المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( اليرقان ) قصص من الأردية



إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 09:46 AM
اليرقان
اليرقان في حد ذاته ليس مرضاً،هكذا يقول الأطباء مثلما يقول العلماء إن القمر بذاته ليس مميزاً،مضيئاً،والحقيقة أن الأطباء والعلماء يعرفون من عامة الناس بمثل هذه المقولات،وإلا فإنه من غير الممكن أن ينكر أحدنا ضوء القمر المنعش أو مرضاً مؤلماً مثل اليرقان،ومن الممكن أيضاً ألا يصدق أحد ما أقول،ويلقي به في زاوية النسيان علي اعتبار أنه مجرد نظرية " يرقانية " .
علي اية حال يجب أن تكون علي يقين من أن اليرقان مرض،ومرض غاية في الإيذاء أيضاً،وإلا فإنك لن تستفيد من قراءة أو سماع هذه القصة.والأمر الآخر هو أنني ابتليت مع بداية هذه القصة باليرقان ،ومثلما يبدو للأعمى في فصل الأمطار كل شيء من حوله أخضر يانعاً،فإن مريض اليرقان أيضاً يبدو له الاصفرار في كل ما حوله،وكأن يداً من الغيب امتدت وألقت (وصبغت) علي الكائنات كلها الزعفران ليس إلا. وعلاوة علي ذلك فهناك درجة أخرى من درجات المرض،وهو مرحلة في الحياة تنتهي فيها الازدواجية تماماً،ويحصل رجل مثلي علي الخلاص(الطهر) .
وهكذا كان هذا المرض هو بداية هذه القصة المختصرة ،فإذا لم أمرض لم تكن " شاما " تأتي لزيارتي وعيادتي،وأريد أن أقول بوضوح فيما يتعلق بـ "شاما " هذه إنها محبوبتي ،أي أنني أحبها،أما هي فتحب زوجها ،ذلك الذي يعمل في إحدى قمائن؟؟؟؟ الطوب بمدينة "جكوال "،ويتقاضى مرتباً قدره عشرون روبية،ومهمته في عمله هو أن يسجل أسماء العمال في قمينة الطوب،ويكتب في بعض الأحيان خطاباً إلي زوجته الجميلة يدرج فيها كثيراً من أشعار قصص الحب والغرام الشهير،سيف الملوك شاهرام وحسن بانو، وكانت " شاما " تأتيني بالخطاب لأقرأه لها،وعندئذٍ يحمر وجهها خجلاً ،فالمسكينة أمية لا تقرأ ولا تكتب (طبعاً)،وكنت حين أقوم بشرح أشعار "سيف الملوك "بطريقتي اليرقانية لها كانت ترتبك وتستحي كثيراً ،وحينئذٍ كانت تبدو في غاية الجمال ،فيتورد خداها،وتبرق عيناها،وترتعش شفتاها،وعندئذٍ يأتي صوتها الجميل(اللذيذ) قائلة: لماذا لا تقرأ ما بعد ذلك؟و… أما أنا فكنت أركز أنظاري علي وجهها حين اقرأ،هل هذا حب يا ترى ؟كلا،إنها "يرقانية "،يا إلهي، هل أصابني الحب أمر اليرقان.
وذات يوم،وأنا أذكر هذا اليوم جيداً، كنت مستلقى علي فراش ألعب ببعض ديدان القز،فجارنا كان يربي دود القز،ويبيع بيضه،إنها تجارة مربحة،وقد جمع في شهرين فقط من بيع بيض دود القز دود القز ثلاثمائة روبية،وكان أخي الصغير قد اشتري منه بعض هذا البيض،فقس منها خمسة بيضات وخرجت منها دود القز بيضاء،مائلة للصفرة،ومثل هذا الدود لا يأكل ولا يشرب، فهو يعيش سبعة ايام فقط، في هذه الأيام السبعة يتم التلقيح بين الذكور والإناث،وتبيض الإناث بيضاً أصفر، رقيقاً ومستديراً مثل حبات الخشخاش،ثم تموت الإناث. هذه الأيام السبعة فقط هي كل حياة هذه الديدان الغرامية .
كنت ألعب بدود القز كما ذكرت،كان من بينها أربعة ذكور،وأنثي واحدة ذات أجنحة كبيرة،وكانت تقف صامتة تختلس النظر إلي الذكور،تري من منها سيعجبها؟من ستختار ؟من ذلك المحظوظ الذي سيكون حبيباً لهذه الحسناء ذات الجسم الفضي . حقيقة كان السباق محتدماً.كانت الذكور تطير في جنون مثل الدبابير متجهة إليها ،محلقة حولها،يطوفون حولها مثلما تطوف الفراشات حول الشمع، كانوا يصطدمون ببعضهم البعض أحياناً حتى أكاد اشك أن أحدهما قد قضي نحبه فأقوم سريعاً بإبعادها عنه،وكانت تصمت لفترة بدون أدني حراك، ولكن سرعان ما تجذبهم ست الحسن والجمال إليها، فتنقض ثانية وتواصل طيرانها وطنينها،وكان أحدها في بعض الأحيان يتجه طائراً إليها ويقرب فمه من فمها،ويبثها عشق بطريقة ناعمة،وكانت هذه الظالمة تبتسم له أحياناً،وأحياناً أخرى تتجاهله،وتلتفت بعيداً عنه، ويبقي الذكر المسكين يجر أذيال الخيبة،تري لماذا فطرت المرأة علي الازدواجية،فبنظرة واحدة منها تحدث جراحاً غائرة،ثم ترتب هي علي هذه جراح تعذب القلوب،وتريحها كذلك،يصدر الظلم عنها،والكرم من شمائلها.
أغلقت عيني وأنا غارق في هذا التفكير، فتناهي إلي سمعي صوت أقدام،وكان هناك من جاء ووقف عند رأسي،قلت دون أفتح عيني:أماه،هل أحضرت الفوفل.
أنا لست أمك،أنا "شاما "
ولو أن قربة الماء الموضوعة علي بطني انفجرت فجأة ما كان ذلك ليدهشني مثلما أدهشني مجيء "شاما "،إن "شاما " لم تأت لزيارة ولو لمرة واحدة خالصة علي سبيل الخطأ منذ أن رقدت مريضاً قبل ثلاثة أشهر .
ألم يأتها خطاب من زوجها كل تلك الفترة ؟خاطبتها بطريقة رومانسية قائلاً:
"شاما "!! أنت؟!
فردت عليّ بطريقة قروية خالصة قائلة:نعم،أنا،خذ،أحضرت لك بعض حبات المشمش ناضجة ولذيذة.
ثم حلت منديلاً وألقت بحبات المشمش علي فراشي .عندما أصاب باليرقان فإن هناك شيئين يناسباني وأحبهما، وهما المشمش و"شاما "،فإذا ما اجتمع لي الاثنان معاً،فهذا يعني أنني في قمة سعدي،وقد كنت اليوم محظوظاً فعلاً ،اعتدلت ببطء واستويت جالساً، وأزحت جانباً وببطء صفحة الجريدة التي وضعت عليها دود القز،وأنا أقول:تعالي،اجلسي. جلست "شاما " علي السرير عند قدمي وهي تقول: كيف حالك؟
لا بأس
ثم بقينا لبرهة صامتين لا ننطق،فلم أكن أعرف ماذا ينبغي أن أقول،كان طوفان من العواطف يفيض في قلبي، وكنت أريد التعبير عن حزني وغضبي، ولكن لساني انخرس فجأة،كان في قلبي شكوى لا حد لها،ولكن شفتي كانتا كأن أحداً خاطهما،كان قلبي يموج مضطرباً لكن غيني انتشت سعادة عندما رأيت وجهها،وفي نهاية المطاف قلت لها بعد تفكير كثير:هل جاءك خطاب من زوجك في مدينة "جكوال" ؟!
أبداً،لقد ضعفت كثيراً،لماذا عيناك صفراوان هكذا،أنا آسفة،لم أتمكن من زيارتك قبل الآن،فقد كانت أمي مريضة،لماذا لا تأكل المشمش،كل كل .
