المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة مترجمة للكاتب البولوني الحاصل على جائزة نوبل هنريك شينكييفيتش



فهد العبود
01/07/2007, 11:10 AM
الزعيم

في مدينة (آنتيلوبا) الواقعة على نهر يحمل نفس الاسم في ولاية تكساس , أسرع كل حي إلى عرض السيرك. لقد كان اهتمام السكان كبيرا بهذا الحدث , فهذه هي المرة الأولى منذ تاريخ إنشاء المدينة التي يزورها فيها سيرك راقصات ومهرجين وبهلوانات .
إن المدينة ليست بالقديمة, فقبل خمس عشرة سنة لم يكن يوجد هنا حتى بيت واحد, بل لم يكن يتواجد في كل الأنحاء القريبة ولو شخص واحد أبيض, في حين كان ينتصب على ضفاف النهر, وفي نفس المكان الذي تقع عليه الآن (آنتيلوبا) معسكر هندي عرف باسم (شيافاتا).
كانت( شيافاتا) عاصمة (الأفاعي السود), الذين قضّوا في ذلك الحين مضاجع المعسكرات الألمانية(برلين, غروندن, هارمونيا) الواقعة على حدودهم, الأمر الذي أثار حفيظة المستوطنين الذين ما عادوا يحتملون أكثر.
في الحقيقة لم يفعل الهنود الحمر شيئا سوى حماية منطقتهم التي خصصتها لهم حكومة ولاية تكساس بأوثق الاتفاقيات, ولكن ماذا يهم مستعمري (برلين وغروندن وهارمونيا) من هذه المواثيق؟!! , صحيح أنهم سلبوا من (الأفاعي السود) الأرض والماء والهواء ولكنهم في نفس الوقت علموهم الحضارة, في حين أن أصحاب الجلود الحمراء ردوا الجميل على طريقتهم, فراحوا يسلخون جلود رؤوسهم. لم يكن من الممكن استمرار هذه الحال, لذلك فإن مستوطني (برلين وغروندن وهارمونيا) تحشدوا في إحدى الليالي المقمرة في أربعمائة رجل وطلبوا المساعدة من المكسيكيين القاطنين في (لاورا) ثم هاجموا(شيافاتا) النائمة. لقد كان النصر حاسما, احترقت (شيافاتا), و اجتُث السكان عن بكرة أبيهم بغض النظر عن السن والجنس, مفرزة صغيرة من المحاربين الذين كانوا قد ذهبوا في تلك الليلة إلى الصيد هي فقط التي نجت ,أما من المدينة نفسها فلم ينج أحد على الإطلاق خاصة وأن المدينة كانت تقع على حواف النهر , الذي كان, كما هي العادة في الربيع, يفيض ويحاصر المعسكر بمياه ذات عمق خرافي. على أن هذا الموقع الذي أودى بالهنود الحمر هو نفسه الذي حضي بإعجاب الألمان , صحيح أن الهروب من الوادي صعب ولكن الوادي في نفس الوقت يوفر حماية جيدة, وهذه الفكرة هي التي دفعت مستوطني (برلين,غروندن وهارمونيا) للهجرة إلى الوادي حيث قامت هناك وبلمح البصر (آنتيلوبا) المتحضرة على أنقاض( شيافاتا) المتوحشة.
في غضون خمس سنوات وصل عدد السكان إلى ألفي نسمة, وفي السنة السادسة تم الكشف في الجهة الثانية من الوادي عن منجم للفضة الخام, وقد أدى استثماره إلى مضاعفة عدد السكان, أما في السنة السابعة فقد تم وبقوة قانون الحكومة المحلية شنق آخر تسعة عشر محاربا من سلالة(الأفاعي السود) في ساحة المدينة بعدما قبض عليهم في غابة(الأموات) القريبة, ومنذ ذلك الحين لم يعد أي شيء يقف عقبة في طريق ازدهار (آنتيلوبا).
تم إصدار جريدتين يوميتين وواحدة كانت تصدر يوم الاثنين, وربطت المدينة بسكة حديدية مع (ريو دل نورته). كما تم تشييد مدرستين,واحدة منهما عليا . وفي الساحة التي شنق فيها آخر (الأفاعي السود) أقيمت مؤسسة خيرية, وراح القسيسون في الكنائس يعلمون الناس كل أحد حب ذوي القربى واحترام خصوصيات الغرباء وما إلى ذلك من قيم حميدة يحتاجها المجتمع المتحضر, حتى أن أحد المحاضرين المهاجرين ألقى خطابا في (الكابيتول) عن حقوق الشعوب.
كما نوه السكان الأغنياء إلى الحاجة لتأسيس جامعة مما اضطر حكومة الولاية إلى تلبية هذه الرغبة.
لقد سارت أمور السكان على ما يرام إذ عادت عليهم تجارة الفضة الخام والبرتقال والشعير والنبيذ بعائدات محترمة. كانوا مستقيمين, نظاميين, دقيقين, مجتهدين وسمينين أيضا , حتى أن الذي كان يزور مدينة(آنتيلوبا) ذات البضعة عشر ألف نسمة, ما كان ليرى في تجارها الأغنياء ,أولئك المحاربين القساة الذين أحرقوا (شيافاتا) قبل خمسة عشر عاما!
كان نهارهم يمر بين المحال والورش والمكاتب, أما الأمسيات فكانوا يقضونها في حانة بيع الجعة المسماة (تحت الشمس الذهبية), الواقعة قريبا من شارع(أفاعي الجرس).
كان من الممكن لمن يسمع في تلك الحانة الأصوات اللينة الخارجة من أعماق الحلوق مثل:
mahlzeit,mahlzeit’ "(صحة, صحة).
أو تلك الرخوة مثل:
" nun ja wissen sie, Herr Müller, ist das aber möglich?"(أجل أنت تعلم أيها السيد مولر هل هذا مع ذلك ممكن؟).
أو يسمع صوت قرع الكؤوس وخرير البيرة, ويرى بقع الرغوة المراقة على الأرض, وذلك الهدوء والبطء, وتلك الوجوه المتكبرة الملطخة بالدهن, وتلك العيون التي تشبه عيون الأسماك , أن يعتقد بأنه يجلس في إحدى حانات البيرة في (برلين أو موناخيوم) وليس على أطلال (شيافاتا) التي لم يعد أحد يفكر فيها في حين كانت الأمور في المدينة تسير بشكل جيد تماما.
كانت مسارعة الحشود إلى السيرك في ذلك المساء لسببين: أولا لأن الترويح عن النفس كان شيئا ممتعا ومستحقا بعد العمل الشاق, وثانيا لأن السكان كانوا فخورين بحضور السيرك إلى مدينتهم فمن المعلوم أن فرق السيرك لا تزور إلا المدن المحترمة , لذلك فإن قدوم فرقة (هون م. ديين) أكد بما لا يقبل الشك ضخامة وأهمية (آنتيلوبا).
ورد في برنامج السيرك أن الفقرة رقم2 هي "مشي على حبل معلق على علو خمسة عشر قدما من الأرض بمرافقة الموسيقى , ينفذها اللاعب المشهور (النسر الأحمر), زعيم(الأفاعي السود), آخر سلالة الملوك ووريثها المتبقي حيث تتضمن هذه الفقرة:
أ‌) المشي
ب‌) قفزات( آنتيلوبا)
ت‌) رقص وأغنية الموت
فجعل هذا الإعلان من الزعيم الشغل الشاغل في ( آنتيلوبا ) .
لقد روى (هون م. ديين) في حانة (تحت الشمس الذهبية ) أنه قبل خمسة عشر عاما , وخلال سفره إلى (سانتافو) في (بلاتس دي تورنادو) التقى هنديا أحمر محتضرا برفقة صبي في العاشرة من عمره , وقد مات ذلك العجوز بعدها من الجراح و الإنهاك ولكنه قبل موته أخبره بأن ذلك الصبي هو ابن زعيم (الأفاعي السود) المقتول ووريث منصبه, وقد التقطت الفرقة ذلك اليتيم , حيث أصبح فيما بعد بهلوانها الأول.
لم يعلم(هون م. ديين) إلا في حانة (تحت الشمس الذهبية) أن (آنتيلوبا) كانت في يوم من الأيام (شيافاتا) وأن البهلوان المشهور سيستعرض نفسه فوق قبور آبائه.
طيبت هذه المعلومة مزاج مدير السيرك, فهو الآن بالتأكيد يستطيع أن يبني حساباته على أساس إثارة كبرى إذا تمكن من استغلال المؤثرات.
كان من المفهوم أن يتدافع المحافظون من (آنتيلوبا) إلى السيرك لكي يمكنوا زوجاتهم وأطفالهم المستقدمين من ألمانيا, والذين لم يروا في حياتهم هنديا أحمرا واحدا من مشاهدة آخر (الأفاعي السود)ولكي يقولوا لهم :
" انظروا لقد أعملنا السيف في هؤلاء قبل خمسة عشر عاما "
" أوه أيها السيد اليسوع!!! ", لقد كان من المحبب لهم سماع صيحة التعجب تلك سواء من فم (أمالشن) أو (فرايك) الصغير.
كانت كلمة( الزعيم) تتردد في كل أرجاء المدينة دون توقف . راح الأطفال منذ الصباح يختلسون النظر من شقوق الألواح الخشبية , ووجوههم مفعمة بالفضول والرعب معا , أما الصبية الأكبر فقد انتشت فيهم روح القتال فكانوا في طريق عودتهم من المدرسة يمشون مشية عسكرية مهيبة وهم أنفسهم لم يكونوا يعرفون لماذا يفعلون ذلك .

