المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( ميت على المشاع ) من القصص الأردي



إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 09:29 AM
من القصص الأردي

ميت علي المشاع
كرشن تشندر
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم
عندما دخلت " بهكوتى " حجرة زوجها " بهاركو" حوالي الساعة الرابعة والنصف عصرا لتقدم له الشاي وجدته ميتا على السرير(ملق على السرير) وقد فارق الحياة،يبدو أنه مات أثناء قيلولته بعد تناول الغداء في الوقت الذي كانت فيه زوجته " بهكوتى " داخل حجرتها مشغولة في خياطة بلوزتها على ماكينة الخياطة، كان " بهاركو" مريضا بالقلب منذ فترة، ومنذ ذلك الحين يرى الأطباء أن حالته حرجه،ومع ذلك فقد عاش بعدها في هذه الحالة سـنوات طوال حتى أن زوجته " بهكوتى" لم تكن تصدق أبدا أنه سيموت اليوم هكذا وفجأة .
كان أول شيء فكرت فيه " بهكوتى" هو أن تطلق صرخة مدوية،وتقلق (وتزعج) الحي كله ببكائها وعويلها،ولكنها تذكرت مفتاح الخزينة التي كان يحتفظ بها زوجها دائماً في جيبه،ولم يحدث أن سلمه لها أبدا.كان لـ " بهاركو " أربعة أبناء،اثنان منهما يعيشان في إنجلترا،واثنان يعيشان في بلد أفريقية،وقد أعطى من تحويشة عمره لكل ولد من أولاده الأربعة مبلغ مائتي وخمسين ألف روبية،وما تبقى معه أخذ ورحل إلى مدينة " بومباي "،وفى " بومباي " اشترى شقة بمبلغ خمسة وعشرين ألف روبية في عمارة " أوشا " التي تقع في ضاحية جديدة من ضواحي منطقة "باندر" .
واستقر فيها هو وزوجته " بهكوتى "،هذا ولم يقتنع أولاده الأربعة بما قام به والدهم،فقد كانوا يريدون أن يقوم أبوهم بتقسيم ثروته كلها عليهم،ثم يعيش بقية حياته مع أبنائه واحدا تلو الآخر،إلا أن هذا الكلام لم يعجب " بهاركو " ولا " بهكوتى "،ولهذا ساء ظن الأولاد بأبيهم،وأقنعوا أنفسهم بالمبلغ الذي حصلوا عليه،وتركوا والديهما في حالهما.
وبعد لمحات من الصراع الصامت تخلت " بهكوتى " عن فكرة الصراخ والعويل هذه،وأول شيء قامت به هو أن أخرجت مفتاح الخزينة من جيب " بهاركو " واستولت عليه،كانت يداها ترتعشا حين كانت تخرج المفتاح من جيب زوجها ،لأن " بهاركو " كان مثل زوجته كان خسيسا ومحتاطا غاية الاحتياط ،وفيما يتعلق بالفلوس فلم يكن أي منها يثق في الآخر. وللحظة تخيلت(شعرت) " بهكوتى " عندما كانت تخرج المفتاح وكأن يد " بهاركو " ستتحرك وتمتد لتصفع (لتسدد لها) صفعة قوية على وجهها جزاء تجرؤها ووقاحتها هذه.
ولكن عندما أخرجت المفتاح وظلت يد " بهاركو " بغير حراك،وعندما فتحت الخزينة بالمفتاح وعدت رزم الأوراق المالية،ولم ينهض " بهاركو " ويتقدم ليمنعها،تأكدت " بهكوتى " أن زوجها مات بالفعل،فأغلقت الخزينة وربطت المفتاح بشدة في " دكة " شلوارها، ثم همت أن تطلق صرختها،لكنها تراجعت عنها ثانية في آخر لحظة،لأنها تذكرت الخاتمين الثمينين اللامعين في يد زوجها الميت،واحد بفص أزرق ،وواحد "ايكـ انكوتهى نيلم كى تهى اور دوسريـ هيريـ كى"،قالت " بهكوتى " لنفسها، بعد قليل سيتجمع أهل الحي وسأكون مشغولة بالنحيب والعويل، في مثل هذا الهرج والفوضى والربكة لن أتمكن من ملاحظة الخاتمين في يد أصابع زوجي ،ولهذا سأخلعهما الآن ،وبسرعة خلعت " بهكوتى "الخاتمين من أصابع زوجها ووضعتهما في الخزينة ، وبعدها حلت شعرها،ورفعت يديها إلى أعلى وأطلقت صرخة مدوية،وضربت صدرها بقوة ، وأخذت تندب زوجها وتنوح عليه ، وعلى الفور فُتحت أبواب الشقق المجاورة ، وهرع الناس والرجال منها إلى شقة " بهاركو " ، ولما رأت " بهكوتى " أن عددا لا بأس به من الرجال والنساء قد تجمع في الشقة جرت أمام الجميع باكية منتحبة إلي شرفة شقتها محاولة الانتحار، وبالطبع أحاط بها الموجودون ومنعوها من الانتحار0
إن الاحتفال بالأفراح والمآتم في " بومباي " لا تستغرق سوى ساعات ،حيث فقد كست وجوه الناس مسحة من الحزن والدهشة والعجب لدقائق،بعدها تدفق الناس لفترة على الشقة لتقديم واجب العزاء،بينما كانت " بهكوتى " تجلس علي البلاط " الموزايكو " الفاخر نصف ممددة وهي تنوح وتندب ، قام الحاضرون بوضع جثة " بهاركو " ممددة علي البلاط ،وألقوا عليها بمفرش بردا ؟؟؟؟ كبير ثم غادروا المكان وهم يتمتمون بكلمات تعبر عن الحزن والألم والأسف ، كان الظن ، بل كان من المؤكد أن أقارب " بهكوتي " وأقارب " بهاركو " سيصلون إلى المكان بعد عدة ساعات ، وسوف يقومون بما يلزم لإيصال الجثة إلي مثواها الأخير ، وبناءً علي هذا اليقين غادر الناس المكان عائدين إلي شققهم ، وماذا كان في استطاعتهم أن يفعلوه غير هذا ، إن حياة الشقق تكون هكذا ، حيث لا علاقة لأحد بأحد ، ثم إن هذه ضاحية جديدة ، حيث لا يعرف أحد أحداً ، ولهذا لا يفعل أحد شيئا سوى تقديم المواساة الظاهرية . " ماذا يمكن أن يفعل غير خدش السطح الخارجي للمواساة الإنسانية " .
ومع ذلك فقد كان هناك بعض الناس الذين أصابهم القلق حقيقة ومنهم أنا ، لأن جثة " بهاركو" في الحجرة التي تقع فوق حجرة الطعام في شقتي مباشرة ، وكنت أشعر عندما أتناول الطعام في هذه الحجرة وكأنني آكل وأنا أحمل فوق كتفي جثة ، لكنني كنت قلقاً لسبب آخر أيضا ، وهو أنني انتقلت إلي " بومباي " حديثا ، وإلا فإن كل شئ ممكن في حياة الشقق في " بومباي " ، فقد كان حمام الشقة المجاورة للشقة التي تقع فوق شقتي يقع فوق حجرة نومي مباشرة ، وكثيراً ما كنت استيقظ من نومي علي صوت " السيفون " المفاجئ في الشقة العلوية فأشعر عندها وكأن أحداً يقض حاجته فوق رأسي ، وبالطبع لا يحق لي أن أشكو من هذا الأمر،ذلك لأن حمامي لا بد أنه يقع هو الآخر فوق حجرة نوم أحد آخر ، ولهذا ينبغي أن أكون معتاداً علي هذه الأمور ، أما الآن فإن هناك جثة ترقد فوق حجرة طعامي ، فليكن ، وأنا مالي ، سيأتي أقارب " بهاركو " ويقومون باللازم تجاهها ، وإلي أن يحضر هؤلاء لماذا لا أفتح الثلاجة وأتناول حبتي " مانجو " باردتين ، إنني أشعر بجوع شديد ، وقد لاحظت أنني كلما سمعت بخبر موت أحد شعرت بجوع شديد ، ربما يدل هذا علي رغبتي في البقاء حياً ، والتي تظهر في شكل الإحساس بالجوع الشديد ، ربما ، علي أية حال تأملت كثيراً وأنا آكل " المانجو " في عادتي هذه.
وممن أصابهم القلق غيري كان الصيدلي " مكن بهائي " ، وذلك لأن باب شقته كان في مقابل باب شقة " بهاركو " تماماً ، وطبعاً الباب مفتوح دائماً للدخول والخروج ، وكانت زوجته وأطفاله يستطيعون رؤية جثة " بهاركو " وهي ممددة علي أرضية حجرة السفرة علي بعد خطوات قليلة منهم ، واتفق أن انحدر الرداء قليلاً عن جثة " بهاركو" فانكشف شعر ه الأشعث، وشحمة إحدى أذنيه ، فخيمت علي أطفاله سكتة عجيبة لرؤية هذا المنظر ، كما أصابت زوجته نوبة من القيء ، فالجثة تمثل تذكيراً مستمراً للموت ، ومن ذلك الذي يحب هذا التذكير الدائم به ، لهذا كلما تم التخلص من الجثة سريعاً كلما كان ذلك أفضل .
وفي حوالي الساعة السابعة مساءً حضر أحد أخوال " بهكوتي " ، كان خالها هذا بوجهه المصفر يشبه حبة الجوافة ، وكان هو الآخر مريضاً بالقلب ، فلم يستطع البقاء كثيراً عند الجثة ، ولهذا قدّم واجب العزاء لـ " بهكوتي" ثم أخذ منها عناوين أولادها ، ووعد بأن يرسل إليهم تلغرافياً ، ويتصل بأقارب " بهاركو" في " أحمد آباد " ، ثم ترك أحد رجاله عند " بهكوتي " ، وغادر المكان عائداً إلي حيث جاء ، واعتقدنا نحن أنه ذهب ليتدبر أمر تكفين الميت وتجهيزه ، ولكن عندما دقت الساعة العاشرة ليلاً ولم يعد خال " بهكوتي " هذا ثانية ، سألنا عنه الرجل الذي تركه في الشقة ، والذي كان يجلس بالقرب من الجثة ، فهز رأسه في أسف قائلاً : لا أعرف شيئاً عن أمر الميت ، لقد أجلسني العمدة هنا قائلاً : إنني سأجلس هكذا الليل بطوله ، حتى إذا جاء أحد أقارب المتوفى كشفت له عن وجهه ليراه ، ثم أعيد تغطيته ثانية ، وقد أعطاني مقابل هذا عشرة روبيات ، وسوف أذهب من هنا في السادسة صباحاً .
سأله السيد "مكن" : وهل ستبقي الجثة هكذا في العمارة طول الليل ؟.
فأجاب الرجل بغضب : لا أعرف ، وهل أنا من أقارب الميت ؟ إنني أتقاضي عن الليلة الواحدة عشرة روبيات ، وفي المقابل من يأتي للعزاء أريه وجه الميت ، إذا كنت تريد رؤيته فتفضل ، ولا داعي للكلام الفارغ .
وذهب الرجل في السادسة صباحاً ، وقد حاولنا كثيراً إبقاءه ، لكنه لم يوافق ، سألناه عن عنوان خال " بهكوتي " فلم يعطنا إياه ، وقال : لا أعرف ، لقد اتصل العمدة في الدكان وطلبني ، وعليّ أن أذهب الآن .
سألته : تذهب إلي أين ؟
قال : إلي ميت آخر .
علي أية حال مضي الليل كيفما اتفق ، ولكن من الصعب جداً أن يمضي النهار أيضاً هكذا ، فالجو صيف ، وإذا لم يتم التصرف بسرعة في موضوع الجثة هذا فسوف تتعفن ، ولهذا عندما دقت الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ، ولم يأتي أحد من أقارب " بهكوتي " أو " بهاركو " لتدبر أمر الميت ، سرى القلق إلي نفوسنا جميعاً ، وتجمع سكان العمارة أمام شقة " بهاركو " .
قالت " بهكوتي " : إن خالها لم يعد منذ الليل ، فأخذنا منها رقم تليفونه واتصلنا به ، فعرفنا أنه متوعك قليلاً ، وأنه لن يستطيع الحضور ، كما لن يستطيع ولدا " بهكوتي " اللذان يعيشان في إنجلترا الحضور كذلك ، وليس هناك أمل في حضور أحد من أقارب الزوج من " احمد آباد " ، فقد كان بينهم خلاف حول أمور مادية كما قالت " بهكوتي " .
في هذا الصباح اكتشف سكان العمارة أن عليهم هم أن يتدبروا أمر هذا الميت ، ورغم أن السكان كانوا في حالة من القلق من البداية ، إلا أن موجة من الاطمئنان سرت بينهم فجأة ، وترك كل منهم عمله وانهمك في الإعداد لأمر الميت ، فالمسكينة " بهكوتي " امرأة،لا تعرف شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن يسألها عن شيء ، فلقد فقدت زوجها ، وتورمت عيناها من البكاء طيلة النهار حتى احمرت كجمرتين من نار .