نظرت إليها نظرات كلها امتنان وشكر،وتناولت حبة مشمش ووضعتها في فمي وأنا أًنهر قلبي وأوبخه،إذ يا سيدي القلب قل شيئاً،إن لم تكن لديك الجرأة للشكوى فعبر لها عن حبك علي الأقل،ما فائدة نظراتك المجاملة هذه،تعلم كيف تخرج وتعبر عما بداخلك فالعاشق الصامت لا يعجب حتى العواجيز من النساء.
قلت :" شاما "، أنت لكن "شاما " جذبت إليها ورقة الجريدة بسرعة وهي تقول :حسناً،هذا دود قز،من أين حصلت عليها،حسناً هذه هي الأنثى وهذا هو السد،يا سلام،والآن لابد أن حدث هناك قبولاً وإيجاباً بين الذكر والأنثى، انظر،إن هذا الذكر صاحب لسان زلف،ترى ما هو الكلام المعسول الذي يسمعها إياه،الرجال كلهم هكذا،أليس كذلك ،هاتان الدودتان ابتعدنا عن الباقين،تري أين يذهب هؤلاء المساكين الباقين ،انظر كيف ينتحب المساكين .
نظرت إلي " شاما " ،كانت تبدو كتمثال من ذهب،شفتاها مفتوحتان قليلاً،والطلاء الأحمر يبرق فوقهما .
خاطبتها بطريقة سينمائية قائلاً:كم أنت جميلة يا "شاما "،أجمل مما تتصورين أنت عن نفسك،ورغم أن هناك اصفراراً يحول بين عيني وجمالك ،إلا أنك مع ذلك تبدين غاية في الجمال،فإذا ما انزاح هذا الاصفرار الحائل بيننا ألن يبهر جمالك الأخاذ هذا عيني،كم هما مضيئان عيناك،مفتوحتان كزهرة نيلوفر شفافة رقيقة.
في تلك اللحظة دخلت أمي علينا ومعها الفوفل الذي طلبته،قالت:ماذا كنت اتقول عن النيلوفر يا بنى . ،أبداً يا أمي لا شيء،سمعت أن النيلوفر مفيد جداً في مرض اليرقان هذا .
وجهت أمي حديثها إلي "شاما " قائلة:لا يا بنيتي،أنا لا أعتقد في الوصفات البلدية،ثم إن هناك بعض العطارين.
وأخذت أتناول الفوفل في صمت،وأحنت "شاما " رأسها وهي تقول:لا أدري إن كان يفيده هذا أم لا.
كانت "شاما " في غاية الجمال (جميلة جداً)،ولهذا كان محبوها كثيرين ،كانت متزوجة وجاءت لعدة أيام لزيارة أهلها،وكان هذا أحد أسباب كثرة عشاقها،كان أبوها متوفياً،ومع ذلك فقد حافظت أمها في حالة الترمل هذه علي رواء شبابها ووقار وضعها فزاد هذا في عشاق " شاما " إضافة لا بأس بها ،وكانت " شاما " تشعر بهذا كله،وكان ذلك يزيدها وقاراً وبراءة.
إن مدينتنا صغيرة،وليس فيها سوى خمس أطباء،واثنان من المعالجين بالويدات ؟؟؟؟؟،ومحل واحد لماء الصودا لم يكن هناك سوي شخص واحد يبيع القشدة المثلجة،كان شاباً اسمه ؟؟؟؟؟، وكان يحب "شاما "، ولهذا كان يعطي أم " شاما " كل يوم مقداراً من القشدة المثلجة يومياً ودون أن يتقاضى مليماً واحداً .وكان هناك ترزيان فقط،أحدهما مسكين ساذج بسيط،يقبل ممتناً بعدة قروش قليلة أجراً لحياكة القميص،أما الثاني فكان خريج مدينة روالبندي،فقد قضي في روالبندي ثلاثة أعوام عمل خلالها في أحد محلات الحياكة الشهيرة هناك،وكان يتقاضى مثل ثمن القماش فقط أجراً لحياكته،وكان شباب مدينتنا يخيطون ملابسهم عنده برغبة وشوق.
في مدينتنا مدرسة إعدادية واحدة،كان التعليم فيها بداية حتى المرحلة الابتدائية،وتم افتتاح المرحلة الإعدادية هذا العام فقط،وكان ناظر المدرسة وافداً حديثاً علي المدينة،كان شاباً حسن المنظر حلو الطباع ،كان يريد أن يجعل من المدرسة كلية،وكان صوته في الغناء جميلاً،إذ سمعته من بعد ظننته " كراما فور" يغني،وكانت أغنية "لقد صرت أنا أنت ،وصرت أنت أنا" التي يتغنى بها القوال بيارو تعجبه كثيراً،ولهذا كان كثيراً ما يدندن بهذه الأغنية وهو يمر أمام بيت " شاما " ،وكانت " شاما " هي الأخرى تجلس في بعض الأحيان إلي النافذة لتستمع إليه،وكان وجهه حينئذٍ يتورد بابتسامة عجيبة تلك التي أسميتها أنا في ثورة عذلي وغيرتي منه حباً .
مدينتنا هي مقر سكني نائب العمدة ،وكان في نفس الوقت يقوم بعمل المحامي والطبيب أيضاً،وكان هذا من أكبر الأسباب التي جعلته عزيز لدي الجميع أكثر من اللازم،وكان يجيد الفارسية،وكان أديباً ومعتاداً علي النظر إلي " شاما " وتقيمها بنظرة فنية بحتة ،فكان ينقدها كأنها ليست " شاما " ، وليست امرأة من لحم ودم،وإنما كأنها تمثال من المرمر للنحات " لدكيف " أو لوحة فنية للرسام " سيلي " .
أما زاوية الشيخ " تهمنكر " فقد كان لها شهرتها في مدينتنا،وكانت الأرواح المحبة له،والتي تنتمي معظمها إلي فئة الإناث ينادونه بسيدنا الشيخ فقط،كان سيدنا الشيخ هذا قد تعدى مرحلة السباب بكثير،لكنه كان أصغر من الشباب في كلامه،كان يجهز الحشيش لتعاطيه علي نغمات أغنية تقول: يتراقص الموج فوق المياه قبل أن يفني فيه " وكان يتعاطى الخمر ويحب " شاما " ،كان طويلاً مستقيماً أبيض كطائر البجع.
عندما يقبل فصل المطر في موعده كنا نحرص علي ربط أرجوحات في الأشجار،وفي فصل المطر يفيض الشعراء وتفيض الأنهار،وتثور الرغبات في القلب،أما الدم فقد يكون يفتقد الخبرة،إذ تراه يفور . تركت أنا أيضاً حجرتي،ووضعت فراش في الحديقة خارجة تحت شجرة كثيفة،وفي شجرة بالقرب منها ربطت أختي الصغيرة أرجوحتها ،وكانت آنسات مدينتها والمتزوجات بها يأتين عن بكرة أبيهن ليتأرجحن بهذه الأرجوحة،عندئذٍ يكون المنظر جميلاً كان قلبي يقفز كالقطط في صدري حين تتأرجح " شيلا " علي الأرجوحة،ومع توالي الدفعات القوية للأرجوحة كانت " شيلا " فوق الأرجوحة تختفي للحظات بين الأوراق الخضراء في أغصان الشجر ،وكان قلبي عندها يقفز بشدة يكاد يسقط بسببها في الحارة.
ذات يوم كانت " شيلا " تلهو بالأرجوحة،وكان خادمي " دالي " في ذلك يدلك قدمي،سألت "دالي "،تري يا " دالي " ماذا لو سقطت " شيلا " .
قال " رالي ": من يا سيدي.
" شاما "
نظر إلي " رالي " المسكين نظرات حائرة،ولم يفهم ما أعنيه،وكيف له أن يعرف ما هو الحب.
إن " رالي " خادم بسيط ساذج،ولسانه يتلعثم في الحدث أحياناً،وأصبح يتيماً رغم وجود أبيه علي قيد الحياة،فقد طردته زوجة أبيه من المنزل،وأفسده تدليل أخيه الكبير ووالدته ومحبتهم وهي في ريعان الشباب .
