المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من فاس إلى الدار البيضاء .. يوميات مشرقيٌّ في المغرب أحمد جاسم الحسين



مصطفى لغتيري
16/06/2007, 01:56 PM
من فاس إلى الدار البيضاء .. يوميات مشرقيٌّ في المغرب

دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
السبت 16 حزيران 2007
د. أحمد جاسم الحسين
حين قابلني أول وهلة مسؤول الجوازات مطالباً بالإكرامية لأن السوريين معتادون عليها (كما يدّعي!) همست لنفسي يبدو أن البلاد العربية (من تحت الدلف لتحت المزراب!) فضحكت (المغربية) التي تقف خلفي.
وقد جاورتني في الطائرة فكانت نِعمَ رفيقة الطريق حيث عرفتُ منها عن بلدي ما لا أعرفه لو جلست في مقهى الروضة عشر سنوات! ولا عجب فهي (فنانة) من طراز فريد! ‏
وجهُ العياشي السنوني حيَّرني، كان يحمل قطعة كرتونية كتب عليها اسمي، وللحظة (تخيّل سردي بلغة نبيل سليمان) قلت ربّما يكون هذا الرجل من كُتّاب القصة القصيرة جداً، فلها محبّوها ومؤلفوها في المغرب، استبعدتُ الفكرة وقلت: (لم يأتني من ق.ق.ج إلا وجع الرأس!).

