المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البنسيون



Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
31/10/2006, 03:49 PM
البنسيون
للكاتب الأيرلندي جيمس جويس

كانت السيدة موني ابنة جزار. وكانت امرأة تتمتع بمقدرة عظيمة على الأخذ بزمام الأمور أو بمعنى آخر فقد كانت امرأة قوية الشكيمة. وكانت قد تزوجت من مساعد أبيها وفتحت محل قصاب قرب "حدائق الربيع". ولكن بمجرد وفاة حميه بدأ السيد موني يستسلم للشيطان. فقد أخذ يشرب الخمر ، وينهب درج نقود المتجر ، وغرق في الديون. ولم يكن من المجدي أخذ العهد عليه ، فقد كان من المؤكد أنه سيحنث بقسمه بعد ذلك بعدة أيام. ولما كان يتشاجر مع زوجتـه في وجود الزبائن ويتاجر في نوع سيء من اللحم فقد قضى على تجارته. وفي إحدى الليالي هجم على زوجته بالساطور واضطرت إلى المبيت في منزل إحدى الجارات.

وبعد ذلك عاشا منفصلين. وذهبت إلى القس وحصلت على إذن بالانفصال عنه مع حقها في رعاية الأطفال. ورفضت إعطاءه النقود أو الطعام أو حجرة من حجرات المنزل ؛ ولذا فقط اضطر إلى العمل كأحد رجال المأمور. وكان السيد موني سكيراً ضئيل الجسم منحني الظهر قميء المنظر ذا وجه أبيض وشارب أبيض وحاجبين أبيضين كما لو كانا مرسومين بقلم فوق عينيه الصغيرتين اللتين كانتا مشوبتين بحمرة وبلا رموش ؛ وطوال اليوم كان يجلس في حجرة مساعد المأمور في انتظار أن يكلف بمهمة. أما السيدة موني التي كانت قد أخذت ما تبقى من مال من محل الجزارة وأنشأت بنسـيوناً في شـارع هاردويك ، فقد كانت امرأة مهيبة، ضخمة الجسم وكان بيتها يضم عدداً كبيراً من السكان المؤقتين يتكونون من سائحين من ليفربول وجزيرة الإنسان ، وفي بعض الأحيان من بعض الفنانين الذين يعملون في قاعات الموسيقى. أما سكانها المقيمون فكانوا يتكونون من الكتبة القادمين من المدينة. وكانت تدير الفندق بدهاء وحزم ، وكانت تعرف متى تجامل ، ومتى تكون جافة ، ومتى تدع الأمور تمر. وكان جميع الشبان المقيمين عندما يتحدثون عنها يستخدمون كلمة "المدام".

وكان الشبان الذين يقيمون مع السيدة موني يدفع الواحد منهم خمسة عشر شلناً في الأسبوع نظير الوجبات والسكنى (باستثناء البيرة أو الجعة الداكنة في العشاء) وكانت تجمع بينهم أذواق واهتمامات مشتركة ولهذا السبب فقد كانت الصداقة تربط بينهم ، فكانوا يناقشون مع بعضهم البعض فرص خيول السباق في الفوز والخسارة. وكان جاك موني ، ابن المدام والذي يعمل كاتباً لدى وكيل مكتب سمسرة في شارع فليت ، كان يشتهر بأنه حالة ميئوس منها. فقد كان مولعاً باستخدام الألفاظ النابية التي يستخدمها الجنود. وكان عادة يعود إلى البيت في الساعات الأولى من الصباح. وعندما كان يلتقي بأصدقائه كانت لديه دائماً نكتة جيدة يقولها لهم وكان واثقاً دائماً من أنه في طريقه لأن يصبح شيئاً لا بأس به ـ وبمعنى آخر فقد كان من المحتمل أن يصبح فارس سباق أو فناناً. كما كان أيضاً بارعاً في الملاكمة وكان يغني أغانٍ كوميدية. وفي ليالي أيام الآحاد كان غالباً ما يجتمع جميع نزلاء البنسيون في حجرة الجلوس الأمامية الخاصة بالسيدة موني. وكان فنانو قاعات الموسيقى يستجيبون للدعوة؛ وكان شريدان يعزف مقطوعات الفالس والموسيقى البولندية وغيرها من الأشياء المصاحبة المرتجلة. أما بولي موني ، ابنة المدام ، فقد كانت أيضاً تغني : وفي تلك الليلة غنت قائلة :

"أنا … بنت شقية.

