المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خزفيات فواز الدويش تصوغ النار شعرا



الدكتور ياسر منجي
02/11/2006, 01:44 PM
خزفيات " فواز الدويش " تصوغ النار شعرا
1- الشكل و المضمون في قصائد " الدويش " الخزفية :
المتتبع لأعمال الخزاف الكويتي " فواز الدويش " ( مواليد 1963 ) لابد و أن يتوقف طويلا إزاء جدلية العلاقة بين طرفي الشكل و المضمون في أعماله التي دائما ما يبثها أنفاسا من روحه الشعرية ؛ حيث أفلح " فواز " في أن ينضم إلى قافلة النخبة من الفنانين العرب القلائل الذين استطاعوا تجاوز ذلك الصراع المفتعل بين ( الشكل ) كمثير فني و ( المضمون ) كنص محمول في بنية العمل ؛ تلك الثنائية التي استغرقت غير قليل من تاريخ الصيرورة الفنية العربية ، و استنفذت طاقات العديد من الفنانين و النقاد إلى درجة الاستهلاك .
و يتضح المفهوم السابق بجلاء في سياق المقارنة بين تجربتين من تجاربه التي تركت صدى محمودا في محيط المشتغلين بفن الخزف العربي ؛ و هما التجربتان اللتان يروق لي شخصيا أن أبتدع لهما مصطلحين خاصين بهما ، هما : تجربة " الحضور المنفلت للآنية " و تجربة " المعمار الخزفي البيئي " .
و إطلاقي لهذين المصطلحين على تلكما التجربتين لم ينبع من فراغ ؛ و إنما بررته التجربة الذاتية للفنان " فواز " سواء على مستوى الصياغة الفنية أو مستوى الطرح المفهومي .
و يطيب لي هنا أن أستعرض عددا من مفردات التجربة الأولى – الحضور المنفلت للآنية – ليتضح بجلاء أن استخدام " فواز " للشكل التقليدي للإناء الخزفي ( القالب الأزلي إبداع الخزافين على مستوى العالم و المعبر الشرعي عن فن الخزف ) يتجاوز فكرة الحضور التقليدي للآنية بوصفها عمل فني يحيل إلى أداة من أدوات الاستعمال اليومي تطمح إلى أن تبدو بشكل مغاير للمألوف لكي تنتمي إلى زمرة المعروضات المتحفية ؛ حيث يتخطى " فواز " هذه النمطية منفلتا من ( حتمية الإناء ) و فارضا عليه فلسفة أخرى تكسبه ( حضورا منفلتا ) من قبضة الشكل التقليدي المتوقع ، و هو ما يتضح في أحد الأعمال التي أتى فيها الإناء مشرعا لجناحين متجهين لأعلى – و برغم كونهما تعبيرا شكليا عن كسرات خشبية من أبواب كويتية تراثية إلا أنهما يجبران المتلقي على استشراف الرفرفة في جسد الإناء الرشيق

، الذي أكسبته الألوان الفاتحة خفة تتناسب مع طموحه الخطي لأعلى مما يكرس لفعل الطيران بقوة .
و كأن " فواز " لا يكتفي بعمل واحد لطرح رؤيته المغايرة للإناء ؛ فإذا ( بالحضور المنفلت ) يعاود الإطلال من خلال نفس البنية الرشيقة المتطاولة للإناء و لكن – و للغرابة – يتمكن " فواز " بأقل القليل من الإضافات البنائية - المتمثلة في تعريج الرقبة و الذراعين القصيرين – من تحويل الإناء إلى إرهاصة بقلب بشري تتفرع منه شرايين الحياة ، التي بدلا من أن تمد روافد الدماء لجسد ذي أوصال ، إذا بها ترفد أوراقا و أغصانا أتت على شكل ملامس سطحية و لونية على جسد الإناء .


و كأنما يتحدى " فواز " نفسه في ( ماراثون ) لطرح أكبر ما يمكن من تجليات ( الحضور المنفلت ) للآنية فإذا به يمعن في تحميل الإناء بالحد الأقصى من تنويعات الملمس السطحي ؛ فيأتي السطح مدموغا تارة بشروخ دقيقة منتزعة من حوائط تراثية صافحتها شمس الخليج العاتية و تارة متعرجا متغضنا من أثر العناق الحميم لكف الفنان للإناء على دولابه الدائر ، و تارة ملتاعا بحروق دخانية ناتجة عن وشوشات النار و الدخان لكيمياء اللون الخزفي ؛ فإذا بنا لا ندري على وجه الدقة هل نتجت الخطوط البنية السائلة من أعلى الإناء عن دموع مكبوتة تشرق بها الآنية الملتاعة ، أم هو نسغ اللون و قد فاضت به أحشاء الآنية .
ثم يباغتنا " فواز " بتحوله و تنقله الدائم و المستمر بين ضفاف التجارب و شطوط التنوع ؛ فتتجلى تجربة " المعمار الخزفي البيئي " بثقلها الحداثي ، طارحة عديدا من الأسئلة على الذهنية التقليدية التي لا تعترف بشيء سوى ما اعتادته من ( نسخ مكررة ) من خزفيات لا تعرف للمغامرة طعما .
و أول ما يقرع به " فواز " ذائقتنا البصرية يأتي في صورة تركيب في الفراغ لعمل خزفي مجزأ – و كأنه بذلك يحرضنا ضمنيا على ممارسة مغامرة التبديل و التنويع في صف و ترتيب أجزاء العمل – و هو عمل يتكئ على معمار النبات و مستلهما لتجزيعات الجسد الخشبي السامق لجذوع النخيل العربي و أشجار تضرب بجذور في رحم الصحراء ، و كما أتى استخدامه لفكرة التوشية و التوشيح الزخرفي العربي ممثلا في توزيعه لمفردات من ورق الأشجار الخزفية على سطح الوجه الدائري لمنصف العمل – مكرسا بذلك لفكرة الزهرة المتفتحة دون إيغال في التفصيل أو مباشرة في الطرح – إذا به يفاجئنا ببيئة نباتية حقيقية ممثلة في كم من أوراق الشجر الحقيقية التي افترشت أرضية العمل محيطة به ، و كأنه بذلك