فيما يدعى (الطريق السيّار) من الدار البيضاء الى فاس بساعاته الخمس تحدّثنا عن مواضيع عديدة، تساءلت عن رواية (حميد الحميداني) (الطريق السيار) وفوزها بجائزة الملك عبدالله بن الحسين، ووجدتها فرصة لأطمئن على أسماء عديدة نعرفها معاً، ووضحت له أننا في سورية سائرون على طريق العولمة، حيث ستُنشأ لدينا طرق (سيّارة) بنظام (B.O.T). ‏
(السنوني) من جهته قدّر فضولي الفطري والرحلي فأجاب عن كل أسئلتي بإسهاب أحياناً،، وباقتضاب نادراً، وكان كريماً بقهوة النسكافيه، بين ساعة وأخرى. ‏
بدّد استقبال الرجل كل هواجسي، وكانت العربية الفصحى الوسيلة الأبرز في التواصل، ذلك أن اللهجة المغربية السريعة تنقل مواضع نطق الحروف من موقع الى آخر فيغدو من الصعب على الأذن المشرقية أن تلتقط الإيقاع، وقد احتجتُ الى الأيام العشرة كاملة حتى التقطته، واكتسبتُ مفردات مغربية خاصة مثل (ديالك: لك ـ ضمير الملكية) أو (زوينة: زينة) أو (واخ: نعم).... ‏
ولما عرفت أن الرجل من (طنجة) قلت في نفسي: إنّها فرصة طيبة أن يكون موضوع الحديث (محمد شكري) وإذا بالرجل يعرفه جيداً، فحدّثني عن أشياء جديدة حول سيرته الذاتية، وسألته عن الكاتب الاسباني (خوان فوتيسولو) الذي أقام في طنجة وسميت مكتبة باسمه...! سألت نفسي: ‏
لو ركبت البحر من طنجة هل سأصل الى اللاذقية دون أن تفتشني البوارج الحربية.. حسدت وقتها ابن بطوطة! ‏
قطع عليَّ شرودي البحري حين قال: هذه مدينة مكناس لم يبق إلا كيلومترات مئة لنصل الى فاس...! ‏
تذكّرت صديقنا المعرفي السيميائي ومجلته وموقعه علامات سيميائية. تذكّرت بعض أعضاء اتحاد الكتّاب العرب فشعرت بالأسى حين اقترحتُ أن يستضيفوه في ندوة جمعية النقد الأدبي السنوية، فلم يعرفوا اسمه...! ‏
تساءل السنوني: هل هو معروف في سورية؟ ‏
قلت: سعيد بنكراد علم سيميائي لا يمكن لمهتم أن لا يقرأ له! ‏
قال: وما رأيك بطروحاته السيميائية؟ ‏
قلت: تؤسّس معرفياً لقراءات منهجية...! ‏
قال: وطلاب الدراسات العليا...؟! ‏
قلت: قبل فترة أراد أحدهم أن يسجل رسالة ماجستير عن المسرح السياسي في سورية من وجهة نظر سيميائية! ‏
قاطعني: وماذا وجد..؟ ملاحظات طلاب الدراسات العليا تتسم بالبكورية أحياناً، لذلك تقدّم أحياناً رؤى مهمة! ‏
قاطعته: لم يكن (الطالب) قد سمع بسعيد بنكراد! ‏
استغرب: وهل سجل الماجستير؟ ‏
قلت: لا.. لم يسجل، لكنني خسرت اثنين من زملائي بسببه! ‏
قال: الطريق بين فاس والدار البيضاء في النهار أجمل...! ‏
قلت: حين أعود سأعود بالنهار. ‏
قال: بالقطار ربّما تعجبك فاس ولن تعود! أنتم المشارقة إذا أجبتم قطعتم حبال العودة! ‏
قلتُ لنهى: أنت تعملين في فاس وأهلك في القنيطرة وتذهبين الى الدار البيضاء؟ ‏
قالت: حبيبي ينتظرني! ‏
قلت: آه لو لم يكن لديك حبيب! ‏
قالت: لديكم مدينة اسمها القنيطرة! ‏
قلت: تبعد عن بيتي خمسين كيلومتراً! ‏
قالت: ماذا تقصد؟ ‏
قلت: يمكن أن تعتبريني من القنيطرة؟ ‏
قالت: ألم تقل لي أنك شامي من ديرالزور؟ ‏
قلت: آه لو لم يكن لديك حبيب! ‏
قالت: ما الذي جاء بك الى فاس؟ ‏
قلت: القصة القصيرة جداً والتأويل والتحليل!.. ‏
قالت من دمشق الى فاس بسبب القصة القصيرة جداً؟ ‏
قلت: فاس مدينة جميلة ستغنّي فيها وعد بوحسون بعد أيام! ‏
قالت: هل زرت المدينة القديمة؟ ‏
قلت: نعم وتجوَّلت في أسواقها وأكلت من حلوياتها، وزرت جامع القرويين والتقيت شيخ الطريقة الإدريسية، وركبت القطار الصغير وشاهدت الصناعات اليدوية.. ولبست الثوب المغربي؟ ‏
ابتسمت: لماذا لبسته؟ ‏
قلت: لأن كل الذين التقيتهم يلبسونه، لكنني لا أنصحك بأن تلبسيه، أنت في الجينز أحلى! ‏
قالت: قرأت مقالاً جميلاً على تاريخ الجينز!.. ‏
قلت: أعظم اكتشاف عرفته البشرية الجينز بخاصة حين تلبسه الممشوقات! ‏
قالت: ما رأيك بكأس من النسكافيه؟ ‏
قلت: أكلت في فاس (البَسْطيلة بلحم الحوت) وفرحتُ أن (فاس) عاصمة للثقافة الإسلامية 2007 لكن عندكم لا يوجد أثر لكونها كذلك، عندنا الأمر مختلف؟ ‏
قالت: كيف؟ ‏
قلت: المهرجانات، والصور، والملصقات، والأماسي، والكتب، نحن شعب يحبّ المهرجانات...! لذلك نكتب الشعر العمودي ونقرأ النقد المغربي! ‏
قالت: أنا لا أفهم بالنقد، ما رأيك أن نسمع الموسيقا؟ ‏
قلت: وهل معك (ووكمان)؟ ‏
قالت: نعم له سماعتان واحدة بأذني والأخرى بأذنك؟ ‏
قلت: لكن هذا يتطلب أن أجلس بجانبك؟ وأنا مشرقي وأنت مغربية؟ ‏
قالت: تفضّل! عبر التاريخ جاء المشارقة الى المغاربة وأرسلنا إليهم ابن بطوطة ‏
قلت: والشرطية التي ترافقنا المقصورة؟ ‏
قالت: نائمة! ‏
قلت: أجمل شيء في الشرطة أنهم يخدمون الشعب فينامون بعمق! ‏
قالت: هل تفهم ما تسمعه؟ ‏
قلت: أحسّ به! ‏
قالت: معك حق.. المهم أن تحسّ بما تسمع! ‏
قلت: معك حق، المهم أن تحسي بما ترين وتسمعين.. هل سمعت بنعيم حمدي؟ ‏
قالت: لا! ‏
قلت: أكيد لم تسمعي به، مغن سوري لم ينجح في سورية، فلم يفشل في كوريا؟ ‏
قالت: في كوريا يحسّون؟! ‏
قلت: بنعيم حمدي فقط! ‏
قالت: وكيف وجدت القراءة والتأويل في المؤتمر الذي شاركت به؟ ‏
قلت: القراءة والتأويل مثل علاقتي بك؟ ‏
ضحكت وقالت: لا علاقة لي بالقراءة والتأويل؟ ‏
فقلت: أنت تقرئين وأنا أؤوّل؟ ‏
فضحكت للمرة التاسعة، فحاولتُ استفزازها: لماذا لا تضع النساء المغربيات هاهنا المكياج؟ ثم لماذا لا يوجد لديكم حل وسط، فالمرأة إما جميلة (تمزع) العقل أو لا يُنظر إليها؟ ‏
قالت: في الحفلات فقط نضع المكياج، أما الحل الوسط فيعود لتنوّع أعراقنا! ‏
قلت: النساء عندنا دائماً (ممكيجات)! ‏
قالت: طبيعي! ألم تقل لي إن حفلاتكم ومهرجاناتكم لا تنقطع، نحن نحاول أن نصبح مثلكم! لدينا مهرجان للمسرح المتوسطي بدأ الآن؟ ‏
قلت: تشارك فيه فرقتان مسرحيتان سوريتان ويرأس الوفد مانويل جيجي! ‏
قالت: من هو مانويل جيجي؟ ‏
قلت: مخرج مسرحي (عاجبه راسه) يدرِّس في المعهد المسرحي، لكني لا أنصحكم بأن تصبحوا مثلنا. ‏
قالت: وهل لديكم معهد مسرحي؟ ثم لماذا تحدّثني عن مانويل جيجي؟ ‏
قلت: لأنه عاصر سعدالله ونوس وفواز الساجر... يعتقد أنه مهم! ‏
قالت: هل الذين يعاصرون المهمين مهمون؟ ‏
قلت: عندنا هكذا تمشي الأمور! ‏
قالت: سننزل بعد 3 محطات.. أنت في محطة وأنا في محطة؟ ‏
قلت: لماذا لا ننزل في محطة واحدة؟ ‏
قالت: لأن محطتك غير محطتي! ‏
قلت: من مات غريباً مات شهيداً! ‏
قالت: هل ما قلته حديث شريف؟ ‏
قلت: سأتحدث عن الرواية السورية الجديدة في محطتي الثانية وسيتحدّث رئيس اتحاد الكتّاب عندكم عن الرواية المغربية الجديدة! ‏
قالت: بقي محطتان! تعني عبد الحميد عقار؟ ‏
قلت: وسألقي في محطتي الأخيرة عدداً من القصص القصيرة جداً! ‏
قالت: وهل تكتبها؟ ‏
قلت: في القرن الحادي والعشرين لا.. لم أكتبها؟ ‏
قالت: لماذا؟ ‏
قلت: هل ستحضرين أمسيتي؟ ‏
قالت: إنْ سافر صديقي؟ ‏
قلت: يا رب يكون قد وصل بالسلامة! ربّما تقدّم موعد طائرته! ‏
قالت: لم يسافر بعد؟ ‏
قلت: يا رب يوصل بالسلامة! ‏
غير أن صديقها خيّب ظني ولم يخيّب ظنّها.. ابتسمت له ورفعت يدها مودعة الى لا لقاء! ‏