قلت لـ "رالي" بعد توقف طويل: يا " رالي " ،ألا تفهم كلامي . وفي تلك الأثناء كانت " شاما " تأتي مسرعة وهي تقول يا بيه،لو ممكن تسمح لـ "رالي " بأن يطحن القمح في ماكينة الطحين،سأكون ممنونة لك جداً، ثم نظرت إلي السماء قائلة: لابد أن المطر سيسقط اليوم ، فإذا لم يأتيني " رالي " بالدقيق الآن فسيفيض،انظر إن السحب والغيوم تغطي السماء .
قال " رالي "، سأذهب فوراً.
وقلت:وأنا لا مانع عندي .
وما أن سمع " رالي "ردّي هذا حتى هب واقفاً ،المسكين " رالي " غاية في السذاجة،رفعت ببصري إلي السماء ،كانت الغيوم تغطيها تماماً،وإلي الشرق كانت قمم الجبال مختفية تماماً خلف السحب السوداء،قلت لنفسي لابد أن النهر سيفيض اليوم وبقوة،فالأنهار الجبلية مثل غضب الرجل الضعيف يحدث سريعاً،ولكنه كذلك يزول سريعاً،بينما الأنهار في فصل المطر تذهب بكثير من أرواح البشر،يثور النهر فجأة وتعلو أمواجه وتتلاطم، وتقفز من فوق الشاطئ تنتشر وتمتد لأميال في كل اتجاه،فتخرب القرية كلها،وتحدث خسائر لا حدود لها في المحاصيل والمواشي والأمتعة.
اقتربت أمي مني قائلة:هيا إلي الداخل،فقد تمطر السماء،لقد تكاثرت السحب السوداء،أين " رالي " ؟
لقد طلبت منه أم " شاما " أ، يحضر الدقيق من ماكينة الطحين،لابد أنه ذهب هناك،هيا بنا،سأدخل الآن.
وبدأ المطر يتساقط والفتيات يلعبن بالأراجيح،وفي لحظات تحولت الأرض إلي طين ووحل،وكانت أصوات تلاطم أمواج النهر تتناهى إلي مسمعي حتى وأنا نائم.ودقت الساعة العاشرة ليلاً،ولم يعد " رالي " بعد،جلست أمي بجانبي مشغولة بهذا الأمر وهي تقول:ما الذي جعل هذا التعس أن يذهب في هذا الوقت ،كان بإمكانه أن يرفض . أجبتها قائلاً،أنا الذي سمعت له يا أمي.
أنت الآخر أحمق،إذ كيف سيعود في هذا المطر المنهمر،ألا تسمع صوت النهر ،إن أمواجه تتلاطم،وثم لماذا لم يعد " رالي " حتى الآن ،إن ماكينة الطحين ليست بعيدة عن هنا،مجرد أربعة أميال فقط،من المفترض أن يكون قد عاد حتى الآن،أخشى أن يحجزه الناحية علي الشاطئ الآخر.
قلت لأمي في تردد:وماذا بعد يا أمي،لئن حاول عبور النهر فإنه ربما …
اصمت يا بني،لا تتحدث هكذا،ليحفظ الله الجميع.
ودقت الساعة الثانية عشرة،ولكني لم أستطع النوم،نظرت في ضوء الشمع الذي كان يترنح خفوتأ فوجدت أمي قد غلبها النعاس حيث هي فنامت،وفي تلك الأثناء سمعت صوت أقدام في صحن الدار،ورأيت شخصاً يستند إلي الحائط متكئاً علي عصي في يده وتنهد تنهيدة طويلة.
قلت : "رالي "؟
نعم
جئت بالدقيق
جئت به يا سيدي، كانوا جميعاً نائمين،فأيقظت أم "شاما " " ددهوا "،وسلمته الدقيق وعدت الآن.
أيها التعس أنا أسألك كيف جئت بالدقيق؟
في الشيكارة البلاستيك يا سيدي،لم يصبه أي بلل،كان الفيضان مرتفعاً جداً في النهر،لكن الله سلّم .
يا أحمق ، لماذا خاطرت بالعودة سريعاً هكذا،ألم يكن من الأفضل أن تبقي علي الشاطئ الآخر.
قلت ربما كانت " شاما " جائعة وفي حاجة إلي الدقيق الآن .
أصابتني إجابته هذه بدهشة عظيمة،كيف هذا؟ عناقيد العنب في نبتة باذنجان،سألته بلهجة عنيفة: ماذا لو كنت غرقت في النهر؟
وصمت " رالي " لبرهة ثم قال بتلعثم :من من أنا يا سيدي،لو بذلت حياتي لأحد تفيده،لاعتبرت نفسي ملاكاً
أيها التعس،لابد أن المجنون(قيس)كان جاهلاً مثلك
ماذا قلت يا سيدي؟
لا شيء،اذهب أنت ونم.
وخفت ضوء الشمعة تماماً، ولم يعد يتمايل،ولم تكن هناك سوى فراشة واحدة تحوم حولها،نظرت إليها بعيون يملأها النوم :فراشة.. شمعة .. رالي .. فراشة .. رالي .. شمعة .. رالي ..شاما .. شمعة.
كانت بيت (زاوية) " بابا كهمن كر " يقع علي شاطئ النهر بالقرب من منطقة المحرقة،وكان بها معبد صغير،وحديقة أصغر،وبها مكان لغسيل الملابس،كان الناسك " كهمن كر " وخادمه " سومنات " يجلسان هناك عند أقدام الآلهة(الإله الأنثى) يقدمون لها القرابين(يقدمون لها طقوس العبادة)،ويقضيان ليلهما هناك،كان النهر يفيض كل عام،لكن في مأمن دائماً من الفيضان.
في العام الماضي جرف الفيضان المكان المخصص للغسيل،لكن المعبد بقي قائماً كما هو،وهذا كله بفضل دعاء الناسك،ودليل علي أنه أعلى من البشر،وكانت أم " شاما " تذهب للتبرك به كل فترة،وكانت " شاما " هي الأخرى تذهب معها أحياناً،فقد رأيتها أول مرة في حديقة الناسك،كانت تضع عقداً من الياسمين في شعرها،وتجمع بعض الورود في طرحتها،نعم،ورود الياسمين،لقد مضت فترة طويلة علي هذا اللقاء،ولكني اليوم من حين لآخر أتذكر تلك النظرات الأولي وورود الياسمين، إننا نستطيع تغيير عقارب الساعة للوقت الذي نريده،ولكن من يجرؤ علي تغيير مؤشر الزمن ،ليت تلك النظرات الأولي تعود ثانية،ليتني أستطيع رؤيتها ثانية،تلك النظرات التي أثارت في صدري طوفاناً من الأماني،تلك التي أهاجت نهر الحب الساكن بمجاديفها،أما اليوم فلم تعد هذه الحقيقة سوى حلماً،حلماً ملوناً مثل الشفق،بعيداً مثل قوس قزح.
كان " رالي " يدلك قدماي قلت له في هدوء:هل يمكن أن تحضر لي زهور الياسمين من المعبد يا "رالي "؟
قال "رالي " :ولكن الجو يمطر الآن يا سيدي.
وما أن قال هذا حتى نهض قائلاً،حسناً سأذهب الآن.
وذهب " رالي "في هذا المطر المنهمر ،لقد أثارت ذكرى نظرتها الأولي هياجاً في الأماكن المكبوتة داخل القلب،أغمضت عيني ،وسرحت(وشردت) في عالم من الخيال،مثل هذه الدنيا لا يستطيع أحد أن يسلبى إياها،منحني هذا الإحساس نوعاً من الاطمئنان بداخلي،الإحساس بأن هذه دنياي،وستبقي ملكي حتى آخر أنفاس هذا الجسد الترابي،وآخر لمحة من حياته،وآخر خفقة من خفقات قلبه،ربما كانت هذه الدنيا هي أغلي ما أملك (كل ما أملك)،عندما أدخل إلي هذه الدنيا أشعر أنني تحولت إلي سفينة،سفينة تحيط بها الأمواج من كل جانب،الأمواج تلعب،تبتسم،وتعانق في دلال أشعة الشمس الأرجوانية عند الغروب،وفجأة أفرد شراعي،فتحملني الأمواج علي أكتافها بعيداً،لا أدري إلي أين،ولا أعرف لماذا،لكني لا أشعر إلا بموسيقي صافية وإحساساً من السرور منعشاً ،ممتعاً ولذيذاً،لا أدري كم من الوقت أمضيه شارداً في هذه الدنيا الخيالية،أو كم من الوقت كنت أمضيه شارداً فيها لو لم تهز أمي أكتافى وتوقظني قائلة:انهض يا بني،انظر هذا " رالي "
قلت بصوت خافت:ماذا حدث يا "رالي "،هل أخذت الورد.
