المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام والعالم اليوم- القسم الأول



د.مازن مطبقاني
30/06/2007, 08:05 PM
طلبت إلي مجلة فرنسية أن هي Etudes Geopolitique
في عدد خاص عن المملكة أن أكتب لها مقالاً فكانت هذه المقالة التي نشرت بالفرنسية هناك، وهاهي النسخة العربية فإليكموها:

كلما ظهر خبر في وسائل الإعلام عن تفجيرات أو أعمال إرهابية في العالم، وكلما قامت مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في بلد عربي أو مسلم توجهت أصابع الاتهام إلى الإسلام، وبدأ الحديث عن الإسلام من النواحي العقدية والشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكأنه السبب الوحيد في الخراب والقتل!! وكأن الإسلام دين عنف وقتل وتدمير وليس دين تسامح ومحبة؟؟ وكثرت التساؤلات عن واقع الأمة الإسلامية لماذا تعيش معظمها في نطاق العالم الثالث أو العالم المتخلف. أليس هناك فكر رشيد يفصل بين المسلمين وواقعهم الصعب إن لم نقل المزري، والإسلام العظيم الذي نشر العدل والحق والنور والهداية في ربوع العالم وعاشت البشرية في ظلاله أعظم أيامها على الإطلاق؟
إن الإسلام هو الحضارة التي انطلقت منها أوروبا لتبني نهضتها وحضارتها؟ لقد تعلم روجر بيكون وغيره من أساطين العلم في أوروبا المنهج العلمي من العلماء المسلمين، لقد أعطى المسلمون العالم رقم الصفر الذي بدونه لم يكن لعلم الرياضيات أن يتطور ولم يكن من الممكن للكمبيوتر أن يظهر، كما أعطوا العالم الأرقام الحسابية التي أصبحت معروفة في العالم كله بالأرقام العربية؟ وأبدع المسلمون في علم الطب والتشريح والجراحة، كما أبدعوا في الهندسة، وفي الكيمياء، وفي الزراعة وفي الفيزياء، وفي الرياضيات، وفي الفلك.
وأما في العمران فهذه إسبانيا يزورها أكثر من ستين مليون سائح سنوياً ليشاهدوا عظمة العمران الإسلامي في غرناطة وفي قرطبة وفي إشبيليا وفي مدريد وغيرها؟ إن الإبداع العمراني للمسلمين بدأ منذ عهد مبكر؛ فقد عرف المسلمون أهمية بناء السدود وما تزال آثار السدود التي بنيت في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان موجودة حتى الآن، وأبدعوا في عمارة المعاهد والمدارس والجامعات والقصور. وهذه آثارهم في الشام، وفي مصر وفي المغرب وفي تركيا وفي أواسط آسيا تدل على عظمة العمران الإسلامي.
إن المسلمين اليوم الذين يتسولون الإدارة وفنونها شرقاً وغرباً عرفوا الإدارة اللامركزية؛ فقد استطاعوا أن ينظموا شؤونهم الإدارية رغم اتساع رقعة دولتهم منذ الخلافة الراشدة حتى أوج قوة الدولة العثمانية. وكان للمسلمين جيوشاً منظمة، وصناعات حربية رائدة. وقد كانوا رواداً في بناء المدن الخاصة بالجيوش، فكأنّي بهم سبقوا غيرهم في بناء المدن العسكرية.
وفوق ذلك كله قدم المسلمون للعالم مبادئ وقيم وأخلاق منها: الرحمة والإنسانية والحق والعدل؟ وقدم المسلمون القدوة في الأمانة والدقة والإخلاص في العمل؟ ولعل أبرز دليل على عظمة الأخلاق الإسلامية ما جاء على لسان جعفر ابن أبي طالب حينما سأله النجاشي عن الإسلام فقال له: "كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بع الله إلينا رسولاً منّا، ونعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات..."