فاس العتيقة ‏
جبال خضراء وسهول وأودية تفصل فاس العتيقة عن فاس الجديدة، تفصلها عادات وتقاليد وسحنة الوجوه، وجمال الفتيات... ‏
فاس الجديدة يتوسطها شارع يشبه (الشانزليزيه الباريسي ـ كما قال لي صديق ـ ) بنخيله السامق ووروده التي تتسابق في الكشف عن جمالها، مقاهيه أيضاً يتميز بها وقد أحصيت أكثر من ثلاثين مقهى تطلّ عليه، يجلس على أرصفتها رجال ونساء يشربون الشاي الاخضر والنسكافيه..! ‏

الشاي الأحمر مفقود! ‏
أول وجبة طعام تناولتها هناك أعلنت عن تغاير بين ما اعتدت عليه، وما وجدته، كان مقهى الجوهرة شاهداً عليها: شاي أخضر بإبريق فضي مزّين وصحن من النعناع وكأس من البرتقال مع وجبة نسيت اسمها تتكون من البيض واللحم والصمون الأسمر، افتقدت الشاي الأحمر الذي لم أتناوله طوال عشرة أيام، وبدأت ذائقتي تتآلف مع الشاي الأخضر.. لكنني ما إن عدتُ الى سورية وسألتني زوجتي ماذا تشرب مع الفطور؟ قلت دون تردد شاي طبعاً! ‏

