المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل قلتم تنمية ؟



سمير بسباس
15/06/2007, 09:39 PM
مـن 28 فيفري 2002 إلى 03 مارس 2002 انعقد في مقر اليونسكو بباريس ملتقى حـول التنمية بعنـوان " لنفكك التنمية و لنعد بناء العالم Défaire le développement .Refaire le monde
حضر المؤتمر عدد من المفكرين من أكثر من بلد مثل Serge Latouche من فرنسا ورئيس جمعية "خط الأفق" و Aminata Traoré مـن مالي و Ragjagapal مفكرة من الهند Ivan Illichو المفكر ذو الصيت العالمي والمعروف بنقده لمجتمع الاستهلاك و Gilbert Rist من فرنسا وأستاذ جامعي سابق بتونس وصاحب الكتاب المعـروف "التنمية، تاريخ معتقد غربي" وباحث في المعهد الجامعي للدراسات حول التنمية بجنيف (سويسرا (IUED و Michel Singleton من جامعة Louvain-la-Neuve ببلجيكا و Wolfgang Sachs أستاذ اقتصاد ألماني وصاحب كتاب Les ruines du développement وTeddy Goldsmith مؤسس مجلة The Ecologist الإنكليزية و Jean Pierre Berlan مدير دراسات بمعهد البحوث الزراعية بفرنسا وصاحب كتاب "الحرب ضد الكائنات الحية" وغيرهم من المفكرين. لقد تدخل في هذا الملتقى 60 محاضرا أمام جمع يتألف من 800 مشاركا أتوا من مختلف القارات والبلدان. كما مثلت في هذا الملتقى العديد من جرائد والدوريات الفكرية : العالم الديبلوماسي، ومجلة Mauss ومجلة Silence ومجلة The Ecologist ومنظمات غير حكومية. لقد تدارس المجتمعون مفهوم التنمية، تاريخه، آثاره على الإنسان والمحيط ، الاكتفاء الذاتي الغذائي، ضحايا التنمية، التجارة العالمية، مفهوم " الفقر" و" التخلف"، المخاطر البيولوجية و النووية، نقد النموذج المعاصر للفلاحة الخ ... وصدر كتاب يلخص التدخلات والأفكار والبدائل التي طرحت في هذا الملتقى الذي يعد فريدًا من نوعه من حيث قدرته على جمع عدد هائل من المفكرين من كل بلدان العالم من ناحية ومن حيث المحتوى وتعرضه لعديد القضايا المعاصرة والملحة.
هذه مساهمة أقدمها لإثراء هذا النقاش وسأحاول ما استطعت من جهد أن أبلغ بعضًا من الأفكار التي وردت في هذا الملتقى والتي أعتقد في صحتها وعمقها .

-I التنمية : رؤية تاريخية :
يعود مفهوم التنمية المعاصر إلى سنة 1949 وبالتحديد إلى خطاب ترومان رئيس الولايات المتحدة السابق (20 جانفي 1949). احتوى هذا الخطاب التاريخي على أربع نقاط أساسية وما يهمنا نحن من كل ذلك هو النقطة الرابعة حيث يقول نص الخطاب: " لا بد من صياغة مشروع جديد وجريء يضع على ذمة المناطق المتخلفة المكتسبات العلمية ونتائج التقدم الصناعي لبلادنا... فالولايات المتحدة تحتل موقع الصدارة في مجال تطور التقنيات الصناعية والعلمية... أعتقد أنه من واجبنا أن نمد الشعوب المسـالمة ) يقصد بها الغير منتمية للمعسكر السوفيتي السابق) بالمعارف العلمية وذلك لكي نساعدها على تحقيق حياة أفضل... هدفنا يتجسد في إعانة الشعوب الحرة ( ! ) في العالم لإنتاج كميات أكثر من الغذاء واللباس ومواد البناء والطاقة الميكانيكية وذلك بمجهودهم الخاص... إن أهدافنا لا تمت بأي صلة لغايات الاستعمار القديم حيث يجني الأجنبي ثمرة مجهودات الشعوب المستعمرة... تثبت التجربة أن تجارتنا مع بقية البلدان تتدعم وتتطور كلما تقدمت هذه البلدان على المستوى الصناعي والاقتصادي" ويذكّر ترومان بوضعية البلدان "المتخلفة" ( فقر، مجاعة، ســوء تغذية ) ويعلن أنه " لأول مرة في التاريخ أصبح من الممكن تجاوز هذه الوضعية" 1
منذ الوهلة الأولى يتراءى مشروع التنمية بكونه مشروعًا أبويًا، عابرًا، مرحليًا تلتزم من خلاله الدول الصناعية والغنية بأن تساهم في تنمية البلدان الأقل نموًا.
يرى Gilbert Rist أن هذا الخطاب قد تحول إلى نوع من الإيمان العجائزي وجب على الكل أن يتقبلوه بصفته حقيقة متعالية لا تقبل النقاش. "فالتخلف" أو "انعدام النمو" يُصوَّر على أنه حالة نقص أو انعدام أو الحرمان من الشيء ولا ينظر إليه بصفته نتيجة تاريخية و"التخلف" يعني "الفقر" والعوز و قلة النمو ( Croissance ) أو ضعفه. انطلاقا من كل ذلك تصبح "المساعدة" في بعديْها التكنوقراطي والكمي الـرد الوحيد والممكن. هذا التقييم التاريخي يتطابق مع ما ذهب إليه المفكر الألماني 2 Wolfgang Sachs حيث يلاحظ أن بروز مصطلح "البلدان المتخلفة" ارتبط بخطاب ترومان وقد نتج عن ذلك مفهوم جديد للعالم بحيث يصبح من الواجب على كل شعوب المعمورة أن تتبع طريقًا واحدًا و تطمح إلى هدف فريد : التنمية.
" زيادة الإنتاج هي مفتاح الرخاء والسلام" ( ترومان)، وإذا قبلنا بهذه الصياغة فلا محالة من تقسيم البلدان إلى واحدة رائدة وقائدة للمسيرة وأخرى تتابع السباق من خلف ( كسباق الدراجات). فبعد أن كانت القوى الاستعمارية ترى أنها تقوم بـدور حضاري وثقافي أي تحضير الشعوب المولّى عليها وربطها بالدول المتقدمة مباشرة فإن مشروع التنمية يرتكـــز على "مد يد المساعدة " للشعوب " المتخلفة " للقضاء على "متاعبها وآلامها" ( ترومان .(من يقول تنمية يقول قوة منمّية تقود مسيرة التقدم وتعكس رؤاها للحاضر والمستقبل على باقي سكان المعمورة فتغمرهم ببركتها و تفتح بصائرهم وتغرس في أذهانهم مفهوم التنمية المستحدث.
هكذا وخلال الثلاثين سنة من الرخاء الاقتصادي 1945-1975 كان الفتات الذي تتركه الدول الغنية للبلدان الفقيرة يسمح بسد رمق شعوبها بل لقد ظهرت فئات عليا بيروقراطية محلية تستمد قوتها من انخراط فئات واسعة من الشعب في مشروع التنمية : هذه الفئات آمنت أن مستقبلها ورهانها هو في تدعيم التنمية لتمسح أوسع ما يكون من المجالات فيعم الخير على فئات أوسع من الشعب. في خلال هذه المدة لا بد من ملاحظة أن الشعور الطاغي والمهيمن داخـل "بلدان العالم الثالث" هو أن مجهود "التنمية" مجهود ذاتي، وطني، قومي، داخلي، مستقل تقوم فيه الدولة المستقلة حديثًا بدور المشرف والمراقب والمسيـــر والضابط والمعـدل فتحمي هذه الفئة أو تدعم أخرى وتوجه المخططات الاقتصادية. فحتى القادة ذوي التوجه القومي الصريح والمعادين للاستعمار في شكله الجديد والذين كان لهم دور فعال في منظمات) كمنظمة عدم الانحياز) فإنهم استبطنوا فكرة التنمية وقبلوا من دون وعي بالتقسيم المفروض ( دول نامية ، دول متقدمة) و دعوا إلى النهضة واللحاق بركب الحضارة فكان مثالهم الأعلى تلك القوى المهيمنة التي قاوموها. التنمية هي المرآة التي يعكسون بواسطتها صورة القوي والمتجبر والمهيمن والمتقدم. صرّح نهرو في سنة 1949 " لا يهم أن نتبع طريق الشيوعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية، المهم أن نسير في الطريق الأنجع للقيام بالتحولات الضرورية لسد حاجيات الشعب والرفع من مستوى عيشه وزيادة الإنتاج".

