمي جدعان هذه النظرة التقديسية للتراث التي يحملها غالبية مفكرينا بما يلي : "فهم يلحقون به الأمور الإلهية (والحال) أنه وفي كلّ الأحوال عمل وإنجاز إنساني خالص... فلا تراث إلاّ ما هو عرضيّ، إنسانيّ، زماني ولا مورّث إلاّ ويكون عرضيّا، إنسانيّا وزمانياّ"7، هم "لا يعترفون بالرسم كما يقول المناطقة بل بالماهية"8. تتعاظم هذه النظرة التقديسية بأخرى مردّها "إضفاء طابع غير عادي على اللغة العربية (بصفتها لغة القرآن) ومحمولاتها الثقافية، والنظر إليها باعتبارها امتدادا للملإ الأعلى أو للتجربة الرحمانية"9 . يلاحظ فهمي جدعان أنّ "إدماج الدين وعلومه من جهة واللغة من جهة ثانية (مشحونة برؤية تقديسية حولهما) هما اللذان يترتّب عن دمجهما بالتراث، من غير تمييز، إثارة القداسة في التراث"10 . إذن التراث هو جملة ما تركته لنا الشعوب التي سبقتنا وهو إنجاز بشري ولهذا وجب علينا أن ننزع عنه القداسة ونتعامل معه كإفراز تاريخي.
لماذا لا يقع التطرّق إلى الجوانب الأخرى من التراث ؟ لماذا يُحصر في الثقافة العالمة فقها وعلم كلام وفلسفة؟ لماذا هذا التغاضي عن التراث المعماري والموسيقي والفنيّ بصفة عامّة؟ في اعتقادي أنّ المفهوم الضيّق للتراث يخفي موقفا مسبّقا جوهره أنّ هناك دورا تاريخيا مناطا بالنخب الفكرية وأهل العلم والراسخين فيه للقيام بالنهضة المنشودة وإعداد البرامج. بهذا لا نخرج من إشكالية مفكرينا القدامى الذين رأوا في الفقهاء والفلاسفة "ورثة الأنبياء خصهم الله بالتأويل" كما جاء على لسان ابن رشد. لذلك يقتصر بعض المفكرين العرب على دراسة الموروث الديني والفلسفي ويعتبرونه التراث، كل التراث.
ليست الفلسفة هي صانعة التاريخ كما أن الفقهاء وعلماء الكلام لا يعكسون بالضرورة مختلف أوجه الحياة التي لا تقتصر على الثقافة العالمة. بالنسبة للبعض يتحوّل التراث أو جانب منه أو صورة وهمية عنه إلى ملهم ودافع وموجّه ومصدر ثابت يكون المنطلق للبناء وإعادة التأسيس أو إكمال ما بدأه الأوّلون وذلك للحاق بركب الحضارة أو لمزاحمة الحضارات الأخرى والتمكن من موقع قدم في هذا العالم المعاصر الذي لم يعد يعترف سوى بالقوة. غالبية مفكرينا العرب تجنبوا الحديث عن الجوانب الأخرى في التراث وركزوا على الجانب الفكري والفلسفي والحال أنه لا يعكس بالضرورة الواقع الاجتماعي ولا يمثل سوى جانبا من الإرث قد يتعارض مع المعايير والتوجهات السائدة. نعود ونقول إن الموقف من التراث يعكس نظرة للتاريخ والمستقبل. فإذا اعتبرنا أن التاريخ خلق ذاتيّ تساهم فيه كل قوى المجتمع وأن هذه العملية وإن استندت إلى ما هو متوفر فهي تتجاوزه وتنشئ الجديد الذي لا يخضع لحتميات تاريخية ولا لمنطق تاريخي وتساهم في نحته كل قوى المجتمع، عندها نقرّ بأنه لا وجود لدور تاريخي ننيطه بأي فئة كانت إن طبقة أو فئة عالمة (طبقة مثقفة، طبقة وهمية لها دور تاريخي، فقهاء، فلاسفة، سياسيون محترفون....). في هذه الحالة يشمل التراث كل مجالات النشاط الاجتماعي والخلق والإبداع (كل الميادين من فلاحة وصنائع وعلوم وفلسفة ومعمار وفنون ....). أما إذا اعتبرنا أن التاريخ موكول لفئة من العالمين والفلاسفة والسياسيين المحترفين بصفتهم "ورثة الأنبياء خصهم الله بالتأويل" (ابن رشد) فعندها نقصر التراث على الثقافة العالمة وهذا ما سقط فيه جل المثقفين العرب لأنهم لم يتخلصوا من فكرة الكتلة التاريخية ولأنهم يستبطنون فكرة القداسة وهذا هو جوهر القضية.