فلماذا أبدع المسلمون تلك الحضارة العظيمة قديماً وهم يعجزون عن أصغر صناعة اليوم؟ لا شك أن المقومات الأساسية للإبداع اليوم تكاد تكون مفقودة تماماً في العالم الإسلامي؛ ألا وهي الحرية الحقيقية، والكرامة الإنسانية، إن الفرد إذا ما افتقد كرامته وحريته فأنّى له أن يبدع؟ لقد كانت قيمة الفرد المسلم في يوم من الأيام تصل إلى أن تعلن الدولة الإسلامية الحرب على أعدائها، واليوم الفرد المسلم هو أرخص شيء لدى دولته حتى بلغت هجرات المسلمين إلى الخارج بالملايين. وإن المواطن المسلم ليختفي ولا يستطيع أن يعثر له أحد على أثر. بل الذين يختفون لا يكونون إلاّ من الشخصيات العلمية أو الفكرية أو السياسية. وأسأل السجون والمعتقلات في العالم الإسلامي كم مات فيها من عالم، وباحث، وطبيب، ومهندس؟ إن القانون الإسلامي يفرض على الدولة أن تستنفد كل ما فيها خزينتها لافتداء فرد مسلم واحد.
لقد استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة المسلمين واليه على مصر عمرو بن العاص ليواجه خصماً قبطياً شكى من سلوك الوالي وابنه، وقال عمر بن الخطاب للوالي تلك الكلمة المدوية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). هذا القبطي كان يعيش تحت حكم الرومان وهم من أتباع دين واحد ولكنه رأى حكم المسلمين أكثر رحمة وعدلاً.
إن الكرامة الحقيقية التي حققها الفرد المسلم التي جعلت الحاكم المسلم يقدر رغبة مدينة من المدن في رفض حاكمهم بأن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو أن أهل الكوفة طلبوني والياً كل يوم لبعثت إليهم" وقد كان بعض الفقهاء يرون أن الوالي لا حق له في أن تزيد فترة حكمه عن سنة واحدة.
إن الدين الإسلامي دين شامل فقد نظم حياة الفرد والأمة ووضع من القواعد والأنظمة لتشمل شؤون الحياة جميعها في الجوانب الاجتماعية كالعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع سواءً كانوا أقارب أو جيران أو غير ذلك، وكذلك أمور الزواج والطلاق والميراث والقضاء، ونظم أمور السياسة والعلاقات الدولية حتى أبدع لنا علماء مسلمون موسوعات في العلاقات الدولية كابن الحسن الشيباني. ونظم أمور الحرب فوضع من الوصايا والأنظمة ما لم تصل إليه شعوب الأرض حتى وقت متأخر ومن يرد تفصيلاً فهناك الوصايا العشر التي وجه الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قائد جيشه أسامة بن زيد وقد جاء فيها: (قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي:
1- لا تخونوا،
2- ولا تُغِلّوا،
3- ولا تغدروا،
4- ولا تُمَثّلوا،
5- ولا تقتلوا طفلاً صغيراً،
6- ولا شيخاً كبيراً،
7- ولا امرأة،
8- ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة،
9- ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة،
10- وسوف تمرون بأقوام فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) فأي تشريع حتى اليوم يصل إلى هذا الرقي؟ ويقول أحمد أبو الفتح عن عظمة الإسلام: "وذهب إلى أبعد من ذلك فحرّمَ من المأكل والمشرب ما يضر بصحة الإنسان، وحرم الميسر الذي يخرب البيوت ويدمر علاقات الناس ويهدد أعصاب المقامر."
ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام دين تطرف ولا دين إرهاب. لقد بلغ من عظمة التشريعات الإسلامية أن نهت المسلم أن يروِّع أخاه المسلم، بل بلغ من بعد الإسلام عن ترويع الآمنين أن نهى عن المباغتة في القتال؛ فلا بد من إنذار الأعداء قبل بدء العمليات العسكرية. وقد بلغ من رحمة الإسلام أن كان رحيماً حتى بالحيوان؛ فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يرى حمامة قد أخذ منها أفراخها فيأمر بإعادتهم إليها، ونهي عن التحريش بين الحيوانات ليستمتع الإنسان بمنظر الحيوانات وهي تتقاتل. أيكون دين هذا شأنه دين إرهاب وتخويف؟
أما الأسباب الأخرى لغياب الإبداع والتقدم والتطور في العالم الإسلامي فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية؟ والأسباب الخارجية معروفة فإن الشركات الكبرى أو العملاقة أو متعددة الجنسيات يصعب عليها أن ترى الشعوب الأخرى وقد انتقلت من دول مستهلكة إلى دول منتجة صانعة؟ فلذلك يسعون بكل ما يملكون لتأخير نهضة الشعوب المتخلفة والتي يراد لها أن تستمر متخلفة إلى أن يشاء الله. كما أن ارتباط معظم الحكام العرب والمسلمين بدوائر صنع القرار في الخارج يعطل أي نهضة حقيقية. إن شعوب الشمال التي لا يزيد تعدادها عن عشرين في المائة من سكان الكرة الأرضية تستأثر بثمانين بالمائة من خيراتها وثرواتها وإيراداتها. وإن كان لنا أن نعترف بالجهود التي يبذلها الشمال في العمل والإنتاج ولكن ثمة وسائل يتخذها هذا الشمال للإبقاء على الجنوب متخلفاً.
أما الأسباب الداخلية فإن الأمة الإسلامية بعد أن عانت من الاحتلال عشرات السنين زادت عن المائة في بعضها، ترسخ في نفوس أبنائها استحالة النهضة والقيام بعد طول الاحتلال والتخلف، ونظراً لما تعانيه من ضياع قيمة الفرد وغياب كرامته فإن القيام من هذا السبات يحتاج إلى استعادة الحرية والكرامة الإنسانية أولاً. ولكن هذه الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم شعرت بضرورة النهضة، فكانت بدايات النهضة على أيدي العلماء المسلمين الذين طالبوا بالعودة إلى الشريعة الإسلامية؛ لتحكم حياة الأمة في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي التعليم، وفي جميع شؤون الحياة. وكانت هذه الحركات قد بدأت بذورها قبل رحيل الاستعمار، فحاربها المحتل الأوروبي بشتى الوسائل واتهمها قبل مائة سنة بما تتهم به الحركات الإسلامية التي يطلقون عليها "الأصولية" بكراهية الأجنبي xenophobia وبمعادة التحديث والتطوير. ومع ذلك فحين رحل الاستعمار تسلم الزمام حكومات جربت النظم الغربية والشرقية في الحكم؛ فحُكِمت الأمة بالمبادئ الاشتراكية والشيوعية والنظم الرأسمالية، وغاب تطبيق الإسلام غياباً شبه كامل. ولما ثبت فشل هذه النظم جميعاً في تحقيق النهضة الحقيقية للبلاد الإسلامية؛ نهضت الحركات الإسلامية من جديد، وهذه تركيا التي بذل فيها مصطفى كمال وأنصاره من دعاة العلمانية والتغرب كل جهودهم لربطها بأوروبا حتى إنني ما زلت أذكر أن مرشداً سياحياً كان يشرح أمراً على خريطة تركيا فقال "نحن الدولة الرابعة في أوروبا من حيث المساحة". فتعجبت من ربطه تركيا بأوروبا، ولكن ها هي تركيا يفوز فيها حزب الرفاه الإسلامي بنسبة من المقاعد في البرلمان التركي تسمح له الاشتراك في الحكم، فيقف العالم كله يتفرج على مجموعة العسكر المتنفذة في البلاد كيف تحارب الديموقراطية وتنهي فترة حكم حزب الرفاه، بل يصل الأمر بهم أن يحكموا على رئيس الحزب العالم المهندس الصناعي نجم الدين أربكان بالامتناع عن ممارسة السياسة. ومع ذلك تواصل الأحزاب الإسلامية سعيها للوصول إلى الحكم، حتى وصل حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أردوغان وقد مرّ عليه أكثر من عامين حتى الآن؛ وهاهي تركيا تخطو خطوات واسعة نحو التقدم والتطور واحترام حقوق الفرد والإبداع.