الوطن يلاحقك! ‏
قال لي ذات مرة خبير بالسفر: لا تفسد متعة سفرك بالموازنة والتفكير بمن هم ليسوا قريبين منك..! لكن استجابتي للنصائح بطيئة منذ طفولتي! ‏
شغلتني الموزانة بين أسعار الاتصالات، وأسعار الأطعمة، والأشربة، والفنادق، ومحلات بيع الزهر، التي كانت سبباً في التعرف الى زهرة شامية؟ ‏
تساءلت عن (الحلزون) وكيف يطبخ ووسائل تعقيمه وتبين لي أنه وجبة رئيسة! ‏

لا أريد أصدقاءك بل أعداءك! ‏
قالها بصوت ينبض بالحنين: جذوري من سورية! ‏
قلت: هل أنت من جيل أمجد الطرابلسي؟ (الجميع يشيد بفضله وأنه خرّج مئات الباحثين). ‏
قال: بل أنا من بني هلال.. هاجرنا منذ نحو 900 عام وأخرج لي شجرة عائلة (والدي ـ رحمه الله ـ كان يحتفظ بشجرة تشبهها وكان يكثر الحديث عنها أيام الانتخابات!). لم أكترث كثيراً بـ(سوسيولوجيا) محدّثي فقد كنت أهم بشراء لباس مغربي تقليدي لأفراخي (على رأي الحطيئة!). ‏
كان مرافقي عبدالله الغواسلي المراكشي (الأستاذ الجامعي) أينما اتجهت في فاس العتيقة يوجد أصدقاء له أينما اتجهنا (بائع أقمشة، بائع حلويات، شيخ طريقة، صانع أباريق نحاسية) ولولا أنه شارك معنا بالمؤتمر حول قراءة النص عند القرطاجني لأيقنت أنه أحد أصحاب المهن..! ‏
لكن أصدقاء (عبدالله) أسعارهم غالية، فطلبت منه بإلحاح أن يعرِّفني الى أحد أعدائه كي أشتري منه! ‏
البائعون لا يختلفون عن بعضهم، هم ذاتهم في سوق الحميدية وفي فاس المحروسة وفي الدار البيضاء.. الابتسامة والقدرة على الإقناع ومضاعفة الأسعار إذا عرفوا أنك قادم من خلف الحدود..! ‏

جامع القرويين وشيخ الطريقة الإدريسية ‏
ترميم الجامع لم يمنعنا من الاستمتاع بتفاصيله، ولعلّ علاقة مرافقي بشيخ الطريقة الإدريسية سهّلت علينا ذلك¾ تأمّلت (المشايخ) الموجودين هناك، وقرأت دعاء معهم يعتقد أهل فاس أن مدينتهم ـ بفضل هذا الدعاء الذي قاله أحد الأدارسة ـ محمية من الكوارث والحروب...! حاول مرافقي أن يحثّني على الجلوس أكثر في المسجد، غير أنني ألححت على اغتنام الفرصة لرؤية عدد من التفاصيل الصغيرة التي شغلتني وأنا أتجوّل في الأسواق. وجدت أحد مخلّفات الحروب وقد وضع نياشين كثيرة على صدره ـ استغرب محدِّثي حرصي على أن أتصوّر بجانبه ـ ولما عرف أنني سوري، بدأ يحدّثني عن رُتبه التي سرقها رفاقه العسكريون وأنه لولا تلك السرقات لكان الآن مسؤولاً كبيراً (الحقيقة هو حدّد نوع المسؤول لكن لضرورات النشر نتركه مبهما!). ‏
عدنا الى سيارتنا خشية أن نتأخّر عن طعام العشاء، وكان الحارس الذي (تعهّد) الرصيف الذي أوقفنا بجانبه السيارة قد أخذ أجرة لساعات محدّدة، وعرفت فيما بعد أنه يستأجر الرصيف من البلدية، وفي كل حارة يوجد عشرات الحراس يحملون بيدهم عصا غليظة كانت تنتابني في الأيام الأولى لوجودي هناك (نوبات، نفور منهم) لكن حين عرفت أن أغلى واحد فيهم اشترى ابتسامته بخمسة دراهم فرحت كثيراً وقلت في نفسي: الحراس يتشابهون في كل البلدان ياسبحان الله! ‏

