المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العفة والقناعة في الدنيا- المفتي أحمد رؤوف القادري



المفتي أحمد رؤوف القادري
01/07/2007, 04:03 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
العفة والقناعة في الدنيا
المفتي أحمد رؤوف القادري

الدنيا إذا لم تكن مَطِيَّةً للآخِرة كانت دارَ غرور، ومَيدانَ باطل. وإنها إذا لم تكن وسيلةً للآخرة، وإذا لم تصنَعْ منها جسراً تعبرُ منه إلى رِضوانِ اللهِ فلا خير فيها، ولا تستحقُ أن يتعافى الناسُ فيها.. اطلبها، وامتلكها كُلَّها إن استطعت، لكن على هذا الأساس: إنَّ اللهَ تعالى لم يقل لقارون، صاحب الكنوزِ الهائلة: انخلعْ من مالك كي أرضى عنك .. لا .. ابْقَ فيه، ولكن: [وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدنيا وأحْسِنْ كما أحسنَ اللهُ إليكَ ولا تبغِ الفساد في الأرض، إنَّ اللهَ لا يُحِبٌّ المفسدين] (القصص 77)
إنَّ الإسلام يحتقر الدنيا أشدَّ الاحتقار عندما تكون الأملَ الذي لا أملَ معه، وعندما يركضُ البشرُ في طلابِها لا لشيءٍ إلا للحصول عليها، والاستكثارِ منها، ثم الموتِ في أطوائِها ، كما تموت دودةُ القزِّ داخلَ ما تنسِج، وليست تنسجُ لنفسها شيئاً ... إنَّ الإسلام يحتقِرُها هدفاً، ولكنه يحتفي بها وسيلة.
وفي الإزراءِ على الحياة الدنيا، عندما تكون غايةً مجردة، جاءت آيات كثيرة، وأحاديثُ شتَّى. قال اللهُ تعالى: [واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماءِ فاختلطَ به نَباتُ الأرضِ فأصبحَ هشيماً تذروه الرياح، وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ مقتدِراً] (الكهف 45)
والمثلُ واضحٌ في أنَّ الدنيا تتبخَّرُ بين أيدي عُبادها كما يتبخرُ الماءُ من الهشيم فإذا هم يقبضونَ أيديهم على وهم..
ماذا كسب خزَنة المالِ من إعراضهم عن وجوهِ الخير؟ وماذا ربحوا من نسيان رازِقِهِ، ورفْضِ وصاياهُ فيه؟؟ ..
ماذا نالَ عُبَّادُ الأثرةِ والجاهِ والاستعلاء عندما يُسَلُّون من الحياة الدنيا سلاًّ، مخلِّفينَ بعدهم أملاكاً ذهبَ اسمُهُم عنها، وآثاراً كحركةِ الريحِ في صفحةِ الماء، لا استقرارَ لها ولا بقاء؟ وماذا يكون موقفهم عندما يقول اللهُ لهم: [ولقد جئتُمونا فُرادى كما خَلقناكم أولَ مرَّةٍ. وتركْتُم ما خَوَّلناكُمْ وراءَ ظهوركمُ] (الأنعام 94).
إنَّ عبادةَ الحياة، واعتبارها كلَّ شيء، خطأٌ شائع، ولذلك صوَّبَ الإسلامُ إلى هذا الخطأ سهامَه، وأوهن أركانه، وقد جاءت على لسانِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نصائحُ غالية، ويجبُ أن لا يفهمَ منها أنها هجومٌ على الحياة، ولكنها هجومٌ على نشدانِ الحياة للحياة ، دونَ فكرٍ في رب، أو ثقةٍ في جزاء.
عن ابن عباسٍ – رضي اللهُ عنهما – قال: مرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ميِّتةٍ قد ألقاها أهلها، فقال: [والذي نفسي بيدهِ، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها] (رواه أحمد)
وعن الضَّحَّاكِ بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا ضَّحَّاك، ما طعامُك؟ قال: يا رسول الله، اللحمُ واللبن. قال: ثمَّ يصير إلى ماذا؟ قال: إلى ما قد عُلِمت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فإنَّ اللهَ تعالى ضرب ما يَخرجُ من ابنِ آدمَ مثلاً للدنيا] (رواه أحمد).