لا داعي للرياء

فأنت تعرف أنني شقية".

وكانت بولي فتاة نحيفة في التاسعة عشرة ؛ ولها شعر ناعم فاتح اللون وفم ممتلئ صغير. أما عيناها اللتان كانتا رماديتين مع مسحة من اللون الأخضر ، فقد كان من عادتهما أن تنظرا إلى أعلى عندما تحادث أي شخص ، مما جعلها تبدو مثل امرأة محترفة صغيرة. وكانت السيدة موني قد أرسلت ابنتها في بادئ الأمر لكي تعمل كاتبة على الآلة الكاتبة في مكتب وكيل تجاري يتاجر في الذرة ، ولكن لما كان رجل سيء السمعة من رجال المأمور يأتي يوماً بعد يوم إلى المكتب ، طالباً أن يُسمح له بأن يتحدث إلى ابنته ، فقد أعادت ابنتها إلى البيت مرة أخرى وجعلتها تقوم بالأعمال المنزلية. ولما كانت بولي تتمتع بحيوية عظيمة فقد عقدت أمها العزم على أن تتولى إدارة شئون الشباب. وعلاوة على ذلك ، فإن الشبان يحبون أن يشعروا أن هناك شابة ليست بعيدة كثيراً عنهم. وكانت بولي ، بطبيعة الحال ، تعابث الشبان ، غير أن السيدة موني التي كانت حَكَماً قاسياً كانت تعلم أن الشبان كانوا فقط يمضون الوقت في التسلية. ولم يكن أحد منهم يعني الزواج. ومضت الأمور على هذا النحو لفترة طوية وبدأت السيدة موني تفكر في إعادة بولي إلى الكتابة على الآلة الكاتبة عندما لاحظت أن شيئاً ما كان يدور بين بولي وأحد الشبان. وأخذت ترقب الشاب والفتاة ولكنها أبقت خطتها طي الكتمان.

وكانت بولي تعرف أنها كانت تحت المراقبة ، ومع ذلك فإن صمت أمها المستمر لم يكـن من الممكن الخطأ في فهمه. لم يكن هناك تواطؤ صريح بين الأم والابنة ، ولم يكن هناك تفاهم صريح. ولكن بالرغم من أن الناس في البنسيون بدأوا يتحدثون عن تلك العلاقة ، فإن السيدة موني لم تتدخل. وبدأت بولي تتصرف بطريقة غريبة بعض الشيء ، كما كان من الواضح أن الشاب يشعر بالقلق. وأخيراً ، عندما قررت أن هذه هي اللحظة المناسبة ، تدخلت السيدة موني. وكانت تتعامل مع المسائل الأخلاقية مثلما يتعامل الساطور مع اللحم. وفي هذه القضية كانت قد حزمت أمرها.

