المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طيف في حديقة الورد



Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
31/10/2006, 03:52 PM
طيف في حديقة الورد
للكاتب الإنجليزي د. هـ. لورانس

جلس الشاب الناحل الجسم إلى حد ما قرب نافذة كوخ جميل يطل على شاطئ البحر وهـو يحاول أن يقنع نفسه بأنه كان يقرأ الصحيفة. وكان الوقت حوالي الثامنة والنصف صباحاً. وفي الخارج ، كان الورد الرائع الجمال يتدلى في شمس الصباح الساطعة مثل كرات صغيرة من النار اتخذت وضعاً مقلوباً. ونظر الشاب إلى المائدة ، ثم إلى ساعة الحائط ، ثم إلى ساعته الفضية الكبيرة. وارتسم على وجهه شعور بالجلد الشديد. ثم نهض وأخذ يتطلع ملياً إلى اللوحات الزيتية المعلقة على جدران الحجرة ، مولياً اهتماماً كبيراً ولكنه عدائي بلوحة "مُهْر عند الخليج". وحاول رفع غطاء البيانو إلا أنه وجده مغلقاً بالمفتاح. ووقع بصره على وجهه في مرآة صغيرة ، وجذب شاربه البني ، وقفز شعور بالاهتمام اليقظ إلى عينيه. إذ أنه لم يكن سيئ المنظر.ولوى شاربه. لقد كان صغير الجسم إلى حد ما، ولكنه كان يتمتع باليقظة والحيوية. وبينما كان يستدير مبتعداً عن المرآة اختلطت نظرة رثاء للنفس بإعجابه بمظهره.

وخرج إلى الحديقة وهو يكظم غيظه. وكانت سترته لا تبدو سيئة المنظر ، فقد كانت جديدة ، وكان يشع منها جو من الأناقة والثقة بالنفس استمدته من ارتداء شخص واثق من نفسه لها. وأخذ ينظر ملياً إلى "شجرة السماء"* التي كانت يانعة قرب المروج ، ثم سار بتؤدة إلى النبات التالي. وكان هناك منظر أجمل يتمثل في شجرة تفاح ملتوية تغطيها الثمار الحمراء المائلة إلى البني. وتلفت حواليه ، وقطف تفاحة ، وحين كان ظهره للمنزل ، أخذ قضمة حادة كبيرة منها. ولدهشته كانت الفاكهة حلوة المذاق. وأخذ أخرى. ثم استدار ثانية لكي يتطلع إلى نوافذ حجرات النوم التي كانت تطل على الحديقة. وجفل عندما رأى هيئة امرأة ؛ ولكنها لم تكن سوى زوجته. وكانت تحملق في البحر على البعد وهي تجهل وجوده على ما يبدو.

وللحظة أو لحظتين أخذ ينظر إليها وهو يرقبها. وكانت امرأة حسنة المنظر تبدو أكبر منه سناً ، وشاحبة إلى حد ما ، ولكنها تتمتع بصحة طيبة ، ويرتسم على وجهها تعبير بالحنين. وكان شعرها الأسمر الكثيف الذي تخالطه حمرة يتكون في طيات على جبهتها. وكانت تنظـر بعيداً عنه وعن عالمه ، وهي تحملق بعيداً في البحر. وشعر زوجها بالضجر لأنها ظلت شاردة الذهن جاهلة وجوده ؛ وجذب ثمرات فاكهة حمراء فاتحة وقذفها ناحية النافذة. وأجفلت، ونظرت إليه بابتسامة جافة ثم عاودت النظر بعيداً. وسرعان ما تركت النافذة. ودخل لمقابلتها. وكان لها قوام بديع ، ومزهوة كثيراً بنفسها وترتدي فستاناً من قماش الموصلين* الأبيض الناعم".

"لقد ظللت منتظراً بما فيه الكفاية" قال لها.

"منتظراً إياي أم الإفطار ؟" قالت دون اكتراث. "أنت تعلم أننا اتفقنا على الساعة التاسعة. لقد ظننت أنك يمكن أن تكون قد نمت بعد الرحلة".

"إنك تعلمين أنني أستيقظ دائماً في الخامسة ، ولم أستطع أن أظل في الفراش بعد السادسة. إن البقاء في الفراش في صباح مثل هذا يشبه البقاء في مقبرة".

"كان ينبغي ألا أظن أن المقبرة سوف تجول بخاطرك هنا".

وأخذت تتجول وهي تتفحص الحجرة ، ناظرة إلى الزخارف الموضوعة تحت أغطية مـن الزجاج. أما هو ، وقد تسمر على بساط المدفأة ، فقد أخذ ينظر إليها بعدم ارتياح إلى حد ما ، وهو يبدي تسامحاً لا يخلو من حفيظة. وهزت كتفيها للدلالة على عدم الرضا عن الشقة.

"تعال" قالت ذلك وهي تأخذ بذراعه "فلنخرج إلى الحديقة إلى أن تأتي السيدة كويتس بالصينية".

"آمل أن تسرع" قال وهو يجذب شاربه. وضحكت ضحكة قصيرة ، واتكأت على ذراعه وهما يخرجان. وكان قد أشعل غليونه.