* * *

الساعة هي الثامنة مساءا , الليلة رائعة , رائقة, ممتلئة بالنجوم, النسيم يحمل من خارج المدينة رائحة بساتين البرتقال التي تختلط داخل المدينة برائحة منقوع الشعير . في السيرك ينعكس وهج الأضواء . المشاعل الإسفلتية الضخمة المركزة أمام البوابة الرئيسية تتوهج وتطلق الدخان , فيهز النسيم ذيول الدخان و ألسنة اللهب الساطع التي تنير الأرجاء المظلمة من البناء, المكون من عازل خشبي مدور نصب حديثا , يعلوه سقف مدبب في قمته علم أمريكي مليء بالنجوم. أمام البوابة تقف الجموع التي لا تستطيع الوصول إلى الداخل أو التي لا تملك ما تشتري به التذاكر وتراقب عربات الفرقة وستائر بوابة الدخول الكتانية التي رسمت عليها معركة للبيض مع ذوي الجلد الأحمر. في اللحظات التي تنزاح فيها الستارة قليلا يظهر داخل البوفيه المنار مئات الأكواب الزجاجية على الطاولات .
أخيرا هاهم يرفعون الستارة فتدخل الجموع وتأخذ الخطوات البشرية بالدبيب فوق الممرات الفارغة بين المقاعد, وبعد لحظات تغطي كتلة قاتمة متحركة كل الممرات من الأعلى إلى الأسفل.
الرؤية في السيرك واضحة كما في النهار ,إذ بالرغم من أنه لم يكن هناك وقت لمد أنابيب الغاز إليه إلا أن الثريا الضخمة المؤلفة من خمسين مصباحا نفطيا تغرق الحلبة والمتفرجين بوابل من النور.
تحت الأشعة تظهر رؤوس/ شريبة / البيرة مستندة إلى الخلف من أجل إراحة/ لغاليغهم/ المنتفخة, كما تظهر وجوه النساء الفتية ووجوه الأطفال الرائعة الذين تكاد عيونهم تخرج لفرط الفضول .
عموما يمكن القول أن كل المتفرجين يحملون معالما غريبة, سعيدة وغبية معا, كما هي الحال دائما مع جمهور السيرك .
الجميع ينتظرون بفارغ الصبر وسط الهمهمات التي تقطعها صيحات الباعة" بيرة طازجة...بيرة طازجة".
يقرع الجرس أخيرا . يدخل ستة من السائسين مرتدين أحذية مطاطية, ثم يصطفون في رتلين أمام المدخل الذي يربط الحلبة بالإسطبل. يندفع من بين الصفين حصان متواثب بدون لجام أو سرج , وعليه ما يشبه غيمة مكونة من وشاح وقماش الموسلين والتول , إنها الراقصة( لينا ).
يبدأ استعراض الفروسية بمرافقة الموسيقى . إن ( لينا ) جميلة لدرجة أن ( ماتيلد ) الفتية ابنة صانع البيرة من شارع ( أبونتسيا غاسّه ),التي يقلقها هذا المنظر, تميل الآن إلى أذن (فلوس ) صاحب الدكان الفتي الذي يسكن في نفس الشارع وتسأله بخفوت إن كان لا يزال يحبها.
يبدأ الحصان في هذه الأثناء بالعدو سريعا, ثم يأخذ بالتنفس مثل مقدمة قطار. تقرقع ضربات السوط. يندفع عدة مهرجين خلف الراقصة وهم يتصايحون ويتصافعون على وجوههم . تومض الراقصة كالبرق وينهال التصفيق , يا له من استعراض ممتع ! ولكن الفقرة الأولى تمر بسرعة, ويحين أوان الفقرة الثانية.
تتنقل كلمة (الزعيم) بين شفاه المتفرجين. لم يعد أحد يعير انتباها للمهرجين الذين لا زالوا يتصافعون , ووسط قفزاتهم الأشبه بقفزات القرود, يرفع السائسون السيبتين الخشبيتين ويضعونهما على طرفي الحلبة. تتوقف موسيقى ( يانكه دولّه)المرحة ويبدأ لحن( الكوماندور من دونجوان) بأنغامه الكئيبة, ثم يشد الحبل بين السيبتين.
تسقط فجأة أشعة الضوء البنغالي من جهة المدخل فتملأ كل الحلبة بلون دموي, ووسط ذلك الشعاع يظهر الزعيم المخيف , آخر ( الأفاعي السود ) ولكن ما هذا....؟ لا يدخل الزعيم بل مدير الفرقة ( هون م. ديين ) بنفسه. ينحني للجمهور ويعلن بصوته أنه من دواعي فخره أن يدعو عطوفة السادة المحترمين والسيدات الجميلات اللواتي لا يقلنّ احتراما إلى التزام الهدوء بشكل استثنائي في تصرفاتهم, والى عدم التصفيق, والصمت التام, فالزعيم مثار بشكل غير عادي وهو أكثر وحشية من المألوف.
لقد أحدثت هذه الكلمات انطباعا كبيرا , ومن العجيب أن نفس سادة ( آنتيلوبا ) المبجلين الذين اقتلعوا ( شيافاتا ) قبل خمسة عشر عاما يتملكهم الآن شعور كريه بشكل فائق للعادة. قبل لحظة , عندما كانت ( لينا ) الجميلة تنفذ قفزاتها على الحصان, كانوا سعيدين لكونهم يجلسون قريبا, بجانب إفريز الحلبة, حيث يمكن رؤية كل شيء بشكل جيد, أما الآن فإنهم ينظرون بنوع من الحنين إلى الطبقات العليا من السيرك , وخلافا لقوانين الفيزياء فإنهم يشعرون بضيق التنفس كلما هبطوا إلى الأسفل .
ترى ألا زال ذلك الزعيم يذكر؟ علما بأنه تربى منذ حداثة سنه في فرقة ( هون م. ديين ) المؤلفة بشكل كامل تقريبا من الألمانيين . ترى ألم ينس بعد؟ إن ذلك يبدو مستبعدا , فلا بد أن يكون هناك تأثيرا للوسط المحيط ولخمسة عشر عاما من ممارسة مهنة السيرك واستعراض الفنون وسماع التصفيق .
( شيافاتا , شيافاتا )!!!, إنهم أيضا كألمان , يعيشون على أرض غريبة , بعيدا عن وطنهم ولكنهم لم يعودوا يفكرون به إلا حين تسمح أعمالهم بذلك . قبل كل شيء يجب أن يأكل المرء ويشرب , يجب أن يتذكر هذه الحقيقة كل ألماني وكذلك هذا المتبقي من ( الأفاعي السود ) .
فجأة يقطع تلك الأفكار أزيز وحشي في الإسطبلات , ثم يظهر على الحلبة الزعيم المنتظر بقلق. تَسمع قرقعة قصيرة , ترى هل....؟ إنه هو! إنه هو!