وكان الوقت هو صباح أحد أيام الأحد المشمسة في بواكير الصيف ، وكان يوماً ينبئ بالحرارة ، ولكن كانت هناك نسمة رطبة تهب. وكانت جميع نوافذ البنسيون مفتوحة والستائر الدانتيل تهفهف في رقة تجاه الشارع أسفل إطارات النوافذ المرفوعة. وكان برج الجرس في كنيسة جورج يرسل جلجلة مستمرة وكان المصلون ، أفراداً وجماعات ، يدلفون إلى السيرك الصغير أمام الكنيسة ، وقد كشف سلوكهم المتحفظ هدفهم أكثر مما كشفت عنه تلك الكتب الصغيرة في أيديهم ذات القفازات. وكان قد انتهى تقديم الإفطار في البنسيون وكانت مائدة حجرة الإفطار مغطاة بالأطباق التي كانت توجد عليها آثار صفراء من البيض مع قطع صغيرة من شحم الخنزير ورقائق من لحمه. وجلست موني في المقعد ذي الذارعين المصنوع من الخوص وأخذت ترقب الخادمة ميري وهي تزيل بقايا طعام الإفطار. وأمرت ميري أن تجمع الفتات وقطع الخبز المكسورة لكي تساعد في صنع مهلبية الخبز التي كانت تُقَدَّم يوم الثلاثاء. وعندما تم تنظيف المائدة ، وجمع كسرات الخبز ، وإغلاق خزانة السكر والزبد بالمفتاح ، بدأت في استعادة المحادثة التي كانت قد جرت بينها وبين بولي في الليلة السابقة وكانت الأمور كما توقعتها. وكانت صريحة في أسئلتها ، وكانت بولي أيضاً صريحة في إجاباتها ، وذلك بالرغم من أن كليهما كانت محرجة إلى حد ما بطبيعة الحال. وكان سبب حرجها أنها لم تكن ترغب في أن تتلقى الأخبار بطريقة فروسية أو أن تبدو كما لو كانت قد دبَّرت هذا الأمر ، أما بولي فقد كانت تشعر بالحرج ليس لمجرد أن تلميحات من هذا القبيل كانت دائماً تسبب لها الحرج ولكن أيضاً لأنها لم تكن ترغب أن يُظن أنها في براءتها المتعقلة كانت قد أدركت المقصد الكامن وراء تسامح أمها.

ونظرت السيدة موني بشكل غريزي إلى الساعة المذهبة الصغيرة الموضوعة على جدار المدفأة بمجرد أن بدأت تدرك من خلال تفكيرها الحالم أن أجراس كنيسة جورج قد توقفت عن الدق. وكانت الساعة الحادية عشرة وسبع عشرة دقيقة، أي أن أمامها متسعاً من الوقت لكي تبحث الأمر مع السيد دوران ثم تتوجه قبل الثانية عشرة إلى شارع مارلبورو. وكانت متأكدة من أنها ستكون لها الغلبة. وبدءاً ذي بدء فقد كان كل ثقل الرأي الاجتماعي إلى جانبها : فقد كنت أماً غاضبة. فقد سمحت له بالعيش تحت سقف بيتها ، مفترضة فيه أنه رجل ذو شرف ، بينما قام هو ببساطة باستغلال كرم ضيافتها. وكان في الرابعة والثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره ، بمعنى أن الشباب لم يكن من الممكن اللجوء إليه باعتباره عذراً له ؛ كما لم يكن من الممكن أن يكون الجهل هو عذره لأنه كان رجلاً يعرف الدنيا بعض الشيء. لقد استغل ببساطة حداثة سن بولي وعدم خبرتها بالحياة. وكان هذا واضحاً. أما السؤال فكان هو : ما هو التعويض الذي ينبغي أن يقدمه ؟

لابد من تقديم تعويض في مثل هذه الحالة. إن الأمور طيبة جداً بالنسبة للرجل : فهو يستطيع أن يمضي في طريقة كما لو كان لم يحدث شيء ، بعد أن يكون قد قضى لحظة متعته، ولكن الفتاة تضطر إلى أن تحمل الوزر. بعض الأمهات يقنعن بأن يسوَّى مثل هذا الأمر نظير بعض المال ؛ وهي تعرف حالات من هذا القبيل. ولكنها لا يمكن أن تفعل ذلك. بالنسبة لها هناك فقط تعويض واحد يمكن أن يعوض فقد ابنتها لشرفها : الزواج.