ودخلت السيدة كويتس إلى الحجرة بينما كانا يهبطان الدَّرج. وأسرعت السيدة العجوز التي تسر الناظرين والمنتصبة القوام إلى النافذة لكي تحظى بالنظر ملياً إلى ضيفيها. وكانت عيناها الزرقاوان لامعتين وهي ترقب الزوجين الشابين وهما يسيران على الممشى ، وهو يمشي بطريقة واثقة سلسة ، وقد تعلقت زوجته بذراعه. وبدأت صاحبة البيت في الحديث إلى نفسها بصوت خفيض وبلكنة أهل يوركشاير.

"إنهما الطول نفسه تماماً. ما كان ينبغي لها أن تتزوج من رجل أقصر منها قامة ، على ما أعتقد ، بالرغم من أنه ليس كفؤاً لها فيما عدا ذلك". وعندئذ دخلت حفيدتها ووضعت صينية على المائدة. وذهبت الفتاة إلى جانب المرأة العجوز وقالت : "لقد كان يأكل التفاح يا جدتي".

"هل فعل ذلك يا حبيبتي ؟ حسناً ، إذا كان هذا يسعده فلم لا ؟ وفي الخارج كان الشاب الوسيم يصغى بصبر نافد إلى صوت صلصلة فناجين الشاي. وأخيراً ، وقد ندت عنهما تنهيدة راحة ، دخل الزوجان لتناول الإفطار. وبعد أن أكل لبعض الوقت ، استراح للحظة ثم قال : "هل تعتقدين أن هذا المكان أفضل من بريدلنجتون بأي حال من الأحوال ؟

"أعتقد ذلك" قالت هذا ثم أضافت "إلى ما لانهاية! وعلاوة على ذلك فإنني أشعر بأنني في بيتي هنا ـ إنه ليس مثل مكان على شاطئ غريب بالنسبة لي".

"كم من الوقت عشت هنا ؟"

"سنتين".

وأخذ يأكل وهو مستغرق في التفكير.

لقد كنت أظن أنك تفضلين الذهاب إلى مكان جديد". قال ذلك أخيراً.

وجلست صامتة تماماً ، ثم قالت تجس نبضه في هدوء "لماذا ؟ هل تظن أنني لن استمتع بوقتي هنا ؟".

وضحك على سجيته ، وهو يضع المربى بوفرة على الخبز.

"أتمنى ذلك"، قال :

ومرة أخرى لم تلق بالاً إليه.

"ولكن لا تذكر أي شيء عن هذا الأمر في القرية يا فرانك" قالت بعفوية. "لا تقل لأحد من أكون ، أو أنني كنت أعيش هنا. خاصة أنه ليس هناك أحد أود مقابلته كما أننا لن نشعر أبداً بحريتنا لو عرفوني".

"لماذا جئت إذن ؟"

"لماذا ؟ ألا يمكنك أن تفهم لماذا ؟"

"لا إذا لم تكوني تريدين أن تعرفي أحداً".

"لقد أتيت لرؤية المكان ، وليس الناس".

ولم يقل المزيد.

ومضت تقول "إن النساء مختلفات عن الرجال. لا أعرف لماذا أردت أن آتي ـ ولكني أتيت".

وقدمت له فنجاناً آخر من القهوة ، وهي تحس بالقلق.

واستطردت قائلة : "فقط ، لا تتحدث عني في القرية" وضحكت ضحكة مهتزة. لا أريد أن يُستغل ماضيَّ ضدي ، كما تعرف" وأزالت فتات الخبز من غطاء المائدة بطرف إصبعها.

وأخذ ينظر إليها وهو يحتسي قهوته ؛ ومص شاربه ، وقال في رباطة جأش وهو يضع فنجانه :

"أراهن أنه كان لك ماضٍ عريق".

ونظرت بشيء من الشعور بالذنب ـ مما أشبع غروره ـ إلى غطاء المائدة.

"حسناً" قالت ملاطفة إياه "إنك لن تتخلى عني ، مهما كنت ، أليس كذلك ؟"

"لا" قالها مطمئناً إياها وهو يضحك. "لن أتخلى عنك".

وأحس بالرضا.

وظلت صامتة. وبعد لحظة أو لحظتين رفعت رأسها ، قائلة : "لابد من أن أرتب الحجرة مع السيدة كويتس ، وأقوم بالعديد من الأعمال. لذا فمن الأفضل أن تخرج وحدك هذا الصبـاح ـ وسوف نعود لتناول الغذاء في الواحدة".

ولكن هل ستقومين بالترتيب مع السيدة كويتس طوال النهار ؟" قال.

"أوه ، حسناً ـ إذن لديَّ بعض الخطابات التي لابد من كتابتها ، ولابد من أن أزيل هذه البقعة من على تنورتي. لديَّ الكثير من الأشياء الصغيرة التي أقوم بها هذا الصباح. من الأفضل أن تخرج بمفردك".

وأدرك أنها كانت تريد أن تتخلص منه ، حتى أنه عندما صعدت إلى الطابق العلوي ، أخذ قبعته وخرج فتمدد على المنحدرات الصخرية على الشاطئ وهو يشعر بغضب مكتوم.