عندئذٍ قالت أمي:أنت إذن الذي أرسلته إلي المعبد،المسكين "رالي " ،لقد كسرت يده وأصيب بكدمات عديدة في رأسه،إنه هناك ملقي في الردهة(في صحن البيت)
نهضت مسرعاً واتجهت إلي الردهة،كان "رالي " ملقي هناك علي سرير خشبي يئن بصوت خافت ،وبعض الضمادات تلتف حول يده ورأسه،سألته: أيها الأحمق،هل تشاجرت مع الناسك " بابا" في المعبد؟ كان من الممكن أن تعود دون حاجة إلي الشجار معه إذ لم يكن يريد إعطاءك الورود ،ولابد أن "سومنات" خادم الناسك ضربك هو الآخر،فمثلما يكون الناسك يكون خادمه.
أين المعبد الآن يا بني والمطر يهطل من ثلاثة أيام،كان يبدو أنه حين وصل إلي المعبد لن يتوقف إلا بعد أن يتسبب في مصيبة،لقد فاض النهر اليوم فيضاناً مريعاً ،اسمع إلي هدير أمواجه،كان الماء يحيط به من كل جانب،ويجرف أمام المكان المخصص لغسيل الملابس
لقد أرسلت إلي هكذا،فإذا كان فيضان النهر وصل إلي هذا الحد كان يمكن ألا يذهب إذا رأي الماء قد ارتفع إلي هذا الحد .
ولم أكن أكمل كلامي حتى قالت أمي: كيف لا يذهب يا بني،و "شاما " هناك.
ماذا قلت "شاما "؟
وتجاهلت أمي تساؤلي قائلة:انظر،كم كان الناسك وخادمه خبيسان ،انهما لم يفكرا حتى … قاطعت كلام أمي متسائلاً: لكن ماذا عن " شاما "
فردت أمي بسرعة:أقول يا بني إن " شاما " هي الأخرى ذهبت هناك،وبعد أن أدت طقوس العبادة للإله الأنثى ذهبت إلي الحديقة لتقطف بعض زهور الياسمين،وعندها حاصرتها مياه الأمطار،فبقيت داخل المعبد،ربما قالت لنفسها أنها ستذهب حين يتوقف المطر،ولكن الأمطار زادت ووصلت الأمواج إلي كل أنحاء المعبد ،وحين انهار المكان الثاني المخصص للغسيل،واتجهت المياه إلي المعبد أصاب الذعر الناسك " بابا" فهرب هو وخادمه.
قلت بسرعة: وتركا " شاما " هناك
لا تسل عن شيء يا بني، فروح كل إنسان عزيزة عليه،وحين وصل " رالي " إلي المعبد كانت المياه قد حاصرت المعبد تماماً،وكانت " شاما " تقف علي سلالم المعبد تصرخ مستغيثة ، بينما كان الناسك " بابا" وخادمه قد اقتربا من اليابسة .
قلت في لهجة غاضبة:الخسيسان
وفي تلك الأثناء طرق أحد الباب،فدخلت أمي إلي حجرتها،كان الطارق نائب مأمور الضرائب،دخل وجلس علي السرير عند وسادة رأس "رالي " قائلاً: لقد أظهر خادمك اليوم شجاعة كبيرة،فقد أنقذ " شاما " من بين الجدران المتهدمة وأمواج المياه المتلاطمة،لقد أصيب المسكين بكدمات كثيرة،وقد استدعيت لتضميد جراحه،وسوف يزوره مرة ثانية مساء اليوم…وأنت يا بني "رالي " ستشفي سريعاً ،ثم صمت الصراف،وأخذ ينظر إلي " رالي " الذي كان مستلقياً في صمت،وعندما أمسكت بيده تحسساً لنبضه انفجر باكياً، فسألته:ما يبكيك يا "رالي "
فأجاب " رالي " في صوت خفيض: أشعر بألم شديد في رأسي يا سيدي .
نهض الصراف قائلاً:حسناً سأمشي الآن وأ{سل الطبيب إليك،الكدمات والجروح بسيطة، وأظنك ستشفي في أيام قلائل،فلا تحزن،ولقد سمعت أن زوج " شاما " سيصل هنا غداً.
وذهب الصراف بينما جلست أنا في صمت عند " رالي "أفكر فيما قاله الصراف :سيصل زوج " شاما "هنا غداً …غداً …لا تحزن … الجروح بسيطة …. الجروح.. ليت الصراف يعرف أن مثل هذه الجروح عادة لا تكون بسيطة .
جاءت أمي حاملة معها لبناً دافئاً لـ "رالي "، أخذت أسقيه أنا بالمعلقة، وكانت الدموع تنساب من عيني أمي .
وبعد خمسة أيام من هذه الواقعة ،رحلت " شاما " إلي مدينة تشكوال مع زوجها،ولكن قبل أن ترحل جاءت لتراني قائلة:
أنا راحلة يا أخي
كان وجهها أصفراً، وشفتاها حمراوين مثل الرمان. فقال أمي:لقد ذهب " رالي "لإحضار الماء من البئر، وهو علي وصول الآن.
ومر ما يقرب من الساعة،ولكن " رالي " لم يعد،فقلت بلهجة رقيقة: ربما لن يأتي يا "شاما "، وكأن " شاما " فهمت ما أقصد ، فنهضت علي الفور، ثم قالت بصوت خافت:شد حيلك يا أخي ،ستكون أحسن قريباً يا أخي .
ثم أحنت رأسها وحيت أمي ورحلت، رحلت في صمت محنية رأسها كمن ارتكب جرماً.
إن لكل ذرة في الكائنات هدفاً، وكل محاولات الإنسان بلا فائدة،كم أن الإنسان ضعيف وتافه،وهذه الدنيا أضعف منه وأتفه،وهذه ما هذه الثانية ، ولماذا، ثم إنه إذا تحكم الإنسان في هذه الحياة بقبضته حتى تتهشم إلي ذرات صغيرة، ولا يعرف عنها أ؛د ،فلماذا ، لأي سبب ،كيف.
كان قلبي يموج بآلاف الأفكار
بلا فائدة، كل شيء بلا فائدة لا فائدة في شيء
وبعد وقت طويل جاء " رالي " حاملاً فوق رأسه جرة الماء،كان وجهه شاحباً وشفتاه زرقاوين، وعندما جاء ليدلك قدمي بعد برهة سألته:أين اختفيت اليوم.
فأجابني بقوله:نعم، لقد تأخرت يا سيدي ، سامحني .
ثم صمتنا نحن الاثنان لبرهة ،بعدها قال " رالي ": لقد طلبت مني زهور الياسمين في ذلك اليوم،هذا عقد منه فخذه.
وأخرج " رالي " من جيبه عقداً من الياسمين ووضعه في يدي وهو يقول :
إنها ذابلة وأوراقها صفراء، لكن لا تزال رائحتها منها .
وتذكرت عندئذٍ كلام الصراف،فقلت:احتفظ أنت بها يا "رالي "، احتفظ بها عندك .
كلا يا سيدي ، لا أستطيع .
لماذا

وصمت " رالي "
فابتسمت ابتسامة باهتة وقلت له: لم أكن أعرف يا "رالي " أنك عاطفي وذو مزاج شاعري إلي هذا الحد .
وظل " رالي " صامتاً ، بغير حس أو حركة ،كأنه تمثال من الفخار،ثم أحنى رأسه وأخذ يدّلك قدمي بهدوء وبطء ،وسقطت من عينيه بعض دمعات ساخنة علي قدمي، كم هي عجيبة الحياة .
" شاما "، أم " شاما " ،الناسك "بابا " ، " رالي " ، "سومنات " ، " دود القز " كم هي عجيبة الحياة .

إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 09:46 AM
اليرقان
اليرقان في حد ذاته ليس مرضاً،هكذا يقول الأطباء مثلما يقول العلماء إن القمر بذاته ليس مميزاً،مضيئاً،والحقيقة أن الأطباء والعلماء يعرفون من عامة الناس بمثل هذه المقولات،وإلا فإنه من غير الممكن أن ينكر أحدنا ضوء القمر المنعش أو مرضاً مؤلماً مثل اليرقان،ومن الممكن أيضاً ألا يصدق أحد ما أقول،ويلقي به في زاوية النسيان علي اعتبار أنه مجرد نظرية " يرقانية " .
علي اية حال يجب أن تكون علي يقين من أن اليرقان مرض،ومرض غاية في الإيذاء أيضاً،وإلا فإنك لن تستفيد من قراءة أو سماع هذه القصة.والأمر الآخر هو أنني ابتليت مع بداية هذه القصة باليرقان ،ومثلما يبدو للأعمى في فصل الأمطار كل شيء من حوله أخضر يانعاً،فإن مريض اليرقان أيضاً يبدو له الاصفرار في كل ما حوله،وكأن يداً من الغيب امتدت وألقت (وصبغت) علي الكائنات كلها الزعفران ليس إلا. وعلاوة علي ذلك فهناك درجة أخرى من درجات المرض،وهو مرحلة في الحياة تنتهي فيها الازدواجية تماماً،ويحصل رجل مثلي علي الخلاص(الطهر) .
وهكذا كان هذا المرض هو بداية هذه القصة المختصرة ،فإذا لم أمرض لم تكن " شاما " تأتي لزيارتي وعيادتي،وأريد أن أقول بوضوح فيما يتعلق بـ "شاما " هذه إنها محبوبتي ،أي أنني أحبها،أما هي فتحب زوجها ،ذلك الذي يعمل في إحدى قمائن؟؟؟؟ الطوب بمدينة "جكوال "،ويتقاضى مرتباً قدره عشرون روبية،ومهمته في عمله هو أن يسجل أسماء العمال في قمينة الطوب،ويكتب في بعض الأحيان خطاباً إلي زوجته الجميلة يدرج فيها كثيراً من أشعار قصص الحب والغرام الشهير،سيف الملوك شاهرام وحسن بانو، وكانت " شاما " تأتيني بالخطاب لأقرأه لها،وعندئذٍ يحمر وجهها خجلاً ،فالمسكينة أمية لا تقرأ ولا تكتب (طبعاً)،وكنت حين أقوم بشرح أشعار "سيف الملوك "بطريقتي اليرقانية لها كانت ترتبك وتستحي كثيراً ،وحينئذٍ كانت تبدو في غاية الجمال ،فيتورد خداها،وتبرق عيناها،وترتعش شفتاها،وعندئذٍ يأتي صوتها الجميل(اللذيذ) قائلة: لماذا لا تقرأ ما بعد ذلك؟و… أما أنا فكنت أركز أنظاري علي وجهها حين اقرأ،هل هذا حب يا ترى ؟كلا،إنها "يرقانية "،يا إلهي، هل أصابني الحب أمر اليرقان.
وذات يوم،وأنا أذكر هذا اليوم جيداً، كنت مستلقى علي فراش ألعب ببعض ديدان القز،فجارنا كان يربي دود القز،ويبيع بيضه،إنها تجارة مربحة،وقد جمع في شهرين فقط من بيع بيض دود القز دود القز ثلاثمائة روبية،وكان أخي الصغير قد اشتري منه بعض هذا البيض،فقس منها خمسة بيضات وخرجت منها دود القز بيضاء،مائلة للصفرة،ومثل هذا الدود لا يأكل ولا يشرب، فهو يعيش سبعة ايام فقط، في هذه الأيام السبعة يتم التلقيح بين الذكور والإناث،وتبيض الإناث بيضاً أصفر، رقيقاً ومستديراً مثل حبات الخشخاش،ثم تموت الإناث. هذه الأيام السبعة فقط هي كل حياة هذه الديدان الغرامية .
كنت ألعب بدود القز كما ذكرت،كان من بينها أربعة ذكور،وأنثي واحدة ذات أجنحة كبيرة،وكانت تقف صامتة تختلس النظر إلي الذكور،تري من منها سيعجبها؟من ستختار ؟من ذلك المحظوظ الذي سيكون حبيباً لهذه الحسناء ذات الجسم الفضي . حقيقة كان السباق محتدماً.كانت الذكور تطير في جنون مثل الدبابير متجهة إليها ،محلقة حولها،يطوفون حولها مثلما تطوف الفراشات حول الشمع، كانوا يصطدمون ببعضهم البعض أحياناً حتى أكاد اشك أن أحدهما قد قضي نحبه فأقوم سريعاً بإبعادها عنه،وكانت تصمت لفترة بدون أدني حراك، ولكن سرعان ما تجذبهم ست الحسن والجمال إليها، فتنقض ثانية وتواصل طيرانها وطنينها،وكان أحدها في بعض الأحيان يتجه طائراً إليها ويقرب فمه من فمها،ويبثها عشق بطريقة ناعمة،وكانت هذه الظالمة تبتسم له أحياناً،وأحياناً أخرى تتجاهله،وتلتفت بعيداً عنه، ويبقي الذكر المسكين يجر أذيال الخيبة،تري لماذا فطرت المرأة علي الازدواجية،فبنظرة واحدة منها تحدث جراحاً غائرة،ثم ترتب هي علي هذه جراح تعذب القلوب،وتريحها كذلك،يصدر الظلم عنها،والكرم من شمائلها.
أغلقت عيني وأنا غارق في هذا التفكير، فتناهي إلي سمعي صوت أقدام،وكان هناك من جاء ووقف عند رأسي،قلت دون أفتح عيني:أماه،هل أحضرت الفوفل.
أنا لست أمك،أنا "شاما "
ولو أن قربة الماء الموضوعة علي بطني انفجرت فجأة ما كان ذلك ليدهشني مثلما أدهشني مجيء "شاما "،إن "شاما " لم تأت لزيارة ولو لمرة واحدة خالصة علي سبيل الخطأ منذ أن رقدت مريضاً قبل ثلاثة أشهر .
ألم يأتها خطاب من زوجها كل تلك الفترة ؟خاطبتها بطريقة رومانسية قائلاً:
"شاما "!! أنت؟!
فردت عليّ بطريقة قروية خالصة قائلة:نعم،أنا،خذ،أحضرت لك بعض حبات المشمش ناضجة ولذيذة.
ثم حلت منديلاً وألقت بحبات المشمش علي فراشي .عندما أصاب باليرقان فإن هناك شيئين يناسباني وأحبهما، وهما المشمش و"شاما "،فإذا ما اجتمع لي الاثنان معاً،فهذا يعني أنني في قمة سعدي،وقد كنت اليوم محظوظاً فعلاً ،اعتدلت ببطء واستويت جالساً، وأزحت جانباً وببطء صفحة الجريدة التي وضعت عليها دود القز،وأنا أقول:تعالي،اجلسي. جلست "شاما " علي السرير عند قدمي وهي تقول: كيف حالك؟
لا بأس
ثم بقينا لبرهة صامتين لا ننطق،فلم أكن أعرف ماذا ينبغي أن أقول،كان طوفان من العواطف يفيض في قلبي، وكنت أريد التعبير عن حزني وغضبي، ولكن لساني انخرس فجأة،كان في قلبي شكوى لا حد لها،ولكن شفتي كانتا كأن أحداً خاطهما،كان قلبي يموج مضطرباً لكن غيني انتشت سعادة عندما رأيت وجهها،وفي نهاية المطاف قلت لها بعد تفكير كثير:هل جاءك خطاب من زوجك في مدينة "جكوال" ؟!
أبداً،لقد ضعفت كثيراً،لماذا عيناك صفراوان هكذا،أنا آسفة،لم أتمكن من زيارتك قبل الآن،فقد كانت أمي مريضة،لماذا لا تأكل المشمش،كل كل .