وهذه الآثار جميعاً تَنعى على عُشَّاقِ اللَّذة، وطُلاَّبِ المتعةِ ما ينْغمِسُونَ فيه إلى الأذقان، ذاهلينَ عن الله، وعن الآخرة..
وإذا كانت الدنيا إنما تطلب وتُسْتَحَبُّ وسيلةً لما بعدها، وقنطَرُةً لمثوبةِ اللهِ جلَّ وعلا، فإنَّ طالبها يجبُ أن يلتزمَ القوانينَ التي شَرعَها من تُطْلَبُ الدنيا لأجلهِ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [الدنيا حلْوَةٌ خضِرَه، فمن أخذها بحقها بُورِكَ لَهُ فيها، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فيما اشتهت نفسُه ليس له يومَ القيامةِ إلاّ النار]. (رواه الطبراني).
إنَّ الناسَ قد ترتُكِسُ أخلاقهم، فيروْنَ أنَّ ما تيسَّرَ أخذه، لا يصحُّ أن يتركوه مهما كانت وسائلُه، وهذه بهيجةٌ مقبوضة.. فالرجل الشريف لا يـبنى كيانه إلاَّ بالطُّرقِ الشريفة، وإذا أتَتْهُ الدنيا عن طريقِ الختل، أو الغش، أو الجور، أبى أن يقلبها، ورأى فراغَ يدهِ منها أرضى لربَّه وأزكى لنفسه. وفي عِفَّةِ المؤمن عن الحرام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ولأن يأخُذَ تراباً فيجعله في فِيه خيرٌ له من أن يجعل في فِيه ما حرَّمَ اللهُ عليه.] (رواه أحمد)
ونزول الإنسان على قانون الاكتفاء الذاتي، هو العونُ الأكبرُ على ما يأمُرُهُ بهِ الإسلامُ من قنوعٍ وعفاف، فإنَّ أكثر متاعب الناس تأتيهم من السَّرفِ فوق ما يطيقون، والتطلع إلى حياةٍ لا يملكون أسبابها، وربما لجأوا إلى الاستدانةِ والمِطال، أو إلى المسألةِ والضَّراعة، أو إلى الرشوةِ والسَّرِقة، أو إلى النَّهبِ والسَّطو، كي يَسدُّدوا أبواباً من النفقة فتحوها على أنفسهمم تَزَيُّداً وطمعا، ولو أنهَّم عاشوا في حدودِ ما يملِكون لاستراحوا وأراحوا..
والاكتفاء الذاتي يلزمُ الإنسان أن يعرفَ مواردَهُ جيداً، ثم يضغط شهواته ورغائِبه حتى لا تعدو به حدود ما يملك، وأن يغمضُ عينيهِ عن حياة الآخرين، فلا يحاول المقارنة المثيرة، وأن يوقنَ بأنَّ سقوطهُ رهنٌ بمدِّ يديهِ إلى هذا وذاك، وأنَّه كلما ترفَّعَ واسْتعَفَّ، ملك نفسَه، وثـبَّتَ كرامتَه، وعاش وجيهاً في الدنيا والآخرة. روى جابرُ بنُ عبد الله أن رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: [إياكم والطَّمَع فإنَّه هو الفقر، وإياكم وما يُعْتَذَرُ منه] (رواه الطبراني)
إنَّك لا تعدَم أن ترى في كلِّ مجتمعٍ أناساً يسهلُ على أنفسهم الوقوف بالأبواب، وتعليقُ الآمال بذي جاهٍ أو سلطان.. قد يرقُبونَ العطاءَ لأنَّ حُبَّهمُ للمالِ عوَّدَهُم التكفُّف، وقد ينشدون الحُظْوَةَ، أو المنصب، لأنَّ عَوَزَهُمُ النفسي زيَّنَ لهم أنَّ العِزَّةَ في المنصب الذي يملك فلانٌ أمره، فهم يَزْدَلِفونَ إليه حتى ينالوا ما يشتهون..