وفي الوقت نفسه خرجت هي أيضاً. وكانت تضع على رأسها قبعة ذات ورد ، وكان وشاح طويل من الدانتيل يتدلى فوق فستانها الأبيض. وبشيء من العصبية ، رفعت مظلتها ، وكاد وجهها يختفي في ظلها الملون. وسارت على طول الدرب الضيق من أحجار الرصف التي أصبحت مجوفة بفعل أقدام صيادي السمك. وبدت كما لو كانت تتجنب ما يحيط بها ، كما لو كانت تشعر بالأمان في الغموض الخفيف الذي توفره لها مظلتها.

ومرت بالكنيسة وسارت في الحارة إلى أن وصلت إلى جدار عالٍ يقوم على جانب الطريق. ومشت ببطء أسفل الجدار ، وتوقفت في النهاية قرب مدخل مفتوح كان يسطع مثل صورة من الضوء في الجدار الداكن اللون. وهناك في منظر ساحر خلف المدخل ، كانت أشكال من الظلال تقع على الفناء المشمس ، على الحصيات البحرية الزرقاء والبيضاء التي يتكون منها الرصف ، بينما كانت المروج الخضراء تسطع في الخلف ، حيث كانت شجرة الغار تلمع عند الحواف. ودخلت على أطراف أصابعها في عصبية إلى الفناء ، وهي تنظر إلى البيت الذي كان يقف في الظل. وكانت النوافذ التي لا تغطيها ستائر تبدو سوداء وبلا روح ، بينما كان باب المطبخ مفتوحاً. وفي تردد أخذت خطوة إلى الأمام ، ثم أخذت خطوة أخرى إلى الأمام ، وهي تنحني ، في شوق ، ناحية الحديقة التي تقع أمامها.

كانت قد أوشكت على الوصول إلى ركن المنزل عندما جاء صوت خطوات ثقيلة تحدث جلبة من خلال الأشجار. وظهر بستاني أمامها. وكان يمسك بصينية مصنوعة من الأغصان اللدنة كانت تتدحرج فوقها ثمرات كبيرة من العنب الداكن الحمرة والتام النضج. وكان يتحرك ببطء.

"الحديقة ليست مفتوحة اليوم" قال بهدوء للمرأة الجذابة التي اتخذت وضع التراجع.

وللحظة صمتت وقد عقدت الدهشة لسانها. كيف يمكن أن تكون حديقة عامة بأي حال من الأحوال ؟

"ومتى تفتح ؟" سألته بسرعة بديهة.

"إن المالك يسمح للزوار بالدخول في أيام الجمع والآحاد".

ووقفت صامتة تفكر. كم هو غريب أن تفكر في أن المالك يفتح حديقته لعامة الناس !

"ولكن الجميع سوف يكونون في الكنيسة" قالت ملاطفة الرجل. "لن يكون هناك أحد هنـا، أليس كذلك ؟"

وتحرك ، وتدحرجت ثمرات العنب الكبيرة.

إن المالك يعيش في البيت الجديد" قال لها.

ووقف الاثنان صامتين. ولم يشأ أن يطلب منها أن تنصرف. وأخيراً استدارت ناحيته بابتسامة ساحرة.

"هل يمكن أن ألقي نظرة واحدة على الورد ؟ !" قالت ملاطفة إياه في تصميم.

"لا أحسب أن هناك ما يمنع" قال ذلك ، وهي يفسح لها الطريق ؛ "ولكن لا تستغرقي وقتاً طويلاً ـ"

وتقدمت إلى الأمام ، وقد نسيت البستاني في لحظة. وتقلص وجهها ، واتسمت حركاتها باللهفة. ولما نظرت حواليها رأت أن جميع النوافذ المطلة على المروج كانت بدون ستائر ومظلمة. وكان للبيت منظر نظيف ، كما لو كان مازال مستخدماً ، ولكنه غير مأهول. واستولى عليها شعور بالكآبة. وقطعت المروج ناحية الحديقة ، خلال قوس من الورد المتعرش القرمزي اللون ، مثل بوابة من الألوان. وهناك في الخلف كان البحر الأزرق غير مائج داخل الخليج ، ندياً بفعل الصباح ، وكان لسان الأرض الداخل في البحر والمكون من الصخور السوداء يبرز معتماً من بين الزرقة ، زرقة السماء والماء. وبدأ وجهها يلمع ، وقد تغيرت هيئته من الألم والمسرة معاً. وعند قدميها كانت الحديقة تأخذ في الانحدار ، وقد امتلأت بفوضى من الأزهار ، وبعيداً على الأرض كان ظلام قمم الأشجار يغطي جدول الماء.

واستدارت إلى الحديقة التي سطعت بالأزهار التي كانت تسقط عليها أشعة الشمس حولها. وكانت تعرف الركن الصغير الذي كان يقبع فيه مقعد تحت شجرة الصنوبر. ثم كانت هناك الحديقة المستطيلة حيث كانت مجموعة كبيرة من الأزهار تلمع ، ومن هذا المكان كان هناك طريقان ، واحد على كل من جانبي الحديقة. وأغلقت مظلتها وسارت ببطء بين الأزهار الكثيرة. وفي كل مكان حواليها كانت هناك شجيرات الورد ، صفوف كبيرة من الورد ، ثم ورود تتدلى وتنقلب من الأعمدة ، أو ورود تحتفظ بتوازنها على الشجرات الطويلة الساق. وجوار الأرض المكشوفة كانت هناك أزهار أخرى كثيرة. ولو رفعت رأسها ، لرأت البحر عالياً أمامها ، ولرأت الخليج.