يسود الصمت , ويبقى فقط فحيح النار البنغالية المتأججة عند المدخل. تتجه كل الأنظار إلى قامة الزعيم الذي عليه أن يظهر في السيرك على قبور أسلافه . إن هذا الهندي الأحمر يستحق فعلا أن ينظر إليه, يبدو معتدا بنفسه مثل ملك , يغطي قامته الشامخة معطف من فرو القاقوم الأبيض, رمز الزعامة, مما يذكرك بنمر سيئ الترويض . وجهه الشبيه برأس نسر يبدو وكأنه منحوت من النحاس, تلتمع فيه ببريق بارد عينان هنديتان بكل معنى الكلمة,هادئتان ,لا مباليتان ومشؤومتان,
ينقلهما بين الجموع كما لو كان يبحث عن فريسة, فهو في النهاية مسلح من رأسه حتى قدميه, فعلى رأسه تتمايل الريشات, وخلف النطاق يوجد فأس ومدية لسلخ الجماجم, وفي يده يحمل بدلا من القوس قصبة طويلة يستخدمها أثناء المشي على الحبل. يتوقف في وسط الحلبة ويطلق فجأة صيحة ا لحرب .
" يا سيدي يسوع!", إنها صيحة ( الأفاعي السود ) . إن أولئك الذين أبادوا ( شيافاتا ) يتذكرون جيدا هذه الصيحة المرعبة, ومن العجيب أنهم , وهم الذين لم يتهيبوا قبل خمسة عشر عاما من آلاف المحاربين الذين كانوا يطلقون نفس الصيحة, يتصببون الآن عرقا أمام واحد منهم.
يقترب المدير من الزعيم ويتحدث إليه كما لو أنه يريد تهدئته, ويبدو أن كلماته أثمرت وأن البهيمة شعرت باللجام , فهاهو الزعيم بعد لحظة يبدأ بالتأرجح على الحبل, ثم يتقدم مثبتا نظره بالثريا ذات المصابيح النفطية, ينحني الحبل بشدة , وأحيانا لا يعود مرئيا نهائيا, فيبدو الهندي وكأنه معلق في الهواء , أو كأنه يصعد جبلا . لا يزال يتقدم إلى الأمام , يتراجع , ثم من جديد يتقدم في محاولة للحفاظ على توازنه, تبدو يداه الممدودتان المغطاتان بالمعطف كجناحين ضخمين , يترنح....! يسقط..! لا !, تصفيق قصير متقطع ينبعث فجأة كالعاصفة ثم يسكن. يزداد وجه الزعيم خطورة . يلتمع في نظره المعلق بالمصابيح النفطية شعاع مرعب . يعم القلق السيرك, ولكن لا أحد يقطع الصمت. في هذه الأثناء يقترب الزعيم من النهاية الأخرى للحبل , يقف, ثم على غير المتوقع تنبعث من بين شفتيه أغنية حربية, ما يميزها أنه كان يغنيها بالألمانية, وهذا شيء من السهل فهمه, فلا بد أنه نسي لغة ( الأفاعي السود ), وعلى كل حال فإن أحدا لا يعير اهتماما لهذا الأمر. الجميع ينصتون إلى الأغنية التي تتعالى وتقوى شيئا فشيئا, إنها أغنية نصف مغناة, وفي نصفها الآخر نوع من نداءات كئيبة بشكل لا يوصف, نداءات وحشية, جشّاء, مفعمة بلهجة افتراسية, تقول كلماتها :
" في كل عام, بعد الأمطار الكبيرة كان يخرج خمسمائة محارب من ( شيافاتا ) إلى ساح الوغى أو إلى الصيد الربيعي الكبير, وحين كانوا يعودون من الحرب , كانت تزينهم جلود الجماجم , وإذا ما عادوا من الصيد, حملوا معهم اللحم وجلود ( البوفالو ) فتستقبلهم الزوجات بالفرح والرقص تحية للروح الكبرى . كانت ( شيافاتا ) سعيدة , نساؤها يعملن في الخيام , وأطفالها يترعرعون ليصبحوا نساء جميلات ومحاربين شجعان. كان المحاربون يموتون في ساحة المجد فيمضون إلى الصيد مع أرواح الآباء في الجبال الفضية, لم تلطخ فؤوسهم أبدا دماء النساء والأطفال, لأن محاربي (شيافاتا ) كانوا رجالا سامين . كانت ( شيافاتا ) عظيمة حتى جاءت الوجوه الشاحبة من وراء البحار البعيدة وقذفت النار فيها. لم ينتصر المحاربون الشاحبون على ( الأفاعي السود ) في ساحة القتال ولكنهم تسللوا في الليل كالثعالب , غرسوا مداهم في صدور الرجال والنساء والأطفال النائمين. وهكذا لم يعد يوجد ( شيافاتا ) لأن البيض أقاموا مكانها خيامهم الحجرية. إن السلالة المذبوحة و (شيافاتا) المخربة تناديان بالثأر" . انبح صوت الزعيم , ويبدو الآن وهو يتأرجح على هذا الحبل مثل ملاك انتقام أحمر معلق فوق رؤوس الحشد البشري . حتى المدير يبدوا الآن قلقا ظاهريا . يسود الصمت في السيرك, ثم يهدر الزعيم متابعا:
" بقي من كل السلالة طفل واحد. كان صغيرا وضعيفا, ولكنه أقسم لروح الأرض أنه سينتقم وسيشهد جثث الرجال والنساء والأطفال البيض , سيشهد الأهوال والدماء!....."
تتحول الكلمات الأخيرة إلى زئير غضب. تسود في السيرك همهمات شبيهة بهبوب ريح مفاجئ . تتزاحم في الأدمغة آلاف الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة . ما الذي سيفعله هذا النمر الغاضب؟ ماذا سيعلن؟ كيف سينفذ الانتقام؟ هو؟ وحده؟ أيجب البقاء أم الهروب؟ أيجب الدفاع وكيف؟ ما هذا؟ تتردد أصوات النساء المرعوبة. فجأة تنطلق صيحات وحشية من صدر الزعيم , يتأرجح بعنف ويقفز إلى السيبة الخشبية الواقفة تحت الثريا ويرفع عصا التوازن . تطير الفكرة الجهنمية كالبرق بين الرؤوس " سيكسر المصابيح ويغرق السيرك بسيل من النفط المشتعل ". تنطلق وبصوت واحد من صدور المتفرجين صرخة" ولكن ما هذا؟! ".يصيحون من الحلبة" توقف! توقف!.. يختفي الزعيم, يقفز ويغيب في المخرج . ألن يحرق السيرك؟ أين ذهب؟ هاهو يدخل, من جديد يدخل مقطوع النفس , متعبا, يحمل في يده آنية من الصفيح , يمدها باتجاه الجمهور ويقول بصوت توسلي" جودوا بشيء لآخر ( الأفاعي السود ) ", تسقط الصخرة عن صدور المتفرجين.
إذن لقد كان كل هذا مقررا بالبرنامج؟ كانت هذه خدعة من المدير؟ , مجرد مؤثرات؟.
تنهال أنصاف الدولارات والدولارات, إذ كيف يمكن أن تمنع عن آخر ( الأفاعي السود )؟, إن الناس في (آنتيلوبا ) المقيمين على رماد (شيافاتا ) لديهم قلوب.