بلدية فاس تستأجر منزلاً للإطعام ‏
لم يكن من السهل علينا معشر المشرقيين (أنا ود.زياد الزعبي ود.محمد حوّر ود.خالد الجير من الأردن) أن نفهم آلية دعوتنا من البلدية في منزل.. فما كان منّا إلا أن وزّعنا الابتسامات لصاحبه شاكرين إياه على دعوته.. غير أننا لما عرفنا الحكاية أشحنا وجوهنا عنه! ‏
في بداية كل عام يذهب الى البلدية الأشخاص الراغبون بـ(كراء بيوتهم) وتقوم لجنة بالكشف عن سعة البيوت ونوعية أثاثها.. ولدى وجود دعوة لدى البلدية تخبر صاحب البيت الذي يجهز صالته لاستقبال ضيوف البلدية ويقدم لهم طعاماً يتم الاتفاق عليه، وها هنا لا حرج من أن تطّلع على ما يدعى ـ في المشرق ـ خصوصيات، تجد في الصالون صورة أول زواجه، وصورة طفله حين تم ختانه، وصوراً أخرى. ‏

البَسْطيلة والوجبات الثلاث ‏
تأخُّرنا عن موعد العشاء قليلاً دفعني لالتهام ما استطعت من لحم الحوت مع الرز المصنوع بشكل قرص كبير من العجين.. غير أن صديقاً مشرقياً كان يضحك حين سألته: يبدو أنك تأخّرت في الغداء لذلك لم تأكل كما يجب! لم يجبني! ‏
غير أنني عرفت سرّ ضحكته حين جاء الطبق الثاني والطبق الثالث.. وفي كل الوجبات التي أكلتها في المنازل وسواها.. كان هناك دائما لا يقلّ عن طبقين رئيسيين يقدمان لكن ليس في وقت واحد.. إضافة الى الفواكه والحلويات التي يغلب عليها الطابع الأوروبي، وقد اشتقت كثيراً الى رغيف خبز مشرقي يخلّصنا من الصمون!). ‏


طاكسي صغيرة حمراء! ‏
سبق أن سمعت أن اخواننا المغاربة يلفظون حرف التاء طاء في كثير من المفردات، أخبرني بهذا منذ ربع قرن صديق كان لا يشجع فريق (تيزي أوزو) الجزائري، سألني د.نجيب العمامي التونسي عن متحف السيارات السوري وأين ذهبت تلك السيارات؟ فأخبرته أنهم أخذوها الى حماة! ‏
فضحك: هل أنت من حمص؟ استغربت عن أسرار معرفته بعلاقة الحمامصة بالحمويين حيث كان اليوم الأربعاء، لكنه كشف لي أنه جاء الى دمشق غير مرة.. عندها تحاورنا كثيراً في شؤون اجتماعية وسياسية.. ونحن نركب (الطاكسي) الصغيرة الحمراء حيث طلبنا منه أن يأخذنا الى الفندق..! هروبنا كان لتأكدنا أن (نكت) زياد الزعبي ومحمد خرماشو وحميد الحميداني لن تنتهي قبل أن يطلع الصباح.. غير أن النادي الموجود في فندق (زلاغ) الذي سمي على اسم الجبل الذي يطلّ عليه لم يسمح لنا بالنوم المبكر، وقد راودتنا أنفسنا بإكمال السهرة.. لكن متطلّبات المؤتمر بالاستيقاظ وأن تكون (صاحياً) حرمتنا من ذلك ـ ها هنا لن أتحدّث عن غلاء الأسعار! ـ . ‏


