المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضايا فكرية في كتاب ( تلاش : بحث ) لممتاز مفتي



إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 10:26 AM
قضايا فكرية
في كتاب " تلاش : بحث "
لممتاز مفتي
د . إبراهيم محمد إبراهيم
ممتاز مفتي واحد من كبار أدباء اللغة الأرديـة الباكستانيين في القرن العشرين ، ولد عام 1905م ، وتوفي عام 1995م ، وله مؤلفات عديدة من أهمها " الكهـ نكرى " ، و " لبيك " ، و " تلاش " موضوع البحث ، ويتميز إبداع " ممتاز مفتي " بتبني قضايا فكرية تمس المجتمعات الإنسانية بصفة عامة ، والمجتمعات الشرقية المسلمة بصفة خاصة ، وتتسم كتاباته الفكرية بعمق موضوعاتها وملامستها للواقع المعاش ، كما تتسم بأنها من القضايا التي يتجنب الكثيرون من المفكرين المسلمين الكتابة فيها بشكل صريح ، خوفاً من التعرض للنقد الشديد ممن يتناولونهم في كتاباتهم ، وخاصة الموضوعات التي تتعلق بالدين ، وفي بلد مثل باكستان يحتل فيه رجال الدين مكانة مؤثرة . وقد لا نتفق في قليل أو كثير مع ما يراه " ممتاز مفتي " من رأي في الموضوعات التي يتناولها ، خاصة وأنه يطعم فكره بالأدب ، ويصبغ أدبه بالفكر ، وهي معادلة صعبة تحتاج إلى مقدرة وتمكن من طرفيها " الفكر والأدب " ، ومع ذلك فإننا لا نستطيـع إنكار أهمية إبداعات " ممتاز مفتي من الناحيتين " الأدبية والفكرية " أيضاً .
وكتاب " تلاش : بحث " يتناول عدداً من مثل هذه القضايا الفكرية منها الخطاب الديني في باكستان ، وفارق الأجيال ، وصراع الأفكار ، والعلاقات الإنسانية ، والدين بصفة عامة ، والتركيز على الدين الإسلامي ، والقرآن الكريم ، وعلاقة الإسلام بالعلم ، ومفهومه لمصطلح " العلم " ، وهل المقصود بطلب العلم في القرآن الكريم هو العلم الديني أم العلم التجريبي . وكما هواضح من اسم الكتاب فهو رحلة من البحث عن الحقيقة في أي موضوع يتم تناوله ، وبالتالي هي حقائق متعددة ، وليست حقيقة واحدة بعينها ، أو كما يقول " ممتاز مفتي " نفسه عن الكتاب بأنه " مجرد بحث وفقط ، بل إن الشيئ الذي يبحث عنه ليس محدداً ..... ربما كان بحثاً عن المسلم ، وأحياناً يتصور الذهن أنه ربما كان بحثاً عن حقيقة العصر الحاضر ، وأحياناً يبدو وكأنه بحث عن الحقيقة ... ليس عن الحقيقة المطلقة ، وإنما عن حقائق بسيطة متعددة .. حقائق الأفكار ، حقائق الأعمال ، حقائق الإيمان ، حقاق السلوك والمعاملات ... حقائق عادية ... حقائق قديمة ... وحقائق جديدة .
ويؤكد ممتاز مفتي في أول الكتاب على أنه حاول أن يقول رأيه بقدر ما يعرف ، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، فيقول : هذا الكتاب سيتحدث عن الإسلام في أماكن متفرقة منه ، لكن هذا لا يعني أن تعتقد أن المؤلف يفهم الإسلام . صحيح أنه درس الإسلام وقرأ عنه ، وعكف على مطالعة كتب العلماء لعدة سنوات ، ودرس تفاسير رجال الدين كذلك ، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يفهم شيئاً !!. على أية حال كان لهذه الدراسة والمطالعة فائدة هامة وهي التعرّف على أولئك الذين لا يفهمون الإسلام ويعتقدون أنهم يفهمونه .
ويتسم أسلوب " ممتاز مفتي " في كتابه هذا بنوع ما من الحدة التي تصل في بعض الأحيان إلى التحامل ، الذي يصل إلى حد التجاوز أيضاً ، لكن معظم ما يقول – إن لم يكن كله – لا يخلو من الحقيقة ، حتى وإن كانت حقيقة مرة قد لا يقبلها المتلقي لأول وهلة ، لكنه بعد تأمل وإحاطة بخلفية الموضوع ككل يجد نفسه مضطراً لإعادة النظر في موقفه ، ومناقشة ما يراه " ممتاز مفتي " . يقول " ممتاز مفتي " عن كتابه هذا في مقدمته :
هذا الكتاب يؤكد على أن الإسلام الشائع بيننا له فائدتان ، الأولىأنه يمكن من خلاله الحصول على الثواب ، والثانية أنه يمكن توظيفه واستغلاله ، والحصول على الثواب هو الآخر صورة من صور توظيف الإسلام واستغلاله . على أية حال الناس يوظفون الإسلام كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . فالحكام يوظفونه للإبقاء على كراسيهم ، والسياسيون يوظفونه لتجميل سياستهم ، ورجال الدين في مقدمة من يوظفونه لتحقيق مآربهم الشخصية ، إذ حوّلوا الدين - الذي هو في الأصل عمل من أوله إلى آخره – إلى " علم " ، كي ينالوا به لقب " عالم " ( ) ، يضعون فوق رؤوسهم العمامة ، ويلبسون الجبّة ، ويكتحلون ، ويخضّبون بالحنّاء لحاهم ، بل ويأملون في سدّة الحكم أيضاً .
وأول القضايا التي تناولها " ممتاز مفتي " في كتابه قضية الفارق بين الأجيال ، واختلاف الأفكار بين كل جيل اختلافاً يصل إلى حد الصراع والتصادم ، وهو يرى أن الجيل الأكبر هو المسئول أولاً وأخيراً عن هذا الصدام ، وذلك لأنه ينظر إلى الجيل الجديد نظرة اتهام لا تقدير فيها ، ويرفض أن يعيش أبناء كل جيل واقعهم وعصرهم ، ويريد أن يفرض عليهم عصره وواقعه هو الذي يراه دائماً هو الأفضل ، وفي هذا الإطار تناول " ممتاز مفتي " علاقة الأب بأبنائه ، باعتبارها علاقة بين جيلين مختلفين تأكيداً ، يرضى فيها الأب بأن يلقى احتراماً ظاهرياً من الأبناء ، ويفقد في الغالب حبهم ، وبالتالي يفشل الأب في احتواء الابن ، والاعتراف بكيان خاص به ، وبالتالي ينقطع الحوار بينهما ، وتتباعد المسافات وتتسع ، وتكون النتيجة في النهاية صراع لا ينتهي ، وصدام لا يتوقف ، حتى وإن كان الظاهر ينم عن احترام ووقار ، ومن هنا يحمّل " ممتاز مفتي " عاطفة الاحترام الظاهري هذه مسئولية البرود العاطفي في العلاقات بين الآباء والأبناء . يقول ممتاز مفتي تحت عنوان " عاطفة الاحترام " :