وقد انتشر في الغرب اعتقاد بأن الصحوة الإسلامية تهدد مصالحه في المنطقة، فانبرى يحاربها من هذا المنطلق، ومن المنطلق العقدي التعصبي الذي أشرنا إليه آنفاً. فكان من وسائل الحرب أن تخصص منه عدد من الباحثين لدراسة الصحوة الإسلامية دراسة عميقة؛ فعقدوا المؤتمرات، والندوات لدراسة هذه الصحوة. وأصدروا الكتب والدراسات والبحوث. واستخدم الغربيون في دراساتهم هذه كثيراً من رموز العلمانية في العالم العربي الإسلامي. وكان الخطأ هنا في أنهم قبلوا من أعداء الصحوة الإسلامية أو من تلاميذ الغرب المتغربين أن يقدموا لهم المعلومات عن هذه الاتجاهات التي يعادونها مثلهم. أما المعتدلون من الغربيين فلا تعطى لهم الفرصة الحقيقية لتقديم بحوثهم. ومن الأدلة على ذلك ما واجهه ويواجهه أمثال آن ماري شميل، وجون اسبوزيتو، ويوفان يزبك حداد، وريتشارد بوليت وغيرهم.
وأخذت الحرب ضد الحركات الإسلامية شتى الوسائل ومنها حرب النعوت والألقاب. فمن هذه النعوت التي أطلقت على الحركات الإسلامية أو التوجه الإسلامي أو النهضة الإسلامية: التطرف، والتشدد، والحركات المسلحة، والإرهاب، والأصولية. وقد كتب الدكتور سعيد بن عبد الله سلمان من كلية عجمان التقنية بحثاً بهذا الخصوص أوضح أن "الأصولية" مثلاً التي ينعتون بها الحركات الإسلامية إنما هي حركة يهودية ونصرانية (مجلة الباحث عدد 60، تشرين أول 1993م)، وفند حججهم في هذه الحرب الظالمة. وقد اشترك في هذه الحرب معظم المجلات الغربية حتى التي تزعم لنفسها الابتعاد عن الموضوعات الجدلية مثل مجلة (المختار) Readers Digest. ومن العجيب أن كثيراً من الصحف العربية الإسلامية أصبحت مرآة عاكسة لما يكتب في الغرب ضد هذه الحركات، فكأنها بلا عقل يهديها أو كأنها ببغوات تردد ما تسمع دون وعي أو تفكير.
ويزعم الغرب أن الحركات الإسلامية أو الإسلام يعادي الغرب ويعادي النهضة والتحديث، وقد أصدر المستشرق الأمريكي برنارد لويس العديد من الكتب، وألقى الكثير من المحاضرات، وكتب المقالات الطويلة في أبرز الصحف الأمريكية ليتناول أسباب تخلف المسلمين وكراهيتهم للتمدن والتحديث. ومن أبزر محاضراته تلك التي ألقاها في مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1990م وكانت باسم محاضرة توماس جيفرسون السنوية التي يمولها وقف الإنسانيات الأمريكي، ثم نشرها في مجلة أتلانتك الشهرية بعنوان "جذور الغيط الإسلامي". ومما يدحض هذه الفرية الواقع التاريخي للأمة الإسلامية التي لم تنهض إلاّ حينما كانت متمسكة بالإسلام؛ حتى إن الملك جورج الرابع بعث أبناءه وأبناء إخوته إلى الأندلس ليدرسوا في المعاهد الإسلامية، وذيّل خطابه إلى الخليفة المسلم بعبارة (خادمكم المطيع)، ويدحضها ما في القرآن الكريم من إشارة إلى أن الإنسان مستخلف في الأرض لعمارتها، وقد أوردت آيات القرآن الكريم الكثير من الصور للحضارة والمدينة؛ ومنها ذكر العمران، وذكر المصانع والمعامل، وذكر الترف والرفاهية التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالتقدم العمراني والمدني. ومما يشجع على العلم والتفكر أن عبارات (تعقلون ويعقلون وتتفكروا..). تؤكد بوضوح على أن الإسلام دين العلم والفكر حتى إن الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله أصدر كتاباً بعنوان التفكير فريضة إسلامية.