نظرت إليها نظرات كلها امتنان وشكر،وتناولت حبة مشمش ووضعتها في فمي وأنا أًنهر قلبي وأوبخه،إذ يا سيدي القلب قل شيئاً،إن لم تكن لديك الجرأة للشكوى فعبر لها عن حبك علي الأقل،ما فائدة نظراتك المجاملة هذه،تعلم كيف تخرج وتعبر عما بداخلك فالعاشق الصامت لا يعجب حتى العواجيز من النساء.
قلت :" شاما "، أنت لكن "شاما " جذبت إليها ورقة الجريدة بسرعة وهي تقول :حسناً،هذا دود قز،من أين حصلت عليها،حسناً هذه هي الأنثى وهذا هو السد،يا سلام،والآن لابد أن حدث هناك قبولاً وإيجاباً بين الذكر والأنثى، انظر،إن هذا الذكر صاحب لسان زلف،ترى ما هو الكلام المعسول الذي يسمعها إياه،الرجال كلهم هكذا،أليس كذلك ،هاتان الدودتان ابتعدنا عن الباقين،تري أين يذهب هؤلاء المساكين الباقين ،انظر كيف ينتحب المساكين .
نظرت إلي " شاما " ،كانت تبدو كتمثال من ذهب،شفتاها مفتوحتان قليلاً،والطلاء الأحمر يبرق فوقهما .
خاطبتها بطريقة سينمائية قائلاً:كم أنت جميلة يا "شاما "،أجمل مما تتصورين أنت عن نفسك،ورغم أن هناك اصفراراً يحول بين عيني وجمالك ،إلا أنك مع ذلك تبدين غاية في الجمال،فإذا ما انزاح هذا الاصفرار الحائل بيننا ألن يبهر جمالك الأخاذ هذا عيني،كم هما مضيئان عيناك،مفتوحتان كزهرة نيلوفر شفافة رقيقة.
في تلك اللحظة دخلت أمي علينا ومعها الفوفل الذي طلبته،قالت:ماذا كنت اتقول عن النيلوفر يا بنى . ،أبداً يا أمي لا شيء،سمعت أن النيلوفر مفيد جداً في مرض اليرقان هذا .
وجهت أمي حديثها إلي "شاما " قائلة:لا يا بنيتي،أنا لا أعتقد في الوصفات البلدية،ثم إن هناك بعض العطارين.
وأخذت أتناول الفوفل في صمت،وأحنت "شاما " رأسها وهي تقول:لا أدري إن كان يفيده هذا أم لا.
كانت "شاما " في غاية الجمال (جميلة جداً)،ولهذا كان محبوها كثيرين ،كانت متزوجة وجاءت لعدة أيام لزيارة أهلها،وكان هذا أحد أسباب كثرة عشاقها،كان أبوها متوفياً،ومع ذلك فقد حافظت أمها في حالة الترمل هذه علي رواء شبابها ووقار وضعها فزاد هذا في عشاق " شاما " إضافة لا بأس بها ،وكانت " شاما " تشعر بهذا كله،وكان ذلك يزيدها وقاراً وبراءة.
إن مدينتنا صغيرة،وليس فيها سوى خمس أطباء،واثنان من المعالجين بالويدات ؟؟؟؟؟،ومحل واحد لماء الصودا لم يكن هناك سوي شخص واحد يبيع القشدة المثلجة،كان شاباً اسمه ؟؟؟؟؟، وكان يحب "شاما "، ولهذا كان يعطي أم " شاما " كل يوم مقداراً من القشدة المثلجة يومياً ودون أن يتقاضى مليماً واحداً .وكان هناك ترزيان فقط،أحدهما مسكين ساذج بسيط،يقبل ممتناً بعدة قروش قليلة أجراً لحياكة القميص،أما الثاني فكان خريج مدينة روالبندي،فقد قضي في روالبندي ثلاثة أعوام عمل خلالها في أحد محلات الحياكة الشهيرة هناك،وكان يتقاضى مثل ثمن القماش فقط أجراً لحياكته،وكان شباب مدينتنا يخيطون ملابسهم عنده برغبة وشوق.
في مدينتنا مدرسة إعدادية واحدة،كان التعليم فيها بداية حتى المرحلة الابتدائية،وتم افتتاح المرحلة الإعدادية هذا العام فقط،وكان ناظر المدرسة وافداً حديثاً علي المدينة،كان شاباً حسن المنظر حلو الطباع ،كان يريد أن يجعل من المدرسة كلية،وكان صوته في الغناء جميلاً،إذ سمعته من بعد ظننته " كراما فور" يغني،وكانت أغنية "لقد صرت أنا أنت ،وصرت أنت أنا" التي يتغنى بها القوال بيارو تعجبه كثيراً،ولهذا كان كثيراً ما يدندن بهذه الأغنية وهو يمر أمام بيت " شاما " ،وكانت " شاما " هي الأخرى تجلس في بعض الأحيان إلي النافذة لتستمع إليه،وكان وجهه حينئذٍ يتورد بابتسامة عجيبة تلك التي أسميتها أنا في ثورة عذلي وغيرتي منه حباً .
مدينتنا هي مقر سكني نائب العمدة ،وكان في نفس الوقت يقوم بعمل المحامي والطبيب أيضاً،وكان هذا من أكبر الأسباب التي جعلته عزيز لدي الجميع أكثر من اللازم،وكان يجيد الفارسية،وكان أديباً ومعتاداً علي النظر إلي " شاما " وتقيمها بنظرة فنية بحتة ،فكان ينقدها كأنها ليست " شاما " ، وليست امرأة من لحم ودم،وإنما كأنها تمثال من المرمر للنحات " لدكيف " أو لوحة فنية للرسام " سيلي " .
أما زاوية الشيخ " تهمنكر " فقد كان لها شهرتها في مدينتنا،وكانت الأرواح المحبة له،والتي تنتمي معظمها إلي فئة الإناث ينادونه بسيدنا الشيخ فقط،كان سيدنا الشيخ هذا قد تعدى مرحلة السباب بكثير،لكنه كان أصغر من الشباب في كلامه،كان يجهز الحشيش لتعاطيه علي نغمات أغنية تقول: يتراقص الموج فوق المياه قبل أن يفني فيه " وكان يتعاطى الخمر ويحب " شاما " ،كان طويلاً مستقيماً أبيض كطائر البجع.
عندما يقبل فصل المطر في موعده كنا نحرص علي ربط أرجوحات في الأشجار،وفي فصل المطر يفيض الشعراء وتفيض الأنهار،وتثور الرغبات في القلب،أما الدم فقد يكون يفتقد الخبرة،إذ تراه يفور . تركت أنا أيضاً حجرتي،ووضعت فراش في الحديقة خارجة تحت شجرة كثيفة،وفي شجرة بالقرب منها ربطت أختي الصغيرة أرجوحتها ،وكانت آنسات مدينتها والمتزوجات بها يأتين عن بكرة أبيهن ليتأرجحن بهذه الأرجوحة،عندئذٍ يكون المنظر جميلاً كان قلبي يقفز كالقطط في صدري حين تتأرجح " شيلا " علي الأرجوحة،ومع توالي الدفعات القوية للأرجوحة كانت " شيلا " فوق الأرجوحة تختفي للحظات بين الأوراق الخضراء في أغصان الشجر ،وكان قلبي عندها يقفز بشدة يكاد يسقط بسببها في الحارة.
ذات يوم كانت " شيلا " تلهو بالأرجوحة،وكان خادمي " دالي " في ذلك يدلك قدمي،سألت "دالي "،تري يا " دالي " ماذا لو سقطت " شيلا " .
قال " رالي ": من يا سيدي.
" شاما "
نظر إلي " رالي " المسكين نظرات حائرة،ولم يفهم ما أعنيه،وكيف له أن يعرف ما هو الحب.
إن " رالي " خادم بسيط ساذج،ولسانه يتلعثم في الحدث أحياناً،وأصبح يتيماً رغم وجود أبيه علي قيد الحياة،فقد طردته زوجة أبيه من المنزل،وأفسده تدليل أخيه الكبير ووالدته ومحبتهم وهي في ريعان الشباب .