عاطفة الاحترام

يقول الحكماء : الاحترام جدار يحول بين المحترم ومن يحترمه لا يسمح بالتقارب بينهما ، لأنه يولّد الخوف ، والخوف ليس عاطفة إيجابية ، وإنما عاطفة سلبية ، والاحترام يقلّل من فرص الحب المتبادل . خذ على سبيل المثال علاقة الأب بابنه ؛ الواجب على الابن أن يحترم الأب ، ولهذا لا يستطيع أي منهما التقارب مع الآخر . ما أحسن ما قال حكيم : إن رأيت شخصين جالسين معاً ، وليس لدى أحدهما ما يقوله للآخر ، فاعلم أنهما ابن وأبوه .
ويتعجب " ممتاز مفتي " من هذا قائلاً : إلى هذا الحد قرب من حيث العلاقة ، وبعد من حيث السلوك !! وهذا من كرامات الاحترام ، ولا أدري لماذا يتحول الأب إلى محترم ويبتعد الأبناء عنه !!!. وكانت نتيجة هذا البعد أن تولّدت عاطفة الخوف من الأب ، وبسبب هذا النوع من علاقة الحب نواجه اليوم مشكلة الفراغ والتباعد بين الأجيال .

القرآن الكريم :

ويرى " ممتاز مفتي " أن عاطفة الاحترام هذه كان لها تأثير سلبي على علاقتنا بديننا ، وخلقت بيننا وبين أساسه المتين وهو القرآن الكريم جداراً حال بيننا وبين فهمه وتدبره ، وضرب لذلك مثالاً بواقع عاشه في بيته ، وتعيشه الأغلبية المسلمة في شبه القارة الهندو باكستانية فيقول :
لقد بلغت من العمر ثمانية وثمانين عاماً ، لكني لم أعرف ما هي الرسالة التي أرسلها الله لبني الإنسان !!. وذلك لأنني لم أستطع قراءة القرآن الكريم حتى اليوم ، والسبب هو عاطفة الاحترام لدى زوجتي . لا بدّ أنك سوف تضحك مما أقول . أؤكد لك أنني أؤمن من كل قلبي أن القرآ وحي منزّل ، وأعرف – بل إنني على يقين – من أنه لا يوجد في الدنيا كلها دين أفضل من الإسـلام ، ولديّ إيمان كامل بأن علماء الدنيا كلهم ومفكّريها وحكماءها في القرن الحادي والعشرين سيتأكدون من هذه الحقيقة ، وسيعترفون بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يناسب العصر الحاضر ، وبالرغم من ذلك فإنني إلى اليوم لم أدرس القرآن الكريم بسبب عاطفة الاحترام لدى زوجتي .. لم أستطع أن أدرسه !!.
إن زوجتي سيدة صالحة ، مواظبة على الصلاة ، كما أنها مواظبة على قراءة القرآن بلا انقطاع ، لا بهدف فهمه ، وإنما بهدف الحصول على الثواب . وعاطفة احترام القرآن الكريم في قلبها قوية للغاية ، لذلك فهي تلفّ المصحف في حافظة مصنوعة من قطعة من الحرير ، لا ، ليست قطعة واحدة ، وإنما عدة قطعات ، وبعد ذلك تضعه فوق أعلى رفّ في الدولاب ، فإذا وضعه أحد فوق الرّف الأوسط مثلاً اعتبرت ذلك منافياً تماماً للاحترام ، وإذا وضعت أنا المصحف على المنضدة فإنها تغضب قائلة : المنضدة ليست مكاناً طاهراً إلى هذا الحد حت تضع عليه المصحف !.
كم أودّ أن أجعل من المصحف كتاباً كذلك الكتاب الذي نطلق عليه " كتاب ما قبل النوم " ، أقرأه كل ليلة قبل أن أنام ، ثم أضعه تحت الوسادة ، وكلما أتيح لي وقت فراغ استلقيت على السرير وقرأت فيه .. قراءة ليست بترتيب السّور والصفحات التي توقفت عندها آخر مرة ، وإنما أقرأ فيه من حيث أفتحه كل مرة ، لأنني أعتبر القرآن كتاب علم وحكمة ، وأريد أن أقرأه قائماً وجالساً ومستلقياً ، لكن ماذا أفعل مع زوجتي وهي لا تسمح لي بذلك . سادتي ! إعلموا أن كل هذا يحدث بسبب عاطفة الاحترام والتبجيل . إن عاطفة الاحترام والتبجيل هذه عنيفة لدينا لدرجة أنها :
· لم تدعنا نقرأ القرآن .
· لم تسمح بحب الآباء .
لقد سجن المسلمون القرآن الكريم احتراماً وتبجيلاً في الأغلفة الحريرية ، وحرموا المسلمين من قراءته . جعلوا منه تمثالاً ، وأغلقوا عليه الدواليب .

العصر الحاضر :