لماذا يحبون سورية؟! ‏
في المؤتمر الذي أقامه قسم اللغة العربية في جامعة دمشق رغب أحد الزملاء من إحدى الدول العربية في أن يلتقي طلاب الماجستير، وسعيت بالموضوع وتحمّس الطلاب.. غير أننا اكتشفنا أن الموضوع يحتاج الى ثلاثين موافقة! عندها بقيت على حماسي؛ لكنه غضَّ النظر! ‏
في الطريق من الدار البيضاء الى فاس قال لي العياشي السنوني: ما رأيك أن تلتقي طلبة الدكتوراه، هم يحبون سورية ويمكن أن تحدّثهم عن حركة الأدب عندكم أو أي قضية نقدية؟.. وافقت فوراً.. وعصر اليوم التالي كنت معهم، وأول ما رأيتهم وتعارفنا أعطيتهم نصاً مكتوباً عن حركة الأدب السوري المعاصر والتناص، ثم أدرت الحديث لأسألهم عما يجعلهم يحبون سورية كما أخبرني أستاذهم.. فوجدت أن السبب الرئيس (درامي)، نعم! إن المسلسلات السورية سبب رئيسي لمحبة كثير منهم، وسمعت وجهات نظر أخرى سياسية وقومية وعروبية وأن هناك أسباباً تخص اللغة العربية...! تركت كل هذا جانباً لنتعمق معاً بحوار بلا حدود حول الدراما السورية وما تطرح من وجهات نظر.. تحاورنا عن الاعتدال الذي عرف به السوريون، وتساءلوا عن الأسباب التي تجعل (الدراميين) يقدمون الآخر (متطرفاً!) واختلفنا واتفقنا...! ‏
وحملت معي سلامات لبسام كوسا وسلاف فواخرجي وجمال سليمان وباسل خياط ونسرين طافش وأمل عرفة الذين لن أراهم، وهأنا أنشر الأمانة! ‏
صباخ فخري بدوره كان له حضور كبير، كانت تدهشهم في شخصيته الرجولة والقدرة على التلوين الصوتي.. وقال متحمس له: (لن تجود الأيام بمثله!) هززت رأسي موافقاً على حماسه، متمنياً أن تجود الأيام بالأفضل لتستمر الحياة! وها هنا لابدّ من أن أشير الى التفاني الذي بذله الطلبة في خدمة المؤتمر والرغبة بخدمة الضيوف.. والحوار معهم اعتقاداً منهم أن الحوار سيكون له ثمرات! ‏

كازبلانكا: الدار البيضاء ‏
قبل أن أخرج من محطة القطار أول قدومي من فاس ووصولي الى الدار البيضاء طلبت من القاص (مصطفى لغتيري) أن يحسدني على ثلاثة أشياء موجودة في سورية وغير موجودة في المغرب؛ فقال:أحسدكم على روايتكم وشوارعكم ومستشاري وزير الثقافة! ‏
لكن لما عرف حقيقة رواتبنا وشوارعنا ومستشارينا ضحك في (عُبّه) وقال: إذاً سأحسدكم على اتحاد الكتّاب، عندها قاطعته بالقول: الطقس جميل هنا في الدار البيضاء! ثم أردفت: أحسدكم على: المقاهي والصحف والجمعيات والمحيط الأطلسي؟.. ‏
أنهينا (وجبة الحسد) بسرعة بعد أن تكاشفنا وتعارفنا وجهاً لوجه وحمدنا الله معاً، وصلينا له لنعمة الانترنت أدامها الله ومنحها الصحة والعافية والسلامة وأبعد عنها الأيدي الشريرة التي تحجبها...! ‏
وقلت له: أما الرواتب فإنها كسيحة، وأما الشوارع فإنها محفّرة، وأما المستشارون فقد بدؤوا ينسحبون تحضيراً للمرحلة القادمة، وقد حقّقوا مشاريعهم الثقافية التي (نفضت) الحركة الثقافية! ‏
فرد علي: أما المقهى فنسميه فضاء، وأما الصحف فإنها تزيد على خمس وستين.. أما المحيط الأطلسي فيمكنك إن أصبحت عضواً في المجلس النيابي أن تطالب بفرع منه! ‏

القاص سعيد بوكرامي كان يعيدنا الى الحديث الجاد ويسأل عن تجربة كرّاس وكتابات.. عن الأحلام المتكسرة، عن الحساسيات الجديدة، عن مجموعات البحث في الأدب السوري.. أصدقاء مصطفى أحاطونا بكرمهم ودخلوا في نقاشات متنوعة ضمّنوها حبّهم لسورية... ‏