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:07 PM
-II التنمية من منظور فكري وفلسفي :
" الحديث عن التنمية ( développement ) والنمو ( croissance ) يعني الانطلاق من قدرة كامنة في الشيء، قدرة على القيام بنشاط أو حركة ومن طاقة كامنة ومحـددة .إنها مقابلة ومعارضة (opposition ) مادة غنية في حد ذاتها بالتحديدات غير المصرح بها وغير البارزة للعيان منذ الوهلة الأولى مع شكل ستتخذه وهذا الشكل يمثل معيارا ومقياسا"3. فعلى سبيل المثال عندما نتحدث عن جنين فإن هذا الأخير يمكن أن يأخذ أشكالاً عديدة وتعيينات مختلفة وعديدة : رضيع ثم طفل وكهل، رجل، امرأة، طويل القامة، مرهف الإحساس، فظ، قوي البنية، الخ .... وهذه التحديدات لا حصر لها.
أما مفهوم "التنمية" فهو ينطلق من تحديد فريد للشيء كأن نقول هذه البويضة ستنمو وتتحول إلى جنين أو هذه الدودة ستتحول إلى فراشة. ففي البويضة إمكانية وإمكان ) برمجة إذا جاز القول) محدد مسبقًا بحيث عندما نتحدث عن نموها فإننا نقصد الوضعية المستقبلية التي ستكون عليها في مرحلة ما. " تلك هي الانطولوجيا الأرسطية التي تجعل من ماركس مثلاُ يتحدث عن الإمكانيات والقدرات المستكينة أو الكامنة في الإنسان المنتج ... فعندما نقول أن هذا الشيء موجود فيعني ذلك أن شكله يخضع لمقياس وحيد وأنه لا يوجد فعلاً وبصفة كلية وبارزة إلا بقدر ما يتحقق ذلك الشكـل ويتحدد ويعرف" 4. أرسطو يرى أن " طبيعة الشيء هي نهايته أي ما هو عليه بعد أن يكمل نموه وتطوره." 5 إذن الإنسان النامي هو الإنسان الذي لحقت به صورة التنمية. الموجودات هي مادة وصورة تلحق بها (الإنسان يلحق به النمو فيصبح إنسانًا ناميًا) فهي كمال وفعل عند أرسطو وهي عند ابن رشد لا يمكن أن تصبح جسمًا إلا عند اتحادها بالصورة وهذه الصورة محددة. فالمادة أو الشيء) الإنسان – المجتمع ) قابلة ومهيأة للفعل فتصبح جوهرًا ما إن تحل فيها الصورة تكيفها و تسبغ عليها الكمال فيتحول الوجود بالقوة (الإنسان أو المجتمع القابل للنمو) إلى وجود بالفعل (إنسان أو مجتمع نامي) بفضل هذه الصورة التي ما تفتأ ترفع المادة وتعينها (النمو). لكن التناقض يبدو صارخًا بمجرد أن نلاحظ أن "عالمنا الحالي قد اكتشف اللانهائي في الحاضر بعد أن كان اللانهائي صفة خاصة بالله" 6
إنسان هذا العصر يحدد، يحسب، يقدر، يبرمج وهذا التصرف يندرج ضمن البنية المخيالية السائدة في المجتمعات الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالحساب والتعيين والتحديد الكمي. لكن هذا الحساب أو التعيين "لا يمثل سوى بعدًا من أبعاد الفكر ولحظة من لحظاته "7. فالفكر البشري لا يمكن اختزاله في أي بعد من هذه الأبعاد. فهل يمكن أن نضحي بالإنسان لصالح شكل أو مظهر ومستوى نحدده وانطلاقا منه نتحدث عن إنسان نامي. ثم وكما بيننا إن الأشياء والموجودات والإنسان أيضاً لا يمكن أن يخضعوا لتحديد واحد. إن أيديولوجيا التنمية تقر بأن التاريخ يسير دائما نحو أشكــال أرقى وأكثر " تقدمًا" أي نحو ما سماه ديكارت الهيمنة على الطبيعة والتحكم فيها وإخضاعها لصالح الإنسان. يربط Gilbert Rist مفهـوم التنمية وتاريخها بالماضي الثقافي الغربي وبمخلفات الفكر الديني المسيحي ومفهومه ورؤيته للزمان الغائي التي تتناقض مع المفهوم الدوري للعالم لدى اليونان مثلاً. فالنظرة الأولى ترتكز على جانب التحديد والغائية :
"الغد سيكون بالضرورة أحسن من اليوم على جميع المستويات خصوصًا منها المادي وهذا الأخير هو الذي يكيف المستويات الأخـرى. يربط كاستورياديس Castoriadis كل ذلك بالدلالة المخيالية التي أتى بها المجتمع الرأسمالي ألا وهي التحكم المطلق و اللامتناهي في الكون والطبيعة (إضافة إلى الدلالة الأخرى ألا وهي الاستقلال الذاتي والأوتونوميا).
"إن الوهم الطاغي حول قوة التكنولوجيا اللامتناهية وقدرتها التي لا تعـرف الحدود والتي تجد جذورها في البني المخيالية للمجتمع ( ووهم القوة المطلقة والتحكم اللامتناهي كان دائم الحضور في التاريخ البشري وقد اتخذ أشكالاً متباينة ومتنوعة : القوة المتعالية، السحر، القوى الخفية ... ) يصطدم بحقائق جلية تفنده. فكل قوة متعاظمة هي بالضرورة ضعف متزايد أو ما شابه ضد القوة وعدمها. فهي أيضًا قوة للإفراز المضاد والمقابل والمعادي لما نرنو بلوغه... فهذه القوة تقوم على التحكم والمراقبة والتحديد وفصل الأشياء عن بعضها لكي نفصل فعلنا فيها بأكثر ما يمكن من الثبات والدقة ... ولكن ذلك صحيح على الأشياء البارزة للعيان والمتناولة لكن ما إن نتقدم ونغوص في سبر الأشياء الدقيقة إلا ويتراءى لنا أن قابلية الفصل هذه محدودة في الزمان والمكان. هذا ما أثبتته البحوث الفيزيائية المعاصرة" 10 ولكن أيضًا العديد من البحوث الأخرى المتعلقة بالأدوية ومقاومة الحشرات ...