وإني لأعرفُ أناساً لهم ذكاءٌ وباع، يؤجرون مواهبهم إلى كلِّ من يدفعُ لهم الثمن.. وما الثمن؟ شيءٌ من حُطامِ هذه الحياة الهالكة، أو من وجاهتها الخادعة.. وقَحْطُ العقائد والأخلاق لا يجدُ بييئةً يأوي إليها، ويَسْتِقِرُّ فيها، مثل هذه النفوسِ المعْتَلَّةِ الهابطة..
لذلك لا تعجبوا إذا كان سيَّدُ الرجال محمد صلى الله عليه وسلم يأخذُ أصحابهُ بدروسِ الكرامةِ التي تقصيهم عن مواطن السوء هذه، ويغْرُسُ في لحمهم ودمهم معاني العِفَّةِ والقناعة التي تجعلُهُم ملوكاً في أنفسهم، لأنَّه ليست لهم حاجةٌ تدنيهم إلى بشر.. والمسلم، ما دام يطلبُ الدنيا ليستعينَ بها على آخِرته، ويَبتغي بها مرضاة ربِّه، فهو غيرُ مستعدٍ لأن يضحيَ في سبيلها بمروءته، أو يفقِدَ شيئاً من دينه. إنّها إن جاءته من طريق الحلالِ الطَّيبِ قبلها، وإلا رفضَها، ولم يُتْبِعْها نفسه.. وهو كذلك إذا حازها، لم يسمح لها أن تشغله عن الله. كيف، وهو إنّما رغب فيها لا لِذاتها، بل لأنها وسيلةٌ لما هو أعظم منها وأخلد؟!!
والحقُّ أنَّه في إبّان الذهول عن الله، والغفلة عن حقوقِه، تنطلِقُ قوى البشرِ لاغتنام الحياة، وانتهابِ فرصها بقوىً عارمة، ورغباتٍ عنيفة. وتكادُ معركةُ الخبز، تنسي الناسَ أنهم بشرٌ، فيهم ودائعُ من السماء.

إنَّ الجانب الحيوانيَّ هو الذي يطنُّ في آذانهم، بل إنَّ الأهدافَ التي تسعى إليها الدَّوابُ قريبةُ المرمى، قليلةُ الكُلْفَة، أما البشر فهم يُسَخِّرونَ عقولهم الذكية، ومواهبهم العليا للاستكثار من هذا الحطام، والاستئثار به دون الآخرين. وكم يطوي الليلُ والنهارُ من جراحاتٍ وضحايا ومظالم في أعقابِ هذا العراكِ الماديِّ السفيه.
ترى لو فكَّرَ الناسُ بأناة، وذكروا ربَّهم بدل نسيانه، وقَدَّروا حقَّه بدل جحْدِهم له، وفرغوا له من أفكارهم وأفئتدهم قِسْطاً يصلُهُم به، أما كان يحملُ عنهم هذا العناءَ كلَّه؟؟ إنَّه يستطيع أن يلهِمَهم رشداً يختصرُ لهم المتاعب، ويُجَنِّبَهم الجري وراءَ الأوهام. وما أكثر الذين يجرون وراءَ الأوهام الباطلةِ في الحياة، وما أكثر الذين يبذُلونَ الكثير ويَجْنونَ القليل، ولو أرادوا لكانوا أحسنَ ظنَّاً! يقول اللهُ في حديثٍ قُدسي: [يا ابن آدم ، تفرَّغْ لعبادتي أمْلأْ قلبكَ غنىً، وأملأُ يديك رزقاً، يا ابن آدم، لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً].
ومن ترهيب الناسِ عن هذه الحال ما رواه زيدُ بنُ ثابت قال: سمِعتُ رسول اللهِ صلى عليه وسلم يقول: [من كانت الدنيا همَّه فرَّقَ اللهُ عليهِ أمْره، وجعل فقْرَهُ بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرَةُ نيَّتَه، جمع اللهُ عليه أمره، وجعلَ غناهُ في قلبه، وأتتهُ الدنيا وهي راغمة.] (رواه ابن ماجه)
ويقول اللهُ تعالى في طلاَّب الدنيا الذين كرَّسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: [من كان يريدُ الحياةَ الدنيا وزينَتها نوفِّ لهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسُون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ وحبطَ ما صَنَعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون]. (هود 15و16)
ويقول الله تعالى في سورةِ الإسراء، الآية 18: [من كان يريدُ العاجلةَ عجَّلْنا له فيها ما نشاءُ لمن نريدُ ثمَّ جعلنا له جهنَّم يصلاها مذموماً مدحوراً].