II- العولمة والتراث
مجتمع الاستهلاك والعولمة الكاسحة تدفع باتجاه محو ذاكرة الشعوب والقضاء على الثقافات وعلى كلّ مظهر للتنوّع. فعالم التكنولوجيا لا يعترف بالثقافة والفنون والمعارف العملية لعموم الناس. بل إنّ عقلية القطع النهائي مع الماضي والتراث تنذر بقطيعة بين الأجيال.
العولمة تسعى إلى خلق "إنسان كوني" منبتّ. فهي تقتل الخيال والشاعرية وتريد تحويلنا إلى كيانات متجانسة ومتطابقة تتقبّل وتتأقلم. ثقافة العصر هي التكنو-علوم المستقلّة عن المجتمع بما في ذلك الخبراء ورجال العلم ذاتهم وما عداها فهو هراء ومن بقايا عصور "التخلّف" والانحطاط. يُختزل الإنسان في العقل وهذا الأخير في العقلانية الأدواتية التي تحوّلت إلى عقلنة. العلموية scientisme الواثقة من حقائقها لا تعترف بالخيال والشاعرية والمهج والإرادة والاختيار وهي أوجه للعقل بشهادة البحوث العلمية ذاتها والتي أقرّت بارتباط المراكز العصبية للتفكير والمنطق بمراكز الإحساس والخيال والإرادة.
الثقافة تبوْضعت. فمصطلح "الصناعة الثقافية" الذي برز في القرن العشرين جسّد هيمنة مراكز المال على مجالات الخلق الفني والثقافي بصفة عامة والنتيجة هي إخضاعها لنمطية واحدة. اليوم تحتضر أمام أعيننا كل أشكال الإبداع المعماري والموسيقي والأدبي بينما تتلاشى البذور وأنواع الحيوان والمعارف العامة لجموع الناس وتمّحي كل سنة ما يقارب من 800 لهجة ولغة.
إن كل خلق فني مرتبط بمدى تفاعل المتقبّل والمتفرّج والسّامع بل إنّ مساهمة هذا الأخير فردا ومجموعة في تطوير هذا النشاط الإبداعي أساسيّ. لكن ومع استحواذ مؤسسات "الصناعة الثقافية" على المجال الثقافي وبوْضعته تَخَلَّفَ أو غاب ذلك الدور المحرّك والدافع للمواطن واستعيض عنه بوسائل الدعاية والإشهار. احتكار هذه الشركات للعمل الفني أدّى إلى ضياع جزء من ذاكرة الشعوب أو تقلّصها. فعلى سبيل المثال أدّت بوْضعة الخلق الموسيقي في البلدان العربية إلى التغاضي عن التراث الموسيقي من مقامات وإيقاعات إلى درجة أنّ القطع الموسيقية أصبحت متشابهة وتكاد تنحصر في مقام موسيقي واحد (جل الأغاني تُلحّن في مقام الكُردي وفي إيقاعات سريعة : الملفوف السريع) بينما عوضت الإثارة الجنسية الطرب العربي وهو ما يميز الموسيقات الشرقية عامة. من ناحية أخرى لم يعد الإتقان سمة من سمات العمل الفني مادام مجتمع الاستهلاك يطالب بإنتاج قابل للاهتراء السريع Jetable . مخاطر العولمة على التراث طالت كل مجالات الإبداع بما في ذلك الأدب والشعر (انخفاض نسبة المطالعين) والمعارف المشتركة والعادات الغذائية والتراث الشعبي ومحقت جزءا هاما من ذاكرة الفلاح والمزارع إلى درجة أنّ البعض صرّح أنه كلّما مات شيخ ضاعت معه مجلّدات.