وأخذت تحصي كل أوراقها مرة ثانية قبل أن ترسل ماري إلى حجرة السيد دوران لتقول إنها كانت تريد أن تتحدث معه. وكانت تحس أنها متأكدة من الفوز. فقد كان شاباً جاداً ، ليس خليعاً أو عالي الصوت مثل الآخرين. لو كان الأمر يتعلق بالسيد شميدان أو السيد ميد أو بانتام ليونز لكانت مهمتها أشق بكثير. لم تكن تعتقد أنه يمكن أن يتحمل التشهير به. وكان جميع نزلاء البنسيون يعرفون شيئاً عن العلاقة ؛ أما التفصيلات فقد كانت من اختراع البعض. وعلاوة على ذلك ، فقد كان يشغل وظيفة لمدة ثلاث عشرة سنة في مكتب تاجر خمور كاثوليكي كبير ، والتشهير بالنسبة له ربما يعني فقده وظيفته. أما لو وافق فإن كل الأمور ستكون على ما يرام. وكانت تعرف أن له راتباً طيباً كواحدة من مزاياه كما كانت تعتقد أن له بعض المدخرات.

تقريباً عند منتصف الساعة ! وقفت ونظرت إلى نفسها في مرآة الجدار. وأرضاها التعبير الحازم على وجهها المتورد وفكرت في بعض الأمهات اللاتي تعرفهن ممن لم يستطعن أن يزوجن بناتهن.

وكان السيد دوران يحس بالقلق الشديد في صباح يوم الأحد هذا. وكان قد قام بمحاولتين لحلاقة ذقنه ولكن يده كانت تهتز كثيراً لدرجة أنه اضطر إلى التخلي عن المحاولة. وكانت لحيته المائلة إلى الحمرة والتي نمت على مدى ثلاثة أيام تحيط بفكيه ، وكل دقيقتين أو ثلاث دقائق كان يتجمع ضباب رقيق على نظارته حتى أنه كان يضطر إلى خلعها ومسحها بمنديل جيبه. وكان تذكره لاعترافه للقس في الليلة السابقة سبباً في ألم حاد بالنسبة له ؛ فقد تمكن القس من أن يستخرج منه كل تفصيل سخيف للعلاقة وفي النهاية قام بتكبير حجم خطيئته حتى أنه كاد يمتن لإعطائه منفذ للتكفير. لقد وقع المحظور. ماذا كان يمكنه أن يفعل الآن سـوى أن يتزوجها أو أن يهرب ؟ ولم يكن بمقدوره أن يواجه هذا الموقف. ومن المؤكد أن العلاقة سيتحدثون عنها. ولابد لصاحب العمل من أن يسمع بها. إن دبلن مدينة صغيرة جداً . وكل شخص يعرف أمور كل شخص آخر. وأحس بقلبه يقفز دافئاً في حلقه عندما سمع في خياله المنفعل السيد ليونارد العجوز وهو ينادي بصوته الخشن قائلاً :

"أرسلوا السيد دوران إلى هنا من فضلكم".

كل سنوات خدمته الطويلة تذهب هباء ! كل جده ومثابرته تذروهما الرياح ! ولما كان شاباً فقد كانت له نزواته بالطبع ؛ وكان يفاخر بتفكيره الحر وينكر وجود الله لرفاقه في الأماكن العامة. ولكن كل هذا انقضى ومضى إلى حال سبيله … تقريباً. وكان مازال يشتري نسخة من صحيفة رينولدز كل أسبوع ولكنه كان يؤدي واجباته الدينية وعلى مدى تسعة أعشار العام كان يحيا حياة عادية. وكان لديه من المال ما يكفيه للاستقرار ؛ ولكن الأمر لم يكن يتعلق بهذا. إذ أن أسرته سوف تستصغر شأنها. وقبل كل شيء هناك أبوها سيء السمعة ثم البنسيون الذي تمتلكه والدتها والذي بدأ يكتسب سمعة معينة. وكان لديه إحساس أنه قد غُرِّر به. وكان بإمكانه أن يتخيل أصدقاءه وهم يتحدثون عن العلاقة ويضحكون. كما أنها كانت سوقية قليلاً ؛ وأحياناً كانت تقول : "أنا رَأَى" أو " لو كنت قد أعرف" ولكن ماذا يعني النحو إذا كان يحبها حقاً ؟ ولم يستطع أن يقرر هل يحبها أو يحتقرها بسبب ما فعلته ؟ وبطبيعة الحال فقد فعل الشيء نفسه هو أيضاً. وكانت غريزته تحثه على أن يبقى حراً ، أي على ألا يتزوج. بمجرد أن تتزوج فإنك تكون قد انتهيت ، هكذا كانت تقول له غريزته.