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:07 PM
- III انهيار مشاريع التنمية :
عرف مفهوم التنمية خلال ما يناهز النصف قرن تغييرات وإضافات في مدلولاته. في البداية كانت التنمية تعني زيادة الإنتاج وتراكم رأس المال. ثم أدمجت عناصر جديدة كمستوى التعليم ومحو الأمية والتكوين... وأصبحت التنمية تمثل جملة عوامل متداخلة. عدة أوصاف ونعوت ألصقت بالتنمية : التنمية الاقتصادية، التنمية المندمجة، التنمية الداخلية (Endogène)، التنمية الأصيلة، التنمية المستديمة، الخ.... .
رجال الاقتصاد وضعوا مقاييس للتنمية : متوسط الدخل الفردي، المنتوج الداخلي الخام، نسبة النمو الاقتصادي. لكن من الذي حدد هذه المقاييس وفرض هذا الفهم المتداول والمشترك للتنمية؟. في الحقيقة لم تحدد شعوب البلدان الفقيرة هذا المعنى فهو"مفهوم مستورد" كما يحلو لرجال السياسة أن يقولوا. أوكل إنجاز مهمة التنمية إلى النخب والبيروقراطيات الصاعدة في البلدان المستقلة حديثا ولقد لعبت الاستثمارات الخارجية سواء منها المباشرة أو في شكل "هبات" و"إعانات" دورا هاما (بحيث أن نسبة تداين البلدان الفقيرة عرفت تصاعدا مستمرا). هكذا برزت ثقافة التنمية التي لا تعدو أن تكون محاولة لفرض نموذج واحد وفريد على كل العالم من أجل تحديثه 11 وإذا بالتنمية تتلخص في " التوق إلى نموذج الاستهلاك الغربي للحصول على القوة السحرية للرجل الأبيض، هذه القوة التي تمكننا من الخلاص الذي يعد به نمط الحياة الجديد" 12
إن الدولة في "بلدان العالم الثالث" تجد نفسها أمام مأزق ومفارقة : "هي لا يمكن لها أن ترفض التنمية ولكنها لا تنجح في تحقيقها كما يجب لأن ذلك يفترض منها الارتقاء إلى مستوى القدرة التنافسية العالمية... ثم إن مفهوم التنمية اقترن بتاريخ الغرب وعقليته ودلالاته ولذلك فإن مفهوم التنمية لم يكن اختيارا حرا وخيارا خاصا بالبلدان "الفقيرة" فالبلدان الغربية تفرضه على دول العالم الثالث وهذه الأخيرة تفرضه على شعوبها"13
يرى Sachs أنه ومنذ نهاية الستينات بدأت تظهر شروخ في بناء التنمية فالوعود أسست على أرضية لزجة .
لقد شرع المكتب الدولي للشغل ( Bit ) والبنك الدولي وخبراء التنمية منذ ذلك العهد يستشعرون أنهم بعيدون جدا عن أهداف التقدم والتنمية. فزيادة الإنتاج العالمية رافقها تزايد الفقر وارتفاع في نسبة البطالة. إذن النمو الاقتصادي ليس بالضرورة مرادفا للنمو الاجتماعي. كل ذلك دعا Robert Mc Namara رئيس البنك الدولي أن يصرح سنة 1973 :
"رغم مرور عقود من النمو (croissance) الفائق والفريد من نوعه، نمو لم يسبق له مثيل للمنتوج القومي الخام... فإن الأجزاء الأكثر فقرا من الشعوب لم تربح ولم تجن سوى ربحا ضئيلا ومحدودا جدا... فلم ينتفع بهذا النمو سوى الـ 40% من الشعوب الأكثر رخاء". كرد مناسب على هذا الفشل الذريع تقرر أن يقع تغيير الاستراتيجيات لتشمل التنمية فئات اجتماعية جديدة وأهدافا اقتصادية أخرى. لكن ذلك لم يُجْد نفعا. فإفلاس سياسات التنمية ترجمها صعود تداين بلدان العالم الثالث التي لم تعد قادرة على استيراد وشراء "حاجياتها" أو بيع إنتاجها في السوق العالمية وهذه مفارقة لأنه كلما تعمقت أزمة بلدان العالم الثالث إلا "واستقلت" عن دائرة التجارة العالمية وهو ما يتناقض مع مسيرة التنمية. فالنتيجة القصوى لهذا التداين هو إزاحة هذه البلدان عن دائرة الاقتصاد العالمي. الأرجنتين التلميذ النجيب لصندوق النقد الدولي يعاني من كارثة مالية سببها 150 مليارا من الدولارات ديونا متراكمة أدخلت البلد في دوامة يصعب الخروج منها. إفلاس التنمية انعكس على حياة الناس، ثقافتهم، فلاحتهم، صناعتهم وعلى المحيط والبيئة. يتعرض Serge Latouche في إحدى مقالاته 14إلى قضية المجاعة وسوء التغذية ويأخذ كمثال على ذلك الأرجنتين : "منذ عقود كنا نعتبر الأرجنتين بلدا غير ناميا أو متخلفا، أصدقائي كانوا يمزحون ويقولون هناك عندما نبتغي"لحمة مشوية" نذبح العجل، نأخذ ما يلزمنا من اللحم ونرمي الباقي فحتى أشد الناس فقرا يأكلون اللحم أما اليوم وبعد خمسين سنة من التنمية يجوع المواطن في الأرجنتين. السكان يقتحمون المغازات الكبرى ويفتكون الغذاء وينهبون الدكاكين. نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لإفريقيا. ففي السنوات الستين كنا نقول: مساكين هؤلاء الأفارقة لا يملكون سيارات ولا آلات إنهم متخلفـون ولكن لا أحد يموت جوعا إلا نادرا. اليوم الناس جياع. المجاعة أصبحت مزمنة وملازمة لإفريقيا بفضل التنمية. "كلما وجهت البلاد إنتاجها الفلاحي نحو التصدير إلا وتضاعف عدد المعرضين للمجاعة كحالة البرازيل التي تصدر الصويا كغذاء للحيوان والبقر الياباني والأوروبي (ثلثي السكان يعانون من المجاعة وسوء التغذية) وكذلك الحال في الفيليبين.