قلت لـ "رالي" بعد توقف طويل: يا " رالي " ،ألا تفهم كلامي . وفي تلك الأثناء كانت " شاما " تأتي مسرعة وهي تقول يا بيه،لو ممكن تسمح لـ "رالي " بأن يطحن القمح في ماكينة الطحين،سأكون ممنونة لك جداً، ثم نظرت إلي السماء قائلة: لابد أن المطر سيسقط اليوم ، فإذا لم يأتيني " رالي " بالدقيق الآن فسيفيض،انظر إن السحب والغيوم تغطي السماء .
قال " رالي "، سأذهب فوراً.
وقلت:وأنا لا مانع عندي .
وما أن سمع " رالي "ردّي هذا حتى هب واقفاً ،المسكين " رالي " غاية في السذاجة،رفعت ببصري إلي السماء ،كانت الغيوم تغطيها تماماً،وإلي الشرق كانت قمم الجبال مختفية تماماً خلف السحب السوداء،قلت لنفسي لابد أن النهر سيفيض اليوم وبقوة،فالأنهار الجبلية مثل غضب الرجل الضعيف يحدث سريعاً،ولكنه كذلك يزول سريعاً،بينما الأنهار في فصل المطر تذهب بكثير من أرواح البشر،يثور النهر فجأة وتعلو أمواجه وتتلاطم، وتقفز من فوق الشاطئ تنتشر وتمتد لأميال في كل اتجاه،فتخرب القرية كلها،وتحدث خسائر لا حدود لها في المحاصيل والمواشي والأمتعة.
اقتربت أمي مني قائلة:هيا إلي الداخل،فقد تمطر السماء،لقد تكاثرت السحب السوداء،أين " رالي " ؟
لقد طلبت منه أم " شاما " أ، يحضر الدقيق من ماكينة الطحين،لابد أنه ذهب هناك،هيا بنا،سأدخل الآن.
وبدأ المطر يتساقط والفتيات يلعبن بالأراجيح،وفي لحظات تحولت الأرض إلي طين ووحل،وكانت أصوات تلاطم أمواج النهر تتناهى إلي مسمعي حتى وأنا نائم.ودقت الساعة العاشرة ليلاً،ولم يعد " رالي " بعد،جلست أمي بجانبي مشغولة بهذا الأمر وهي تقول:ما الذي جعل هذا التعس أن يذهب في هذا الوقت ،كان بإمكانه أن يرفض . أجبتها قائلاً،أنا الذي سمعت له يا أمي.
أنت الآخر أحمق،إذ كيف سيعود في هذا المطر المنهمر،ألا تسمع صوت النهر ،إن أمواجه تتلاطم،وثم لماذا لم يعد " رالي " حتى الآن ،إن ماكينة الطحين ليست بعيدة عن هنا،مجرد أربعة أميال فقط،من المفترض أن يكون قد عاد حتى الآن،أخشى أن يحجزه الناحية علي الشاطئ الآخر.
قلت لأمي في تردد:وماذا بعد يا أمي،لئن حاول عبور النهر فإنه ربما …
اصمت يا بني،لا تتحدث هكذا،ليحفظ الله الجميع.
ودقت الساعة الثانية عشرة،ولكني لم أستطع النوم،نظرت في ضوء الشمع الذي كان يترنح خفوتأ فوجدت أمي قد غلبها النعاس حيث هي فنامت،وفي تلك الأثناء سمعت صوت أقدام في صحن الدار،ورأيت شخصاً يستند إلي الحائط متكئاً علي عصي في يده وتنهد تنهيدة طويلة.
قلت : "رالي "؟
نعم
جئت بالدقيق
جئت به يا سيدي، كانوا جميعاً نائمين،فأيقظت أم "شاما " " ددهوا "،وسلمته الدقيق وعدت الآن.
أيها التعس أنا أسألك كيف جئت بالدقيق؟
في الشيكارة البلاستيك يا سيدي،لم يصبه أي بلل،كان الفيضان مرتفعاً جداً في النهر،لكن الله سلّم .
يا أحمق ، لماذا خاطرت بالعودة سريعاً هكذا،ألم يكن من الأفضل أن تبقي علي الشاطئ الآخر.
قلت ربما كانت " شاما " جائعة وفي حاجة إلي الدقيق الآن .
أصابتني إجابته هذه بدهشة عظيمة،كيف هذا؟ عناقيد العنب في نبتة باذنجان،سألته بلهجة عنيفة: ماذا لو كنت غرقت في النهر؟
وصمت " رالي " لبرهة ثم قال بتلعثم :من من أنا يا سيدي،لو بذلت حياتي لأحد تفيده،لاعتبرت نفسي ملاكاً
أيها التعس،لابد أن المجنون(قيس)كان جاهلاً مثلك
ماذا قلت يا سيدي؟
لا شيء،اذهب أنت ونم.
وخفت ضوء الشمعة تماماً، ولم يعد يتمايل،ولم تكن هناك سوى فراشة واحدة تحوم حولها،نظرت إليها بعيون يملأها النوم :فراشة.. شمعة .. رالي .. فراشة .. رالي .. شمعة .. رالي ..شاما .. شمعة.
كانت بيت (زاوية) " بابا كهمن كر " يقع علي شاطئ النهر بالقرب من منطقة المحرقة،وكان بها معبد صغير،وحديقة أصغر،وبها مكان لغسيل الملابس،كان الناسك " كهمن كر " وخادمه " سومنات " يجلسان هناك عند أقدام الآلهة(الإله الأنثى) يقدمون لها القرابين(يقدمون لها طقوس العبادة)،ويقضيان ليلهما هناك،كان النهر يفيض كل عام،لكن في مأمن دائماً من الفيضان.
في العام الماضي جرف الفيضان المكان المخصص للغسيل،لكن المعبد بقي قائماً كما هو،وهذا كله بفضل دعاء الناسك،ودليل علي أنه أعلى من البشر،وكانت أم " شاما " تذهب للتبرك به كل فترة،وكانت " شاما " هي الأخرى تذهب معها أحياناً،فقد رأيتها أول مرة في حديقة الناسك،كانت تضع عقداً من الياسمين في شعرها،وتجمع بعض الورود في طرحتها،نعم،ورود الياسمين،لقد مضت فترة طويلة علي هذا اللقاء،ولكني اليوم من حين لآخر أتذكر تلك النظرات الأولي وورود الياسمين، إننا نستطيع تغيير عقارب الساعة للوقت الذي نريده،ولكن من يجرؤ علي تغيير مؤشر الزمن ،ليت تلك النظرات الأولي تعود ثانية،ليتني أستطيع رؤيتها ثانية،تلك النظرات التي أثارت في صدري طوفاناً من الأماني،تلك التي أهاجت نهر الحب الساكن بمجاديفها،أما اليوم فلم تعد هذه الحقيقة سوى حلماً،حلماً ملوناً مثل الشفق،بعيداً مثل قوس قزح.
كان " رالي " يدلك قدماي قلت له في هدوء:هل يمكن أن تحضر لي زهور الياسمين من المعبد يا "رالي "؟
قال "رالي " :ولكن الجو يمطر الآن يا سيدي.
وما أن قال هذا حتى نهض قائلاً،حسناً سأذهب الآن.
وذهب " رالي "في هذا المطر المنهمر ،لقد أثارت ذكرى نظرتها الأولي هياجاً في الأماكن المكبوتة داخل القلب،أغمضت عيني ،وسرحت(وشردت) في عالم من الخيال،مثل هذه الدنيا لا يستطيع أحد أن يسلبى إياها،منحني هذا الإحساس نوعاً من الاطمئنان بداخلي،الإحساس بأن هذه دنياي،وستبقي ملكي حتى آخر أنفاس هذا الجسد الترابي،وآخر لمحة من حياته،وآخر خفقة من خفقات قلبه،ربما كانت هذه الدنيا هي أغلي ما أملك (كل ما أملك)،عندما أدخل إلي هذه الدنيا أشعر أنني تحولت إلي سفينة،سفينة تحيط بها الأمواج من كل جانب،الأمواج تلعب،تبتسم،وتعانق في دلال أشعة الشمس الأرجوانية عند الغروب،وفجأة أفرد شراعي،فتحملني الأمواج علي أكتافها بعيداً،لا أدري إلي أين،ولا أعرف لماذا،لكني لا أشعر إلا بموسيقي صافية وإحساساً من السرور منعشاً ،ممتعاً ولذيذاً،لا أدري كم من الوقت أمضيه شارداً في هذه الدنيا الخيالية،أو كم من الوقت كنت أمضيه شارداً فيها لو لم تهز أمي أكتافى وتوقظني قائلة:انهض يا بني،انظر هذا " رالي "
قلت بصوت خافت:ماذا حدث يا "رالي "،هل أخذت الورد.