ولهذا تم تشكيل لجنة لإتمام هذا العمل ، واخترت أنا سكرتيراً لها ، وتم اختيار " شرف الدين بوهره " أغني رجل في العمارة مسئولاً مالياً للجنة ، هذا بالإضافة إلي ثلاثة رجال آخرين لمعاونتنا وهم البانديت " ديارام براشر " ، وهو برهمي عجوز ذو خبرة في هذا المجال ، وقد تولي أمر عشرات الحالات مثل حالتنا هذه حتى الآن ، و " المهاشا بهولا ناتهـ " باعتبار أنه كان في بيته تليفون ، والصيدلي " مكن بهاي " باعتبار أنه أكثرُنا رغبة في الخلاص من موضوع الجثة هذا نظراً لوقوع شقته أمام شقة " بهاركو" تماماً ، أما أنا فقد اختاروني سكرتيراً لأنني كثيراً ما يتم اختياري سكرتيراً في كل لجنة ، ولأنني أمتلك ابتسامة عطوفة ترتسم دائماً علي وجهي ، ويستطيع كل عضو في أي لجنة أن يستنتج منها ما يناسبه هو ، ومن الضروري للسكرتير الناجح أن تكون لديه المقدرة علي الابتسام مثل " الموناليزا " .
لكني في موضوع تجهيز الموتى هذا لا أفقه شيئاً ، ولهذا أخبرني البانديت " ديا رام براشر " أن علينا أولاً الرجوع إلي أحد الأطباء لاستخراج شهادة طبية منه ، وإلا لن نستطيع إحراق الجثة ( ) .
سألت " بهكوتي " مراراً عن الطبيب الذي كان " بهاركو " يعالج عنده ، لكن المسكينة كانت مستغرقة في العويل والبكاء فلم تستطيع أن تخبرني بشيء يمكن الاعتماد عليه ، ولم أعرف منها سوي أن المرحوم كان قد ترك العلاج قبل وفاته بعدة أيام ، وقبل ذلك كان يعالج عند الدكتور " شاباني "
ركبنا سيارة " شرف الدين برهره " ، واتجهنا إلي عيادة الدكتور " شاباني " الذي ما أن سمع اسم " بهاركو " حتى ثار غاضباً ، وقال : لن أصدر شهادة طبية له أبداً ، إنه لم يسدد لي فاتورة علاج ثلاثة أشهر ، مائتين وخمسين روبية .
حاول السيد " شرف الدين بوهره " طمأنته قائلاً: ستأخذ فلوسك كاملة ، كان المرحوم رجلاً غنياً ، الآن سنأخذ الفلوس من زوجة المرحوم ، يعني أرملته ، وسنعطيك إياها .
· أولاً فلوس الثلاثة أشهر ثم نتكلم في موضوع الشهادة الطبية .
ورجعنا في السيارة ، ودخلت إلي السيدة " بهكوتي " ، واستفسرت منها عن الموضوع ، فأخذت المسكينة تئن باكية وتقول : آه ، إني أرملة فقيرة ، ومع ذلك فإن الناس يريدون سرقتي ، أنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر ، ويا ويلتي ، لقد تحطمت حياتي ، ومع ذلك فإن الناس يطلبون مني فلوساً .
وظلت لنصف ساعة هكذا منحنية علي أرضية الحجرة تولول وتنوح ، لكنها لم تخرج مليماً واحداً من الخزينة ، فاضطر سكان العمارة إلي دفع مساهمات من جيوبهم ، ودفعوا مستحقات الدكتور " شاباني " ، ثم اصطحبوه معهم إلي شقة " بهاركو " حيث عاين الجثة ثم قال : لا شك أن المرحوم مات بالسكتة القلبية ، وسأكتب شهادة طبية بهذا .
سعدت كثيراً لهذا ، وكاد "مكن بهاي " يطير فرحاً ، لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " عبس بوجهه قائلاً : هذه الشهادة لن تنفع .
فقال له البانديت " ديا رام براشر " : لماذا لن تنفع ؟
وقد عرفت فيما بعد أن البانديت " ديا رام براشر " هندوسي " محافظ " ، والمهاشا " بهولا ناتهـ " ينتمي إلي طائفة " آرية سماج " ، وبينهما خلاف دائم ، لكنه غير معلن .
قال المهاشا " بهولا ناتهـ " : عندنا هنا في بومباي إذا كتب في الشهادة سكتة قلبية فإنهم لا يسمحون بإحراق الجثة قبل إحالتها إلي الطب الشرعي لتشريحها .
فقال البانديت " ديا رام براشر " في دهشة : لكن ليس عندنا مثل هذا في " سركودها " .
ردّ عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " قائلاً : هذه ليست " سركودها " ، هذه " بومباي " .
فقال " شرف الدين بوهره " : كلامك صحيح يا سيد مهاشا ، كلامك صحيح ، هذا هو قانون " بومباي " .
عندئذٍ قال الدكتور " شاباني " : هذا يعني أن عليّ أن أكتب شهادة مزورة .
فسألته : لماذا مزورة ، لقد مات " بهاركو " ، وجثته أمامك .
فقال الدكتور " شاباني " : ولكن هكذا سيكون عليّ أن أكتب شيئاً غير صحيحاً حتى لا تحال الجثة إلي الطبيب الشرعي .
فقال السيد "مكن بهائي " : هذا صحيح .
عندئذٍ صرح الدكتور" شاباني " بقوله : إذاً سيكون لهذا رسوم أخرى،خمس عشرة روبية .
دخلت إلي السيدة " بهكوتي " وطلبت منها خمس عشرة روبية ، ولكنها لم تفتح فمها ، وإنما ظلّت تئن وتشهق وتبكي ، وبالطبع لم تعطني الخمس عشرة روبية ، فدفعتها من جيبي حتى كتب الدكتور" شاباني " الشهادة الطبية ، وعندئذٍ سألني المهاشا " بهولا ناتهـ " : أين ستحرق الجثة .
قال متسائلاً : أعرف أنه في المحرقة ، ولكن أية محرقة ، إن أفضل محرقة هي التي تقع في شارع " ميرين درايف " ، وكبراء المدينة وأغنياؤها يحرقون موتاهم هناك ، فماذا تنوي " بهكوتي " أن تفعل ؟
وعندما سألنا " بهكوتي " في هذا الأمر لم تزد علي أن رفعت صوتها بالبكاء ، ثم قالت : آه ، إذا كانت حياتي قد تحطمت فما الفرق بين الأحسن والأسوأ ، احرقوه أينما تريدون ، وإن استطعتم احرقوني أنا أيضاً معه .
واتصل المهاشا " بهولا ناتهـ " بمحرقة " ميرين درايف " فعرف أن المحرقة مكتملة العدد ، وأنها محجوزة لحرق جثث أخرى حتى الليل ، وليس بها مكان واحد خال ، وبالتالي لم يكن أمامنا إلا الذهاب إلي محرقة " سانتا كروز " ، فركبنا سيارة " شرف الدين بوهره " واتجهنا إليها ، وهناك علمنا أن محرقة " سانتا كروز " هي الأخرى مكتملة ، وليس بها مكان واحد خال . عندئذٍ قال " شرف الدين بوهره " في ملل شديد : أنتم أيضاً أيها الهندوس لديكم أشياء عجيبة .
كان كل أعضاء اللجنة من الهندوس ما عدا " شرف الدين بوهره " هذا ، ولهذا غضبوا بشدة مما قاله ، لكنهم تمالكوا أنفسهم نظراً لأننا نجلس في سيارته .
وعدنا من محرقة "سانتا كروز" إلي محرقة " باندره " التي تقع في محيط محطة السكة الحديد ، وكان علينا لكي نصل إليها أن نعبر في طريقنا " مزلقانين " لا يفتح القائمون عليهما أبوابهما إلا برغبتهم ، وغالباً ما تبقي هذه الأبواب مغلقة ، ولهذا استغرقت المسافة من محرقة " سانتا كروز " إلي محرقة " بانده " حوالي الساعة ، وبصعوبة شديدة وافق المحرقجي " القائم علي أمر المحرقة " علي قبول جثتنا ، حيث قال في البداية: المحرقة مزدحمة جداً اليوم .
فرجوته قائلاً : أرجو أن تقبل جثتنا بأي شكل من الأشكال ، فإنها تتعفن منذ الليل .
قال المحرقجي وهو ينظر إليّ بنظرات ذات معنى : أين المكان الذي أضع فيه جثتكم ، ألا تري .
عندئذٍ أخذه البانديت " ديا رام براشر " في جانب بعيداً ، وظل يحدثه في صوت خافت لعدة دقائق حتى وافق في النهاية ، فعادا إلينا ، وكان وجه البانديت " ديا رام براشر " يتهلل فرحاً بنجاحه في إقناع المحرقجي فقال : انتهي الأمر .
هزّ المحرقجي رأسه قائلاً : هاتوا جثتكم ، ولكن بعد ساعتين مفهوم ، إذا جئتم بها قبل ذلك فلن أسمح بدخولها أبداً .
وعندما انتهينا من هذا الاتفاق جلسنا في سيارة " شرف الدين بوهره " . قال لنا البانديت " ديا رام براشر " إن المحرقجي سيرسل النقالة الخاصة بالمحرقة لحمل الجثة إليها،فسألته: كيف هذه النقالة .
· نقالة ، لها أربع عجلات ، يحملون عليها الموتى .
سألته : إننا نحمل الموتى علي أكتافنا ،أليس كذلك ؟
عندئذٍ قال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو ينظر إلي البانديت " ديا رام براشر " في تفاخر : ربما كان هذا في" سركودها " ، ولكن ليس في " بومباي " .
اغتاظ البانديت " ديا رام براشر " فقال : ما أعجب مدينتكم " بومباي " هذه ،فلا طقوس دينية صحيحة،ولا احترام للبشر ، حتى المحرقجي لم يوافق علي إرسال النقالة إلا بعد أن أخذ أربع روبيات .
تغير وجه المهاشا " بهولا ناتهـ " مما سمع ، فكأن البانديت " ديا رام براشر " بإعطائه المحرقجي أربع روبيات صفعه علي وجهه ، ولكنه لابد أن ينتقم لنفسه ، انتظر قليلاً .
وعدنا جميعاً إلي العمارة ، كانت الساعة عندئذٍ تدق الواحدة ظهراً ، وقد فاحت رائحة الجثة في العمارة كلها كأنها رائحة السمك مما أزعج السكان جميعاً من رجال ونساء وأطفال ، فخرجوا من شققهم ، ووقفوا مجموعات حول العمارة في قلق بالغ ، وما أن وصلت سيارتنا إلي العمارة حتى هرع الجميع إليها ينظرون إلينا بنظرات مستوحشة قائلين:
· ماذا حدث ؟ .
· متي سيغادر المتوفى المكان ؟ .
· إن بطنه تنتفخ .
· أمر عجيب يا أخي ،أنا أعرف أنه حين لا يأتي أحد من أقارب المتوفى فإننا ببساطة ينبغي أن نتصل بالبوليس ونسلمه إليهم .
· ليس البوليس ، وإنما البلدية هي التي يجب أن تتسلمه ، شيء عجيب ، واحد يموت ، ويتعذب الآخرون .
كان الجميع في حيرة واضطرب ، ويلوحون بأيدهم وهم يتحدثون ، كان يبدو أنهم في غضب شديد ، ولكن حين أخبرناهم بحجز المحرقة ، وتدبير أمر إحراق الجثة تنفسوا الصعداء .
قال البانديت " ديا رام براشر " : وإلي أن تصل النقالة علينا أن نجهز باقي الأشياء المطلوبة .
سألته باضطراب : وماذا بقي الآن ، عندما تصل النقالة نضع الميت عليها ونأخذه إلي المحرقة ونحرقه . نظر إليّ المهاشا " بهولا ناتهـ" مبتسماً كأنه يضحك من حماقة طفل صغير ، وقال بأسلوب متعاطف : يا بني ، أين نحن من موضوع الحرق هذا ، لقد بقي الكثير علي موضوع الإحراق هذا .
ثم قال البانديت " ديا رام براشر " مضيفاً إلي معلوماتي بحب شديد :
أولاً ستأتي الورود من أجل الجنازة .
وقال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو يغيظني : ثم نأتي بالزيوت من أجل الحرق .
ثم قال البانديت " براشر " وهو يضع يده كتفي : نحتاج إلي الورود ، والحلوى الخاصة بهذا الأمر ، واللوز ، والبلح المجفف ، وبعض الفلوس .
· لماذا كل هذا ، ولماذا النقود .
· عندما تسير الجنازة سننثر عليها بعض النقود .
· ونحتاج إلي قلة من الفخار ، حيث ستكسر أمام المحرقة .
قلت لهم : ومن أين آتي بنقود لكل هذه الأشياء ، لقد أسهمت كل شقة بمبلغ عشر روبيات . حدق الجميع في وجهي ؟؟؟؟ صافية وكأن لسان حالهم يقول بأسلوب يملؤه الأمل : لقد جمعت النقود منا مرة ، حاول ثانية وستري .