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:08 PM
-IV بعض الأمثلة لهذا الإفلاس :
أ- الثورة الخضراء في الهند : لقد أدى استعمال البذور المهجنة إلى القضاء على ما يقارب 98% من البذور المحلية ولم يبق من 30 ألف نوعية من الأرز سوى بعض العشرات في ظرف 30 سنة.
لقد ارتفع استعمال الأسمدة الكيميائية من 5 آلاف طن سنة 1960 إلى 1,5 مليون طن سنة 1999 و نتج عن ذلك تناقص طحالب ودود الأرض وارتفاع تكلفة الإنتاج إلى ثلاث مرات في ظرف عشر سنين وقضاء على خصوبة الأرض واستنزاف للمياه الجوفية. الحصيلة هي تداين للفلاحين وارتفاع نسبة الانتحار في أوساطهم بنسبة أربع أضعاف وهجرة ملايين منهم إلى المدن حيث حياة البؤس.

- ب أزمة المياه : المياه عرفت استهلاكا متصاعدا رغم التناقص الهام في العرض والناتج عن استنزاف طبقات المياه الجوفية وتجفيف البحيرات والغدران و تلوث المياه والتصحر. فمخزون المياه الذي كان يقارب 17 ألف متر مكعب بالنسبة للفرد الواحد سنة 1950 تناقص إلى 7 آلاف فقط سنة 2000 وسينزل إلى 5 آلاف سنة 2025 بحيث سيعاني ثلثي سكان العالم من ندرة المياه وخصوصا في إفريقيا والشرق الأوسط إذ سينخفض المخزون إلى الثمن 1/8 سنة 2025. أكثر من 35 ألف طفلا يموتون يوميا بأمراض يتسبب فيها تلوث المياه أي ما يعادل 100 حادث طائرة في اليوم15. محمد العربي بوقرة قام بمقارنة جد مثيرة : لصنع 4 عجلات سيارة خفيفة لا بد لنا ما يقارب 10 ألف لتر من المياه أي استهلاك مواطن ملغاشي لمدة عامين و نصف16.

-ج النزيف الوراثي وانخرام التوازن البيئي : التنمية أدت إلى نزيف وراثي مهول. فالتنوع الطبيعي مهدد بالزوال (من المعلوم أن 80 % من التنوع البيولوجي Biodiversité موجود في بلدان الجنوب وأكثر من ثلاث أرباع المواد الصيدلية التي يقدر عددها بـ 7000 مصدرها المعارف التقليدية لعموم الناس في بلدان العالم الثالث). البذور الطبيعية التي جهد الإنسان في انتقائها وتكوينها بطرق طبيعية وعلى مدى قرون تضمحل وتحل محلها البذور "المهجنة" أو "المحورة جينيا " غير القابلة لإعادة البذر متسببة في انتشار أنواع من الطفيليات والجراثيم المضرة بالأعشاب والحشرات ( النحل والفراشات ... ). فخلايا النحل تناقصت بنسبة 60% بين سنوات 1940-1995 (الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة ) وما يقارب عن 850 جنسا من الحيوانات الأهلية مهددة بالزوال (المنظمة العالمية للتغذية والزراعة) وثلث العصافير مهددة هي الأخرى بالانقراض. التنمية أدت إلى القضاء على أكثر من 65 مليون هكتارا من الغابات في ظرف الخمس سنوات الأخيرة مع ما يصاحب ذلك من تهديد بانقراض 900 كائن طبيعي. علماء الطبيعة والمؤسسات العالمية للحفاظ على المحيط يقدرون بأنه إذا تواصلت التنمية على هذه الوتيرة فإن أكثر من ربع الأنواع الحيوانية ستزول من خارطة الأرض سنة 2025. التنمية أدت أيضا إلى ما نلاحظه كل يوم من أوبئة وتلوث للطعام بالمضادات الحيوية ومبيدات الأعشاب والحشرات وبمادة الديكسين وهرمونات النمو، وتلوث الماء الصالح للشراب. تصنيع الفلاحة المشط وعزل الحيوانات عن محيطها كحشر الطيور في أماكن ضيقة وفصلها عن الأرض تسبب في ظهور أوبئة كالسلمونيلا. إنه ومع ارتفاع حرارة الأرض المتواصل سيصبح من الممكن بعد 10 أو 20 سنة زراعة القمح في مناطق كسيبيريا أو شمال كندا. فثقب الأوزون قد توسع مداه إلى 25 مليون متر مربع أي ما يعادل مرتين و نصف مساحة أوروبا.
إفلاس سياسات التنمية لا تجد تعبيرا لها فقط في البلدان النامية بل وأيضا في البلدان الصناعية حيث يتزايد عدد المهمشين والعاطلين عن العمل.
فالنسيج الاجتماعي ينحل ويتفكك بصفة آلية بحيث يلفظ المجتمع كل يوم جزء متعاظما من الشعب وهذا كلما تقدمت البحوث العلمية والتكنولوجية. يبين Sachs أن مفاهيم كالشمال والجنوب فقدت مدلولها وطبيعتها الجغرافية : فنحن نجد الجنوب في ضواحي باريس والشمال في أوساط الفئات العليا في الهند مثلا17.
" التنمية هي عبارة عن خراب في المشهد الثقافي، هو مفهوم من الماضي لا يصلح أن يكون دليلا في اختياراتنا الحاضرة" 18. لا أحد يعلم ما التنمية؟ اسألوا أيا كان ستجدون دائما إجابات متعددة ومتضاربة وهذا لأسباب عديدة : فالتنمية هدف سياسي وقع تسطيره منذ 50 سنة عندما أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق " ترومان" سنة 1949 أنه يمكن أن "ننمي" مجتمعا أو اقتصادا ونجعل من ذلك مهمة تاريخية. فالتنمية كانت أولا وأساسا استراتيجيا اعتمدها الغرب لاحتواء الشيوعية لكنها شيدت أيضا على اعتقاد مفاده أنه يمكن لكل بلد أن يلحق بالبلدان المتقدمة. لكن ماذا حصل عمليا؟ العكس هو الذي وقع حيث تعمقت الهوة بين الشمال والجنوب إلى درجة أنه أصبح من المستحيل تخيل ولو لحظة أنه يمكن ردمها. عدد السكان الذين يعيشون في حالة بؤس يتزايد يوميا. أما المعتقد الثاني الذي أسس للتنمية فيتجسد في أن هذه الأخيرة لانهائية متواصلة لا تعرف الحدود. أخيرا اعتمد مفهوم التنمية على الدولة وعلى دورها في تنشيط عوامل التنمية) اقترن ذلك مع ظهور النظرية الكينزية والنيوكينزية ) . لكن ماذا نرى؟ أزمة بيئية تتعاظم وتسقط فكرة لانهائية مسيرة التنمية. مفهوم الدولة – الأمة يهترئ وينحل. فحركة الأموال العالمية تفوق بكثير الاستثمارات العمومية والإعانات الحكومية. بعضهم يرد : هذا لغو فها هي عديد البلدان (الولايات المتحدة الأمريكية – الصين الشعبية وغيرها (تعرف نموا وازدهارا وزيادة في الإنتاج؟ ولكن ماذا عن أزمة المياه؟ ماذا عن مصير مئات الملايين من الفلاحين الصينيين وغيرهم والذين سيضطرون إلى النزوح والتهميش. تقر منظمة اليونسكو بأن تعميم الزراعات المحورة جينيا سيقضي على 500 مليون فلاح في العالم بحلول سنة 2025. ماذا عن اتفاقيات كيوتو؟ ماذا عن تمزق المجتمع؟ ماذا عن مخاطر البحـوث العلمية؟ ماذا عن المخاطر البيولوجية والنووية؟ ماذا عن البطالة والإجرام؟19
التنمية هي اليوم مجرد أنقاض أو خراب. لقد آن الأوان لكتابة مرثيتها !

