المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص الشعري ودوائر الحكي



يوسف إسماعيل
16/06/2007, 08:18 PM
النص ا لشعري ودوائر الحكي

ليس من ها جس النقد المهتم بالخطاب الشعري عامةأن يبحث عن ملامح الحكي في النص / النصوص الشعرية ؛ لأن الأخيرة لاتبنى على الحكي ، فهو خاصية سردية في المقام الأول . إلا أن ذلك ام يمنع من بروز الحكي سمة مهيمنة في بعض النصوص الشعرية ذات الطابع الملحمي . ويبقى سر ذلك في النص الشعري ذاته ، بشكل جليِّ أو خفي ، يمكن للنقد قراء ته قراءة محايثة تفرضها طبيعة ا لنصوص المقارَبة .
ومن أبرز سما ت هذا الحكي المهيمن هو أنها متجلية في نص مفرد ، لايخرج الحكي من دائرته إلى نص آخر تابع له ، غير أن طوله يستوعب تلك السمة النثرية للسرد . ولكن يجب الإسراع إلى القول : إنه حكي شعري له خصوصية الخطاب الشعري ، وليس الخطاب النثري . بمعنى أنه حكي بالجملة الشعرية بما تحفل به من لغة خاصة قائمة على الانزياح والتكثيف والتكرار والاستبدال والرؤية الشمولية للعالم ، وليس على سرد الوقائع والأحداث. إنه حكي يبني عالما متكاملا بعناصره الداخلية المشكلة لنسيج كليّ الدلالة ، ومبني على الحلم أساساً ، رؤية وهاجسًا . وبذلك يخرج النص الشعري ، حالة شمولية ، عن الآني في هاجس الكتابة ، وعن الوجع المفرد واللحظة الانفعالية العابرة ، ليخترق الذاتي والمحصَّن بهواجس الأنا إلى الكوني والعام والمجموع . فيكون فلسفة أو رؤيا أوحلما أو إعادة ترتيب المختل من الأنساق في نسق يحلم الشاعر ببلورته وإنجازه واقعيا ، ولكنه يحاول عبثا لأنه عالم من التصورات ، مبني على خلخلة المستقــر وإن كان جارحا .
يضاف إلى ذلك أن دوائر الحكي في النص ، ذي الطابع الملحمي ،لاتخرج أو تتشكل إلا داخل النص المفرد . وهذا ما يمكن ملاحظته حين تقسِّم الدراسة المدرسية نصأَّ المتنبي ، على سبيل المثال ، إلى مجموعة من المقاطع تعبر عن أفكار متتابعة ، تشكل بمجموعها نسقا عاما . وهذا التتابع ، في جوهره وليس في شــــكل تجليه ،يمثل سمة من سمات السرد في الخطاب النثري ، و هو سقوط للقصيدة في مستوًى من مستوياتها أيضا .
ويعود ذلك إلى نظام القصيدة التقليدية الذي يفرض على الشاعر أن يضع نقطة فاصلة بحدة في نهاية القصيدة ليفصل بينها وبين تاليتها ، وإن كان النصّا ن يحكيان سردا في النسق ذاته . وهذا ما يشعر به المتلقي منذ البيت الأول في القصيدة التالية ، لأن نظام القصيدة يعيد المتلقي إلى بداية الخطو الأول ، باعتبار القصيدة وحدة مستقلة لها مقدمة وعرض وخاتمة . وهذا يعني الدخول في حالة شعرية أخرى ، وإن كان الموضوع مشتركا بين النصين.
إلا أن خاصية الحكي تلك ، في القصيدة ذي الطابع الملحمي ، لا تنبع من طبيعتها المبنية أساسا على السرد في مستوًى من مستويات تجليها فقط وإنما من طبيعة نظام القصيدة ا لتقليدية بكليته . ويتبلور ذلك التتابع الداخلي على مستوى القراءة لدى المتلقي . فهو يتلقى سمة نثرية بلغة شعرية ، مما يدفعه إلى ا لتماس مستويين في لحظة التلقي الواحدة . الأول متابعة السرد . والثاني الإحساس الجمالي بآ لية ا لتعبير . وهذا يجبره على متابعة التفاصيل . وهي خاصية في تلقي النص النثري ، بدلا من الإحســــاس بشمولية الدلالة ، السمة المهيمنة في تلقي النص الشعري ، أي أنه يتلقى نصا شـــعريا بآلية تلقي النص النثري بسبب ما تفرضه القصيدة التقليدية ـ عبر نظامها ـ من سمات الفهم والتوصيل .
إ ن الوظيفة ا لتوصيلية تبدو مهيمنة في النص التقليدي ولكن بلغة إيحائية، هي سمة شعرية. وهذا لايمنع من الاستنتاج أ ن جوهر القصيدة التقليدية ، وفق ، ذلك هو الحكي . والحكي سمة نثرية ، ولكن الشاعر العربي أدرك ذلك بحسه الفني فلجأ إلى تمويه الخطاب وتحسين اللغة بالبحث عن جمالياتها لكي يرتقي عن السقوط في الخطاب النثري ، أي أنه يلبس اللغة إ يقاعها الداخلي ويبرزه ليخفـف من وطأة الحكي وصحوة امتداده في جسد القصيدة .