د.مازن مطبقاني
30/06/2007, 08:05 PM
طلبت إلي مجلة فرنسية أن هي Etudes Geopolitique
في عدد خاص عن المملكة أن أكتب لها مقالاً فكانت هذه المقالة التي نشرت بالفرنسية هناك، وهاهي النسخة العربية فإليكموها:

كلما ظهر خبر في وسائل الإعلام عن تفجيرات أو أعمال إرهابية في العالم، وكلما قامت مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في بلد عربي أو مسلم توجهت أصابع الاتهام إلى الإسلام، وبدأ الحديث عن الإسلام من النواحي العقدية والشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكأنه السبب الوحيد في الخراب والقتل!! وكأن الإسلام دين عنف وقتل وتدمير وليس دين تسامح ومحبة؟؟ وكثرت التساؤلات عن واقع الأمة الإسلامية لماذا تعيش معظمها في نطاق العالم الثالث أو العالم المتخلف. أليس هناك فكر رشيد يفصل بين المسلمين وواقعهم الصعب إن لم نقل المزري، والإسلام العظيم الذي نشر العدل والحق والنور والهداية في ربوع العالم وعاشت البشرية في ظلاله أعظم أيامها على الإطلاق؟
إن الإسلام هو الحضارة التي انطلقت منها أوروبا لتبني نهضتها وحضارتها؟ لقد تعلم روجر بيكون وغيره من أساطين العلم في أوروبا المنهج العلمي من العلماء المسلمين، لقد أعطى المسلمون العالم رقم الصفر الذي بدونه لم يكن لعلم الرياضيات أن يتطور ولم يكن من الممكن للكمبيوتر أن يظهر، كما أعطوا العالم الأرقام الحسابية التي أصبحت معروفة في العالم كله بالأرقام العربية؟ وأبدع المسلمون في علم الطب والتشريح والجراحة، كما أبدعوا في الهندسة، وفي الكيمياء، وفي الزراعة وفي الفيزياء، وفي الرياضيات، وفي الفلك.
وأما في العمران فهذه إسبانيا يزورها أكثر من ستين مليون سائح سنوياً ليشاهدوا عظمة العمران الإسلامي في غرناطة وفي قرطبة وفي إشبيليا وفي مدريد وغيرها؟ إن الإبداع العمراني للمسلمين بدأ منذ عهد مبكر؛ فقد عرف المسلمون أهمية بناء السدود وما تزال آثار السدود التي بنيت في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان موجودة حتى الآن، وأبدعوا في عمارة المعاهد والمدارس والجامعات والقصور. وهذه آثارهم في الشام، وفي مصر وفي المغرب وفي تركيا وفي أواسط آسيا تدل على عظمة العمران الإسلامي.
إن المسلمين اليوم الذين يتسولون الإدارة وفنونها شرقاً وغرباً عرفوا الإدارة اللامركزية؛ فقد استطاعوا أن ينظموا شؤونهم الإدارية رغم اتساع رقعة دولتهم منذ الخلافة الراشدة حتى أوج قوة الدولة العثمانية. وكان للمسلمين جيوشاً منظمة، وصناعات حربية رائدة. وقد كانوا رواداً في بناء المدن الخاصة بالجيوش، فكأنّي بهم سبقوا غيرهم في بناء المدن العسكرية.
وفوق ذلك كله قدم المسلمون للعالم مبادئ وقيم وأخلاق منها: الرحمة والإنسانية والحق والعدل؟ وقدم المسلمون القدوة في الأمانة والدقة والإخلاص في العمل؟ ولعل أبرز دليل على عظمة الأخلاق الإسلامية ما جاء على لسان جعفر ابن أبي طالب حينما سأله النجاشي عن الإسلام فقال له: "كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بع الله إلينا رسولاً منّا، ونعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات..."