بعد العرض شرب الزعيم البيرة وأكل( الكاندل ) في ( تحت الشمس الذهبية ). يبدو فعلا أن المحيط أثر فيه.
أحرز بعد ذلك شهرة كبيرة في آنتيلوبا , وخصوصا في الوسط النسائي حتى أن الشائعات أخذت تدور..........!



قصة الكاتب البولوني هنريك شينكييفيتش , ترجمها عن البولونية فهد حسين العبود, القصة منشورة في مجلة الآداب الأجنبية

فهد العبود
01/07/2007, 11:10 AM
الزعيم

في مدينة (آنتيلوبا) الواقعة على نهر يحمل نفس الاسم في ولاية تكساس , أسرع كل حي إلى عرض السيرك. لقد كان اهتمام السكان كبيرا بهذا الحدث , فهذه هي المرة الأولى منذ تاريخ إنشاء المدينة التي يزورها فيها سيرك راقصات ومهرجين وبهلوانات .
إن المدينة ليست بالقديمة, فقبل خمس عشرة سنة لم يكن يوجد هنا حتى بيت واحد, بل لم يكن يتواجد في كل الأنحاء القريبة ولو شخص واحد أبيض, في حين كان ينتصب على ضفاف النهر, وفي نفس المكان الذي تقع عليه الآن (آنتيلوبا) معسكر هندي عرف باسم (شيافاتا).
كانت( شيافاتا) عاصمة (الأفاعي السود), الذين قضّوا في ذلك الحين مضاجع المعسكرات الألمانية(برلين, غروندن, هارمونيا) الواقعة على حدودهم, الأمر الذي أثار حفيظة المستوطنين الذين ما عادوا يحتملون أكثر.
في الحقيقة لم يفعل الهنود الحمر شيئا سوى حماية منطقتهم التي خصصتها لهم حكومة ولاية تكساس بأوثق الاتفاقيات, ولكن ماذا يهم مستعمري (برلين وغروندن وهارمونيا) من هذه المواثيق؟!! , صحيح أنهم سلبوا من (الأفاعي السود) الأرض والماء والهواء ولكنهم في نفس الوقت علموهم الحضارة, في حين أن أصحاب الجلود الحمراء ردوا الجميل على طريقتهم, فراحوا يسلخون جلود رؤوسهم. لم يكن من الممكن استمرار هذه الحال, لذلك فإن مستوطني (برلين وغروندن وهارمونيا) تحشدوا في إحدى الليالي المقمرة في أربعمائة رجل وطلبوا المساعدة من المكسيكيين القاطنين في (لاورا) ثم هاجموا(شيافاتا) النائمة. لقد كان النصر حاسما, احترقت (شيافاتا), و اجتُث السكان عن بكرة أبيهم بغض النظر عن السن والجنس, مفرزة صغيرة من المحاربين الذين كانوا قد ذهبوا في تلك الليلة إلى الصيد هي فقط التي نجت ,أما من المدينة نفسها فلم ينج أحد على الإطلاق خاصة وأن المدينة كانت تقع على حواف النهر , الذي كان, كما هي العادة في الربيع, يفيض ويحاصر المعسكر بمياه ذات عمق خرافي. على أن هذا الموقع الذي أودى بالهنود الحمر هو نفسه الذي حضي بإعجاب الألمان , صحيح أن الهروب من الوادي صعب ولكن الوادي في نفس الوقت يوفر حماية جيدة, وهذه الفكرة هي التي دفعت مستوطني (برلين,غروندن وهارمونيا) للهجرة إلى الوادي حيث قامت هناك وبلمح البصر (آنتيلوبا) المتحضرة على أنقاض( شيافاتا) المتوحشة.
في غضون خمس سنوات وصل عدد السكان إلى ألفي نسمة, وفي السنة السادسة تم الكشف في الجهة الثانية من الوادي عن منجم للفضة الخام, وقد أدى استثماره إلى مضاعفة عدد السكان, أما في السنة السابعة فقد تم وبقوة قانون الحكومة المحلية شنق آخر تسعة عشر محاربا من سلالة(الأفاعي السود) في ساحة المدينة بعدما قبض عليهم في غابة(الأموات) القريبة, ومنذ ذلك الحين لم يعد أي شيء يقف عقبة في طريق ازدهار (آنتيلوبا).
تم إصدار جريدتين يوميتين وواحدة كانت تصدر يوم الاثنين, وربطت المدينة بسكة حديدية مع (ريو دل نورته). كما تم تشييد مدرستين,واحدة منهما عليا . وفي الساحة التي شنق فيها آخر (الأفاعي السود) أقيمت مؤسسة خيرية, وراح القسيسون في الكنائس يعلمون الناس كل أحد حب ذوي القربى واحترام خصوصيات الغرباء وما إلى ذلك من قيم حميدة يحتاجها المجتمع المتحضر, حتى أن أحد المحاضرين المهاجرين ألقى خطابا في (الكابيتول) عن حقوق الشعوب.