لقد انهارت زمانية المجتمع في علاقته بتاريخه وماضيه. فهذا الأخير تحوّل إلى متحف يزوره الإنسان كما يزور سائح منطقة أثرية. "فاليوم تُختزل العلاقة بالماضي إمّا في سياحة أركيويلوجية بخسة الثمن أو في تبحّر ومتحفية من كلّ نوع" 11
مجتمع الاستهلاك يمحو الدلالات والمعاني التي تربط بين الناس ويخلق أفرادا هم عبارة عن صور تعكس بعضها بعضا عبر شاشات التلفزيون والأسواق والبازارات والأكلات العصرية. حتى اللغة تبوضعت ودخلت عليها مفردات فاقدة للقدرة على التعبير ومختصرة وسريعة وتستعمل في غير محلّها (وما يطلق عليه المفكر George Orwell بـ ( Novlangue . لا مكان للفن الأصيل والخلاق. لكلّ فنه ولكل نجمه. نجم لليوم ونجم للغد. هيمنة الموسيقى العابرة والزائلة بل إنّ موسيقى التكْنو تجعل كلّ شخص نجما لذاته. وسائل الإعلام هي التي تصنع "النجوم" وتفرضهم على المشاهدين الذين لم يعودوا يتفاعلون مع المحتوى الفني والإبداعي بقدر ما يلتصقون بـ"النجم" الصاعد وما ستسمح له النجومية من شهرة وتوفره من مال ومتاع.
نحن أمام خطر داهم يتمثّل في اندثار التراث وتعويضه بشبه رموز استهلاكية. كل سنة تندثر مئات اللغات والبذور والنباتات وتمّحي ثقافات وتموت ذكريات ويضيع إرث. ما يسمّيه البعض بالاختراق الثقافي لا يشمل الثقافة العربية فقط بل كل التراث الإنساني. فهذا الهجوم غير مقصور على الثقافة العربية بل هو شامل. لسنا وحدنا المهدّدين بالمحق الثقافي بل كل ثقافات وإرث العالم لأن جرّافة العولمة تسير دون مقود واتجاه. الغريب أن العديد ممن يدعون الدفاع عن التراث يتجاهلون هذه الوقائع ويديرون لها ظهرهم. فلدى البعض تمثل الفنون رمزا للانحطاط الأخلاقي بينما يرى فيها البعض الآخر مسألة ثانوية لا ترتقي إلى مستوى القضايا الكبرى وكأن التراث ليس في جوهره سياسة. نجد هذا الموقف شائعا لدى تيارات فكرية وسياسية مختلفة وحتى متناقضة، يمينا ويسارا، إذ باسم الالتزام الفكري والصفاء يقع الحطّ من الإرث الثقافي والفني ويستعاض عنه بصورة مبتذلة للفنون تسعى إلى القطع مع الماضي (فأغلب المحاولات الفنية "الملتزمة" تنقصها الجودة الفنية ولا تعتني إلا بالمضمون السياسي فيتحول الفن إلى نوع من الخطاب السياسي يخلو من كل إبداع فني). هؤلاء يقدمون أجلّ خدمة للعولمة من حيث لا يدرون. فبتعلة رفض مضمون الفنون القديمة (كالحب والغزل والتغني بالطبيعة ....) وباسم القطع وضرورة الالتزام والصفاء يقع التخلي عن روائع الفن. أنا لا أتصور على سبيل المثال شعبا عربيا يتخلى عن روائع الموسيقى الشرقية موشحات وسماعيات ومالوف وأدوار وأغاني وملاحم وموسيقى شعبية ("العروبيات" والموسيقى الصوفية والرقص الشرقي بأنواعه وتلوّناته العديدة والرقص الشعبي) وطرب أو عن روائع المعمار العربي بأشكاله العديدة وعن فنون الخط والزخارف وعن مختلف الأكلات الشعبية والعادات الغذائية وعن النباتات الصحية ونباتات التجميل وعن اللباس في أزيائه المتنوعة. فلنا في الشعوب الإفريقية وشعوب أمريكا اللاتينية خير مثال حيث لا ينفصل التعبير بما في ذلك التعبير السياسي عن الغناء والرقص. مجال المواجهة الثقافية لا يقل أهمّية عن أي مجال آخر فكريا كان أم سياسيا. فمادامت السياسة هي أن يكون الشأن العام من مشمولات عامة الناس لا فئة مثقفة أو سياسية محترفة فإن العناية بالقضايا الثقافية كما الحفاظ على التراث وتطويره هي مهمة عامة الناس