ويرى " ممتاز مفتي " أن نظرة المجتمع ، وفي مقدمته رجال الدين إلى الجيل الجديد والعصر الحاضر نظرة سلبية ينبغي تغييرها ، فالجيل الجديد جيل مظلوم يستحق الاهتمام وليس التجاهل والتهميش . يقول " ممتاز مفتي " :
قدم إلى المدينة التي أعيش بها عالم دين كبير ، قمت بزيارته ، وقبل أن أوجه إليه سؤالاً بدأ هو بالحديث عما في عصرنا الحاضر من ابتعاد عن الدين ، بل وانقطاع عنه . كان كلامه في معظمه صحيحاً ويستحق الاهتمام ، لكن كان يبدو مما يقول وكأن العصر الحاضر من اختراع الجيل الحالي ومن صنع يديه ، وكأن الجيل الحالي قد تآمر عامداً متعمداً ضد الدين ،وقام بتشكيل العصر الحاضر بقدر كبير من التخطيط والتنفيذ . كنت أريد أن أقول للشيخ : يا سيدي ، إن العصر الحاضر ليس من صنع جيلنا الحالي ، وأن الظروف العالمية هي التي حمّلت جيلنا الحالي مسئولية هذا العصر الحاضر . إن الجيل الحـالي لم يوقع بنا هذا الظلم ، بل إنه على العكس من ذلك جيل مظلوم ، ويستحق الاهتمام والعطف من قبل علماء الدين ، ولكن كيف أقول هذا لعالم الدين وهو لم يتوقف عن الكلام أصلاً . إنه في الحقيقة لم يكن يتكلم ، إنما كان يخطب .
سادتي ! يقـول الحكماء : إذا أردت أن تؤثر على أحد ، وأن يسمع الآخر ما تقول باهتمام ، فإنه يجب عليك أولاً أن تصير مثل هؤلاء الذين تريد أن تؤثر عليهم ، تصير مثلهم حتى يعتقدوا أن هذا الشخص منهم . وعلماء الدين لا يستوعبون هذا الشيئ البسيط ، وهو أن عليهم أن يستميلوا إلى الدين تلك الطبقة التي لا يعترفون بها ، إنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر هو الحال بالنسبة لنا ، وسرعان ما يصبح مستقبلنا . إنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر موج لا يمكن إيقافه ، ولا يمكن أن تقام في طريقه السدود ، وإنما يمكن توجيهه وترويضه فقط .
ويرى " ممتاز مفتي " أنه على رجال الدين أن يتعلموا من رجال التصوف أصول الدعوة الصحيحة ، إذ أن رجال التصوف لم يكونوا يقيمون حدوداً ومسافات بينهم وبين الناس ، وإنما كانوا يتقربون منهم ، ويعملون بشتى الطرق ليشعر المسلم العادي أنهم منه ومثله . يقول :
على العكس من هؤلاء اتخذ المتصوفة الكرام من المساواة طريقاً لهم . كانوا يعرفون أن عليهم أن يصيروا مثل أولئك الذين يريدون التأثير عليهم حتى يظنوا أنهم منهم ، وغير متميزين عنهم . كان المتصوفة الكرام يقطعون مئات الأميال قادمين من وسط آسيا إلى الهند ، حتى إذا ما وصلوا إليها اتخذوا من أرضها وطناً ، ومن سكانها أهلاً ، فتكلموا لغتنا ، ولبسوا ملابسنا ، وعاشوا مثلنا ، ودانوا بعاداتنا وتقاليدنا ، وبعدها تحدثوا إلينا . كانوا يعرفون حقيقة أنهم إن لم يصيروا مثلنا ، فلن يصل إلينا كلامهم . وحين اندمجوا فينا تماماً أخذوا يكتبون حكاياتنا الشعبية بلغتنا ، ويبثون في ثناياها رسالتهم إلينا ، واتسمت مؤلفاتهم هذه بقربها من الناس ، حتى حفظوها ، وأخذوا يقرأونها بشوق في المناسبات والمحافل ، ويسمعونها متمايلين في وجد .