عبر هذا الفهم يمكن القول : إننا في تلقي القصيدة التقليدية أمام جوهر نثري ، نحاول ، متلقين وشعراء مبدعين ، أن نتلقاه خطابا شعريا ، عبر اللغة المنزاحة والمكثفة والاستبدالية والتكرارية . إ ننا نتآمر مع الشاعر على الجوهر النثري في القصيدة بإلباسه لبوس الشعر ، وتكون اللغة بذلك هي عامل توصيل فني متغير لجوهر ثابت هو جزء من بنية نظام القصيدة التقليدية الذي يتحدث عن اللفظ والمعنى وحدتين درسيتين مستقلتين في الحد الأدنى . وعليه يمكن الأخذ بمقولة كوهين ( بنية اللغة الشعرية .دار توبقال ص 92). : يقوم الشعر برصف(سلاسل من الكلمت المختلفة صوتيا غير أن العروض يلصق فوق خط الاختلاف الدلالي سلاسل من التماثلات الصوتية ) بوصفها مقولة مفسرة لبنية عمل الخطاب الشعري التقليدي ، وليس الخطاب الشـــــــــــعري بكليته كقصيدة ا لنثر مثلا . وهي مقولة تأخذ بعيـــــــن الاهتــمام ـ دون قصدية ـ شطري جملة النقد العربي الكلاسيكي " اللفظ " الشطر الأول و" المعنى " الشطر الثاني ، وآ لية تركيبهما أو عملهما في القصيدة التقليدية .
فالحكي ، ذو الطبيعة النثرية ، يعمل بشكل طولي وامتدادي إلى الأمام . وهو جوهر ثابت ، والغاية من إنتاج النص ، ولكن آلية إنتاجه تتطلب متغيرًا لحظويا وفرديا يخرج النص من هيمنة الثابت وطغيانه ليضع النص في نطاق التعبير الانفعالي والمجازي والتأثيري بدلا من التوصيلي . وهنا لابد أن تكون اللغة مخاتلة عبر تأثيراتها الجمالية التي تنتج من اختيارات الشاعر للكلمة والصوت والمقطع عبر قوانين التكرار والانزياح والاستبدال والتكثيف .
ولا يقف النقد المعاصر بعيدا عن ذلك حيــــــــــن يتحدث عن التخا ف الدلالي . فهو جوهر ا لحكي الثابت الذي نتحدث عنه ، و عليه يسقط عنصر الاستبدال في اللغة المجازية ليخفف من هيمنة عنصر التوصيل النثري ، ويلبس جوهر الحكي لبوسا شعريا متعمدا .
ولكن ما يفضح تلك العلاقة التركيبية بين الجوهر السردي الثابت والمتغير الصوتي هو التعارض بين مستويي الإ نشاد في القصيدة : الإنشاد التعبيري ( الدلالي ) وغير التعبـــــــــيري ( الصوتي ) فالصوت بطبيعته الرجعية يخلق خللا في التوازي بين الصوت والمعنى ، حيث يكون النظم معاكسا للمعنى في مساره . وهذا يعني إما إنشادا يأخذ بالمسار الطولي ويتعامل مع الوقفا ت الدلالية ، وإما إنشاداً يأخذ بالمسار الرجعي ، الصوتي ،ويتعامل مع الوقفات النظمية .
موجز ذلك أننا في القصيدة التقليدية أمام تشكيل فني مبني على عنصرين : جوهر سردي ثابت ، ولبوس استبدالي متغير . وهذا يعني أن جوهر القصيدة التقليدية هو الحكي . وسمتها الشعرية هي تمويه ٌ واختزالٌ وتكثيفٌ لذلك الجوهر ا لسردي . وذلك الجوهر السردي الثابت هو ما يدفع المتلقي إلى ملاحقة ا لتتابع ، سمة ً نثرية ، داخل النص الواحد .
يضاف إلى ذلك أن النظام الكلي لبناء القصيدة التقليدية ، بما فيه العنصر السردي ، هو الذي يمنع في الوقت ذاته من القراءة المتتابعة لمجموعة من النصوص باعتبارها وحدة كلية تمتلك دوائر للحكي خارج النص المفرد . ولكي نتلقى ذلك فنيا ، إبداعا وقراءة ، يجب أن نتحدث عن نظام شعري شمولي مختلف ، ومتولِّد من رحم مرحلة تاريخية مختلفة ، وعيا وبنية ، ومولِّدة لإرهاصات فنية لا تعرف الفصل في النتاج الشعري بين العنصرين : الاختلاف الدلالي والاستبدال المجازي ، وإنما تنتج نصا لاتنغلق فيه القصيدة على ذاتها بنيويا ، ولايشكل فيها جوهر السرد بنية ثابتة ، تنفلت من نظام مسبق لا يجعـل القصيدة ترقص على قيثارتها الخاصة .