رئيس اتحاد الكتاب المغربي في مقهى فضاء بلادي! ‏
المحيط الأطلسي ليس وحده أول ما يجذبك في الدار البيضاء، النخيل الشامخ والدور القديمة والبحيرات التي تتناثر على شاطئ المحيط الأطلسي، وقفت على المحيط أرقب مغيب الشمس، كان المنظر لا يعوَّض، و أسهم في (شعريته) تلك الأمواج البشرية التي تؤمّه، صبايا وشباب يقتحمون موقع (عين الذئاب) هناك من يركب حصانه وآخر دراجته و... ‏
تتناثر المقاهي التي تقدّم خدماتها للزبائن الذين لا يطيقون الجلوس فيها كثيراً، قال القاص سعيد بوكرامي: هذا الجمال الطبيعي والبشري لا يسمح لك بالجلوس يدفعك للحركة، وهزّ رأسه القاص عبد الله المتقي وهو يهمّ بقراءة إحدى قصصه القصيرة جداً بتشجيع من قاص آخر بدا نحيفاً لدرجة أنك يمكن أن تحلف عليه بأنه لم يتناول الطعام منذ سبعة أشهر.. إنه عز الدين الماعزي، غير أن القاص مصطفى لغتيري كشف الحقيقة، قال: عزّ الدين يعشق! ‏
هل بقي عشاق؟.. تساءل سعيد. ‏
كانت هذه الجملة كفيلة بجعل كل واحد منّا يلوذ بالصمت، وهو يحار بالإجابة...! عندها اقترحت أن نسأل رئيس اتحاد الكتّاب المغربي الناقد عبد الحميد عقار الذي جاء من الرباط ليساهم في ندوة في حيّ (الألفة) بالدار البيضاء، فرؤساء الاتحادات يفهمون في كل شيء.. كان الأصدقاء قد رتّبوا الدور الثاني في المقهى (الفضاء): الصوت والتصوير والمجموعات والضيافة.. الحضور كانوا من الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة... بعد أن تحدثنا عن الرواية الجديدة في سورية والمغرب والرواية العربية وشؤونها بعامة... انبثقت حوارات مهمة حول مفاهيم لا تكف عن إثارة الأسئلة: التجديد والتحديث.. والشباب.. ما وجدته بشكل أكيد هو ثمة رغبة حقيقية بمعرفة خصوصيات الرواية الجديدة في سورية.. تناولت تجارب كثيرة برؤوس أقلام طوراً وبالتفصيل تارة، وامتدّ الحديث ليشمل نهاد سيريس ومحمد أبو معتوق وفيصل خرتش وخليل صويلح وخليل الرز وسمر يزبك ومنهل السراج وابراهيم العلوش ومحمد ابراهيم الحاج صالح وروزا ياسين حسن.. ‏
العفوية والبساطة كانت سمات المتحدّثين: عبد الحميد عقار ومحمد زهير ومحمد معتصم، وكان اهتمام الصحف باللقاء جميلاً حيث نشرت ما يزيد على خمس عشرة مقالة مركزة على خصوصية الرواية في سورية. ‏
ثمة سؤال لم أتردّد في طرحه على رئيس اتحاد الكتاب المغربي: لماذا لا تجد حرجاً في المشاركة في صالون بمقهى؟ ‏
ضحك وقال: الفرق بين اتحاد كتّابنا واتحاد كتّابكم أننا منظمة مجتمع مدني، أما عندكم فالاتحاد منظمة حكومية يخضع لتوجيهات القيادة.. وجرى حديث طويل حول (اتحادنا) و(اتحادهم) أوضحت فيه بعض وجهات النظر...! ثم تساءل عديدون عن موقع تجربة نبيل سليمان في الرواية السورية! ‏

قاف صاد ومجموعة البحث في القصة القصيرة ‏
وضح لي أحد الأصدقاء: المقاهي عندنا نوع من التأثّر بالفرنسيين، كنّا نظن أن المقاهي في سورية أكثر، لكن في الدار البيضاء وحدها أكثر من أربعمئة مقهى تمتاز بنظافتها وجودة خدمتها ورخص أسعارها (فنجان القهوة نحو 35ل.س) وكانت مقهى الدار البيضاء أمام فندق الحياة ريجنسي مكاناً للقاء د.عبد المجيد جحفة عضو مجموعة البحث الأكاديمي الذي يدرس في جامعة الحسن الثاني (فرع ابن مسيك) وحملني إصدارات مجموعة البحث والاعداد التي صدرت عن مجلة قاف صاد.. ‏
وتحاورنا في قضايا متنوعة حول القصة القصيرة والقصيرة جداً: المفاهيم والمصطلحات وإمكانية التواصل.. حال الثقافة، القمع والاستبداد، وسائل النشر، وتبادلنا (الإيميلات) كما حدث مع معظم من التقيناهم، لم يسمح لنا الوقت بلقاء طويل، ذلك أن نداءات الأمكنة الأخرى كانت قوية حيث المكتبات في (الحبوس): المركز الثقافي وتوبقال ودار الثقافة، ودار المدارس وسط الدار البيضاء وافريقيا الشرق. لفت نظري إقبال الناس على القراءة، فقلت: (إنه الدخل المادي الجيد!). ‏
الدار البيضاء القديمة وأسواقها وزخارفها، وكذلك نداء (سناك أمين) الذي يقدم وجبة من الأسماك المتنوعة لا يمكن أن تنسى طعمها، وتساءلت: هل سمكه طيّب أم لأن رفيقة القطار (نهى) هي التي نصحتني بتناوله؟ على أية حال كانت هي أغلى وجبة (تجاوزت 500ل.س) وكانت هناك فرصة للحوار مع بائعي الشاورما السوريين (تُباع السندويشة بمئة وخمسين ليرة سورية) وهذا فتح الباب لمعرفة وجودهم هناك حيث عرفت أنهم ناشطون في سوق العقارات، وكانت المصادفة جميلة حين التقيت بمسؤول الزواج في المحكمة الشرعية بالدار البيضاء وعرفت منه أن نحو خمسين سورياً يتزوجون مغربيات في العام الواحد! ‏
سيارة القاص (مصطفى لغتيري) دفعتني للاستفهام عن الأسعار هناك فاكتشفت أنها نصف أسعارنا، أما الدخل فقد سألت عن أربعة أنماط: (الصحفي لا يقل عن 1500 دولار)، المدرس (نحو 1000 دولار)، الأستاذ الجامعي (نحو 3000 دولار)، المهندس (ابتداء من 1500 دولار). ‏