كما نوه السكان الأغنياء إلى الحاجة لتأسيس جامعة مما اضطر حكومة الولاية إلى تلبية هذه الرغبة.
لقد سارت أمور السكان على ما يرام إذ عادت عليهم تجارة الفضة الخام والبرتقال والشعير والنبيذ بعائدات محترمة. كانوا مستقيمين, نظاميين, دقيقين, مجتهدين وسمينين أيضا , حتى أن الذي كان يزور مدينة(آنتيلوبا) ذات البضعة عشر ألف نسمة, ما كان ليرى في تجارها الأغنياء ,أولئك المحاربين القساة الذين أحرقوا (شيافاتا) قبل خمسة عشر عاما!
كان نهارهم يمر بين المحال والورش والمكاتب, أما الأمسيات فكانوا يقضونها في حانة بيع الجعة المسماة (تحت الشمس الذهبية), الواقعة قريبا من شارع(أفاعي الجرس).
كان من الممكن لمن يسمع في تلك الحانة الأصوات اللينة الخارجة من أعماق الحلوق مثل:
mahlzeit,mahlzeit’ "(صحة, صحة).
أو تلك الرخوة مثل:
" nun ja wissen sie, Herr Müller, ist das aber möglich?"(أجل أنت تعلم أيها السيد مولر هل هذا مع ذلك ممكن؟).
أو يسمع صوت قرع الكؤوس وخرير البيرة, ويرى بقع الرغوة المراقة على الأرض, وذلك الهدوء والبطء, وتلك الوجوه المتكبرة الملطخة بالدهن, وتلك العيون التي تشبه عيون الأسماك , أن يعتقد بأنه يجلس في إحدى حانات البيرة في (برلين أو موناخيوم) وليس على أطلال (شيافاتا) التي لم يعد أحد يفكر فيها في حين كانت الأمور في المدينة تسير بشكل جيد تماما.
كانت مسارعة الحشود إلى السيرك في ذلك المساء لسببين: أولا لأن الترويح عن النفس كان شيئا ممتعا ومستحقا بعد العمل الشاق, وثانيا لأن السكان كانوا فخورين بحضور السيرك إلى مدينتهم فمن المعلوم أن فرق السيرك لا تزور إلا المدن المحترمة , لذلك فإن قدوم فرقة (هون م. ديين) أكد بما لا يقبل الشك ضخامة وأهمية (آنتيلوبا).
ورد في برنامج السيرك أن الفقرة رقم2 هي "مشي على حبل معلق على علو خمسة عشر قدما من الأرض بمرافقة الموسيقى , ينفذها اللاعب المشهور (النسر الأحمر), زعيم(الأفاعي السود), آخر سلالة الملوك ووريثها المتبقي حيث تتضمن هذه الفقرة:
أ‌) المشي
ب‌) قفزات( آنتيلوبا)
ت‌) رقص وأغنية الموت
فجعل هذا الإعلان من الزعيم الشغل الشاغل في ( آنتيلوبا ) .
لقد روى (هون م. ديين) في حانة (تحت الشمس الذهبية ) أنه قبل خمسة عشر عاما , وخلال سفره إلى (سانتافو) في (بلاتس دي تورنادو) التقى هنديا أحمر محتضرا برفقة صبي في العاشرة من عمره , وقد مات ذلك العجوز بعدها من الجراح و الإنهاك ولكنه قبل موته أخبره بأن ذلك الصبي هو ابن زعيم (الأفاعي السود) المقتول ووريث منصبه, وقد التقطت الفرقة ذلك اليتيم , حيث أصبح فيما بعد بهلوانها الأول.
لم يعلم(هون م. ديين) إلا في حانة (تحت الشمس الذهبية) أن (آنتيلوبا) كانت في يوم من الأيام (شيافاتا) وأن البهلوان المشهور سيستعرض نفسه فوق قبور آبائه.
طيبت هذه المعلومة مزاج مدير السيرك, فهو الآن بالتأكيد يستطيع أن يبني حساباته على أساس إثارة كبرى إذا تمكن من استغلال المؤثرات.
كان من المفهوم أن يتدافع المحافظون من (آنتيلوبا) إلى السيرك لكي يمكنوا زوجاتهم وأطفالهم المستقدمين من ألمانيا, والذين لم يروا في حياتهم هنديا أحمرا واحدا من مشاهدة آخر (الأفاعي السود)ولكي يقولوا لهم :
" انظروا لقد أعملنا السيف في هؤلاء قبل خمسة عشر عاما "
" أوه أيها السيد اليسوع!!! ", لقد كان من المحبب لهم سماع صيحة التعجب تلك سواء من فم (أمالشن) أو (فرايك) الصغير.
كانت كلمة( الزعيم) تتردد في كل أرجاء المدينة دون توقف . راح الأطفال منذ الصباح يختلسون النظر من شقوق الألواح الخشبية , ووجوههم مفعمة بالفضول والرعب معا , أما الصبية الأكبر فقد انتشت فيهم روح القتال فكانوا في طريق عودتهم من المدرسة يمشون مشية عسكرية مهيبة وهم أنفسهم لم يكونوا يعرفون لماذا يفعلون ذلك .