وبينما كان جالساً بلا حول ولا قوة على جانب الفراش وهو يرتدي قميصاً وسروالاً قرعت الباب بخفة ودخلت. وقالت له كل شيء ، عن أنها صارحت أمها وأن أمها سوف تتحدث معه في ذلك الصباح. وبكت ولفَّت ذراعيها حول رقبته ، وهي تقول :

"أوه ، يا بوب ! بوب ! ماذا أفعل ؟ هل هناك أي شيء أفعله ؟" إنها سوف تضع نهاية لحياتها ، هكذا قالت.

وهدأ من روعها في ضعف ، طالباً منها ألا تبكي ، وأن كل شيء سيكون على ما يـرام، وألا تخشى شيئاً أبداً. وأحسن باهتزاز صدرها على صدره.

ولم يكن ما حدث ذنبه وحده. فقد كان يتذكر جيداً ، بتلك الذاكرة القوية الغريبة للعـزاب، اللمسات العارضة الأولى التي أعطاها له فستانها ، وأنفاسها ، وأصابعها. ثم في وقت متأخر في إحدى الليالي بينما كان يخلع ملابسه للذهاب إلى الفراش قرعت بابه في خجل. وكانت تريد أن تشعل شمعتها من شمعته لأن الريح أطفأت شمعتها. وكانت هذه هي الليلة التي تأخذ فيها حماماً. وكانت ترتدي سترة لتمشيط الشعر مفتوحة وواسعة ومن نسيج ناعم مطبوع. وكان سطح قدمها الأبيض يلمع في فتحة خفها ذي الفراء وكان الدم يلمع في دفء خلف بشرتها المعطرة. وبينما كانت تشعل وتثبت شمعتها كانت راحة عطر خفيف تفوح من يديها ومعصميها أيضاً.

وفي الليالي التي كان يعود فيها متأخرا كثيراً ، كانت هي التي تقوم بتسخين عشائه. ولم يكن يكاد يدرك ما كان يأكله ، وهو يحس بها جانبه وحدهما في الليل ، في البيت الذي يغط في النوم. كم كانت رقيقة معه ! ولو كانت الليلة باردة أو ممطرة أو عاصفة كان من المؤكد أن هناك كأساً من شراب البنش جاهزاً من أجله. ربما كان من الممكن أن يكونا سعيدين معاً…

وكان من عادتهما أن يصعدا إلى الطابق العلوي معاً على أطراف أصابعهما ، ومع كل منهما شمعة ، وعلى المنبسط الثالث كانا يودعان أحدهما الآخر عن غير رغبة منهما. وكان من عادتهما أن يتبادلا القبلات. وكان يتذكر جيداً عينيها ، ولمسة يدها ونشوته …

ولكن النشوة تنقضي. واستعاد عبارتها ، مطبقاً إياها على نفسه : "ماذا أفعل أنا ؟" وحذرته غريزة العازب حاثة إياه على التراجع. ولكن الخطيئة كانت هناك ؛ حتى شعوره بالشرف كان يقول له إن التعويض لابد منه إزاء مثل هذه الخطيئة.

وبينما كان جالساً معها على حافة الفراش أتت ماري إلى الباب وقالت إن السيدة كانت تريد أن تراه في البهو. ووقف ليرتدي معطفه وصدريته ، وهو يشعر أنه لا حول له ولا قوة أكثر من أي وقت مضى. وعندما انتهى من ارتداء ملابسه ذهب إليها لكي يواسيها. سيكون كل شيء على ما يرام ، ولا تخافي أبداً. وتركها تبكي على الفراش وهي تئن في صوت خفيض قائلة "يا إلهي !".