وسارت على أحد الطريقين ، وهي تتباطأ مثل إنسان عاد إلى الماضي. وفجأة وجدت نفسها تلمس بعض الورود القرمزية الثقيلة الناعمة مثل القطيفة ، وهي تلمسها في تفكير عميق، دون أن تدري ، مثلما تداعب أم يد طفلها أحياناً. وانحنت قليلاً إلى الأمام لكي تتشمم الرائحة. ثم استمرت في تجولها شاردة الذهن. وأحيانا كانت وردة لها لون الوهج وبلا رائحـة تجعلها تتسمر في مكانها. فكانت تقف تحملق فيها كما لو كانت لا تستطيع أن تفهمها. ومرة أخرى استولى عليها الشعور الناعم بالألفة نفسه ، وهي تقف أمام مجموعة كبيرة من البتلات المتدلية الوردية اللون. ثم أخذت تطيل النظر إلى الوردة البيضاء في عجب ، فقد كانت تميل إلى الخضرة ، وكان قلبها يشبه الثلج. وهكذا ، ببطء مثل فراشة بيضاء حزينة أخذت تسير على الممشى ، إلى أن وصلت أخيراً إلى حديقة مستطيلة صغيرة مليئة عن آخرها بالورد. وبدت كما لو كانت تملأ المكان ، مجموعة تسطع عليها أشعة الشمس. وخجلت منها ، فقد كانت كثيرة جداً ولامعة جداً. وبدت كما لو كانت تتحدث وتضحك. وأحست بنفسها وسط حشد غريب. وجعلها هذا الشعور تنتشي ، وحملها بعيداً عن نفسها. واحمر وجهها من النشوة. وكان الهواء يعبق برائحة زكية نقية.

وفي عجلة توجهت إلى مقعد صغير بين الورود البيضاء وجلست. وصنعت مظلتها القرمزية اللون بقعة ضخمة من اللون. وجلست بلا حراك تماماً ، وهي تشعر بأن وجودها يتلاشى تدريجياً. لم تكن أكثر من وردة ، وردة لا يمكنها تماماً أن تتفتح ، ولكن ظلت مغلقـة. وسقطت ذبابة صغيرة على ركبتها ، على فستانها الأبيض. وأخذت ترقبها ، كما لو كانت قد سقطت على وردة. ولم تكن تحس أنها هي.

ثم انزعجت بشدة عندما مر ظل بها وتحرك شخص إلى نطاق رؤيتها. وكان رجلاً يرتدي خفاً أتى دون أن تسمعه. وكان يرتدي معطفاً من الكتان. وأحست أن النهار قد تحطم ، وأن السحر قد اختفى. فقد كانت تخشى أن يستجوبها. وتقدم منها. ونهضت. ثم ، عندما رأته ، خارت قواها وسقطت على المقعد مرة ثانية.

كان شاباً ، عسكري المظهر ، وإن كان قد أصبح ممتلئ الجسم قليلاً. وكان شعره الأسود مصففاً وناعماً ولامعاً ، وكان شاربه مفتولاً. ولكن كان هناك شيء ملتوٍ في خطوته. ورفعت رأسها ، وقد شحب وجهها وشفتاها ، ورأت عينيه. وكانتا سوداوين وتحملقان دون أن تريا. لم تكونا عيني إنسان. وكان يتقدم ناحيتها.

وحملق فيها بثبات ، وحياها بلا وعي ، وجلس إلى جانبها على المقعد. وتحرك على المقعد ، ونَقَّل قدميه وهو يقول بصوت مهذب ونبرة عسكرية :

"أنا لا أزعجك ـ أليس كذلك ؟"

ولم تنبس ببنت شفة وأحست أنها بلا حول ولا قوة. فقد كان يرتدي في أناقة ملابس داكنة ومعطفاً من الكتان. ولم تستطع حراكاً. ولما رأت يديه والخاتم الذي كانت تعرفه جيداً في إصبعه الصغير ، شعرت كما لو كانت على وشك أن تصاب بالدوار. وأحست أن العالم بأسره قد اختل نظامه وجلست بلا حول ولا قوة. فقد ملأتها يداه ، رمز الحب من كل الجوارح ، بالرعب وقد استقرتا الآن على فخذيه القويتين.

"هل يمكن أن أدخن ؟" سألها بنبرة حميمة ، هامساً تقريباً ، بينما كانت يده تتجه إلى جيبه.

ولم تستطع أن تجيب ، ولكنه لم يبال ، فقد كان في عالم آخر. وسألت نفسها في رغبة ملحة إن كان قد تعرف عليها ـ إذا كان بإمكانه أن يتعرف عليها. وجلست شاحبة في كرب. ولكن كان لابد من أن تمضي في الأمر قُدُماً.

"ليس لديَّ أي طباق" قال ذلك وهو مستغرق في التفكير.

ولكنها لم تلق بالاً إلى كلماته ، فقد كانت منشغلة به هو نفسه فحسب. هل استطاع أن يتعرف عليها ، أم أن كل شيء قد ذهب وتولى ؟ وجلست بلا حراك في نوع من الترقب القلق البارد.