* * *

الساعة هي الثامنة مساءا , الليلة رائعة , رائقة, ممتلئة بالنجوم, النسيم يحمل من خارج المدينة رائحة بساتين البرتقال التي تختلط داخل المدينة برائحة منقوع الشعير . في السيرك ينعكس وهج الأضواء . المشاعل الإسفلتية الضخمة المركزة أمام البوابة الرئيسية تتوهج وتطلق الدخان , فيهز النسيم ذيول الدخان و ألسنة اللهب الساطع التي تنير الأرجاء المظلمة من البناء, المكون من عازل خشبي مدور نصب حديثا , يعلوه سقف مدبب في قمته علم أمريكي مليء بالنجوم. أمام البوابة تقف الجموع التي لا تستطيع الوصول إلى الداخل أو التي لا تملك ما تشتري به التذاكر وتراقب عربات الفرقة وستائر بوابة الدخول الكتانية التي رسمت عليها معركة للبيض مع ذوي الجلد الأحمر. في اللحظات التي تنزاح فيها الستارة قليلا يظهر داخل البوفيه المنار مئات الأكواب الزجاجية على الطاولات .
أخيرا هاهم يرفعون الستارة فتدخل الجموع وتأخذ الخطوات البشرية بالدبيب فوق الممرات الفارغة بين المقاعد, وبعد لحظات تغطي كتلة قاتمة متحركة كل الممرات من الأعلى إلى الأسفل.
الرؤية في السيرك واضحة كما في النهار ,إذ بالرغم من أنه لم يكن هناك وقت لمد أنابيب الغاز إليه إلا أن الثريا الضخمة المؤلفة من خمسين مصباحا نفطيا تغرق الحلبة والمتفرجين بوابل من النور.
تحت الأشعة تظهر رؤوس/ شريبة / البيرة مستندة إلى الخلف من أجل إراحة/ لغاليغهم/ المنتفخة, كما تظهر وجوه النساء الفتية ووجوه الأطفال الرائعة الذين تكاد عيونهم تخرج لفرط الفضول .
عموما يمكن القول أن كل المتفرجين يحملون معالما غريبة, سعيدة وغبية معا, كما هي الحال دائما مع جمهور السيرك .
الجميع ينتظرون بفارغ الصبر وسط الهمهمات التي تقطعها صيحات الباعة" بيرة طازجة...بيرة طازجة".
يقرع الجرس أخيرا . يدخل ستة من السائسين مرتدين أحذية مطاطية, ثم يصطفون في رتلين أمام المدخل الذي يربط الحلبة بالإسطبل. يندفع من بين الصفين حصان متواثب بدون لجام أو سرج , وعليه ما يشبه غيمة مكونة من وشاح وقماش الموسلين والتول , إنها الراقصة( لينا ).
يبدأ استعراض الفروسية بمرافقة الموسيقى . إن ( لينا ) جميلة لدرجة أن ( ماتيلد ) الفتية ابنة صانع البيرة من شارع ( أبونتسيا غاسّه ),التي يقلقها هذا المنظر, تميل الآن إلى أذن (فلوس ) صاحب الدكان الفتي الذي يسكن في نفس الشارع وتسأله بخفوت إن كان لا يزال يحبها.
يبدأ الحصان في هذه الأثناء بالعدو سريعا, ثم يأخذ بالتنفس مثل مقدمة قطار. تقرقع ضربات السوط. يندفع عدة مهرجين خلف الراقصة وهم يتصايحون ويتصافعون على وجوههم . تومض الراقصة كالبرق وينهال التصفيق , يا له من استعراض ممتع ! ولكن الفقرة الأولى تمر بسرعة, ويحين أوان الفقرة الثانية.
تتنقل كلمة (الزعيم) بين شفاه المتفرجين. لم يعد أحد يعير انتباها للمهرجين الذين لا زالوا يتصافعون , ووسط قفزاتهم الأشبه بقفزات القرود, يرفع السائسون السيبتين الخشبيتين ويضعونهما على طرفي الحلبة. تتوقف موسيقى ( يانكه دولّه)المرحة ويبدأ لحن( الكوماندور من دونجوان) بأنغامه الكئيبة, ثم يشد الحبل بين السيبتين.
تسقط فجأة أشعة الضوء البنغالي من جهة المدخل فتملأ كل الحلبة بلون دموي, ووسط ذلك الشعاع يظهر الزعيم المخيف , آخر ( الأفاعي السود ) ولكن ما هذا....؟ لا يدخل الزعيم بل مدير الفرقة ( هون م. ديين ) بنفسه. ينحني للجمهور ويعلن بصوته أنه من دواعي فخره أن يدعو عطوفة السادة المحترمين والسيدات الجميلات اللواتي لا يقلنّ احتراما إلى التزام الهدوء بشكل استثنائي في تصرفاتهم, والى عدم التصفيق, والصمت التام, فالزعيم مثار بشكل غير عادي وهو أكثر وحشية من المألوف.
لقد أحدثت هذه الكلمات انطباعا كبيرا , ومن العجيب أن نفس سادة ( آنتيلوبا ) المبجلين الذين اقتلعوا ( شيافاتا ) قبل خمسة عشر عاما يتملكهم الآن شعور كريه بشكل فائق للعادة. قبل لحظة , عندما كانت ( لينا ) الجميلة تنفذ قفزاتها على الحصان, كانوا سعيدين لكونهم يجلسون قريبا, بجانب إفريز الحلبة, حيث يمكن رؤية كل شيء بشكل جيد, أما الآن فإنهم ينظرون بنوع من الحنين إلى الطبقات العليا من السيرك , وخلافا لقوانين الفيزياء فإنهم يشعرون بضيق التنفس كلما هبطوا إلى الأسفل .
ترى ألا زال ذلك الزعيم يذكر؟ علما بأنه تربى منذ حداثة سنه في فرقة ( هون م. ديين ) المؤلفة بشكل كامل تقريبا من الألمانيين . ترى ألم ينس بعد؟ إن ذلك يبدو مستبعدا , فلا بد أن يكون هناك تأثيرا للوسط المحيط ولخمسة عشر عاما من ممارسة مهنة السيرك واستعراض الفنون وسماع التصفيق .
( شيافاتا , شيافاتا )!!!, إنهم أيضا كألمان , يعيشون على أرض غريبة , بعيدا عن وطنهم ولكنهم لم يعودوا يفكرون به إلا حين تسمح أعمالهم بذلك . قبل كل شيء يجب أن يأكل المرء ويشرب , يجب أن يتذكر هذه الحقيقة كل ألماني وكذلك هذا المتبقي من ( الأفاعي السود ) .
فجأة يقطع تلك الأفكار أزيز وحشي في الإسطبلات , ثم يظهر على الحلبة الزعيم المنتظر بقلق. تَسمع قرقعة قصيرة , ترى هل....؟ إنه هو! إنه هو!