فقلت لا بأس سأتدبر الأمر ، وأخذت نفساً عميقاً ، ثم دخلت شقة " بهاركو " كانت هناك رائحة نتنة بالداخل ، وكانت الجثة ملقاة علي أرضية حجرة الجلوس وحدها ، وبينما أحاطت النسوة بزوجة " بهاركو " في الحجرة محاولين إقناعها بأن تشرب اللبن ، وكانت هي ترفض شاهقة : لا ، لن أشرب ، سأموت ، ولكن لن أشرب اللبن ، لن أشربه أبداً .
فقالت العمة " كوهالويف " لزوجة البانديت " ديا رام براشر " : المسكينة لم يدخل جوفها شيء منذ الأمس .
وهكذا أمسكت السيدتان بساقي المسكينة " بهكوتي " ، وأمسكت أخرى بذراعها ، ورابعة بالذراع الآخر ، ثم تقدمت خامسة ووضعت كوب اللبن علي فم " بهكوتي " ، كانت المسكينة تقول : لا ، لا ، وفي نفس الوقت تشرب اللبن ، وأفرغت في جوفها كوباً يزن ما يقرب من الكيلو ، كوباً من أكواب " اللسي " ( ) البنجابي ، أفرغته في لحظات .
وحين دخلت عليهن ، وذكرت لهن الأشياء المطلوبة التي ينبغي أن نشتريها من السوق والتي نحتاج إلي نقود إلي شرائها أخذت " بهكوتي" تبكي بشدة وهي تقول : آه ، لقد ضعت ، تحطمت حياتي ، ليس لي أحد هنا ، لو كان أولادي هنا لتدبروا الأمر ، أين اذهب أنا الآن ، ممن اطلب نقوداً ، لماذا لم يأخذني معه هذا الذي مات .
أحنيت رأسي وخرجت من الشقة ، ورآني في هذه الحالة من الحزن رجل جاء علي ما أظن من عمارة أخرى بغرض تقديم واجب العزاء ، فتقدم مني وقد أرخي شفتيه حزناً ، وعقد بين يديه ، محاولاً استحضار حشرجة في صوته ودمعة في عينيه وقال : حزنت كثيراً لوفاة أبيك .
نهرته قائلاً : إنه ليس أبي أيها التعس ، إنه التعس " بهاركو " الذي خرب حياتي بمشاجراته وصراخه المستمر طالما كان حياً ، كان صوته كصوت من انحشر في حلقه طعام جاف ، فهمت ؟! هذا التعس لم يتركني في حالي بعد وفاته أيضاً .
وأخذت أشد شعر رأسي من شدة غضبي وثورتي ، عندئذٍ خجل الرجل وتركني ، وفي تلك الأثناء جاء " شرف الدين بوهره " فقال : لقد أسهم سكان العمارة بخمس روبيات أخرى لكل شقة ، والآن يقوم البانديت " ديا رام براشر " والمهاشا " بهولا ناتهـ " بتجهيز الأشياء الباقية ، لماذا تبدو مضطرباً هكذا .
وحتى الساعة الثالثة ظهراً كان كل شيء جاهزاً ، وصلت النقالة ذات الأربع عجلات المطاطية ، ووصلت الورود للجنازة ، ولكن نسي الجميع بعض أعواد الخيزران التي نحتاجها لتزيين الجنازة ، وعلي وجه السرعة استقل الصيدلي " مكن بهاي " سيارته وأحضر أعواد الخيزران التي ثبتناها حول النقالة من الجوانب الأربعة ، وبعد ذلك احتجنا إلي صمغ لتثبيت الورق الملون علي أعواد الخيزران ، وحين وجدنا الصمغ لم يتذكر أحد أننا نحتاج إلي حبال لتثبيت الجثة علي النقالة ، وبالفعل حدثت ربكة كبيرة ، ولكن أفضل شيء الآن هو أن كل فرد من سكان العمارة كان مكلفاً بالقيام بعمل ما ، هذا بالإضافة إلي أعضاء اللجنة طبعاً ، كل فرد يعمل بحماس شديد وبسرعة فائقة ، ولو أن الجميع عمل بمثل هذا الإخلاص والحب في تنفيذ الخطط القومية للدولة لاكتملت أية خطة خمسية وتحققت في سنة واحدة بدلاً من خمسة . لقد كنا جميعاً في مشكلة عجيبة ، فالوقت يمر بسرعة ، والميت ينتفخ ، لهذا غسّلناه باحتياط شديد ، ربما لم يحظ أي " أمير مغولي " بغسل كهذا ، لأننا كنا خائفين للغاية من أن تنفجر بطن الميت والتي لم تتوقف عن الانتفاخ ، وحين غسلنا الميت وبدأنا نخرج به من الشقة أطلقت " بهكوتي " صرخة مدوية ، وأخذت تهدد " بهاركو " أنها ستحرق نفسها معه ( ) إن خرج من هنا ، وبالطبع لم يتأثر الميت بشيء . كانت أكثر النساء يبكين بغير دموع ، أما اللاتي كانت في عيونهن دموع فإنها كانت بسبب الرائحة النتنة .
حمل رجلان الميت من ناحية الرأس ، ورجلان من ناحية القدمين ، ورجلان من الوسط وبدأنا نخرج من الشقة خطوة خطوة ، وعندئذٍ قال البانديت " ديا رام براشر " : اخرجوا الجثة من ناحية الرأس أولاً .
فرد عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " : كلا من ناحية القدمين .
إن الميت يخرج من البيت دائماً باتجاه الرأس ، لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " قال في غلظة : خطأ، بالتأكيد خطأ ، الأقدام أولاً ، ثم استشهد البانديت " ديا رام براشر " بجملة من كتاب " شاستر " المقدس قائلاً : روح الرجل تكون في رأسه.
فقال المهاشا " بهولا ناتهـ " : لكنه سيضطر للمشي علي قدميه حتى يصل إلي الجنة . صرخ البانديت " ديا رام براشر "في وجه المهاشا قائلاً :هل تعلمني أنت ،لقد أصبح عمري خمساً وسبعون عاماً. وكم أحرقت جثث من مشارب مختلفة ومن كل مكان ،أقصد من أماكن مختلفة،فماذا يمكن أن تعلمني أنت،إنني أقول إن الميت سيخرج من هذا البيت برأسه،يعني سيخرج برأسه. وعليه ضرب المهاشا " بهولا ناتهـ " يداً بيد وقال:كلا ،سيخرج من ناحية قدميه. أأأأأأأأ
عندئذٍ تدخل "شرف الدين بوهره" قائلاً :لماذا تتشاجرا ،لنقترع علي هذا الأمر،وبعد بحث وجدال شديدين تقرر أن يخرج الميت من حجرة الجلوس بقدميه أولاً،ولكنه سيخرج من الطرقة إلي سلالم العمارة من ناحية رأسه،وبهذه الطريقة يسهل النزول به علي السلالم،ورضي الفريقان بهذا الاتفاق وخرج الميت من الشقة حتى وصل إلي السلالم ،لكن كانت هناك صعوبة شديدة في نزول السلالم،لأن سلالم عمارات بومباي لم تشيد للأموات،وإنما للأحياء فقط،ولا يستطيع أن يصعدها أو ينزل عليها سوي فرد واحد في آن واحد،بينما يحمل ستة رجال ميتنا هذا،اثنان من ناحية الرأس ،واثنان من ناحية القدمين ،واثنان من الوسط، بينما لا تسع السلالم إلا فرداً واحداً، وبشرط أن يكون حياً يمشي علي قدمين، ماذا نفعل الآن ؟.
قال السيد "برشاد ": هذه مشكلة كبيرة،أظن أن حكاية الجنازة هذه أصبحت موضة قديمة، ولهذا ينبغي الآن أن نفصل رأس الميت ورجليه وذراعيه عن جسده،ونضعها في جوال،ثم نلقي بها في البحر،هذه أكثر الطرق علمية.
قلت له: هناك كثير من الناس في بومباي يفعلون هذا،ولكن لهم اسم خاص بهم
ما هو.
القتلة .
لاذ السيد "برشاد" الطيار بالصمت بعدما سمع ردي هذا،وبطريقة أو بأخرى نزلنا بالجثة إلي أسفل العمارة،وثبتناها علي النقالة،وغطيناها برداء من حرير وزينا الجنازة بالورود،وأخذنا نتقدم بالنقالة سريعاً إلي الشارع مُشيعين الجنازة قائلين:في حفظ الإله إذا كان الجو حاراً،وليس لدينا مزيد من النقود لنثرها فوق الجنازة ،وما كان معنا من النقود بالفعل كنا ننثرها بمليء راحتنا من حين لآخر علي الجنازة في الطريق،وقد تجمع عدد كبير من الصبية حول الجنازة لجمع النقود،فيتزاحم عشر صبية علي شلن،وقد جرح عدد كبير منهم،أما الذي ثبت وكافح فقد استطاع الحصول علي ما يكفيه لدخول السينما ومشاهدة فلم " المتوحش " لشمي كا بوذ هذا في منتصف الطريق .
في الطريق كان أحد المزلقانات مغلقاً،واضطررنا إلي التوقف والانتظار حوالي ربع الساعة حتى تم فتح بوابة المزلقان بعد أن عمرّنا جيب حارس المزلقان،وتقدمت الجنازة حتى وصلت أمام المحرقة،وهناك توقفنا وأحضرنا القلة الجديدة المليئة بالماء،فنثرنا الماء حول الخبازة من الجهات الأربع،ثم كسرنا القلة،ودفعنا بالنقالة إلي داخل المحرقة .
كان في المحرقة مكان لحرق ست جثث،ستة حفر نارية كبيرة بحجم الإنسان يحيط بكل منها سور حديدي،وتحتها قاعدة من الحديد أو المسلح،حتى لا تتناثر الأخشاب هنا وهناك أثناء عملية الإحراق،وحتى يمكن إحراق الجثة بأقل قدر من الخشب .
سأل المهاشا " بهولا ناتهـ" القائم علي أمر المحرقة(المحرقجي) :
كم نحتاج من الأخشاب لحرق الجثة؟
عاين " المحرقجي " الجثة،وقال في لهجة شاكية: إنه بدين للغاية.
ولأن الصيدلي " مكن بهاي " كان بديناً هو الآخر،لهذا صرخ فيه قائلاً :ماذا تقصد؟
فقال " المحرقجي " بهدوء وملل: أقصد أن المتوفى بدين للغاية،إن الميت العادي يحترق بكومة واحدة من الخشب، لكن هذا الميت لن يحترق بكومة واحدة.
سألته: كم وزن كومة الخشب الواحدة.
قال " المحرقجي " :أربعمائة كيلو .
سأله السيد "براشر ": كم ثمن كومة الخشب .
اثنتان وثلاثون روبية
وضع السيد "براشر " يديه أذنيه علي قائلاً: يا إلهي، في سركودها تكفي سبع روبيات لحرق الميت.
وعندئذٍ قال المهاشا "بهولا ناتهـ " بتفاخر للسيد " براشر " : ألم أقل لك إن هذه ليست سركودها،هذه بومباي تضايق " براشر "، فجلس في ظل شجرة، (بيبل ) كانت أعداد كبيرة من النسور تجلس علي أغصانها ،ولا تزال الجثة خارج عيون المحرقة.
قلت له بصوت خافت:النقود التي معي تكاد تكفي بصعوبة لشراء كومة واحدة من الخشب .
فردّ علي المهاشا "بهولا ناتهـ " قائلاً :كومة واحدة تكفي .
عندئذٍ قال" المحرقجي " بضيق:كما تحب،سنضع الميت في كومة واحدة ونشعل فيه النار،فإذا احترق نصفه،ولم يحترق كاملاً فسنتركه كما هو.
سألته بتعجب:كيف سنتركه كما هو؟
وماذا أفعل،منذ يومين فقط جاءت عجوز فقيرة ومعها ميتها،أشعلنا فيه النار،فاحترق نصفه،ثم هطلت الأمطار فانطفأت النيران،وبقيت الجثة نصفها محترقة،والنصف الآخر غير محترقة،ولم يكن لدي العجوز نقود،أخذت المسكينة تدور هنا وهناك إلي أن جاء رجل طيب القلب مع ميته عند الليل،فدفع نقوداً للعجوز حتى يمكن إحراق ميتها أيضاً،وميتكم هذا بدين جداً.
عندئذٍ قال له " شرف الدين بوهره " منهياً هذا النقاش الحاد:
يعني أنت تريد ثمن كومتين،خذ ثمن كومتين،ولكن تضمن لنا أن الميت سيحترق تماماً .
فقال " المحرقجي " وهو يجهز ميزان الأخشاب: كيف يا سيدي،بكومتين من الأخشاب سيحترق هذا الميت احتراقاً يجعل عظامه كمثل الكحل.
وفي تمام السادسة مساءاً عندما عدنا من المحرقة منهكين خائري القوى ،أخبرتنا نساء العمارة أنه بعد ثلاثة أيام سيعقد ما يسمي باليوم الرابع للميت ،وهو أيضاً يكلف مالاً كثيراً .
وما أن سمعت هذا الخبر حتى قدمت استقالة علي الفور من سكرتارية لجنة الموتى هذه .
بسم الله الرحمن الرحيم

إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 09:29 AM
من القصص الأردي

ميت علي المشاع
كرشن تشندر
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم
عندما دخلت " بهكوتى " حجرة زوجها " بهاركو" حوالي الساعة الرابعة والنصف عصرا لتقدم له الشاي وجدته ميتا على السرير(ملق على السرير) وقد فارق الحياة،يبدو أنه مات أثناء قيلولته بعد تناول الغداء في الوقت الذي كانت فيه زوجته " بهكوتى " داخل حجرتها مشغولة في خياطة بلوزتها على ماكينة الخياطة، كان " بهاركو" مريضا بالقلب منذ فترة، ومنذ ذلك الحين يرى الأطباء أن حالته حرجه،ومع ذلك فقد عاش بعدها في هذه الحالة سـنوات طوال حتى أن زوجته " بهكوتى" لم تكن تصدق أبدا أنه سيموت اليوم هكذا وفجأة .
كان أول شيء فكرت فيه " بهكوتى" هو أن تطلق صرخة مدوية،وتقلق (وتزعج) الحي كله ببكائها وعويلها،ولكنها تذكرت مفتاح الخزينة التي كان يحتفظ بها زوجها دائماً في جيبه،ولم يحدث أن سلمه لها أبدا.كان لـ " بهاركو " أربعة أبناء،اثنان منهما يعيشان في إنجلترا،واثنان يعيشان في بلد أفريقية،وقد أعطى من تحويشة عمره لكل ولد من أولاده الأربعة مبلغ مائتي وخمسين ألف روبية،وما تبقى معه أخذ ورحل إلى مدينة " بومباي "،وفى " بومباي " اشترى شقة بمبلغ خمسة وعشرين ألف روبية في عمارة " أوشا " التي تقع في ضاحية جديدة من ضواحي منطقة "باندر" .
واستقر فيها هو وزوجته " بهكوتى "،هذا ولم يقتنع أولاده الأربعة بما قام به والدهم،فقد كانوا يريدون أن يقوم أبوهم بتقسيم ثروته كلها عليهم،ثم يعيش بقية حياته مع أبنائه واحدا تلو الآخر،إلا أن هذا الكلام لم يعجب " بهاركو " ولا " بهكوتى "،ولهذا ساء ظن الأولاد بأبيهم،وأقنعوا أنفسهم بالمبلغ الذي حصلوا عليه،وتركوا والديهما في حالهما.
وبعد لمحات من الصراع الصامت تخلت " بهكوتى " عن فكرة الصراخ والعويل هذه،وأول شيء قامت به هو أن أخرجت مفتاح الخزينة من جيب " بهاركو " واستولت عليه،كانت يداها ترتعشا حين كانت تخرج المفتاح من جيب زوجها ،لأن " بهاركو " كان مثل زوجته كان خسيسا ومحتاطا غاية الاحتياط ،وفيما يتعلق بالفلوس فلم يكن أي منها يثق في الآخر. وللحظة تخيلت(شعرت) " بهكوتى " عندما كانت تخرج المفتاح وكأن يد " بهاركو " ستتحرك وتمتد لتصفع (لتسدد لها) صفعة قوية على وجهها جزاء تجرؤها ووقاحتها هذه.
ولكن عندما أخرجت المفتاح وظلت يد " بهاركو " بغير حراك،وعندما فتحت الخزينة بالمفتاح وعدت رزم الأوراق المالية،ولم ينهض " بهاركو " ويتقدم ليمنعها،تأكدت " بهكوتى " أن زوجها مات بالفعل،فأغلقت الخزينة وربطت المفتاح بشدة في " دكة " شلوارها، ثم همت أن تطلق صرختها،لكنها تراجعت عنها ثانية في آخر لحظة،لأنها تذكرت الخاتمين الثمينين اللامعين في يد زوجها الميت،واحد بفص أزرق ،وواحد "ايكـ انكوتهى نيلم كى تهى اور دوسريـ هيريـ كى"،قالت " بهكوتى " لنفسها، بعد قليل سيتجمع أهل الحي وسأكون مشغولة بالنحيب والعويل، في مثل هذا الهرج والفوضى والربكة لن أتمكن من ملاحظة الخاتمين في يد أصابع زوجي ،ولهذا سأخلعهما الآن ،وبسرعة خلعت " بهكوتى "الخاتمين من أصابع زوجها ووضعتهما في الخزينة ، وبعدها حلت شعرها،ورفعت يديها إلى أعلى وأطلقت صرخة مدوية،وضربت صدرها بقوة ، وأخذت تندب زوجها وتنوح عليه ، وعلى الفور فُتحت أبواب الشقق المجاورة ، وهرع الناس والرجال منها إلى شقة " بهاركو " ، ولما رأت " بهكوتى " أن عددا لا بأس به من الرجال والنساء قد تجمع في الشقة جرت أمام الجميع باكية منتحبة إلي شرفة شقتها محاولة الانتحار، وبالطبع أحاط بها الموجودون ومنعوها من الانتحار0
إن الاحتفال بالأفراح والمآتم في " بومباي " لا تستغرق سوى ساعات ،حيث فقد كست وجوه الناس مسحة من الحزن والدهشة والعجب لدقائق،بعدها تدفق الناس لفترة على الشقة لتقديم واجب العزاء،بينما كانت " بهكوتى " تجلس علي البلاط " الموزايكو " الفاخر نصف ممددة وهي تنوح وتندب ، قام الحاضرون بوضع جثة " بهاركو " ممددة علي البلاط ،وألقوا عليها بمفرش بردا ؟؟؟؟ كبير ثم غادروا المكان وهم يتمتمون بكلمات تعبر عن الحزن والألم والأسف ، كان الظن ، بل كان من المؤكد أن أقارب " بهكوتي " وأقارب " بهاركو " سيصلون إلى المكان بعد عدة ساعات ، وسوف يقومون بما يلزم لإيصال الجثة إلي مثواها الأخير ، وبناءً علي هذا اليقين غادر الناس المكان عائدين إلي شققهم ، وماذا كان في استطاعتهم أن يفعلوه غير هذا ، إن حياة الشقق تكون هكذا ، حيث لا علاقة لأحد بأحد ، ثم إن هذه ضاحية جديدة ، حيث لا يعرف أحد أحداً ، ولهذا لا يفعل أحد شيئا سوى تقديم المواساة الظاهرية . " ماذا يمكن أن يفعل غير خدش السطح الخارجي للمواساة الإنسانية " .
ومع ذلك فقد كان هناك بعض الناس الذين أصابهم القلق حقيقة ومنهم أنا ، لأن جثة " بهاركو" في الحجرة التي تقع فوق حجرة الطعام في شقتي مباشرة ، وكنت أشعر عندما أتناول الطعام في هذه الحجرة وكأنني آكل وأنا أحمل فوق كتفي جثة ، لكنني كنت قلقاً لسبب آخر أيضا ، وهو أنني انتقلت إلي " بومباي " حديثا ، وإلا فإن كل شئ ممكن في حياة الشقق في " بومباي " ، فقد كان حمام الشقة المجاورة للشقة التي تقع فوق شقتي يقع فوق حجرة نومي مباشرة ، وكثيراً ما كنت استيقظ من نومي علي صوت " السيفون " المفاجئ في الشقة العلوية فأشعر عندها وكأن أحداً يقض حاجته فوق رأسي ، وبالطبع لا يحق لي أن أشكو من هذا الأمر،ذلك لأن حمامي لا بد أنه يقع هو الآخر فوق حجرة نوم أحد آخر ، ولهذا ينبغي أن أكون معتاداً علي هذه الأمور ، أما الآن فإن هناك جثة ترقد فوق حجرة طعامي ، فليكن ، وأنا مالي ، سيأتي أقارب " بهاركو " ويقومون باللازم تجاهها ، وإلي أن يحضر هؤلاء لماذا لا أفتح الثلاجة وأتناول حبتي " مانجو " باردتين ، إنني أشعر بجوع شديد ، وقد لاحظت أنني كلما سمعت بخبر موت أحد شعرت بجوع شديد ، ربما يدل هذا علي رغبتي في البقاء حياً ، والتي تظهر في شكل الإحساس بالجوع الشديد ، ربما ، علي أية حال تأملت كثيراً وأنا آكل " المانجو " في عادتي هذه.
وممن أصابهم القلق غيري كان الصيدلي " مكن بهائي " ، وذلك لأن باب شقته كان في مقابل باب شقة " بهاركو " تماماً ، وطبعاً الباب مفتوح دائماً للدخول والخروج ، وكانت زوجته وأطفاله يستطيعون رؤية جثة " بهاركو " وهي ممددة علي أرضية حجرة السفرة علي بعد خطوات قليلة منهم ، واتفق أن انحدر الرداء قليلاً عن جثة " بهاركو" فانكشف شعر ه الأشعث، وشحمة إحدى أذنيه ، فخيمت علي أطفاله سكتة عجيبة لرؤية هذا المنظر ، كما أصابت زوجته نوبة من القيء ، فالجثة تمثل تذكيراً مستمراً للموت ، ومن ذلك الذي يحب هذا التذكير الدائم به ، لهذا كلما تم التخلص من الجثة سريعاً كلما كان ذلك أفضل .
وفي حوالي الساعة السابعة مساءً حضر أحد أخوال " بهكوتي " ، كان خالها هذا بوجهه المصفر يشبه حبة الجوافة ، وكان هو الآخر مريضاً بالقلب ، فلم يستطع البقاء كثيراً عند الجثة ، ولهذا قدّم واجب العزاء لـ " بهكوتي" ثم أخذ منها عناوين أولادها ، ووعد بأن يرسل إليهم تلغرافياً ، ويتصل بأقارب " بهاركو" في " أحمد آباد " ، ثم ترك أحد رجاله عند " بهكوتي " ، وغادر المكان عائداً إلي حيث جاء ، واعتقدنا نحن أنه ذهب ليتدبر أمر تكفين الميت وتجهيزه ، ولكن عندما دقت الساعة العاشرة ليلاً ولم يعد خال " بهكوتي " هذا ثانية ، سألنا عنه الرجل الذي تركه في الشقة ، والذي كان يجلس بالقرب من الجثة ، فهز رأسه في أسف قائلاً : لا أعرف شيئاً عن أمر الميت ، لقد أجلسني العمدة هنا قائلاً : إنني سأجلس هكذا الليل بطوله ، حتى إذا جاء أحد أقارب المتوفى كشفت له عن وجهه ليراه ، ثم أعيد تغطيته ثانية ، وقد أعطاني مقابل هذا عشرة روبيات ، وسوف أذهب من هنا في السادسة صباحاً .