"إنني أدخن سجائر جون كوتون" قال ذلك. " لابد لي من أن أقتصد في استهلاكها ، فهي غالية الثمن. وكما تعرفين ، فإنني لست على ما يرام مادياً في الوقت الذي تستمر فيه تلك القضايا.

"نعم" قالت ذلك. وأحس قلبها ببرودة ، وظلت روحها جامدة.

وتحرك ، وحيَّا في غير ثبات ، ثم نهض ومضى. وجلست بلا حراك. وكان بإمكانها أن ترى هيئته ، تلك الهيئة التي كانت قد أحبتها بكل جوارحها : رأسه الدقيق المناسب لجندي ، وقوامه الرائع الذي ارتخى الآن. ولم يكن هوالشخص نفسه. وملأها هذا الشعور برعب كان من الصعب على نفسها أن تعرفه.

وفجأة جاء مرة ثانية ، وقد وضع يده في جيب سترته.

"هل تمانعين في أن أدخن ؟" ثم أضاف "ربما تمكنت من أن أرى الأمور بشكل أكثر وضوحاً".

وجلس إلى جانبها مرة أخرى ، وهو يحشو غليونه. وظلت ترقب يديه ذات الأصابع القوية الرائعة. وكانت أصابعه تميل دائماً إلى الارتعاد قليلاً وأدهشها ذلك ، منذ وقت طويل ، في رجل يتمتع بصحة جيدة. والآن كانت أصابعه تتحرك في غير دقة ، وكان الطباق يتدلى بشكل متهدل خارج الغليون.

"لديَّ عمل قانوني لابد من الانتباه إليه. فالشئون القانونية دائماً تتميز بأنها غير مؤكدة. وأقول لمحاميَّ بالضبط وبدقة ما أريده ، ولكن لا يمكن أبداً أن ينجز ما أطلبه".

وجلست واستمعت إليه يتكلم. ولكنه لم يكن هو. ومع ذلك فقد كانت هاتان هما اليدان اللتان كانت قد قبلتهما ، كما كانت هناك العينان السوداوان الغريبتان اللامعتان اللتان كانت قد أحبتهما. ومع ذلك فلم يكن هو. وجلست بلا حراك في رعب وصمت وسقط منه كيس الطباق، وأخذ يبحث عنه على الأرض. ومع ذلك فلابد من أن تنظر لترى ما إذا كان سيتعرف عليها. لماذا لم تكن تستطيع الانصراف ؟! ـ وبعد لحظة نهض.

"لابد من أن أنصرف حالاً" وأردف : "إن البومة قادم". ثم أضاف بطريقة توحي بالسرية : "إن اسمه ليس البومة حقيقة ، ولكني أسميه هكذا". لابد من أن أذهب وأرى ما إذا كان قد حضر".

ونهضت هي أيضاً. ووقف أمامها ، في غير ثقة. وكان شخصاً وسيماً ترتسم عليه أمارات الجندية ولكنه كان معتوهاً. وفتشت عيناها فيه ، وفتشت ، لترى ما إذا كان سيتعرف عليها ، أو ما إذا كانت تستطيع هي أن تسبر أغواره.

"ألا تعرفني ؟" سألته ، من رعب روحها ، وهي تقف وحدها.

وعاود النظر إليها مستطلعاً. وكان لابد لها من أن تتحمل عينيه اللتين لمعتا وهما تقعان عليها ، ولكن بلا إدراك. وأخذ يقترب منها.

"نعم ، أعرفك بالتأكيد" قال في ثبات وتصميم ، ولكن في جنون ، وهو يقرِّب وجهه من وجهها. وبلغ رعبها مداه. فقد كان المجنون القوى يقترب منها كثيراً.

واقترب رجل مسرع وهو يقول :

"الحديقة ليست مفتوحة هذا الصباح".

وتوقف الرجل المخبَّل العقل ونظر إليه. وتوجه البستاني إلى المقعد والتقط علبة الطباق التي كان قد تركها قابعة هناك.

"لا تترك طباقك يا سيدي" قال ذلك وهو يأخذ العلبة إلى الرجل الذي كان يرتدي معطفاً من الكتان.

"لقد كنت فقط أطلب من هذه السيدة أن تبقى لتناول الغذاء" قال الرجل في أدب وأضاف "إنها صديقة لي".

واستدارت المرأة وأسرعت تسير ، وهي لا تكاد ترى شيئاً ، بين الورود التي تسقط عليها أشعة الشمس ، خارجة من الحديقة ، ومبتعدة عن المنزل ذي النوافذ العارية المظلمة ، عبر الفناء الذي كانت تغطيه حصيات البحر ، حتى وصلت إلى الشارع. وفي سرعة وهي لا تبصر ، انطلقت دون تردد إلى حيث لا تدري. ووصلت مباشرة إلى البيت وصعدت إلى الطابق العلوي ، وخلعت قبعتها وجلست على الفراش. وأحست كما لو كان أحد أنسجتها قد تمزق إلى نصفين داخلها ، حتى أنها لم تصبح كلاً متكاملاً يمكنه أن يفكر ويحس. وجلست تحملق في النافذة ، حيث كانت أغصان اللبلاب تتماوج إلى أعلى وإلى أسفل بفعل رياح البحر. وكان هناك بعض من الضوء الغريب الصادر من البحر والذي يسطع بضوء الشمس في الجو. وجلست بلا حراك على الإطلاق ، دون أي إحساس بالوجود. فقط أحست أنها ربمـا كانت مريضة ، وربما كان الدم الذي أحست به طليقاً في أحشائها الممزقة. وجلست ساكنة تماماً وفي سلبية مطلقة.