إنَّ هذه السَّكْرةَ الزائفةَ عن الحقِّ وتبعاتِه، هذه الدنيا التي اشْتهيتْ لذاتها، ولم يُحسَبْ فيها حسابٌ لآخرة، ولم يعرف فيها حقُّ اللهِ، هي التي لعنها الإسلام، وصبَّ عليها جام غضبِه، وحقَّرَها وحقَّرَ أصحابها معها. يقول الله تعالى: [ويومَ يعرضُ الذين كفروا على النار أذْهبتم طيِّباتكم في حياتكم الدنيا واستَعتمتم بها فاليومَ تجزوْنَ عذابَ الهونِ بما كنـتم تستكبرون في الأرضِ بغير الحقِّ وبما كنـتم تفْسُقُون]. (الأحقاف20)
أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ عظمةَ الإيمان ليست في أنَّه يجَرِّدُ أصحابه من الدنيا، وما يظنُّ ذلك إلا جاهل قاصر، عظمةُ الإيمان أنَّه يتيحُ لأصحابهِ امتلاك ما يشاءون، على أن يكون ذلك في أيديهم لا في قلوبهم، ينـزِلون عنه جملةً وتفضيلاً في ساعةِ فداء، ويحيون في ظلّهِ ما عاشوا أعفَّاءَ سُمَحاء.
عن ابن عباسِ أنَّ رسولَ اللهِ دخل عليه عمر وهو على حصيرٍ قد أثَّرَ في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشاً أوثَرَ من هذا. فقال صلوات اللهِ وسلامُهُ عليه: [ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثلُ الدنيا إلاّ كراكبٍ سافرَ في يومٍ صائفٍ ، فاستظَلَّ تحت شجرةٍ ساعة ، ثم راح وتركها].

المفتي أحمد رؤوف القادري
01/07/2007, 04:03 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
العفة والقناعة في الدنيا
المفتي أحمد رؤوف القادري

الدنيا إذا لم تكن مَطِيَّةً للآخِرة كانت دارَ غرور، ومَيدانَ باطل. وإنها إذا لم تكن وسيلةً للآخرة، وإذا لم تصنَعْ منها جسراً تعبرُ منه إلى رِضوانِ اللهِ فلا خير فيها، ولا تستحقُ أن يتعافى الناسُ فيها.. اطلبها، وامتلكها كُلَّها إن استطعت، لكن على هذا الأساس: إنَّ اللهَ تعالى لم يقل لقارون، صاحب الكنوزِ الهائلة: انخلعْ من مالك كي أرضى عنك .. لا .. ابْقَ فيه، ولكن: [وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدنيا وأحْسِنْ كما أحسنَ اللهُ إليكَ ولا تبغِ الفساد في الأرض، إنَّ اللهَ لا يُحِبٌّ المفسدين] (القصص 77)
إنَّ الإسلام يحتقر الدنيا أشدَّ الاحتقار عندما تكون الأملَ الذي لا أملَ معه، وعندما يركضُ البشرُ في طلابِها لا لشيءٍ إلا للحصول عليها، والاستكثارِ منها، ثم الموتِ في أطوائِها ، كما تموت دودةُ القزِّ داخلَ ما تنسِج، وليست تنسجُ لنفسها شيئاً ... إنَّ الإسلام يحتقِرُها هدفاً، ولكنه يحتفي بها وسيلة.
وفي الإزراءِ على الحياة الدنيا، عندما تكون غايةً مجردة، جاءت آيات كثيرة، وأحاديثُ شتَّى. قال اللهُ تعالى: [واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماءِ فاختلطَ به نَباتُ الأرضِ فأصبحَ هشيماً تذروه الرياح، وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ مقتدِراً] (الكهف 45)
والمثلُ واضحٌ في أنَّ الدنيا تتبخَّرُ بين أيدي عُبادها كما يتبخرُ الماءُ من الهشيم فإذا هم يقبضونَ أيديهم على وهم..