ولما كان يهبط الدَّرَج أصبحت نظارته معتمة من الرطوبة لدرجة أنه اضطر إلى خلعها وتلميعها. وتمنى لو صعد من خلال السطح وطار إلى بلد آخر حيث لا يسمع مرة ثانية أبداً عن ورطته تلك ، ومع ذلك فإن قوة دفعته إلى الطابق الأسفل خطوة فخطوة. وكان وجها صاحب العمل والمدام القاسيان يحملقان في خيبته. وعلى المجموعة الأخيرة من سلالم الدَّرَج مر بجاك موني الذي كان يصعد عائداً من مخزن المؤن وهو يحتضن زجاجتين من نبيذ "الباس". وتبادلا التحية في برود ؛ واستقرت عينا العاشق لمدة ثانية أو ثانيتين على وجه سميك يشبه وجه كلب قوي ضخم الرأس وذراعين قصيرتين غليظتين. وعندما وصل إلى أسفل الدرج نظر إلى أعلى ورأى جاك ينظر إليه من باب المدخل.

وفجأة تذكر الليلة التي قام فيها واحد من فناني قاعة الموسيقى ، وهو لندني أشقر ضئيل الجسم ، بإشارة كلامية صريحة إلى حد ما إلى بولي. وكاد اجتماع نزلاء البنسيون ينفض من جراء عنف جاك. وحاول كل شخص تهدئته. أما فنان قاعة الموسيقى ، والذي كان وجهه أكثر شحوباً من المعتاد ، فقد ظل يبتسم ويقول إنه لم يقصد أن يؤذي مشاعر أحد. ولكن جاك ظل يصيح فيه قائلاً إنه إذا حاول أي شخص مثل هذه اللعبة مع أخته ، فإنه سوف يكسر أسنانه ويجعله يبتلعها ، وأنه سيفعل ذلك لا محالة.

وجلست بولي لفترة قصيرة على حافة السرير ، وهي تبكي. ثم جففت عينيها وتوجهت إلى المرآة. وغمست حافة المنشفة في إبريق الماء ومسحت عينيها بالماء البارد. ونظرت إلـى نفسها من زاوية جانبية وأعادت تثبيت دبوس شعر فوق أذنها. ثم عادت إلى السرير ثانية وجلست عند نهايته. وأمعنت في النظر إلى الوسادات طويلاً وأيقظ منظرها في عقلها ذكريات حميمة. وأراحت مؤخرة عنقها على حاجز السرير الحديدي البارد وغرقت في أحلام اليقظة. ولم يعد هناك أي قلق يبدو على وجهها.

وظلت تنتظر في صبر ، يكاد يكون نشوة ، وبلا انزعاج ، وقد أخذت ذكرياتها ـ بالتدريج ـ تعطيها الآمال ورؤى لمستقبلها. وكانت آمالها ورؤاها على قدر من التشابك جعلها لم تعد ترى الوسائد البيضاء التي كان بصرها مثبتاً عليها كما لم تعد تتذكر أنها كانت في انتظار أي شيء.

وأخيراً سمعت أمها تنادي. ونهضت واقفة على قدميها وجرت إلى حاجز الدَّرَج.

"يابولي ! بولي !"

"نعم يا ماما ؟"

"انزلي يا عزيزتي. إن السيد دوران يريد أن يتحدث إليك".

عندئذ تذكرت ما كانت في انتظاره.

وليد سليمان
31/10/2006, 04:02 PM
الأستاذ الفاضل أحمد شفيق الخطيب،

هذه الترجمة المتميزة لقصة جويس (المأخوذة من مجموعته Dubliners ان لم تخني الذاكرة) أعتبرها اضافة حقيقية، فقد استطعت بمقدرة كبيرة اعادة خلق الأجواء السائدة في دبلن كما صورها جويس بدقة.
نتطلع الى المزيد من الترجمات.

مودتي
وليد سليمان

Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
31/10/2006, 07:11 PM
الأخ الفاضل الأستاذ وليد سليمان
أشكركم على ماتفضلتم به من إطراء، راجيا أن أكون عند حسن ظن الجميع.
مع خالص مودتي, وعظيم احترامي.
أخوكم
أحمد شفيق