فلماذا أبدع المسلمون تلك الحضارة العظيمة قديماً وهم يعجزون عن أصغر صناعة اليوم؟ لا شك أن المقومات الأساسية للإبداع اليوم تكاد تكون مفقودة تماماً في العالم الإسلامي؛ ألا وهي الحرية الحقيقية، والكرامة الإنسانية، إن الفرد إذا ما افتقد كرامته وحريته فأنّى له أن يبدع؟ لقد كانت قيمة الفرد المسلم في يوم من الأيام تصل إلى أن تعلن الدولة الإسلامية الحرب على أعدائها، واليوم الفرد المسلم هو أرخص شيء لدى دولته حتى بلغت هجرات المسلمين إلى الخارج بالملايين. وإن المواطن المسلم ليختفي ولا يستطيع أن يعثر له أحد على أثر. بل الذين يختفون لا يكونون إلاّ من الشخصيات العلمية أو الفكرية أو السياسية. وأسأل السجون والمعتقلات في العالم الإسلامي كم مات فيها من عالم، وباحث، وطبيب، ومهندس؟ إن القانون الإسلامي يفرض على الدولة أن تستنفد كل ما فيها خزينتها لافتداء فرد مسلم واحد.
لقد استدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة المسلمين واليه على مصر عمرو بن العاص ليواجه خصماً قبطياً شكى من سلوك الوالي وابنه، وقال عمر بن الخطاب للوالي تلك الكلمة المدوية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). هذا القبطي كان يعيش تحت حكم الرومان وهم من أتباع دين واحد ولكنه رأى حكم المسلمين أكثر رحمة وعدلاً.
إن الكرامة الحقيقية التي حققها الفرد المسلم التي جعلت الحاكم المسلم يقدر رغبة مدينة من المدن في رفض حاكمهم بأن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو أن أهل الكوفة طلبوني والياً كل يوم لبعثت إليهم" وقد كان بعض الفقهاء يرون أن الوالي لا حق له في أن تزيد فترة حكمه عن سنة واحدة.
إن الدين الإسلامي دين شامل فقد نظم حياة الفرد والأمة ووضع من القواعد والأنظمة لتشمل شؤون الحياة جميعها في الجوانب الاجتماعية كالعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع سواءً كانوا أقارب أو جيران أو غير ذلك، وكذلك أمور الزواج والطلاق والميراث والقضاء، ونظم أمور السياسة والعلاقات الدولية حتى أبدع لنا علماء مسلمون موسوعات في العلاقات الدولية كابن الحسن الشيباني. ونظم أمور الحرب فوضع من الوصايا والأنظمة ما لم تصل إليه شعوب الأرض حتى وقت متأخر ومن يرد تفصيلاً فهناك الوصايا العشر التي وجه الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قائد جيشه أسامة بن زيد وقد جاء فيها: (قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي:
1- لا تخونوا،
2- ولا تُغِلّوا،
3- ولا تغدروا،
4- ولا تُمَثّلوا،
5- ولا تقتلوا طفلاً صغيراً،
6- ولا شيخاً كبيراً،
7- ولا امرأة،
8- ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة،
9- ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة،
10- وسوف تمرون بأقوام فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) فأي تشريع حتى اليوم يصل إلى هذا الرقي؟ ويقول أحمد أبو الفتح عن عظمة الإسلام: "وذهب إلى أبعد من ذلك فحرّمَ من المأكل والمشرب ما يضر بصحة الإنسان، وحرم الميسر الذي يخرب البيوت ويدمر علاقات الناس ويهدد أعصاب المقامر."
ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام دين تطرف ولا دين إرهاب. لقد بلغ من عظمة التشريعات الإسلامية أن نهت المسلم أن يروِّع أخاه المسلم، بل بلغ من بعد الإسلام عن ترويع الآمنين أن نهى عن المباغتة في القتال؛ فلا بد من إنذار الأعداء قبل بدء العمليات العسكرية. وقد بلغ من رحمة الإسلام أن كان رحيماً حتى بالحيوان؛ فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يرى حمامة قد أخذ منها أفراخها فيأمر بإعادتهم إليها، ونهي عن التحريش بين الحيوانات ليستمتع الإنسان بمنظر الحيوانات وهي تتقاتل. أيكون دين هذا شأنه دين إرهاب وتخويف؟
أما الأسباب الأخرى لغياب الإبداع والتقدم والتطور في العالم الإسلامي فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية؟ والأسباب الخارجية معروفة فإن الشركات الكبرى أو العملاقة أو متعددة الجنسيات يصعب عليها أن ترى الشعوب الأخرى وقد انتقلت من دول مستهلكة إلى دول منتجة صانعة؟ فلذلك يسعون بكل ما يملكون لتأخير نهضة الشعوب المتخلفة والتي يراد لها أن تستمر متخلفة إلى أن يشاء الله. كما أن ارتباط معظم الحكام العرب والمسلمين بدوائر صنع القرار في الخارج يعطل أي نهضة حقيقية. إن شعوب الشمال التي لا يزيد تعدادها عن عشرين في المائة من سكان الكرة الأرضية تستأثر بثمانين بالمائة من خيراتها وثرواتها وإيراداتها. وإن كان لنا أن نعترف بالجهود التي يبذلها الشمال في العمل والإنتاج ولكن ثمة وسائل يتخذها هذا الشمال للإبقاء على الجنوب متخلفاً.
أما الأسباب الداخلية فإن الأمة الإسلامية بعد أن عانت من الاحتلال عشرات السنين زادت عن المائة في بعضها، ترسخ في نفوس أبنائها استحالة النهضة والقيام بعد طول الاحتلال والتخلف، ونظراً لما تعانيه من ضياع قيمة الفرد وغياب كرامته فإن القيام من هذا السبات يحتاج إلى استعادة الحرية والكرامة الإنسانية أولاً. ولكن هذه الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم شعرت بضرورة النهضة، فكانت بدايات النهضة على أيدي العلماء المسلمين الذين طالبوا بالعودة إلى الشريعة الإسلامية؛ لتحكم حياة الأمة في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي التعليم، وفي جميع شؤون الحياة. وكانت هذه الحركات قد بدأت بذورها قبل رحيل الاستعمار، فحاربها المحتل الأوروبي بشتى الوسائل واتهمها قبل مائة سنة بما تتهم به الحركات الإسلامية التي يطلقون عليها "الأصولية" بكراهية الأجنبي xenophobia وبمعادة التحديث والتطوير. ومع ذلك فحين رحل الاستعمار تسلم الزمام حكومات جربت النظم الغربية والشرقية في الحكم؛ فحُكِمت الأمة بالمبادئ الاشتراكية والشيوعية والنظم الرأسمالية، وغاب تطبيق الإسلام غياباً شبه كامل. ولما ثبت فشل هذه النظم جميعاً في تحقيق النهضة الحقيقية للبلاد الإسلامية؛ نهضت الحركات الإسلامية من جديد، وهذه تركيا التي بذل فيها مصطفى كمال وأنصاره من دعاة العلمانية والتغرب كل جهودهم لربطها بأوروبا حتى إنني ما زلت أذكر أن مرشداً سياحياً كان يشرح أمراً على خريطة تركيا فقال "نحن الدولة الرابعة في أوروبا من حيث المساحة". فتعجبت من ربطه تركيا بأوروبا، ولكن ها هي تركيا يفوز فيها حزب الرفاه الإسلامي بنسبة من المقاعد في البرلمان التركي تسمح له الاشتراك في الحكم، فيقف العالم كله يتفرج على مجموعة العسكر المتنفذة في البلاد كيف تحارب الديموقراطية وتنهي فترة حكم حزب الرفاه، بل يصل الأمر بهم أن يحكموا على رئيس الحزب العالم المهندس الصناعي نجم الدين أربكان بالامتناع عن ممارسة السياسة. ومع ذلك تواصل الأحزاب الإسلامية سعيها للوصول إلى الحكم، حتى وصل حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب أردوغان وقد مرّ عليه أكثر من عامين حتى الآن؛ وهاهي تركيا تخطو خطوات واسعة نحو التقدم والتطور واحترام حقوق الفرد والإبداع.