يسود الصمت , ويبقى فقط فحيح النار البنغالية المتأججة عند المدخل. تتجه كل الأنظار إلى قامة الزعيم الذي عليه أن يظهر في السيرك على قبور أسلافه . إن هذا الهندي الأحمر يستحق فعلا أن ينظر إليه, يبدو معتدا بنفسه مثل ملك , يغطي قامته الشامخة معطف من فرو القاقوم الأبيض, رمز الزعامة, مما يذكرك بنمر سيئ الترويض . وجهه الشبيه برأس نسر يبدو وكأنه منحوت من النحاس, تلتمع فيه ببريق بارد عينان هنديتان بكل معنى الكلمة,هادئتان ,لا مباليتان ومشؤومتان,
ينقلهما بين الجموع كما لو كان يبحث عن فريسة, فهو في النهاية مسلح من رأسه حتى قدميه, فعلى رأسه تتمايل الريشات, وخلف النطاق يوجد فأس ومدية لسلخ الجماجم, وفي يده يحمل بدلا من القوس قصبة طويلة يستخدمها أثناء المشي على الحبل. يتوقف في وسط الحلبة ويطلق فجأة صيحة ا لحرب .
" يا سيدي يسوع!", إنها صيحة ( الأفاعي السود ) . إن أولئك الذين أبادوا ( شيافاتا ) يتذكرون جيدا هذه الصيحة المرعبة, ومن العجيب أنهم , وهم الذين لم يتهيبوا قبل خمسة عشر عاما من آلاف المحاربين الذين كانوا يطلقون نفس الصيحة, يتصببون الآن عرقا أمام واحد منهم.
يقترب المدير من الزعيم ويتحدث إليه كما لو أنه يريد تهدئته, ويبدو أن كلماته أثمرت وأن البهيمة شعرت باللجام , فهاهو الزعيم بعد لحظة يبدأ بالتأرجح على الحبل, ثم يتقدم مثبتا نظره بالثريا ذات المصابيح النفطية, ينحني الحبل بشدة , وأحيانا لا يعود مرئيا نهائيا, فيبدو الهندي وكأنه معلق في الهواء , أو كأنه يصعد جبلا . لا يزال يتقدم إلى الأمام , يتراجع , ثم من جديد يتقدم في محاولة للحفاظ على توازنه, تبدو يداه الممدودتان المغطاتان بالمعطف كجناحين ضخمين , يترنح....! يسقط..! لا !, تصفيق قصير متقطع ينبعث فجأة كالعاصفة ثم يسكن. يزداد وجه الزعيم خطورة . يلتمع في نظره المعلق بالمصابيح النفطية شعاع مرعب . يعم القلق السيرك, ولكن لا أحد يقطع الصمت. في هذه الأثناء يقترب الزعيم من النهاية الأخرى للحبل , يقف, ثم على غير المتوقع تنبعث من بين شفتيه أغنية حربية, ما يميزها أنه كان يغنيها بالألمانية, وهذا شيء من السهل فهمه, فلا بد أنه نسي لغة ( الأفاعي السود ), وعلى كل حال فإن أحدا لا يعير اهتماما لهذا الأمر. الجميع ينصتون إلى الأغنية التي تتعالى وتقوى شيئا فشيئا, إنها أغنية نصف مغناة, وفي نصفها الآخر نوع من نداءات كئيبة بشكل لا يوصف, نداءات وحشية, جشّاء, مفعمة بلهجة افتراسية, تقول كلماتها :
" في كل عام, بعد الأمطار الكبيرة كان يخرج خمسمائة محارب من ( شيافاتا ) إلى ساح الوغى أو إلى الصيد الربيعي الكبير, وحين كانوا يعودون من الحرب , كانت تزينهم جلود الجماجم , وإذا ما عادوا من الصيد, حملوا معهم اللحم وجلود ( البوفالو ) فتستقبلهم الزوجات بالفرح والرقص تحية للروح الكبرى . كانت ( شيافاتا ) سعيدة , نساؤها يعملن في الخيام , وأطفالها يترعرعون ليصبحوا نساء جميلات ومحاربين شجعان. كان المحاربون يموتون في ساحة المجد فيمضون إلى الصيد مع أرواح الآباء في الجبال الفضية, لم تلطخ فؤوسهم أبدا دماء النساء والأطفال, لأن محاربي (شيافاتا ) كانوا رجالا سامين . كانت ( شيافاتا ) عظيمة حتى جاءت الوجوه الشاحبة من وراء البحار البعيدة وقذفت النار فيها. لم ينتصر المحاربون الشاحبون على ( الأفاعي السود ) في ساحة القتال ولكنهم تسللوا في الليل كالثعالب , غرسوا مداهم في صدور الرجال والنساء والأطفال النائمين. وهكذا لم يعد يوجد ( شيافاتا ) لأن البيض أقاموا مكانها خيامهم الحجرية. إن السلالة المذبوحة و (شيافاتا) المخربة تناديان بالثأر" . انبح صوت الزعيم , ويبدو الآن وهو يتأرجح على هذا الحبل مثل ملاك انتقام أحمر معلق فوق رؤوس الحشد البشري . حتى المدير يبدوا الآن قلقا ظاهريا . يسود الصمت في السيرك, ثم يهدر الزعيم متابعا:
" بقي من كل السلالة طفل واحد. كان صغيرا وضعيفا, ولكنه أقسم لروح الأرض أنه سينتقم وسيشهد جثث الرجال والنساء والأطفال البيض , سيشهد الأهوال والدماء!....."
تتحول الكلمات الأخيرة إلى زئير غضب. تسود في السيرك همهمات شبيهة بهبوب ريح مفاجئ . تتزاحم في الأدمغة آلاف الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة . ما الذي سيفعله هذا النمر الغاضب؟ ماذا سيعلن؟ كيف سينفذ الانتقام؟ هو؟ وحده؟ أيجب البقاء أم الهروب؟ أيجب الدفاع وكيف؟ ما هذا؟ تتردد أصوات النساء المرعوبة. فجأة تنطلق صيحات وحشية من صدر الزعيم , يتأرجح بعنف ويقفز إلى السيبة الخشبية الواقفة تحت الثريا ويرفع عصا التوازن . تطير الفكرة الجهنمية كالبرق بين الرؤوس " سيكسر المصابيح ويغرق السيرك بسيل من النفط المشتعل ". تنطلق وبصوت واحد من صدور المتفرجين صرخة" ولكن ما هذا؟! ".يصيحون من الحلبة" توقف! توقف!.. يختفي الزعيم, يقفز ويغيب في المخرج . ألن يحرق السيرك؟ أين ذهب؟ هاهو يدخل, من جديد يدخل مقطوع النفس , متعبا, يحمل في يده آنية من الصفيح , يمدها باتجاه الجمهور ويقول بصوت توسلي" جودوا بشيء لآخر ( الأفاعي السود ) ", تسقط الصخرة عن صدور المتفرجين.
إذن لقد كان كل هذا مقررا بالبرنامج؟ كانت هذه خدعة من المدير؟ , مجرد مؤثرات؟.
تنهال أنصاف الدولارات والدولارات, إذ كيف يمكن أن تمنع عن آخر ( الأفاعي السود )؟, إن الناس في (آنتيلوبا ) المقيمين على رماد (شيافاتا ) لديهم قلوب.