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:09 PM
-V- التنمية زمن العولمة :
تعيش التنمية اليوم أزمة وتعثرات. فالبلدان الأغنى في العالم والتي من المفروض أن تساهم بنسبة 1% من منتوجها الداخلي الخام (PIB) للدعم التقني ولمجهود التنمية في البلدان الفقيرة لا تساهم إلا بنسبة 0,25% من هذا المنتوج. كما أن المعاهد والمؤسسات المختصة في الدراسات حول التنمية قد أقفلت أبـوابها "كل المنظمات الدولية تعلن صراحة وعلنا أنها تخلت عن منطق التنمية وسياسة الاستثمار الخارجي إلى منطق السوق العالمية. ففي عصر تسوده نظرية الاقتصاد العالمي الموحد لا مكان لنظرية خاصة ببلدان الجنوب. تبخر مفهوم التنمية بما في ذلك المشهد الفكري حولها وذلك لا يعود إلى هزائمها أو لرفض ضحاياها لها. لقد قامت التنمية بدورها الذي أنيط بعهدتها وأنجزت وعودها ومهمتها التاريخية : خلق اقتصاد معولم.
ففي اقتصاد معولم لا مكان للاعتبارات الخصوصية والضيقة والجهوية والقومية. نحن في قرية عالمية تسودها نفس القوانين والنظريات. لكن ومع أن العولمة قد أخذت مكان التنمية فإنه لازال من يحن للتنمية ويضفي عليها نعوتا وأوصافا ذات طابع إنساني : التنمية المقبولة، المستديمة، المتوازنة... وهي تسميات لا تعدو أن تكون فبركة فكرية. الاقتصاد العالمي الجديد يخل بالقواعد القديمة بين الدول الفقيرة والدول الصناعية فهناك قضاء تدريجي على الحواجز الفاصلة بين الدول والحدود وعلى الوسائط. فالدولة الوطنية والقومية في العالم الثالث يتضاءل حضورها ويفرض عليها أن تتخلى عن دورها المعدل لتقريب الفئات من بعضها والحفاظ على قدر من التوازن الاجتماعي.
بدأنا ندخل فترة تاريخية يشبهها Serge Latouche بفترة بروز الرأسمالية الكلاسيكية في بداية القرن التاسع عشر. اليوم نعيش المناولة تلو المناولة ،( Sous-traitance ) نشرع ونعمم عبودية النساء والأطفال من جديد في بلدان جنوب شرقي آسيا لإنتاج اللباس والآلات الإلكترونية لصالح البلدان المصنعة.
البواخر الكبيرة والضخمة تستغل بل تبتز خيرات وسواحل بلد كالسنغال وتحرمه من مصدر هام للغذاء.20 التنمية أنتجت فلاحة دون مزارع، بناءا دون عمران، أفرزت معرفة يمكن أن تكون خطرا على البشرية. و لكن ذلك لا يهم مادامت التنمية نسجت خيوطا بين بلدان العالم ومهدت للعولمة.
وداعا أيتها التنمية ومرحى وألف مرحى بالعولمة. 225 شخصا من أثرى بلدان العالم (يملكون أكثر من ألف مليار) أي ما يملكه 2,5 مليار نسمة (47 % من سكان المعمورة) ( أي أن الشخص الواحد يملك ما يملكه 11 مليون شخص !!والـــ84 شخصا من أثرى سكان العالم يملكون أكثر من المنتوج الداخلي الخام للصين الشعبية.
بعد التنمية والاستثمارات والمشاريع العملاقة والثورة الخضراء حان وقت التأهيل الشامل وإعادة الهيكلة. هي حركة متصاعدة نحو ما يسميه Serge Latouche بغرْبنة العالم : احتلال المخاييل والتعشيش فيها والهيمنة عليها من خلال فرض مفاهيم " التقدم" المستند على التكنوعلوم " المحايدة" التي لا تقبل المساءلة "أقصدة" و"تقننة" الحياة. " التقدم هو المرض ولكن يعتقد أنه دواؤه : هو الداء والدواء وقديما قال أحد الشعراء و"داوني بالتي كانت هي الداء" !! دواء التقدم هو مزيد من التقدم.
العولمة اليوم تهرئ، تقرض ( كالأرنب )، تقضم كل ما يحيط بها : الدول، السياسات، الثقافات، الفنون، الأخلاق، المعاني، الدلالات والمحيط. هي كـ " البلاعة" تدمج الكل في سوق عالمية. إنها " بوضعة العالم. يعتبر Serge Latouche أن قوة المخاييل هي التي تجعل مشروع أو مفهوم التقدم يصمد فـ " عندما تعشش مطرقة في أذهاننا فإن كل المسائل والقضايا تتراءى لنا في شكل مسمار" ! المخيال "الإنتاجوي" و"العلموي" الداعي إلى التحكم في الطبيعة والكـون لإخضاعها بما في ذلك الإنسان كجزء من هذا الكون يفعل فعله كالمطرقة. فليست العقلانية هي التي تحكم بيننا بل "العقلنة "rationalisation أي العقل الذي يتوهم أصحابه أنه نقي، صافي، خالص من كل الشوائب كالخيال والإرادة والشعـور والمهج. إنه انتصار"الفكر الواحد" أو الفكر الجليدي على حد تعبير .Hannah Arendt
تستبدل العولمة ما كان يسمى زمن التنمية "التبادل الحر" بـ "التبادل الإجباري" خصوصا بعد ظهور المنظمة العالمية للتجارة وبروز قوانين براءات الكائنات الحية من نباتات وكائنات عضوية وبذور وحيوانات والتي تكرس خوصصة الكائنات الحية ADPIC) باللغة الفرنسية Trips باللغة الإنكليزية). ماذا يعني أن تستورد الهند بصفة تكاد تكون إجبارية موادا غذائية أسعارها مدعمة ومتدنية لأن البلدان الصناعية تدعم فلاحتها وتفرض أسعارا غير واقعية والحال أن 600 مليون مزارعا هنديا لا يملك الواحد منهم أكثر من هكتار ويعجزون عن مزاحمة هذه المواد المستوردة بأسعار بخسة.
الاتفاقيات حول تجارة المواد الفلاحية والتي أقرتها المنظمة العالمية للتجارة تفرض على البلد المعني أن يصدر موادا فلاحية إذا افترض الطلب العالمي ذلك حتى في حالة وجود مجاعة في البلد المعني21.