وبعد برهة سمعت وقع الأقدام الثقيلة لزوجها في الطابق الأسفل ، ودون أن تتحرك هي نفسها ، أخذت تتتبع حركته. وسمعت وقع أقدامه الذي يوقع الغم في النفس يخرج مرة ثانيـة، ثم سمعت صوته وهو يتكلم ، ويجيب ، ويمرح ، ووقع أقدامه المتواصل يقترب.

ودخل ، متورد الخدين ، وهو مسرور إلى حد ما ، وكان هناك جو من الرضا الذاتي يميز قوامه النشيط القوي. وتحركت هي في تصلب. وترنح هو في تقدمه.

"ماذا بك ؟" سألها وفي صوته أثر لنفاد صبر. "ألست على ما يرام؟"

وكان هذا عذاباً لها.

"جداً" أجابت.

وارتسم في عينيه البنيتين تعبير بالحيرة والغضب.

"ماذا ألم بك ؟" سألها.

"لا شيء".

وأخذ القليل من الخطوات الواسعة ، ثم وقف في عناد ، وهو ينظر من النافذة.

"هل قابلت أحداً مصادفة ؟" سألها.

"لا أحد ممن يعرفونني" قالت له.

وبدأت يداه ترتعشان. وأغضبه أنها لم تعد تحس به كما لو كان لا وجود له. ولما استدار ناحيتها أخيراً سألها في اندفاع :

"هناك شيء أزعجك ، أليس كذلك ؟"

"لا ، لماذا ؟" قالت دون انفعال. ولم يكن موجوداً بالنسبة لها ، باستثناء كونه مصدر إزعاج.

واستشاط غضباً ، مما جعل عروق رقبته تنفر.

"يبدو أن هذا هو ما حدث "قال وهو يجاهد في ألا يُظهر غضبه ، لأنه لم يَبْدُ أن هناك أي سبب لهذا الغضب. وانصرف هابطاً إلى الطابق الأسفل. وجلست بلا حراك على الفراش ، وبالبقية المتبقية من الإحساس لديها ، أحست بكراهية نحوه لأنه كان يعذبها. ومر الوقت. واستطاعت أن تشم رائحة طعام العشاء الذي كان يجري تقديمه ، وأيضاً رائحة الدخان المنبعث من غليون زوجها والآتي من الحديقة. ولكنها لم تستطع حراكاً. فقد كانت لا تشعر بوجودها. وسمعت رنين الجرس. وسمعته يدخل. ثم ارتقى الدَّرج مرة ثانية. ومع كل خطوة كان قلبها ينقبض داخلها. وفتح الباب، "العشاء على المائدة" قال لها.

وكان من الصعب على نفسها أن تتحمل وجوده ، لأن وجوده سوف يمثل عبئاً عليها. ولم تستطع أن تستعيد حيويتها. ونهضت في تصلب ونزلت. لم تستطع أن تأكل أو أن تتحدث خلال الوجبة. بل جلست شاردة الذهن ، ممزقة ، دون أن تحس أي وجود لنفسها. وحاول أن يستمر كما لو كان لم يحدث شيء ذو بال. ولكنه في النهاية صمت بفعل الغضب. وبمجرد أن شعرت بأن بإمكانها أن تفعل ذلك ، صعدت إلى الطابق العلوي ثانية ، وأغلقت على نفسها باب حجرة النوم. لابد من أن تكون وحدها. وخرج ومعه غليونه إلى الحديقة. وقد ملأ قلبه بالسواد كل شعوره بالغضب المكتوم منها ، من تلك التي تعتقد أنها من منزلة أرقى منه. وبالرغم من أنه لم يكن يدرك ذلك ، فإنه في حقيقة الأمر لم يكسب قلبها أبداً ، إذ أنها لم تحبه أبداً. بل تزوجته مكرهة. وأبرزت هذه الحقيقة الفوارق بينهما. فقد كان مجرد عامل كهرباء في المنجم ، وكانت أعلى منه مكانة. ولقد كان دائماً يستسلم لها. ولكن طوال الوقت ، كان الشعور بالأذى والخزي يعتملان في صدره لأنها لم تكن تأخذه مأخذ الجد. والآن انفجر كل غضبه منها.

واستدار ودخل. ولثالث مرة سمعته يصعد الدَّرج. وكاد قلبها يتوقف. وأدار المقبض ودفع الباب ـ ووجده مغلقاً. وحاول فتحه ثانية. وكاد قلبها يتوقف.

"هل أغلقت الباب بالمزلاج ؟" سألها في هدوء بسبب وجود صاحبة البيت.

"نعم. انتظر لحظة".

ونهضت وفتحت المزلاج ، خشية أن يقوم بتحطيمه. وشعرت بالكراهية نحوه ، لأنه لم يدعها وشأنها. ودخل ، وغليونه بين أسنانه ، وعادت إلى الوضع الذي كانت عليه في الفراش. وأغلق الباب ووقف وقد أعطى ظهره له.