بعد العرض شرب الزعيم البيرة وأكل( الكاندل ) في ( تحت الشمس الذهبية ). يبدو فعلا أن المحيط أثر فيه.
أحرز بعد ذلك شهرة كبيرة في آنتيلوبا , وخصوصا في الوسط النسائي حتى أن الشائعات أخذت تدور..........!



قصة الكاتب البولوني هنريك شينكييفيتش , ترجمها عن البولونية فهد حسين العبود, القصة منشورة في مجلة الآداب الأجنبية

سمير الشناوي
01/07/2007, 11:35 AM
اخي فهد
قصة رائعة وذات دلالة كبيرة
خالص شكري على جهدك:fl:
وتقديم هذا الاديب العالمي لنا

سمير الشناوي

سمير الشناوي
01/07/2007, 11:35 AM
اخي فهد
قصة رائعة وذات دلالة كبيرة
خالص شكري على جهدك:fl:
وتقديم هذا الاديب العالمي لنا

سمير الشناوي

فهد العبود
01/07/2007, 02:13 PM
أخي سمير جزيل الشكر وأرجو أن أكون عند حسن الظن

فهد العبود
01/07/2007, 02:13 PM
أخي سمير جزيل الشكر وأرجو أن أكون عند حسن الظن

معتصم الحارث الضوّي
01/07/2007, 02:19 PM
أخي الكريم فهد العبود
أهلاً و سهلاً بك عضواً فاعلاً و نشيطاً في واتا وطن العلم و العمل و الإبداع ، أشكرك على هذه المشاركة الرائعة ، و أتمنى أن تتصل جهودك المقدّرة .

فائق احترامي و تقديري

معتصم الحارث الضوّي
01/07/2007, 02:19 PM
أخي الكريم فهد العبود
أهلاً و سهلاً بك عضواً فاعلاً و نشيطاً في واتا وطن العلم و العمل و الإبداع ، أشكرك على هذه المشاركة الرائعة ، و أتمنى أن تتصل جهودك المقدّرة .

فائق احترامي و تقديري

ابراهيم درغوثي
28/08/2007, 03:43 PM
قهد العزيز
لقد جعلتنا نتعرف على هذا العالم البديع شعرا وسردا
عالم الأدب البولوني الرائع

شكرا بكل لغات العالم

فهد العبود
29/08/2007, 10:22 AM
أخي ابراهيم
من الرائع أن يكون في واتا كاتب وذواقة مثلك
سلامي لروحك الجميلة