لم يقم المتصوفة الكرام بالدعوة إلى الدين أبداً ، لم يناقشوا أحداً ابداً أو يجادلوه ، ولم يلقوا خطباً أو كلمات ، إنهم لم يتخذوا من الإسلام وظيفة ، إنما كانوا يحيون للإسلام فقط ، كان لديهم سلاحان هما الأخلاق وحسن السير والسلوك ، وكانت المساواة هي حدّ هذين السلاحين ، وهو حدّ أسنّ من حدّ السكين .
لم يخطر ببالنا أبداً أننا حين نهاجم الجيل الجديد ونرفضه فإننا بذلك نهاجم مستقبلنا ونرفضه ، إننا لم نعترف أبداً بأن الجيل الجديد هو مستقبلنا ، رفضناه على خط مستقيم ، لم نعترف أبداً بأن الجيل الجديد هو نتاج الواقع المعاصر ، ولم نسلّم أبداً بحقيقة أن تدرّج الإنسان من الطفولة إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الرجولة ، إنما هو تدرّج طبيعيّ واقع لا محالة ، تدرّج طبيعي ينبغي على الفرد فيه أن يعيش كل فترة من فترات عمره ، يعيشها من كل قلبه ، ويصير جزءاً منها ، وإن لم يفعل ذلك فلن يكبر أبداً ، ولن يكتمل أبداً ، ومع أن كل أب يرغب دائماً في أن يكبر ابنه ويصير مثله .. لكن كل أب أيضاً يعتقد أن " الفترة " التي عاشها كانت أفضل من " الفترة الحالية " ، وأن كل " فترة قادمة " هي الأسوأ . لم يخطر ببال أحد من الآباء أن عليه أن يشكّل ابنه بحيث تتولّد فيه إمكانية الحياة بما يتناسب مع " الفترة القادمة " .
نحن الكبار نعتقد أن العصر الحديث ما هو إلاّ فتنة أثارها شبابنا ، لكن هذا سوء فهم منا ، فهذه الفتنة لا تقتصر علينا فقط ، وإنما هي عاصفة تجتاح العالم كله . نحن نعتقد أن هذه العاصفة من صنع الغرب ، وربما كان في اعتقادنا هذا شيئ من الصحة ، لكننا لا نعرف أن الغرب نفسه يعاني من هذه العاصفة ، وأنه مصاب أكثر منّا ( ) ، فأهل الغرب أنفسهم في حيرة مما يحدث ، ولماذا يحدث ، وكيف يحدث . إنهم عاجزون عن استيعاب الأمر كله . نحن نعتقد أن هذه النار تحرقنا نحن فقط ، وهذه حماقة منا ، إذ أن أكثر من تحرقهم هذه النار هم أهل الغرب ، وأهل الغرب يعرفون تماماً أن هذه النار تحرق بيتهم ، ويتشاورون فيما بينهم في كيفية مواجهة هذه المشكلة والتعامل معها ، يفكرون ، ويتخذون خطوات عملية . أما علماء الدين لدينا فإنهم يعتقدون أن هذه المصيبة ستنزاح عنهم بترديد " لا حول ولا " ، ولهذا فإنهم لا يتوقفون عن خطبهم . يقولون : أيها الناس ، اقرأوا " لا حول ولا " على الغرب ، على الجيل الجديد ، على العصر الحاضر .