وقد انتشر في الغرب اعتقاد بأن الصحوة الإسلامية تهدد مصالحه في المنطقة، فانبرى يحاربها من هذا المنطلق، ومن المنطلق العقدي التعصبي الذي أشرنا إليه آنفاً. فكان من وسائل الحرب أن تخصص منه عدد من الباحثين لدراسة الصحوة الإسلامية دراسة عميقة؛ فعقدوا المؤتمرات، والندوات لدراسة هذه الصحوة. وأصدروا الكتب والدراسات والبحوث. واستخدم الغربيون في دراساتهم هذه كثيراً من رموز العلمانية في العالم العربي الإسلامي. وكان الخطأ هنا في أنهم قبلوا من أعداء الصحوة الإسلامية أو من تلاميذ الغرب المتغربين أن يقدموا لهم المعلومات عن هذه الاتجاهات التي يعادونها مثلهم. أما المعتدلون من الغربيين فلا تعطى لهم الفرصة الحقيقية لتقديم بحوثهم. ومن الأدلة على ذلك ما واجهه ويواجهه أمثال آن ماري شميل، وجون اسبوزيتو، ويوفان يزبك حداد، وريتشارد بوليت وغيرهم.
وأخذت الحرب ضد الحركات الإسلامية شتى الوسائل ومنها حرب النعوت والألقاب. فمن هذه النعوت التي أطلقت على الحركات الإسلامية أو التوجه الإسلامي أو النهضة الإسلامية: التطرف، والتشدد، والحركات المسلحة، والإرهاب، والأصولية. وقد كتب الدكتور سعيد بن عبد الله سلمان من كلية عجمان التقنية بحثاً بهذا الخصوص أوضح أن "الأصولية" مثلاً التي ينعتون بها الحركات الإسلامية إنما هي حركة يهودية ونصرانية (مجلة الباحث عدد 60، تشرين أول 1993م)، وفند حججهم في هذه الحرب الظالمة. وقد اشترك في هذه الحرب معظم المجلات الغربية حتى التي تزعم لنفسها الابتعاد عن الموضوعات الجدلية مثل مجلة (المختار) Readers Digest. ومن العجيب أن كثيراً من الصحف العربية الإسلامية أصبحت مرآة عاكسة لما يكتب في الغرب ضد هذه الحركات، فكأنها بلا عقل يهديها أو كأنها ببغوات تردد ما تسمع دون وعي أو تفكير.
ويزعم الغرب أن الحركات الإسلامية أو الإسلام يعادي الغرب ويعادي النهضة والتحديث، وقد أصدر المستشرق الأمريكي برنارد لويس العديد من الكتب، وألقى الكثير من المحاضرات، وكتب المقالات الطويلة في أبرز الصحف الأمريكية ليتناول أسباب تخلف المسلمين وكراهيتهم للتمدن والتحديث. ومن أبزر محاضراته تلك التي ألقاها في مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1990م وكانت باسم محاضرة توماس جيفرسون السنوية التي يمولها وقف الإنسانيات الأمريكي، ثم نشرها في مجلة أتلانتك الشهرية بعنوان "جذور الغيط الإسلامي". ومما يدحض هذه الفرية الواقع التاريخي للأمة الإسلامية التي لم تنهض إلاّ حينما كانت متمسكة بالإسلام؛ حتى إن الملك جورج الرابع بعث أبناءه وأبناء إخوته إلى الأندلس ليدرسوا في المعاهد الإسلامية، وذيّل خطابه إلى الخليفة المسلم بعبارة (خادمكم المطيع)، ويدحضها ما في القرآن الكريم من إشارة إلى أن الإنسان مستخلف في الأرض لعمارتها، وقد أوردت آيات القرآن الكريم الكثير من الصور للحضارة والمدينة؛ ومنها ذكر العمران، وذكر المصانع والمعامل، وذكر الترف والرفاهية التي لا يمكن أن تتحقق إلاّ بالتقدم العمراني والمدني. ومما يشجع على العلم والتفكر أن عبارات (تعقلون ويعقلون وتتفكروا..). تؤكد بوضوح على أن الإسلام دين العلم والفكر حتى إن الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله أصدر كتاباً بعنوان التفكير فريضة إسلامية.