إن الإقرار بقانون براءة الملكية الفكرية للكائنات الحية المعدة للتجارة ( ADPIC ) والذي لولاه لما وجدت صناعة البيوتكنولوجيا يعني فرض مواد محددة ومتحصلة على البراءة وفرض ترويجها عالميا .
" العالم الثالث" الذي يحتوي على 80% من التنوع البيولوجي يتعرض بفضل القوانين الجديدة إلى الاستكشاف البيولـوجي Bio-prospection والقرصنة البيولوجية Bio-piratage فتسرق النباتات والكائنات العضوية وتسجل براءات ثم تباع لأصحابها الحقيقيين. فبعد المناجم واليد العاملة حان الوقت للتحكم في الكائنات الحية والطريقة المثلى هي فرض البذور التي لا يمكن إعادة بذرها : "بذرة الموت" Terminator كما سمتها المنظمة الغير حكومية الكندية Rafi والتي حورت لتصبح عاقرا، عقيمة ضد الخاصية الأولى للكائن الحي : التوالد وإعادة الإنتاج 22.
انتهى عصر التنمية، نحن في عصر الخوصصة وتوحيد رأس المال، انتهى عصر الإنجازات، إنه عصر الانصهار والتأقلم، التقدم يسلك اليوم معابر جديدة

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:09 PM
- VI التنمية بين الفكر الليبرالي و الفكر الماركسي:

لقائل أن يقول هناك تنمية و تنمية. التنمية بالمفهوم الماركسي تتناقض رأسا مع المفهوم الليبرالي. لكننا نسجل اشتراك هذين النظريتين في عدة نقاط.
في دراسة تاريخ البشرية والحضارات والمجتمعات ما يهم بالأساس(مهما اختلفت النظريات) هو مدى تطور التقنيات والقوى المنتجة.
التنمية هي الملاذ أو الخلاص الوحيد للبشرية ووسيلتها لتحقيق ازدهارها.
الإنسان يحدد بحاجياته التي يحققها بالإنتاج والعمل في مجتمع يمتاز دائما بالندرة لأن الطبيعة لا توفر هذه الحاجيات بسهولة وبالتالي وجب إخضاعها فنصبح كما يقول ديكارت : " أسياد الطبيعة وأصحابها". من هنا نفهم مركزية الاقتصاد والإنتاج في نظرية التنمية والتقدم. لا بد من تحقيق مجتمع الرخاء قبل تحقيق مجتمع العدل والحرية ( شعار المجتمع الاشتراكي هو من كل حسب طاقته ولكل حسب جهده أما شعار المجتمع الشيوعي فهو من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجياته). إذن لا يمكن تحقيق الحرية المطلقة إلا مع الوفرة والسعي نحو مجتمع الوفرة يفترض وضع علاقة الإنسان بالأشياء المتاحة في المرتبة الأولى بعد العلاقات الاجتماعية والثقافية وغيرها ( فهذه الأخيرة تخضع للأولى ) وصولا إلى اعتبار الإنسان شيئا من الأشياء.
من هنا تبرز لنا النزعة التأليهية للتكنوعلوم التي تصبح محايدة ومستقلة ومعصومة من كل رجس. أول من ابتدع شعارات من نوع : المجتمع السبرنتيكي وعصر البيولوجيا هم السوفيات وقد تطورت هذه التعبيرات وأخذت أشكالا عديدة : مجتمع المعلومات، مجتمع الشبكات، القرية العالمية ومجتمع النمل.
الليبرالية تعتبر أن تراكم الإنتاج سيحد من الفروق الاجتماعية ويقرب الفئات لبعضها. فبالتكنولوجيا سنحقق الديمقراطية القصوى والمثلى. المهم أن نثق في التكنوعلوم والتقدم ولا نعطل مسيرتها وسيأتي الرخاء والعدل من تلقاء نفسيهما. لا تعارضوا الكائنات المحورة جينياOGM ، لا تقاوموا الاستنساخ، اتركونا نتلاعب بالجينات، جينات النباتات والحيوان والإنسان، نأخذ جين العقرب والمدوسة نغرسه في الفراولة، نزرع جينا بشريا في بقرة لنصنع حليبا إنسانيا ونضيف له جين هرمونة النمو المعاد تركيبها لتدر حليبا وافرا، اتركونا نزرع هنا وهناك المفاعلات النووية، تخلوا عن مشاعركم ومهجكم ومعارفكم العلمية، اتركونا نطور هذا العالم ونُخضع الطبيعة ونحن نعدكم بمستقبل زاهر. العولمة اقترنت بالوعود : مجتمع ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد التاريخ (انتهى التاريخ حسب فوكوياما) . فلنترقب .
أما دور الدولة في تحقيق النمو فالليبرالية تعتبره أساسيا (النظرية الكينزية) للحفاظ على قوانين السوق وحرية المبادرة وضبط قواعد النشاط الاقتصادي. فللدولة دور وظيفي وقتي .
الدولة بالنسبة للنظرية الماركسية (وخصوصا اللينينية ) هي أداة مرحلية مهمتها ضمان "ديكتاتورية البروليتايا" (حيث يمنع العمال من حق الإضراب) و حماية دولة العمال ( ! ) وتوجيه الاقتصاد بما يسمح بالتقدم "ومراكمة قـوى الإنتاج" و"تطوير قوى الإنتاج". للدولة دور وظيفي. الغاية هي الوصول إلى مجتمع الوفرة والسعادة المثلى وكل خطوة تقربنا من الهدف فيتضاءل دور الدولة.
ولكن وفي الحقيقة وسواء تعلق الأمر ببلدان المعسكر السوفيتي السابق أو بالمجتمعات الليبيرالية ورغم موجة الخوصصة الاقتصادية فإن دور الدولة لم يفتأ يتعاظم وهذا عكس ما تدعيه النظرية23. منظرو التنمية الليبرالية لا يعرفون حدودا للتنمية والتقدم (وإن تخلوا عن الحديث عن التنمية بالمفهوم القديم) والماركسيون يضعون هدفا للتنمية : المجتمع الشيوعي .
لكن كلا المفهومين يطرح إشكاليات ومفارقات. فإذا كانت التنمية أن نصل إلى مستوى معين لتطور قوى الإنتاج (مجتمع الرفاهة أو المجتمع الشيوعي) فماذا بعد التنمية؟ ماذا سنفعل؟ وإذا كان مفهوم التنمية والتقدم لا يعرف الحدود فعندها نتساءل : ما هو الهدف من التنمية والتقدم؟ إلى متى نظل نرجئ الهدف إلى غد لا أخال فجره بقريب؟ هل يوجد احتمال ولو ضئيل أن يقودنا "التقدم" إلى عكس الرغبات المرجوة فنرتد إلى الوراء؟
يظل سؤال يؤرقنا ويبعث فينا الحيرة : لماذا الحديث عن التقدم والتنمية والحال أن البشرية لم تفعل منذ نشأت سوى أنها "تقدمت" و"نمت" ولكنها لم تعلن ذلك في برنامج ولم تربطه بمفهوم. يظهر أن فلسفة وضعانية positiviste تقف وراء كل ذلك وهي تخرق كل أيديولوجيات العصر بحيث أن اختلافاتها لم تمنع من توحدها حول ضرورة التنمية والتقدم.