ماذا كسب خزَنة المالِ من إعراضهم عن وجوهِ الخير؟ وماذا ربحوا من نسيان رازِقِهِ، ورفْضِ وصاياهُ فيه؟؟ ..
ماذا نالَ عُبَّادُ الأثرةِ والجاهِ والاستعلاء عندما يُسَلُّون من الحياة الدنيا سلاًّ، مخلِّفينَ بعدهم أملاكاً ذهبَ اسمُهُم عنها، وآثاراً كحركةِ الريحِ في صفحةِ الماء، لا استقرارَ لها ولا بقاء؟ وماذا يكون موقفهم عندما يقول اللهُ لهم: [ولقد جئتُمونا فُرادى كما خَلقناكم أولَ مرَّةٍ. وتركْتُم ما خَوَّلناكُمْ وراءَ ظهوركمُ] (الأنعام 94).
إنَّ عبادةَ الحياة، واعتبارها كلَّ شيء، خطأٌ شائع، ولذلك صوَّبَ الإسلامُ إلى هذا الخطأ سهامَه، وأوهن أركانه، وقد جاءت على لسانِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نصائحُ غالية، ويجبُ أن لا يفهمَ منها أنها هجومٌ على الحياة، ولكنها هجومٌ على نشدانِ الحياة للحياة ، دونَ فكرٍ في رب، أو ثقةٍ في جزاء.
عن ابن عباسٍ – رضي اللهُ عنهما – قال: مرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ميِّتةٍ قد ألقاها أهلها، فقال: [والذي نفسي بيدهِ، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها] (رواه أحمد)
وعن الضَّحَّاكِ بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا ضَّحَّاك، ما طعامُك؟ قال: يا رسول الله، اللحمُ واللبن. قال: ثمَّ يصير إلى ماذا؟ قال: إلى ما قد عُلِمت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فإنَّ اللهَ تعالى ضرب ما يَخرجُ من ابنِ آدمَ مثلاً للدنيا] (رواه أحمد).
وهذه الآثار جميعاً تَنعى على عُشَّاقِ اللَّذة، وطُلاَّبِ المتعةِ ما ينْغمِسُونَ فيه إلى الأذقان، ذاهلينَ عن الله، وعن الآخرة..
وإذا كانت الدنيا إنما تطلب وتُسْتَحَبُّ وسيلةً لما بعدها، وقنطَرُةً لمثوبةِ اللهِ جلَّ وعلا، فإنَّ طالبها يجبُ أن يلتزمَ القوانينَ التي شَرعَها من تُطْلَبُ الدنيا لأجلهِ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [الدنيا حلْوَةٌ خضِرَه، فمن أخذها بحقها بُورِكَ لَهُ فيها، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فيما اشتهت نفسُه ليس له يومَ القيامةِ إلاّ النار]. (رواه الطبراني).
إنَّ الناسَ قد ترتُكِسُ أخلاقهم، فيروْنَ أنَّ ما تيسَّرَ أخذه، لا يصحُّ أن يتركوه مهما كانت وسائلُه، وهذه بهيجةٌ مقبوضة.. فالرجل الشريف لا يـبنى كيانه إلاَّ بالطُّرقِ الشريفة، وإذا أتَتْهُ الدنيا عن طريقِ الختل، أو الغش، أو الجور، أبى أن يقلبها، ورأى فراغَ يدهِ منها أرضى لربَّه وأزكى لنفسه. وفي عِفَّةِ المؤمن عن الحرام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ولأن يأخُذَ تراباً فيجعله في فِيه خيرٌ له من أن يجعل في فِيه ما حرَّمَ اللهُ عليه.] (رواه أحمد)
ونزول الإنسان على قانون الاكتفاء الذاتي، هو العونُ الأكبرُ على ما يأمُرُهُ بهِ الإسلامُ من قنوعٍ وعفاف، فإنَّ أكثر متاعب الناس تأتيهم من السَّرفِ فوق ما يطيقون، والتطلع إلى حياةٍ لا يملكون أسبابها، وربما لجأوا إلى الاستدانةِ والمِطال، أو إلى المسألةِ والضَّراعة، أو إلى الرشوةِ والسَّرِقة، أو إلى النَّهبِ والسَّطو، كي يَسدُّدوا أبواباً من النفقة فتحوها على أنفسهمم تَزَيُّداً وطمعا، ولو أنهَّم عاشوا في حدودِ ما يملِكون لاستراحوا وأراحوا..