دمشق عاصمة للثقافة العربية ‏
أهم منجز تحقق حتى الآن في دمشق لكونها قادمة على احتفالية الثقافة هو إزالة المنصفات الاسمنتية والحديدية البشعة التي كانت أشبه بالخوازيق: تحدّ النظر وتعكّر المزاج وتذكّرني بالسجن، وتحوّل الفضاء الى خراب...! ‏
أدهشني الالتزام الشديد بقواعد المرور عندهم حتى في أطراف المدن، نادراً ما تجد منصّفات! ثمة خط أصفر بين الذهاب والإياب يلتزم به مستخدمو الطريق، وقتها تذكّرت ابن بطوطة ومعاناته فيما قطع من طرقات، والاختلاف بين العادات والتقاليد، وأهداني أحد الأصدقاء كتاباً عن الرحلة في الأدب المغربي معلّقاً: نحن رَحَلنا للتدوين وكشف أسرار البلدان، وأنتم للفتوحات والاستقرار.. عندها طلبت من أصدقائي الرحيل الى الأطلسي لإمتاع العين ووقفت على صخرة كبيرة والأمواج تتلاطم وصحت: أين أنت يا عقبة بن نافع؟ هل تأتي الى زماننا أم نرحل إليك؟! ‏
سعيد بوكرامي خاف عليّ من الشرود، عندها سأقع في المحيط الأطلسي ويبتلعني الحوت، فأخذني من يدي قائلاً: هل تحمّمت في المغرب؟ ‏
قلت: مرات! ‏
قال: في حمامات السوق أم في الفندق؟ ‏
قلت: في الفندق طبعاً! ‏
ضحك وقال: هاهنا الكلّ يتحمم في حمام السوق، في كل حارة يوجد عدد من الحمامات، يذهب إليها الكبار والصغار، الرجال والنساء مرة واحدة في الأسبوع على الأقل...! ‏
قلت له: ليس غريباً عليكم هذا، فأنتم تستعملون لغة مختلفة، ولكم عاداتكم المختلفة، وتسمياتكم، فمغسلة اللباس تسمى (مصبنة) والبقالية التي تبيع العصائر والأجبان والألبان تسمى (مَحْلبة) والبنك تجمعونه على (أبناك) والزقاق تسمونه (زنقة)! ‏
تدخّل مصطفى قائلاً: مادمت بدأت بالاعتراض على ما نستعمل، إذاً بدأ الشوق يلعلع في كيانك.. ما هي إلا ساعات وترحل من هنا لتحطّ هناك في دمشق المحروسة.. ‏
قلت له: بلاد العرب أوطاني! ‏
ابتسم: أنتم المشارقة تعبرون عن المشاعر البسيطة العفوية بالشعر العمودي فتفسدوها! ‏
قلت له: ما كنت أردّده دائماً أينما تغرّبت (الشام شامك لو الشوق ضامك). ‏
أخشى إن تأخّرت عندكم أن أعتاد الكلام المباح عندها ستنتظرني شهرزاد في مطار دمشق وتأخذني قبل الصباح aalhuseen69@Gmail.com ‏