سأله السيد "مكن" : وهل ستبقي الجثة هكذا في العمارة طول الليل ؟.
فأجاب الرجل بغضب : لا أعرف ، وهل أنا من أقارب الميت ؟ إنني أتقاضي عن الليلة الواحدة عشرة روبيات ، وفي المقابل من يأتي للعزاء أريه وجه الميت ، إذا كنت تريد رؤيته فتفضل ، ولا داعي للكلام الفارغ .
وذهب الرجل في السادسة صباحاً ، وقد حاولنا كثيراً إبقاءه ، لكنه لم يوافق ، سألناه عن عنوان خال " بهكوتي " فلم يعطنا إياه ، وقال : لا أعرف ، لقد اتصل العمدة في الدكان وطلبني ، وعليّ أن أذهب الآن .
سألته : تذهب إلي أين ؟
قال : إلي ميت آخر .
علي أية حال مضي الليل كيفما اتفق ، ولكن من الصعب جداً أن يمضي النهار أيضاً هكذا ، فالجو صيف ، وإذا لم يتم التصرف بسرعة في موضوع الجثة هذا فسوف تتعفن ، ولهذا عندما دقت الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ، ولم يأتي أحد من أقارب " بهكوتي " أو " بهاركو " لتدبر أمر الميت ، سرى القلق إلي نفوسنا جميعاً ، وتجمع سكان العمارة أمام شقة " بهاركو " .
قالت " بهكوتي " : إن خالها لم يعد منذ الليل ، فأخذنا منها رقم تليفونه واتصلنا به ، فعرفنا أنه متوعك قليلاً ، وأنه لن يستطيع الحضور ، كما لن يستطيع ولدا " بهكوتي " اللذان يعيشان في إنجلترا الحضور كذلك ، وليس هناك أمل في حضور أحد من أقارب الزوج من " احمد آباد " ، فقد كان بينهم خلاف حول أمور مادية كما قالت " بهكوتي " .
في هذا الصباح اكتشف سكان العمارة أن عليهم هم أن يتدبروا أمر هذا الميت ، ورغم أن السكان كانوا في حالة من القلق من البداية ، إلا أن موجة من الاطمئنان سرت بينهم فجأة ، وترك كل منهم عمله وانهمك في الإعداد لأمر الميت ، فالمسكينة " بهكوتي " امرأة،لا تعرف شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن يسألها عن شيء ، فلقد فقدت زوجها ، وتورمت عيناها من البكاء طيلة النهار حتى احمرت كجمرتين من نار .
ولهذا تم تشكيل لجنة لإتمام هذا العمل ، واخترت أنا سكرتيراً لها ، وتم اختيار " شرف الدين بوهره " أغني رجل في العمارة مسئولاً مالياً للجنة ، هذا بالإضافة إلي ثلاثة رجال آخرين لمعاونتنا وهم البانديت " ديارام براشر " ، وهو برهمي عجوز ذو خبرة في هذا المجال ، وقد تولي أمر عشرات الحالات مثل حالتنا هذه حتى الآن ، و " المهاشا بهولا ناتهـ " باعتبار أنه كان في بيته تليفون ، والصيدلي " مكن بهاي " باعتبار أنه أكثرُنا رغبة في الخلاص من موضوع الجثة هذا نظراً لوقوع شقته أمام شقة " بهاركو" تماماً ، أما أنا فقد اختاروني سكرتيراً لأنني كثيراً ما يتم اختياري سكرتيراً في كل لجنة ، ولأنني أمتلك ابتسامة عطوفة ترتسم دائماً علي وجهي ، ويستطيع كل عضو في أي لجنة أن يستنتج منها ما يناسبه هو ، ومن الضروري للسكرتير الناجح أن تكون لديه المقدرة علي الابتسام مثل " الموناليزا " .
لكني في موضوع تجهيز الموتى هذا لا أفقه شيئاً ، ولهذا أخبرني البانديت " ديا رام براشر " أن علينا أولاً الرجوع إلي أحد الأطباء لاستخراج شهادة طبية منه ، وإلا لن نستطيع إحراق الجثة ( ) .
سألت " بهكوتي " مراراً عن الطبيب الذي كان " بهاركو " يعالج عنده ، لكن المسكينة كانت مستغرقة في العويل والبكاء فلم تستطيع أن تخبرني بشيء يمكن الاعتماد عليه ، ولم أعرف منها سوي أن المرحوم كان قد ترك العلاج قبل وفاته بعدة أيام ، وقبل ذلك كان يعالج عند الدكتور " شاباني "
ركبنا سيارة " شرف الدين برهره " ، واتجهنا إلي عيادة الدكتور " شاباني " الذي ما أن سمع اسم " بهاركو " حتى ثار غاضباً ، وقال : لن أصدر شهادة طبية له أبداً ، إنه لم يسدد لي فاتورة علاج ثلاثة أشهر ، مائتين وخمسين روبية .
حاول السيد " شرف الدين بوهره " طمأنته قائلاً: ستأخذ فلوسك كاملة ، كان المرحوم رجلاً غنياً ، الآن سنأخذ الفلوس من زوجة المرحوم ، يعني أرملته ، وسنعطيك إياها .
· أولاً فلوس الثلاثة أشهر ثم نتكلم في موضوع الشهادة الطبية .
ورجعنا في السيارة ، ودخلت إلي السيدة " بهكوتي " ، واستفسرت منها عن الموضوع ، فأخذت المسكينة تئن باكية وتقول : آه ، إني أرملة فقيرة ، ومع ذلك فإن الناس يريدون سرقتي ، أنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر ، ويا ويلتي ، لقد تحطمت حياتي ، ومع ذلك فإن الناس يطلبون مني فلوساً .
وظلت لنصف ساعة هكذا منحنية علي أرضية الحجرة تولول وتنوح ، لكنها لم تخرج مليماً واحداً من الخزينة ، فاضطر سكان العمارة إلي دفع مساهمات من جيوبهم ، ودفعوا مستحقات الدكتور " شاباني " ، ثم اصطحبوه معهم إلي شقة " بهاركو " حيث عاين الجثة ثم قال : لا شك أن المرحوم مات بالسكتة القلبية ، وسأكتب شهادة طبية بهذا .
سعدت كثيراً لهذا ، وكاد "مكن بهاي " يطير فرحاً ، لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " عبس بوجهه قائلاً : هذه الشهادة لن تنفع .
فقال له البانديت " ديا رام براشر " : لماذا لن تنفع ؟
وقد عرفت فيما بعد أن البانديت " ديا رام براشر " هندوسي " محافظ " ، والمهاشا " بهولا ناتهـ " ينتمي إلي طائفة " آرية سماج " ، وبينهما خلاف دائم ، لكنه غير معلن .
قال المهاشا " بهولا ناتهـ " : عندنا هنا في بومباي إذا كتب في الشهادة سكتة قلبية فإنهم لا يسمحون بإحراق الجثة قبل إحالتها إلي الطب الشرعي لتشريحها .
فقال البانديت " ديا رام براشر " في دهشة : لكن ليس عندنا مثل هذا في " سركودها " .
ردّ عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " قائلاً : هذه ليست " سركودها " ، هذه " بومباي " .
فقال " شرف الدين بوهره " : كلامك صحيح يا سيد مهاشا ، كلامك صحيح ، هذا هو قانون " بومباي " .
عندئذٍ قال الدكتور " شاباني " : هذا يعني أن عليّ أن أكتب شهادة مزورة .
فسألته : لماذا مزورة ، لقد مات " بهاركو " ، وجثته أمامك .
فقال الدكتور " شاباني " : ولكن هكذا سيكون عليّ أن أكتب شيئاً غير صحيحاً حتى لا تحال الجثة إلي الطبيب الشرعي .
فقال السيد "مكن بهائي " : هذا صحيح .
عندئذٍ صرح الدكتور" شاباني " بقوله : إذاً سيكون لهذا رسوم أخرى،خمس عشرة روبية .
دخلت إلي السيدة " بهكوتي " وطلبت منها خمس عشرة روبية ، ولكنها لم تفتح فمها ، وإنما ظلّت تئن وتشهق وتبكي ، وبالطبع لم تعطني الخمس عشرة روبية ، فدفعتها من جيبي حتى كتب الدكتور" شاباني " الشهادة الطبية ، وعندئذٍ سألني المهاشا " بهولا ناتهـ " : أين ستحرق الجثة .
قال متسائلاً : أعرف أنه في المحرقة ، ولكن أية محرقة ، إن أفضل محرقة هي التي تقع في شارع " ميرين درايف " ، وكبراء المدينة وأغنياؤها يحرقون موتاهم هناك ، فماذا تنوي " بهكوتي " أن تفعل ؟
وعندما سألنا " بهكوتي " في هذا الأمر لم تزد علي أن رفعت صوتها بالبكاء ، ثم قالت : آه ، إذا كانت حياتي قد تحطمت فما الفرق بين الأحسن والأسوأ ، احرقوه أينما تريدون ، وإن استطعتم احرقوني أنا أيضاً معه .