أيضا وليس من اختصاص النخب أو فئة ضيّقة كما أن طرق التعبير لا يمكن لها أن تخضع لمعيارية ثابتة. كل صوت مهما كان مأتاه يصدح في ربوعنا ويعكس مظهرا من مظاهر تراثنا، يجسّد وإلى حد ما شرخا في مشروع العولمة الهدّام. فعلى سبيل المثال إن إعادة الاعتبار للمقامات الموسيقية العربية وتطويرها لا يقل أهمية عن أي مظهر آخر للمجابهة. كل تميّز و فرادة، كل خلق فني فريد يقطع مع الرتابة هو إضعاف لمشروع التطابق الجنوني. لا بد من تحرير ذلك المخيال الخلاق وما يطلق عليه شاعرنا أبو القاسم الشابي بروح الشعب لكي ينشئ من جديد. إذا كنا نرفض هيمنة "الفكر الواحد" (إذا كان هناك فكر) والعقلانية الواحدة والفن الواحد فأولى بنا أن نحترم هذا التنوّع داخل الشعب الواحد وننبذ التعصّب الفكري والأيديولوجي. لكن هذا لا يعني الانغلاق والتقوقع بل بالعكس يفتح المجال للتثاقف والتداخل بين الشعوب والحضارات ويسمح بتبادل التجارب والتلاقح. فالدفاع عن الهوية الثقافية والتراث وعن المحلي والجهوي والقومي لا ينفصل عن الانفتاح على مصادر الثقافات الأخرى فنا وثقافة عالمة وتجارب معمارية وعادات غذائية وموسيقى وكل أوجه الحياة. فهذه الشعوب التي تواجه تحدّيات المسخ الحضاري يمكن لها من خلال توحيد جهودها أن تحوّل هذا التحدّي إلى فرصة للتجديد والخلق والتعاون وهذا من شأنه أن يقرّب الشعوب لبعضها.
إن العمل على استعادة التراث وتطويره لا يقل أهمية عن مختلف أوجه المواجهة للعولمة الجارفة. نحن نعاين بداية استفاقة في مختلف بلدان العالم، غربا وشرقا. فأمام الرتابة التي يفرضها مجتمع الاستهلاك تستفيق جموع متزايدة وتسعى جاهدة إلى إنقاذ ما لم تطله أيادي العولمة بل تطور أشكالا من الإبداع الفني تستلهم فيه من الموروث وتضيف إليه الجديد. التراث هو جزء من كياننا ومن شخصيتنا ومتى اندثر ذابت هذه الأخيرة وتراجعنا شيئا فشيئا إلى الحالة الحيوانية وأصبح قانون الغاب هو الفيصل بيننا. ففي التنوع الثقافي والفني إثراء للحضارة البشرية التي تهددها محاولات الدمج والمحق الثقافي. التراث لا ينحصر في الجانب الفكري بل يشمل جملة التعبيرات والإبداعات التي تميز شعبا ما وهذه الإبداعات تخص كل مجالات الحياة بدءا بالتراث الزراعي ووصولا إلى الفكر والفن.
المراجع:
1-عبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، 1991، الدار البيضاء، ص 139
2- Cornélius Castoriadis : « La revolution devant les théologiens » in Le Monde morcelé, Les carrefours du labyrinthe III, Paris ,Editions Seuil, 1990p.176
3- Cornélius Castoriadis : « Notes sur quelques moyens de poésie » in Figures du pensable, Les carrefours du labyrinthe VI , Paris, Editions Seuil, 1999 p. 54-55
4-Cornélius Castoriadis : Transformation sociale et création culturelle, Revue Sociologie et Société, XI, 1, 1979, p.42
5- محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986، ص 572
6- محمد عابد الجابري : نفس المصدر
7- فهمي جدعان : نظرية التراث، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1985، ص17
8- نفس المصدر والصفحة
9- نفس الصدر، صفحة 19
10- نفس المصدر والصفحة
11- Cornélius Castoriadis : Héritage et révolution, in Figures du pensable, Les Carrefours du labyrinthe, Paris, Editions du Seuil, 1999, p.143