والاكتفاء الذاتي يلزمُ الإنسان أن يعرفَ مواردَهُ جيداً، ثم يضغط شهواته ورغائِبه حتى لا تعدو به حدود ما يملك، وأن يغمضُ عينيهِ عن حياة الآخرين، فلا يحاول المقارنة المثيرة، وأن يوقنَ بأنَّ سقوطهُ رهنٌ بمدِّ يديهِ إلى هذا وذاك، وأنَّه كلما ترفَّعَ واسْتعَفَّ، ملك نفسَه، وثـبَّتَ كرامتَه، وعاش وجيهاً في الدنيا والآخرة. روى جابرُ بنُ عبد الله أن رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: [إياكم والطَّمَع فإنَّه هو الفقر، وإياكم وما يُعْتَذَرُ منه] (رواه الطبراني)
إنَّك لا تعدَم أن ترى في كلِّ مجتمعٍ أناساً يسهلُ على أنفسهم الوقوف بالأبواب، وتعليقُ الآمال بذي جاهٍ أو سلطان.. قد يرقُبونَ العطاءَ لأنَّ حُبَّهمُ للمالِ عوَّدَهُم التكفُّف، وقد ينشدون الحُظْوَةَ، أو المنصب، لأنَّ عَوَزَهُمُ النفسي زيَّنَ لهم أنَّ العِزَّةَ في المنصب الذي يملك فلانٌ أمره، فهم يَزْدَلِفونَ إليه حتى ينالوا ما يشتهون..
وإني لأعرفُ أناساً لهم ذكاءٌ وباع، يؤجرون مواهبهم إلى كلِّ من يدفعُ لهم الثمن.. وما الثمن؟ شيءٌ من حُطامِ هذه الحياة الهالكة، أو من وجاهتها الخادعة.. وقَحْطُ العقائد والأخلاق لا يجدُ بييئةً يأوي إليها، ويَسْتِقِرُّ فيها، مثل هذه النفوسِ المعْتَلَّةِ الهابطة..
لذلك لا تعجبوا إذا كان سيَّدُ الرجال محمد صلى الله عليه وسلم يأخذُ أصحابهُ بدروسِ الكرامةِ التي تقصيهم عن مواطن السوء هذه، ويغْرُسُ في لحمهم ودمهم معاني العِفَّةِ والقناعة التي تجعلُهُم ملوكاً في أنفسهم، لأنَّه ليست لهم حاجةٌ تدنيهم إلى بشر.. والمسلم، ما دام يطلبُ الدنيا ليستعينَ بها على آخِرته، ويَبتغي بها مرضاة ربِّه، فهو غيرُ مستعدٍ لأن يضحيَ في سبيلها بمروءته، أو يفقِدَ شيئاً من دينه. إنّها إن جاءته من طريق الحلالِ الطَّيبِ قبلها، وإلا رفضَها، ولم يُتْبِعْها نفسه.. وهو كذلك إذا حازها، لم يسمح لها أن تشغله عن الله. كيف، وهو إنّما رغب فيها لا لِذاتها، بل لأنها وسيلةٌ لما هو أعظم منها وأخلد؟!!
والحقُّ أنَّه في إبّان الذهول عن الله، والغفلة عن حقوقِه، تنطلِقُ قوى البشرِ لاغتنام الحياة، وانتهابِ فرصها بقوىً عارمة، ورغباتٍ عنيفة. وتكادُ معركةُ الخبز، تنسي الناسَ أنهم بشرٌ، فيهم ودائعُ من السماء.