واتصل المهاشا " بهولا ناتهـ " بمحرقة " ميرين درايف " فعرف أن المحرقة مكتملة العدد ، وأنها محجوزة لحرق جثث أخرى حتى الليل ، وليس بها مكان واحد خال ، وبالتالي لم يكن أمامنا إلا الذهاب إلي محرقة " سانتا كروز " ، فركبنا سيارة " شرف الدين بوهره " واتجهنا إليها ، وهناك علمنا أن محرقة " سانتا كروز " هي الأخرى مكتملة ، وليس بها مكان واحد خال . عندئذٍ قال " شرف الدين بوهره " في ملل شديد : أنتم أيضاً أيها الهندوس لديكم أشياء عجيبة .
كان كل أعضاء اللجنة من الهندوس ما عدا " شرف الدين بوهره " هذا ، ولهذا غضبوا بشدة مما قاله ، لكنهم تمالكوا أنفسهم نظراً لأننا نجلس في سيارته .
وعدنا من محرقة "سانتا كروز" إلي محرقة " باندره " التي تقع في محيط محطة السكة الحديد ، وكان علينا لكي نصل إليها أن نعبر في طريقنا " مزلقانين " لا يفتح القائمون عليهما أبوابهما إلا برغبتهم ، وغالباً ما تبقي هذه الأبواب مغلقة ، ولهذا استغرقت المسافة من محرقة " سانتا كروز " إلي محرقة " بانده " حوالي الساعة ، وبصعوبة شديدة وافق المحرقجي " القائم علي أمر المحرقة " علي قبول جثتنا ، حيث قال في البداية: المحرقة مزدحمة جداً اليوم .
فرجوته قائلاً : أرجو أن تقبل جثتنا بأي شكل من الأشكال ، فإنها تتعفن منذ الليل .
قال المحرقجي وهو ينظر إليّ بنظرات ذات معنى : أين المكان الذي أضع فيه جثتكم ، ألا تري .
عندئذٍ أخذه البانديت " ديا رام براشر " في جانب بعيداً ، وظل يحدثه في صوت خافت لعدة دقائق حتى وافق في النهاية ، فعادا إلينا ، وكان وجه البانديت " ديا رام براشر " يتهلل فرحاً بنجاحه في إقناع المحرقجي فقال : انتهي الأمر .
هزّ المحرقجي رأسه قائلاً : هاتوا جثتكم ، ولكن بعد ساعتين مفهوم ، إذا جئتم بها قبل ذلك فلن أسمح بدخولها أبداً .
وعندما انتهينا من هذا الاتفاق جلسنا في سيارة " شرف الدين بوهره " . قال لنا البانديت " ديا رام براشر " إن المحرقجي سيرسل النقالة الخاصة بالمحرقة لحمل الجثة إليها،فسألته: كيف هذه النقالة .
· نقالة ، لها أربع عجلات ، يحملون عليها الموتى .
سألته : إننا نحمل الموتى علي أكتافنا ،أليس كذلك ؟
عندئذٍ قال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو ينظر إلي البانديت " ديا رام براشر " في تفاخر : ربما كان هذا في" سركودها " ، ولكن ليس في " بومباي " .
اغتاظ البانديت " ديا رام براشر " فقال : ما أعجب مدينتكم " بومباي " هذه ،فلا طقوس دينية صحيحة،ولا احترام للبشر ، حتى المحرقجي لم يوافق علي إرسال النقالة إلا بعد أن أخذ أربع روبيات .
تغير وجه المهاشا " بهولا ناتهـ " مما سمع ، فكأن البانديت " ديا رام براشر " بإعطائه المحرقجي أربع روبيات صفعه علي وجهه ، ولكنه لابد أن ينتقم لنفسه ، انتظر قليلاً .
وعدنا جميعاً إلي العمارة ، كانت الساعة عندئذٍ تدق الواحدة ظهراً ، وقد فاحت رائحة الجثة في العمارة كلها كأنها رائحة السمك مما أزعج السكان جميعاً من رجال ونساء وأطفال ، فخرجوا من شققهم ، ووقفوا مجموعات حول العمارة في قلق بالغ ، وما أن وصلت سيارتنا إلي العمارة حتى هرع الجميع إليها ينظرون إلينا بنظرات مستوحشة قائلين:
· ماذا حدث ؟ .
· متي سيغادر المتوفى المكان ؟ .
· إن بطنه تنتفخ .
· أمر عجيب يا أخي ،أنا أعرف أنه حين لا يأتي أحد من أقارب المتوفى فإننا ببساطة ينبغي أن نتصل بالبوليس ونسلمه إليهم .
· ليس البوليس ، وإنما البلدية هي التي يجب أن تتسلمه ، شيء عجيب ، واحد يموت ، ويتعذب الآخرون .
كان الجميع في حيرة واضطرب ، ويلوحون بأيدهم وهم يتحدثون ، كان يبدو أنهم في غضب شديد ، ولكن حين أخبرناهم بحجز المحرقة ، وتدبير أمر إحراق الجثة تنفسوا الصعداء .
قال البانديت " ديا رام براشر " : وإلي أن تصل النقالة علينا أن نجهز باقي الأشياء المطلوبة .
سألته باضطراب : وماذا بقي الآن ، عندما تصل النقالة نضع الميت عليها ونأخذه إلي المحرقة ونحرقه . نظر إليّ المهاشا " بهولا ناتهـ" مبتسماً كأنه يضحك من حماقة طفل صغير ، وقال بأسلوب متعاطف : يا بني ، أين نحن من موضوع الحرق هذا ، لقد بقي الكثير علي موضوع الإحراق هذا .
ثم قال البانديت " ديا رام براشر " مضيفاً إلي معلوماتي بحب شديد :
أولاً ستأتي الورود من أجل الجنازة .
وقال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو يغيظني : ثم نأتي بالزيوت من أجل الحرق .
ثم قال البانديت " براشر " وهو يضع يده كتفي : نحتاج إلي الورود ، والحلوى الخاصة بهذا الأمر ، واللوز ، والبلح المجفف ، وبعض الفلوس .
· لماذا كل هذا ، ولماذا النقود .
· عندما تسير الجنازة سننثر عليها بعض النقود .
· ونحتاج إلي قلة من الفخار ، حيث ستكسر أمام المحرقة .
قلت لهم : ومن أين آتي بنقود لكل هذه الأشياء ، لقد أسهمت كل شقة بمبلغ عشر روبيات . حدق الجميع في وجهي ؟؟؟؟ صافية وكأن لسان حالهم يقول بأسلوب يملؤه الأمل : لقد جمعت النقود منا مرة ، حاول ثانية وستري .
فقلت لا بأس سأتدبر الأمر ، وأخذت نفساً عميقاً ، ثم دخلت شقة " بهاركو " كانت هناك رائحة نتنة بالداخل ، وكانت الجثة ملقاة علي أرضية حجرة الجلوس وحدها ، وبينما أحاطت النسوة بزوجة " بهاركو " في الحجرة محاولين إقناعها بأن تشرب اللبن ، وكانت هي ترفض شاهقة : لا ، لن أشرب ، سأموت ، ولكن لن أشرب اللبن ، لن أشربه أبداً .
فقالت العمة " كوهالويف " لزوجة البانديت " ديا رام براشر " : المسكينة لم يدخل جوفها شيء منذ الأمس .
وهكذا أمسكت السيدتان بساقي المسكينة " بهكوتي " ، وأمسكت أخرى بذراعها ، ورابعة بالذراع الآخر ، ثم تقدمت خامسة ووضعت كوب اللبن علي فم " بهكوتي " ، كانت المسكينة تقول : لا ، لا ، وفي نفس الوقت تشرب اللبن ، وأفرغت في جوفها كوباً يزن ما يقرب من الكيلو ، كوباً من أكواب " اللسي " ( ) البنجابي ، أفرغته في لحظات .
وحين دخلت عليهن ، وذكرت لهن الأشياء المطلوبة التي ينبغي أن نشتريها من السوق والتي نحتاج إلي نقود إلي شرائها أخذت " بهكوتي" تبكي بشدة وهي تقول : آه ، لقد ضعت ، تحطمت حياتي ، ليس لي أحد هنا ، لو كان أولادي هنا لتدبروا الأمر ، أين اذهب أنا الآن ، ممن اطلب نقوداً ، لماذا لم يأخذني معه هذا الذي مات .
أحنيت رأسي وخرجت من الشقة ، ورآني في هذه الحالة من الحزن رجل جاء علي ما أظن من عمارة أخرى بغرض تقديم واجب العزاء ، فتقدم مني وقد أرخي شفتيه حزناً ، وعقد بين يديه ، محاولاً استحضار حشرجة في صوته ودمعة في عينيه وقال : حزنت كثيراً لوفاة أبيك .
نهرته قائلاً : إنه ليس أبي أيها التعس ، إنه التعس " بهاركو " الذي خرب حياتي بمشاجراته وصراخه المستمر طالما كان حياً ، كان صوته كصوت من انحشر في حلقه طعام جاف ، فهمت ؟! هذا التعس لم يتركني في حالي بعد وفاته أيضاً .
وأخذت أشد شعر رأسي من شدة غضبي وثورتي ، عندئذٍ خجل الرجل وتركني ، وفي تلك الأثناء جاء " شرف الدين بوهره " فقال : لقد أسهم سكان العمارة بخمس روبيات أخرى لكل شقة ، والآن يقوم البانديت " ديا رام براشر " والمهاشا " بهولا ناتهـ " بتجهيز الأشياء الباقية ، لماذا تبدو مضطرباً هكذا .