يتبع ...

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:10 PM
- VII هل هناك تنمية مستديمة ؟
يعتبر Serge Latouche أن التنمية المستديمة صورة بلاغية تتمثل في دمج كلمتين متناقضتين كأن تقـول : "الوضوح المظلم الذي ينزل من النجوم" وهـــو تعبير لـ Victor Hugo هذا الأسلوب في التعبير ابتدعه الشعراء للتعبير عن شيء لا يمكن وصفه أو تصوره أو تصنيفه وهو تعبير أصبح شائعا في أوساط التكنوقراط لكي يجعلوننا نؤمن بالمستحيل كأن نقول : "حربا نظيفة أو "عولمة ذات طابع إنساني" أو " اقتصاد سليم ومتضامن". البعض يعتبر التنمية المستديمة هي تلك التي تحافظ على البيئة والمحيط ولكنهم يعجزون عن إيجاد السبيل والحلول لذلك. التنمية المستديمة شعار تخيلته المؤسسات الدولية وقد رفعه Maurice Strong الكاتب العام السابق للجنة الأمم المتحدة حول المحيط والتنميةCNUCED) على هامش ملتقى RIO في سنة 1992. أعلن Maurice Strong في أفريل 1992 أن "النموذج الحالي الذي يؤدي إلى القضاء على المصادر الطبيعية لا يمكن أن يعمر كثيرا، لا بد من استبداله".
أجابه جورج بوش الأب "نحن لا نساوم في مستوى عيشنا". يلخص Serge Latouche بتهكم التنمية المستديمة في تصريح لأحد رجال الأعمال الأمريكيين "نريد في نفس الوقت الحفاظ على طبقة الأوزون وعلى الصناعة الأمريكية. إن واضعي التنمية المستديمة يريدون إيجاد صيغة تطيل من عمر التنمية وتعيد إنتاجها بصفة لا نهائية".24 يشبه Serge Latouche التنمية بقطار. فعندما نكون في العاصمة الإيطالية روما ونريد الذهاب إلى مدينة تورينو ولكننا نركب خطأ القطار المؤدي إلى نابولي فإننا لا نخفض من سرعة العربة الجرارة أو نوقف مسيرة القطار. المطروح هو النزول وركوب قطار آخر.