"ماذا بك ؟" سألها في تصميم.

وكانت تشعر بالسأم منه. ولم تستطع حتى النظر إليه.

"ألا يمكنك أن تدعني وشأني ؟" أجابت ، وهي تشيح بوجهها عنه.

ونظر إليها بسرعة ، بتمعن ، وهو يجفل من الشعور بالخزي. ثم بدا عليه أنه يفكر للحظة.

"هناك شيء ما حدث لك ، أليس كذلك ؟" سألها بشكل قاطع.

"نعم" قالت ذلك وأضافت : "ولكن هذا ليس سبباً يجعلك تعذبني".

"أنا لا أعذبك. ما الأمر ؟"

"ولماذا يجب أن تعرف ؟" صرخت في كراهية ويأس.

وانكسر شيء داخله ، فأجفل وأمسك بغليونه في اللحظة التي كان يسقط فيها من فمه. ثم لفظ مبسم الغليون الذي تحطم بلسانه ، وأخذه من بين شفتيه ، ونظر إليه. ثم أطفأ غليونه ، وأزال الرماد من على صدريته. وبعد ذلك رفع رأسه.

"أريد أن أعرف" قال. وكان وجهه شاحباً شحوباً يميل إلى اللون الرمادي ، وقد ارتسمت عليه تعابير كريهة.

ولم يكن أي منهما ينظر إلى الآخر. وكانت تعلم أنه في قمة غضبه الآن. وكان قلبه يدق في عنف. لقد كانت تكرهه ولكنها لم تكن تستطيع أن تصمد أمامه. وفجأة رفعت رأسها واستدارت ناحيته.

"أي حق لك في أن تعرف ؟" سألته.

ونظر إليها. وشعرت بوخزة من الدهشة لعينيه المعذبتين ووجهه الجامد. ولكن قلبها استجمع قسوته بسرعة ، إذ أنها لم تحبه أبداً ، كما أنها لا تحبه الآن.

ولكن فجأة رفعت رأسها مرة ثانية بسرعة ، مثل شيء يحاول أن يتخلص من قيده. لقد كانت تريد أن تتحرر من الأمر كله. لم يكن الأمر يتعلق به كشخص في المقام الأول ، ولكـن بهذا الشيء الذي ألقت بثقله على نفسها ، والذي كان يمثل قيداً عليها بصورة فظيعة. ولما كانت هي التي وضعت القيد على نفسها ، فقد كان من الصعوبة بمكان التخلص منه. ولكنها في تلك اللحظة كانت تكره كل شيء وتشعر برغبة مدمرة. وكان يقف مولياً ظهره للباب ، وفي ثبات ، كما لو كان سيقف في طريقها إلى الأبد ، إلى أن تتلاشى. ونظرت إليه. وكانت عيناها باردتين وتنطقان بالعداء. وكانت يداه اللتان تدلان على أنه عامل مفرودتين على ألواح الباب خلفه.

"أنت تعرف أنني كنت أعيش هنا" بدأت كلامها بصوت فظ ، كما لو كانت تتعمد جرح مشاعره. واستجمع قواه في مواجهتها وأومأ برأسه.

"حسناً ، لقد كنت وصيفة للآنسة بيرش صاحبة توريل هول ـ وكانت هي وصاحب المزرعة صديقين ، وكان آرشي هو ابن صاحب المزرعة". وتوقفت للحظة. وأخذ يستمع دون أن يعي ما كان يحدث. وحملق في زوجته. وكانت تجلس القرفصاء في فستانها الأبيض على الفراش ، وهي تثني وتفرد بعناية طرف تنورتها. وكان صوتها ينضح بالعداء.

"لقد كان ضابطاً ـ ملازماً ثانياً ـ ثم تشاجر مع قائده الكولونيل وخرج من الجيش. وعلى أية حال ـ" وجذبت طرف تنورتها ، بينما وقف زوجها بلا حراك ، وهو يرقب حركاتها التي ملأت عروقه بالجنون ـ "لقد كان مولعاً بي إلى أبعد حد ، كما كنت أنا أيضاً مولعة به ـ إلى أبعد حد."

"كم كان عمره ؟" سأل الزوج.

"متى ؟ ـ عندما بدأت أعرفه ؟ أو عندما ذهب ؟ ـ"

"عندما عرفتيه لأول مرة".

"عندما رأيته لأول مرة ، كان في السادسة والعشرين ـ والآن ـ هو في الواحدة والثلاثين ـ تقريباً في الثانية والثلاثين ـ لأنني في التاسعة والعشرين ، وهو أكبر مني بثلاث سنوات تقريباً ـ"

ورفعت رأسها ونظرت إلى الحائط المقابل.

"ثم ماذا حدث ؟" قال زوجها.

وحجَّرت قلبها ، وقالت في قسوة :

"لقد كنا مثل خطيبين لمدة سنة تقريباً ، بالرغم من أن أحداً لم يعرف بذلك ـ على الأقل ـ كانوا يتكلمون ـ لكن ـ لم يكن هذا علنياً. ثم ذهب بعيداً ـ"

"لقد رماكِ" قال الزوج بقسوة ، وهو يريد بذلك أن يؤذي مشاعرها وأن يجعلها تحتك به. وقفز قلبها بعنف من الغضب. ثم قالت "نعم" لكي تثير غضبه. وانتقل من إحدى قدميه إلى القدم الأخرى ، وهو يتأفف من الغضب. ثم تلي ذلك صمت لبرهة.