يعاود تذكيرنا بكون الخامتين – الخزف و ورق الشجر – من أصل واحد يضرب بسلسال النسب إلى رحم الأرض .



ثم إذا به يستدعي فكرتي : ( التتابع الزمني ) و ( الفوضى في مقابل النظام ) في عمل معماري شكلا و مضمونا ؛ حيث اعتمد له شكلية البناء بمصفوفات القوالب الطينية – مفردات المعمار العربي التقليدي – كما أتى المضمون حاملا لفكرة الهدم نقيض البناء . و إذا به يمعن في تنويع البناء الخزفي عن طريق تعليقه لكتلة سوداء كروية الشكل – تستدعي مفهوم القذيفة – عن طريق خيط شفاف من النايلون لا يكاد يبين فلا نملك إلا أن نندهش بالشكل المباغت لكتلة ثقيلة طافية في الفراغ البنائي للعمل .
و يتجلى فهم " فواز " العميق لفكرة عمله من خلال قيامه بإعادة تشكيل القوالب البنائية للعمل في حالة ارتطام الكتلة الداكنة بها ، لنلاحظ أثر الارتطام متمثلا في اعوجاج السطح العلوي لها ، فضلا عن تهشم البعض و تناثره ، و أيضا تلونها من أثر الحريق .


2- خزفيات " فواز " بين وشي " السدو " و صرير خشب كويتي قديم :
و لا يقتصر " فواز " – شأن كثيرين من فناني النمط الواحد – على معين محدد يستمد منه روافد إبداعه الخزفي ؛ حيث نراه متنقلا كيعسوب النحل بين مناهل الفكر الفني قديمها و حديثها ، فيباغتنا بطيات حنون من أنسجة " السدو " الكويتي التراثية بكامل ملمسها النسيجي السطحي و ثراء ألوانها الضاربة في أفق سلم النغمات الحمراء و البنية المعانقة لوحدات راعشة راقصة من الأزرق الكامد و الأبيض الصداح ، فإذا بنا نحار بين خيارين كلاهما حلو : أنعانق بأعيننا أنشودة التمكن الحرفي في العمل الخزفي ؟ أم نتلمس بأيدينا عتاقة النسيج التراثي الحامل لمنظومة ثقافية كويتية ؟ .
ثم يستدعي نسقا ثقافيا آخر يتمثل في روائع الخشب الكويتي التقليدي الخاصة بالأبواب القديمة – غير مكتف باستعراض قدرته التقنية على محاكاة تفاصيل الخشب بأسلوب تصويري منمق – حيث يمعن في التفلسف مازجا العبق القديم لأخشاب الماضي بانكفاءة درامية لجرة خزفية قابعة أمام الباب الخزفي فيلتبس الأمر على باصرة المتلقي ، غير مدرك للحد الفاصل بين ما هو خزفي و بين ما هو خشبي في الشكلين المتعانقين في العمل الواحد .
.
فحقيق إذن أن تتبدى تجربة الفنان " فواز الدويش " مفعمة حتى النخاع بشاعرية تجد متنفسا لها بين الحين و الآخر في خواطره التي يضمنها كتالوجات معارضه ... و حقيق أن تصاغ إبداعاته الخزفية على نحو ما يصاغ به القريض العربي الصريح النسب ... و حقيق لخزفياته و هي تنضج على نيران وئيدة أن تصوغ ألسنة اللهيب شعرا .

د. ياسر منجي
مدرس بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة .
ناقد فني و أدبي و عضو الجمعية العمومية للفرع
المصري لمنظمة الأيكا AICA العالمية لنقاد الفن
التشكيلي Lucifer_yass@yahoo.com
http://altculture.blogspot.com
للاطلاع على السيرة الذاتية للفنان " فواز " و مشاهدة أعماله : http://www.kuwait-arts.org/CV-A/f-dweesh.htm