عندئذٍ قالت أمي:أنت إذن الذي أرسلته إلي المعبد،المسكين "رالي " ،لقد كسرت يده وأصيب بكدمات عديدة في رأسه،إنه هناك ملقي في الردهة(في صحن البيت)
نهضت مسرعاً واتجهت إلي الردهة،كان "رالي " ملقي هناك علي سرير خشبي يئن بصوت خافت ،وبعض الضمادات تلتف حول يده ورأسه،سألته: أيها الأحمق،هل تشاجرت مع الناسك " بابا" في المعبد؟ كان من الممكن أن تعود دون حاجة إلي الشجار معه إذ لم يكن يريد إعطاءك الورود ،ولابد أن "سومنات" خادم الناسك ضربك هو الآخر،فمثلما يكون الناسك يكون خادمه.
أين المعبد الآن يا بني والمطر يهطل من ثلاثة أيام،كان يبدو أنه حين وصل إلي المعبد لن يتوقف إلا بعد أن يتسبب في مصيبة،لقد فاض النهر اليوم فيضاناً مريعاً ،اسمع إلي هدير أمواجه،كان الماء يحيط به من كل جانب،ويجرف أمام المكان المخصص لغسيل الملابس
لقد أرسلت إلي هكذا،فإذا كان فيضان النهر وصل إلي هذا الحد كان يمكن ألا يذهب إذا رأي الماء قد ارتفع إلي هذا الحد .
ولم أكن أكمل كلامي حتى قالت أمي: كيف لا يذهب يا بني،و "شاما " هناك.
ماذا قلت "شاما "؟
وتجاهلت أمي تساؤلي قائلة:انظر،كم كان الناسك وخادمه خبيسان ،انهما لم يفكرا حتى … قاطعت كلام أمي متسائلاً: لكن ماذا عن " شاما "
فردت أمي بسرعة:أقول يا بني إن " شاما " هي الأخرى ذهبت هناك،وبعد أن أدت طقوس العبادة للإله الأنثى ذهبت إلي الحديقة لتقطف بعض زهور الياسمين،وعندها حاصرتها مياه الأمطار،فبقيت داخل المعبد،ربما قالت لنفسها أنها ستذهب حين يتوقف المطر،ولكن الأمطار زادت ووصلت الأمواج إلي كل أنحاء المعبد ،وحين انهار المكان الثاني المخصص للغسيل،واتجهت المياه إلي المعبد أصاب الذعر الناسك " بابا" فهرب هو وخادمه.
قلت بسرعة: وتركا " شاما " هناك
لا تسل عن شيء يا بني، فروح كل إنسان عزيزة عليه،وحين وصل " رالي " إلي المعبد كانت المياه قد حاصرت المعبد تماماً،وكانت " شاما " تقف علي سلالم المعبد تصرخ مستغيثة ، بينما كان الناسك " بابا" وخادمه قد اقتربا من اليابسة .
قلت في لهجة غاضبة:الخسيسان
وفي تلك الأثناء طرق أحد الباب،فدخلت أمي إلي حجرتها،كان الطارق نائب مأمور الضرائب،دخل وجلس علي السرير عند وسادة رأس "رالي " قائلاً: لقد أظهر خادمك اليوم شجاعة كبيرة،فقد أنقذ " شاما " من بين الجدران المتهدمة وأمواج المياه المتلاطمة،لقد أصيب المسكين بكدمات كثيرة،وقد استدعيت لتضميد جراحه،وسوف يزوره مرة ثانية مساء اليوم…وأنت يا بني "رالي " ستشفي سريعاً ،ثم صمت الصراف،وأخذ ينظر إلي " رالي " الذي كان مستلقياً في صمت،وعندما أمسكت بيده تحسساً لنبضه انفجر باكياً، فسألته:ما يبكيك يا "رالي "
فأجاب " رالي " في صوت خفيض: أشعر بألم شديد في رأسي يا سيدي .
نهض الصراف قائلاً:حسناً سأمشي الآن وأ{سل الطبيب إليك،الكدمات والجروح بسيطة، وأظنك ستشفي في أيام قلائل،فلا تحزن،ولقد سمعت أن زوج " شاما " سيصل هنا غداً.
وذهب الصراف بينما جلست أنا في صمت عند " رالي "أفكر فيما قاله الصراف :سيصل زوج " شاما "هنا غداً …غداً …لا تحزن … الجروح بسيطة …. الجروح.. ليت الصراف يعرف أن مثل هذه الجروح عادة لا تكون بسيطة .
جاءت أمي حاملة معها لبناً دافئاً لـ "رالي "، أخذت أسقيه أنا بالمعلقة، وكانت الدموع تنساب من عيني أمي .
وبعد خمسة أيام من هذه الواقعة ،رحلت " شاما " إلي مدينة تشكوال مع زوجها،ولكن قبل أن ترحل جاءت لتراني قائلة:
أنا راحلة يا أخي
كان وجهها أصفراً، وشفتاها حمراوين مثل الرمان. فقال أمي:لقد ذهب " رالي "لإحضار الماء من البئر، وهو علي وصول الآن.
ومر ما يقرب من الساعة،ولكن " رالي " لم يعد،فقلت بلهجة رقيقة: ربما لن يأتي يا "شاما "، وكأن " شاما " فهمت ما أقصد ، فنهضت علي الفور، ثم قالت بصوت خافت:شد حيلك يا أخي ،ستكون أحسن قريباً يا أخي .
ثم أحنت رأسها وحيت أمي ورحلت، رحلت في صمت محنية رأسها كمن ارتكب جرماً.
إن لكل ذرة في الكائنات هدفاً، وكل محاولات الإنسان بلا فائدة،كم أن الإنسان ضعيف وتافه،وهذه الدنيا أضعف منه وأتفه،وهذه ما هذه الثانية ، ولماذا، ثم إنه إذا تحكم الإنسان في هذه الحياة بقبضته حتى تتهشم إلي ذرات صغيرة، ولا يعرف عنها أ؛د ،فلماذا ، لأي سبب ،كيف.
كان قلبي يموج بآلاف الأفكار
بلا فائدة، كل شيء بلا فائدة لا فائدة في شيء
وبعد وقت طويل جاء " رالي " حاملاً فوق رأسه جرة الماء،كان وجهه شاحباً وشفتاه زرقاوين، وعندما جاء ليدلك قدمي بعد برهة سألته:أين اختفيت اليوم.
فأجابني بقوله:نعم، لقد تأخرت يا سيدي ، سامحني .
ثم صمتنا نحن الاثنان لبرهة ،بعدها قال " رالي ": لقد طلبت مني زهور الياسمين في ذلك اليوم،هذا عقد منه فخذه.
وأخرج " رالي " من جيبه عقداً من الياسمين ووضعه في يدي وهو يقول :
إنها ذابلة وأوراقها صفراء، لكن لا تزال رائحتها منها .
وتذكرت عندئذٍ كلام الصراف،فقلت:احتفظ أنت بها يا "رالي "، احتفظ بها عندك .
كلا يا سيدي ، لا أستطيع .
لماذا

وصمت " رالي "
فابتسمت ابتسامة باهتة وقلت له: لم أكن أعرف يا "رالي " أنك عاطفي وذو مزاج شاعري إلي هذا الحد .
وظل " رالي " صامتاً ، بغير حس أو حركة ،كأنه تمثال من الفخار،ثم أحنى رأسه وأخذ يدّلك قدمي بهدوء وبطء ،وسقطت من عينيه بعض دمعات ساخنة علي قدمي، كم هي عجيبة الحياة .
" شاما "، أم " شاما " ،الناسك "بابا " ، " رالي " ، "سومنات " ، " دود القز " كم هي عجيبة الحياة .