وحتى الساعة الثالثة ظهراً كان كل شيء جاهزاً ، وصلت النقالة ذات الأربع عجلات المطاطية ، ووصلت الورود للجنازة ، ولكن نسي الجميع بعض أعواد الخيزران التي نحتاجها لتزيين الجنازة ، وعلي وجه السرعة استقل الصيدلي " مكن بهاي " سيارته وأحضر أعواد الخيزران التي ثبتناها حول النقالة من الجوانب الأربعة ، وبعد ذلك احتجنا إلي صمغ لتثبيت الورق الملون علي أعواد الخيزران ، وحين وجدنا الصمغ لم يتذكر أحد أننا نحتاج إلي حبال لتثبيت الجثة علي النقالة ، وبالفعل حدثت ربكة كبيرة ، ولكن أفضل شيء الآن هو أن كل فرد من سكان العمارة كان مكلفاً بالقيام بعمل ما ، هذا بالإضافة إلي أعضاء اللجنة طبعاً ، كل فرد يعمل بحماس شديد وبسرعة فائقة ، ولو أن الجميع عمل بمثل هذا الإخلاص والحب في تنفيذ الخطط القومية للدولة لاكتملت أية خطة خمسية وتحققت في سنة واحدة بدلاً من خمسة . لقد كنا جميعاً في مشكلة عجيبة ، فالوقت يمر بسرعة ، والميت ينتفخ ، لهذا غسّلناه باحتياط شديد ، ربما لم يحظ أي " أمير مغولي " بغسل كهذا ، لأننا كنا خائفين للغاية من أن تنفجر بطن الميت والتي لم تتوقف عن الانتفاخ ، وحين غسلنا الميت وبدأنا نخرج به من الشقة أطلقت " بهكوتي " صرخة مدوية ، وأخذت تهدد " بهاركو " أنها ستحرق نفسها معه ( ) إن خرج من هنا ، وبالطبع لم يتأثر الميت بشيء . كانت أكثر النساء يبكين بغير دموع ، أما اللاتي كانت في عيونهن دموع فإنها كانت بسبب الرائحة النتنة .
حمل رجلان الميت من ناحية الرأس ، ورجلان من ناحية القدمين ، ورجلان من الوسط وبدأنا نخرج من الشقة خطوة خطوة ، وعندئذٍ قال البانديت " ديا رام براشر " : اخرجوا الجثة من ناحية الرأس أولاً .
فرد عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " : كلا من ناحية القدمين .
إن الميت يخرج من البيت دائماً باتجاه الرأس ، لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " قال في غلظة : خطأ، بالتأكيد خطأ ، الأقدام أولاً ، ثم استشهد البانديت " ديا رام براشر " بجملة من كتاب " شاستر " المقدس قائلاً : روح الرجل تكون في رأسه.
فقال المهاشا " بهولا ناتهـ " : لكنه سيضطر للمشي علي قدميه حتى يصل إلي الجنة . صرخ البانديت " ديا رام براشر "في وجه المهاشا قائلاً :هل تعلمني أنت ،لقد أصبح عمري خمساً وسبعون عاماً. وكم أحرقت جثث من مشارب مختلفة ومن كل مكان ،أقصد من أماكن مختلفة،فماذا يمكن أن تعلمني أنت،إنني أقول إن الميت سيخرج من هذا البيت برأسه،يعني سيخرج برأسه. وعليه ضرب المهاشا " بهولا ناتهـ " يداً بيد وقال:كلا ،سيخرج من ناحية قدميه. أأأأأأأأ
عندئذٍ تدخل "شرف الدين بوهره" قائلاً :لماذا تتشاجرا ،لنقترع علي هذا الأمر،وبعد بحث وجدال شديدين تقرر أن يخرج الميت من حجرة الجلوس بقدميه أولاً،ولكنه سيخرج من الطرقة إلي سلالم العمارة من ناحية رأسه،وبهذه الطريقة يسهل النزول به علي السلالم،ورضي الفريقان بهذا الاتفاق وخرج الميت من الشقة حتى وصل إلي السلالم ،لكن كانت هناك صعوبة شديدة في نزول السلالم،لأن سلالم عمارات بومباي لم تشيد للأموات،وإنما للأحياء فقط،ولا يستطيع أن يصعدها أو ينزل عليها سوي فرد واحد في آن واحد،بينما يحمل ستة رجال ميتنا هذا،اثنان من ناحية الرأس ،واثنان من ناحية القدمين ،واثنان من الوسط، بينما لا تسع السلالم إلا فرداً واحداً، وبشرط أن يكون حياً يمشي علي قدمين، ماذا نفعل الآن ؟.
قال السيد "برشاد ": هذه مشكلة كبيرة،أظن أن حكاية الجنازة هذه أصبحت موضة قديمة، ولهذا ينبغي الآن أن نفصل رأس الميت ورجليه وذراعيه عن جسده،ونضعها في جوال،ثم نلقي بها في البحر،هذه أكثر الطرق علمية.
قلت له: هناك كثير من الناس في بومباي يفعلون هذا،ولكن لهم اسم خاص بهم
ما هو.
القتلة .
لاذ السيد "برشاد" الطيار بالصمت بعدما سمع ردي هذا،وبطريقة أو بأخرى نزلنا بالجثة إلي أسفل العمارة،وثبتناها علي النقالة،وغطيناها برداء من حرير وزينا الجنازة بالورود،وأخذنا نتقدم بالنقالة سريعاً إلي الشارع مُشيعين الجنازة قائلين:في حفظ الإله إذا كان الجو حاراً،وليس لدينا مزيد من النقود لنثرها فوق الجنازة ،وما كان معنا من النقود بالفعل كنا ننثرها بمليء راحتنا من حين لآخر علي الجنازة في الطريق،وقد تجمع عدد كبير من الصبية حول الجنازة لجمع النقود،فيتزاحم عشر صبية علي شلن،وقد جرح عدد كبير منهم،أما الذي ثبت وكافح فقد استطاع الحصول علي ما يكفيه لدخول السينما ومشاهدة فلم " المتوحش " لشمي كا بوذ هذا في منتصف الطريق .
في الطريق كان أحد المزلقانات مغلقاً،واضطررنا إلي التوقف والانتظار حوالي ربع الساعة حتى تم فتح بوابة المزلقان بعد أن عمرّنا جيب حارس المزلقان،وتقدمت الجنازة حتى وصلت أمام المحرقة،وهناك توقفنا وأحضرنا القلة الجديدة المليئة بالماء،فنثرنا الماء حول الخبازة من الجهات الأربع،ثم كسرنا القلة،ودفعنا بالنقالة إلي داخل المحرقة .
كان في المحرقة مكان لحرق ست جثث،ستة حفر نارية كبيرة بحجم الإنسان يحيط بكل منها سور حديدي،وتحتها قاعدة من الحديد أو المسلح،حتى لا تتناثر الأخشاب هنا وهناك أثناء عملية الإحراق،وحتى يمكن إحراق الجثة بأقل قدر من الخشب .
سأل المهاشا " بهولا ناتهـ" القائم علي أمر المحرقة(المحرقجي) :
كم نحتاج من الأخشاب لحرق الجثة؟
عاين " المحرقجي " الجثة،وقال في لهجة شاكية: إنه بدين للغاية.
ولأن الصيدلي " مكن بهاي " كان بديناً هو الآخر،لهذا صرخ فيه قائلاً :ماذا تقصد؟
فقال " المحرقجي " بهدوء وملل: أقصد أن المتوفى بدين للغاية،إن الميت العادي يحترق بكومة واحدة من الخشب، لكن هذا الميت لن يحترق بكومة واحدة.
سألته: كم وزن كومة الخشب الواحدة.
قال " المحرقجي " :أربعمائة كيلو .
سأله السيد "براشر ": كم ثمن كومة الخشب .
اثنتان وثلاثون روبية
وضع السيد "براشر " يديه أذنيه علي قائلاً: يا إلهي، في سركودها تكفي سبع روبيات لحرق الميت.
وعندئذٍ قال المهاشا "بهولا ناتهـ " بتفاخر للسيد " براشر " : ألم أقل لك إن هذه ليست سركودها،هذه بومباي تضايق " براشر "، فجلس في ظل شجرة، (بيبل ) كانت أعداد كبيرة من النسور تجلس علي أغصانها ،ولا تزال الجثة خارج عيون المحرقة.
قلت له بصوت خافت:النقود التي معي تكاد تكفي بصعوبة لشراء كومة واحدة من الخشب .
فردّ علي المهاشا "بهولا ناتهـ " قائلاً :كومة واحدة تكفي .
عندئذٍ قال" المحرقجي " بضيق:كما تحب،سنضع الميت في كومة واحدة ونشعل فيه النار،فإذا احترق نصفه،ولم يحترق كاملاً فسنتركه كما هو.
سألته بتعجب:كيف سنتركه كما هو؟
وماذا أفعل،منذ يومين فقط جاءت عجوز فقيرة ومعها ميتها،أشعلنا فيه النار،فاحترق نصفه،ثم هطلت الأمطار فانطفأت النيران،وبقيت الجثة نصفها محترقة،والنصف الآخر غير محترقة،ولم يكن لدي العجوز نقود،أخذت المسكينة تدور هنا وهناك إلي أن جاء رجل طيب القلب مع ميته عند الليل،فدفع نقوداً للعجوز حتى يمكن إحراق ميتها أيضاً،وميتكم هذا بدين جداً.
عندئذٍ قال له " شرف الدين بوهره " منهياً هذا النقاش الحاد:
يعني أنت تريد ثمن كومتين،خذ ثمن كومتين،ولكن تضمن لنا أن الميت سيحترق تماماً .
فقال " المحرقجي " وهو يجهز ميزان الأخشاب: كيف يا سيدي،بكومتين من الأخشاب سيحترق هذا الميت احتراقاً يجعل عظامه كمثل الكحل.
وفي تمام السادسة مساءاً عندما عدنا من المحرقة منهكين خائري القوى ،أخبرتنا نساء العمارة أنه بعد ثلاثة أيام سيعقد ما يسمي باليوم الرابع للميت ،وهو أيضاً يكلف مالاً كثيراً .
وما أن سمعت هذا الخبر حتى قدمت استقالة علي الفور من سكرتارية لجنة الموتى هذه .
بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد لاشين
06/10/2007, 03:15 AM
من المستحيل ان يكون لي تعقيب على مجمل مشاركاتك سوى أنها رائعة ومتقنة للغاية ولكن ألا تلاحظ سيادتك أننا فقط هنا وحدنا كالمعتاد في تخصصنا :vg:

أحمد لاشين
06/10/2007, 03:15 AM
من المستحيل ان يكون لي تعقيب على مجمل مشاركاتك سوى أنها رائعة ومتقنة للغاية ولكن ألا تلاحظ سيادتك أننا فقط هنا وحدنا كالمعتاد في تخصصنا :vg:

ابراهيم درغوثي
08/10/2007, 06:32 PM
د . ابراهيم محمد
امتعتنب بقراءة هذه القصة البديعة من الأدب الأوردي الذي نكاد لا نعرف عنه شيئا يذكر
ربما لبعد المسافة و لعدم وجود مختصين كثرا في هذه اللغة التي يتكلم بها أكثر من مائة مليون مسلم
و لعدم انتباه المثقين العرب اليها .
سنسعد كلما قرأنا من أدبها المترجم الى العربية
وسنسعد و سيسعد الأدباء العرب لو بادرتم بالترجمة من العربية الى الأوردية
حتى تشع هذه اللغة على الآخر أيضا
و حتى يتحرك هذا المنتدى بالقراءات والتنعليقات

دمتم و دام لكم الابداع والمعرفة

ابراهيم درغوثي
08/10/2007, 06:36 PM
أستاذ أحمد لاشين
تحياتي و مودتي
أسوق اليك أخي نفس الملاحظة التي سقتها للدكتور ابراهيم
سيتحرك هذا المنتدى لو انفتحتم على الادب العربي و ذلك بنقله الى اللغة الاوردية
فليس كمثلكم في خدمة أدبنا
و المختصون في هذه اللغة قلة قليلة
ستكونون سفراءها لدى الكاتب العربي
ولن يكون ذلك الا بالاهتمام به و التعريف بمبدعيه كما هو حالنا مع اللغات الأوروبية

مع سلامي وتقديري

هاني السعيد
09/10/2007, 08:19 AM
أستاذي الجليل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ما أروع قدرة سيادتكم على ترويض النصوص

وما أسعدني حين ألقت بي رياح جوجل العظيم على شطآن حضرتكم

قرأت بكل شغف كل ما ظهر هنا من مشاركاتكم القيمة

وأتمنى إعادة نشر كل ما لم يظهر

أعانكم الله على مهمتكم الحضارية

مع خالص مودتي وتقديري

إبراهيم محمد إبراهيم
29/10/2007, 08:20 AM
أخي العزيز الأستاذ هاني
أشكلاكم على اهتمامكم ، والحقيقة أنني الذي أستمتع بما تكتبون ، وأشكرك على هذا الإطراء الذي لا أستحقه

إبراهيم محمد إبراهيم
29/10/2007, 08:22 AM
أخي العزيز د . أحمد لاشين
أنا معك في أننا وحدنا الآن ، ولكن لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً . المهم التواصل والمواصلة

إبراهيم محمد إبراهيم
29/10/2007, 08:26 AM
الأستاذ الكريم إبراهيم درغوثي
أشكركم جزيل الشكر على الاهتمام ، وأنا أوافقكم تماماً في أنه ينبغي أن ننقل من العربية إلى الأردية أيضاً ، كما أنني لا أزال أتذكر أنني وعدت بترجمة بعض قصصكم إلى اللغة الأردية ، وبالفعل ترجمت واحدة ( الشهيد ) ، ولم أنشرها في واتا إلى الآن لأنني كتبتها على البرنامج الأردي الذي أستطيع الكتابة عليه ، ولكني لا أجيد الكتابة على الإكس بي الأردي ، وسوف أرسلها صورة بالاسكانر .
مع تحياتي لشخصكم الكريم وتونس العزيزة