"ثم" استطردت قائلة وقد منح ألمها نبرة ساخرة لكلماتها.

"خرج فجأة للقتال في إفريقيا ، وتقريباً في اليوم نفسه الذي التقيت فيه بك ، سمعت من الآنسة بيرش أنه قد أصيب بضربة شمس ـ وبعد ذلك بشهرين ، أنه مات ـ".

"كان هذا قبل أن تبدأي علاقتك بي" قال الزوج.

ولم تجب. كما لم يتكلم أي منهما لبعض الوقت. ولم يكن قد فهم. وكانت عيناه مزمومتيـن بصورة قبيحة.

"إذن فقد كنت تتفقدين أماكن مغامراتك القديمة !" قال ذلك وأضاف "وهذا هو ما أردت الخروج وحدك من أجله هذا الصباح".

ومع ذلك فلم ترد عليه بأي شيء. وابتعد عن الباب متجهاً إلى النافذة. ووقف وقد عقد يديه خلفه ، وقد أولاها ظهره. ونظرت إليه. وبدت يداه غريبتين بالنسبة لها ، وكانت مؤخرة رأسه قبيحة المنظر.

وأخيراً ، رغماً عن إرادته تقريباً ، استدار ناحيتها وسألها :

"كم من الوقت ظللت معه ؟"

"ماذا تعني ؟" ردت ببرود.

"أعني كم من الوقت ظللت معه ؟"

ورفعت رأسها ، وهي تشيح بوجهها عنه. ورفضت الإجابة. ثم قالت : "لا أعرف ماذا تعني بـ "ظللت معه". لقد أحببته منذ الأيام الأولى التي قابلته فيها ـ بعد شهرين من ذهابي للبقاء مع الآنسة بيرش".

"وهل تحسبين أنه أحبك ؟" قال ساخراً.

"أعرف أنه فعل".

"كيف تعرفين ، إذا كان لم يعد تربطه بك صلة ؟"

وتبع ذلك صمت طويل من الكراهية والمعاناة.

"وإلى أي حد وصلت علاقتكما ؟" سألها أخيراً ، بصوت متصلب مرتعب.

"إنني أكره أسئلتك الملتوية" صاحت رغماً عنها وقد أحست أنه ينصب الشراك لها. "لقد أحب كل منا الآخر ، وكنا عشيقين ـ كنا. لا أبالي بما تعتقده أنت : إذ ما شأنك بهذا ؟ لقد كنا حبيبين قبل أن أعرفك ـ"

"حبيبين ـ حبيبين" قال وقد شحب لونه من الغضب. "تعنين أنه كانت لك علاقة غرامية مع رجل عسكري ، ثم أتيت لي لكي تتزوجيني عندما ـ"

وجلست تبتلع مرارتها. وتلي ذلك فترة صمت طويلة.

"هل تقصدين أن تقولي إنكما قد اعتدتما قطع ـ الشوط إلى آخره ؟" قالها وهو مازال لا يصدق.

"وماذا غير ذلك تظنني أعنيه ؟" صاحت قائلة بقسوة.

وانكمش في نفسه ، وأصبح شاحب الوجه ، فاقداً لذاته. وتبع ذلك صمت طويل مشلول. وبدا كما لو كان قد انكمش حجمه.

"إنك لم تفكري أبداً في أن تخبريني بهذا كله قبل أن أتزوجك" قال بسخرية مريرة أخيراً.

"إنك لم تسألني أبداً" أجابت.

"لم أعتقد أبداً أن هناك حاجة إلى ذلك".

"حسناً ، إذن ينبغي أن تعتقد الآن".

ووقف بوجه جامد خالٍ من التعبير ويكاد ينطق بالطفولة ، وهو يدير عدة أفكار في رأسه، بينما كان قلبه مجنوناً من الكرب.

وفجأة أضافت :

"ولقد رأيته اليوم. إنه ليس ميتاً. بل هو مجنون".

ونظر زوجها إليها وقد رُوِّع فجأة.

"مجنون !" قال رغماً عنه.

"مجنون !" قالت. وكلفها هذا تقريباً كل طاقتها لكي تنطق بالكلمة. ثم تلي ذلك صمت.

"هل عرفك ؟" سألها الزوج ، بصوت واهن.

"لا" قالت.

ووقف ونظر إليها. أخيراً عرف عمق الهوة التي تفصل بينهما. وكانت مازالت تجلس القرفصاء على الفراش. إن استمرار كل منهما في علاقته بالآخر سوف يمثل انتهاكاً لكل منهما. ولابد للأمور من أن تأخذ مجراها الطبيعي. لقد أصيبا كلاهما بالصدمات ، وفقدا ذاتيهما ، ولم يعودا حتى يكرهان أحدهما الآخر. وبعد دقائق تركها وخرج.







--------------------------------------------------------------------------------

* شجرة آسيوية وارفة الظلال. (المترجم)

* نسيج قطني رقيق. (المترجم)