- VIII البديل التاريخي للتنمية :
العالم اليوم أمام نهاية مسار. فالأزمة عامة وعارمة ولا تخص بلدا أو شعبا. الإيديولوجيات والمرجعيات والأخلاقيات (Ethique ) لا تستجيب ولا توفي بالمتطلبات كما أن الرؤى الضيقة : التراثية أو المستندة على الهوية المحلية أو القومية الضيقة قد اهترأت وأثبت التاريخ خورها. انخرام التوازن البيئي يهدد بكارثة. " المهمشون في الأرض" عددهم في تزايد : أكثر من 800 مليون شخص والعدد مرشح للإرتفاع. هم مجبرون على إيجاد طرق وأساليب تعاون وتضامن خارج الإطار الرسمي الذي لفظهم. يسمي Serge Latouche هذه التجارب بمخابر ما بعد التنمية حيث يحتل البعد الثقافي والتضامني موقعا هاما (لقد بدأت تجارب نموذجية في الهند والبرازيل والأرجنتين وحتى في البلدان الصناعية). لكن هذه المبادرات مازالت تتميز بالتقوقع والمحلية.
لقد أخذت مفاهيم : التقدم / التخلف، التراث / المعاصرة، التقاليد / الحداثة بلب المفكرين في بلدان الشمال يسارا ويمينا ولم يعد هناك تفكير يذكر خارج هذه الثنائيات. أغلب المفكرين بمن فيهم من يحسب نفسه على "التقدمية" ( وهي كلمة مشتقة من "التقدم" ) ينزعجون لمجرد فكرة رفض مصطلح "التنمية لأن ذلك معناه "الركود.
نحن أمام وضعية تشبه تلك التي ترتبط بالفيزياء. فلمقاربة الفيزياء الكلاسيكية نستعمل مفاهيم وأنساق رياضية كلاسيكية (الهندسة الأقليدية ) ولكن ما إن نقفز إلى مستوى الفيزياء المعاصرة )الذرّة) حتى تبدو الأنساق الرياضية السابقة غير قابلة للتطبيق. تجاوز التنمية لا يتخذ حركة جدلية ( فالحركة الجدلية لا تمثل في الواقع سوى بعدا ضئيلا ومحدودا جدا في عملية تطور الأشياء والأفكار وفي بعض الأحيان يؤدي إسقاطها إلى نتائج معاكسة للواقع). فذلك يتطلب تخيل وصياغة الجديد والفذ. "التنمية" فصلت الوسائل والغايات، الذات والموضوع، فرضت مشاريع فوقية، صدّرت نموذجا وأرادت تعميمه على الكون بمعزل عن الظروف الخاصة لكـل بلد وبدون أن تشترك الشعوب في صياغته أو توافق عليه وبدون أخذ اعتبارات أخرى (المحيط، العوامل الثقافية، الإرث المعرفي المحلي، النسيج الاجتماعي، المخاييل السائدة...). يعتقد François de Ravignon أنه لا بد لنا "أن نفكر محليا ونفعل كونيا". هذا التوجه لا يعني أن نتخلى عن النظرة الشاملة (دون أن تكون شمولية) أو أن نتقوقع وننعزل عن العالم الخارجي أو أن نرفض التبادل في جميع أشكاله ولكن أن نفعل فعلنا على الواقع المباشر (فلاحي – اقتصادي – ثقافي- فني - اجتماعي ...) وفي ذهننا تحضر مجالات أوسع وأشمل .
منذ الثمانينات دعا François Partant إلى عكس سلم الأولويات ورفض منطق هيمنة مجال على مجال آخر : محور هذا البديل هو العلاقات بين الذوات والمجموعات والشعوب والثقافات.
" التقدم الوحيد لا يمكن أن يكون إلا سياسيا . فهو يتجسد في قدرة الناس على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، فرديا وجماعيا وأن يضعوا معارفهم العلمية وتقنياتهم في خدمة فن الحياة الجماعية". هذا التوجه يفترض عليهم أن يتجاوزوا الإطار الحالي للعمل والفكر السياسي (البلاد – الأمة – المعطى التاريخي بصفته وقتي ومرحلي ) لأنهم سوف لن يعيشوا في مجتمع ضيق حتى ولو تعلق الأمر بأمة "عظيمة". لا بد من صياغة "مشروع" كوني بديل 26.
يعتبر Wolfgang Sachs أن" رفض التنمية" لا يعني أن ندعو إلى الركود والتوقف عن النشاط فحالة الهند على سبيل المثال تستدعي أولا وقبل كل شيء أن نعترف بحق المجموعات البشرية والسكان في التحكم في المصادر الطبيعة المحلية (هناك اليوم حركة شعبية هامة في أوساط الفلاحين بالهند تدفع نحو هذا الاتجاه). كما أن الحفاظ على الطاقة التي تعتمد المواد الطبيعية Biomasse يبدو أمرا ملحا. المسألة لا تتمثل في الرفض الأعمى للنموذج الغربي والتقـوقع. نحن لا نضرب عرض الحائط ( On fait table rase) بالموجود.
المسألة تتجاوز القبول أو الرفض. البديل لا يعني "الضد" بالمفهوم الرياضي للكلمة ولكن خلق وتصور وإبداع أساليب جديدة تقطع مع مفاهيم "التنمية" السائدة و"الإنتاجوية" وتعيد الاعتبار للعوامل الإنسانية والبيئية .
لا بد أن نحرر مخاييلنا . فقوة المخاييل أعظم من قوة الشركات المتعددة الجنسية. بؤس الحياة لا يتوقف على الجانب الاقتصادي. الزمان لا يسير بصفة خطية و"التقدم" يحمل معه الارتداد والدمار. إن تجاوز التنمية يفترض أن نطلق خيالنا لا للتفكير في إمكانية انهيار النظام الاقتصادي من الداخل ( Implosion ) بل لتصور ما بعد التنمية وهو "مشروع" لا يمكن أن يكون إلا متنوعا ومتعددا : هو الحفاظ على الأرض والطبيعة، ونقاء الهواء ولذة الحياة الجماعية وتطوير البحوث العلمية خدمة للبشرية جمعاء 27 و28.
التخلي عن "التنمية" لا يعني التشكيك في شرعية رغبة الجماهير في تحسين أوضاعها بصفة ملموسة ولكنه يفترض إبداع أساليب أخرى وهذا يفترض ديمقراطية محلية وكونية . يلاحظ Kate Soper أنه كلما وقع الحديث عن ضرورة التخلي عن التنمية إلا ووجهت لنا تهمة التخلي على الحاجيات المادية للإنسان. أعداء " التنمية" يوصفون وينعتون شتى النعوت : نساك، متزمتون ومتشددون. ولكن هذه التهم لا تمت للواقع بشيء فالعكس هو الصحيح.
مجتمع الاستهلاك والتنمية يلغي الحواس : ذوقا، لمسا وسماعا... فهو يوحد الأذواق ويروج لسلع استهلاكية لها مفعول تخديري بحيث تحد من التجربة الحسية وتخضعنا جميعا لنفس المقاييس والمعايير .
يعدد Gustavo Esteva الفئات التي لها مصلحة في ما بعد التنمية29 :
إنهم هؤلاء الذين اكتشفوا أسلوبا خلاقا في الحياة بعد أن لفظتهم المؤسسات أو استغلوا طاقات كبلها النظام الاقتصادي أو مزارعون أعادوا اكتشاف معارفهم أو مرضى اكتشفوا مسؤولياتهم الأولى في الحفاظ على صحتهم أو هؤلاء الذين أعادوا اكتشاف جدوى السير على الأقدام والدراجات أو الذين اكتشفوا أن امتلاكهم للسيارة الخصوصية لا تقيهم من ضياع الوقت وسط زحام المدينة أو هؤلاء الذين اكتشفوا أن ما تلقوه من معارف في المعهد والجامعة لا يكفي أو لا يتطابق مع النشاط المهني الفعلي أو الذين أعادوا اكتشاف ميزات الأكلات الشعبية المتنوعة ومنافعها مقارنة مع "الفاست فود" أو الذين اكتشفوا تفاهة أغلبية البرامج التلفزية.
إنهم قدماء الاشتراكيين الذين اكتشفوا بشاعة المشروع البيروقراطي السوفيتي وعدم تعارضه المطلق مع المشروع الليبرالي وتخلوا عن "دكتاتورية البروليتاريا" وعــــن كل "الدكتاتوريات" وعن التعاضد القسري والتأميمات الكاذبة ولكنهم ظلوا أوفياء لمثل العدل والحرية.
إنهم بعض "الليبراليين" الشرفاء الذين تخلصوا من عقدة معاداة الشيوعية وبدؤوا يكتشفون أن اليد الخفية الليبرالية كذبة ليبرالية روجوها ثم صدّقوها.
إنهم هؤلاء الذين يرفضون الاعتقاد في حياد العلوم والتكنولوجيا أو التكنو-علوم والذين يطالبون بالحفاظ على الكون من المخاطر البيولوجية والنووية. القائمة طويلة وهي تتشكل من كل الفئات أو معظمها.
لقد انتهى عصر "التنمية". نحن نعاين بروز وعي كوني وهو يشبه ذلك الذي سبق الثورة الديمقراطية الفرنسية في القرن 18. "التنمية" فتحت باب "العولمة" وهذه الأخيرة تعد لنتائج وخيمة تتجاوز الكوارث التي خلفتها التنمية.
مرة أخرى يرفض الإنسان رفع الراية البيضاء ويعلن أنه لم يستسلم : هاهو اليوم يؤكّد أنه حاضر وأن التاريخ لا تصنعه اليد الخفية أو قوانين التاريخ الوهمية والكاذبة بل هو من صنع البشر. فلا "التقدم" المغشوش ولا "التنمية" قدر. كلها من صنع الإنسان.

معتصم الحارث الضوّي
22/06/2007, 10:12 PM
ملحوظة مهمة :
قمتُ برفع المشاركات أعلاه على موقع الجمعية بناء على طلب الأستاذ الفاضل سمير بسباس ، و ذلك لحدوث مشكلة فنية منعته من النشر باسمه مباشرة . و لذا وجب التنبيه .

مع فائق التقدير