إنَّ الجانب الحيوانيَّ هو الذي يطنُّ في آذانهم، بل إنَّ الأهدافَ التي تسعى إليها الدَّوابُ قريبةُ المرمى، قليلةُ الكُلْفَة، أما البشر فهم يُسَخِّرونَ عقولهم الذكية، ومواهبهم العليا للاستكثار من هذا الحطام، والاستئثار به دون الآخرين. وكم يطوي الليلُ والنهارُ من جراحاتٍ وضحايا ومظالم في أعقابِ هذا العراكِ الماديِّ السفيه.
ترى لو فكَّرَ الناسُ بأناة، وذكروا ربَّهم بدل نسيانه، وقَدَّروا حقَّه بدل جحْدِهم له، وفرغوا له من أفكارهم وأفئتدهم قِسْطاً يصلُهُم به، أما كان يحملُ عنهم هذا العناءَ كلَّه؟؟ إنَّه يستطيع أن يلهِمَهم رشداً يختصرُ لهم المتاعب، ويُجَنِّبَهم الجري وراءَ الأوهام. وما أكثر الذين يجرون وراءَ الأوهام الباطلةِ في الحياة، وما أكثر الذين يبذُلونَ الكثير ويَجْنونَ القليل، ولو أرادوا لكانوا أحسنَ ظنَّاً! يقول اللهُ في حديثٍ قُدسي: [يا ابن آدم ، تفرَّغْ لعبادتي أمْلأْ قلبكَ غنىً، وأملأُ يديك رزقاً، يا ابن آدم، لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً].
ومن ترهيب الناسِ عن هذه الحال ما رواه زيدُ بنُ ثابت قال: سمِعتُ رسول اللهِ صلى عليه وسلم يقول: [من كانت الدنيا همَّه فرَّقَ اللهُ عليهِ أمْره، وجعل فقْرَهُ بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرَةُ نيَّتَه، جمع اللهُ عليه أمره، وجعلَ غناهُ في قلبه، وأتتهُ الدنيا وهي راغمة.] (رواه ابن ماجه)
ويقول اللهُ تعالى في طلاَّب الدنيا الذين كرَّسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: [من كان يريدُ الحياةَ الدنيا وزينَتها نوفِّ لهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسُون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ وحبطَ ما صَنَعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون]. (هود 15و16)
ويقول الله تعالى في سورةِ الإسراء، الآية 18: [من كان يريدُ العاجلةَ عجَّلْنا له فيها ما نشاءُ لمن نريدُ ثمَّ جعلنا له جهنَّم يصلاها مذموماً مدحوراً].
إنَّ هذه السَّكْرةَ الزائفةَ عن الحقِّ وتبعاتِه، هذه الدنيا التي اشْتهيتْ لذاتها، ولم يُحسَبْ فيها حسابٌ لآخرة، ولم يعرف فيها حقُّ اللهِ، هي التي لعنها الإسلام، وصبَّ عليها جام غضبِه، وحقَّرَها وحقَّرَ أصحابها معها. يقول الله تعالى: [ويومَ يعرضُ الذين كفروا على النار أذْهبتم طيِّباتكم في حياتكم الدنيا واستَعتمتم بها فاليومَ تجزوْنَ عذابَ الهونِ بما كنـتم تستكبرون في الأرضِ بغير الحقِّ وبما كنـتم تفْسُقُون]. (الأحقاف20)
أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ عظمةَ الإيمان ليست في أنَّه يجَرِّدُ أصحابه من الدنيا، وما يظنُّ ذلك إلا جاهل قاصر، عظمةُ الإيمان أنَّه يتيحُ لأصحابهِ امتلاك ما يشاءون، على أن يكون ذلك في أيديهم لا في قلوبهم، ينـزِلون عنه جملةً وتفضيلاً في ساعةِ فداء، ويحيون في ظلّهِ ما عاشوا أعفَّاءَ سُمَحاء.
عن ابن عباسِ أنَّ رسولَ اللهِ دخل عليه عمر وهو على حصيرٍ قد أثَّرَ في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشاً أوثَرَ من هذا. فقال صلوات اللهِ وسلامُهُ عليه: [ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثلُ الدنيا إلاّ كراكبٍ سافرَ في يومٍ صائفٍ ، فاستظَلَّ تحت شجرةٍ ساعة ، ثم راح وتركها].