الدين الإسلامي

هناك فهم خاطئ للدين بأنه مسألة شخصية ، وهذا الفهم الخاطئ ظهر كنوع من الفرار من الدين أصلاً ، وقد ظللت أنا أيضاً فترة من فترات حياتي أعتقد أن الدين أمر شخصي ، ولم أفكر أبداً في أنه إذا كان الإسلام أمراً شخصياً ، فكيف يكون واحداً لدى الجميع ، إذ أن هذا يعني أن يكون لكل فرد إسلامه الخاص به ، وهذه الأفكار الخادعة تأتي من الغرب ، وتنبهر بها أنظار شبابنا . والحقيقة أن الإسلام جعل الله يمتزج بقلوب المسلمين مثلما يمتزج الماء بالعجين . أتعرف من فعل كل هذا وكان سبباً فيه ؟!. إنهم المتصـوفة ، لقد أدخلوا الله في " اللاشعور " ، ونحن دون أن نشعر نحمد الله ونثني عليه ، دون أن نشعر ندعو الله ، دون أن نشعر نبني آمالنا عليه . ولا يقتصر الأمر على اللاشعور فقط ، بل إن الله لا يفارق شعورنا أيضاً . إننا قد نظن أن الإسلام ينفّذ بالقانون ، وهذا خطأ منا ، فالإسلام لا ينفّذ بالقانون ، وإنما بالثقافة ... بالعواطف ... باللاشعور .
إن الله ممتزج تماماً في كل عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا مثلما يمتزج بياض اللبن به ، وأقول لكم شيئاً أيها السادة ، وعليكم أن تعقلوه جيداً ، وهو أن لله خصلة ، وهي أنه يتمكن حيث يحلّ ، ويستحيل بعد ذلك زحزحته مهما استماتت المحاولات .
ولا أدري لماذا لا يرى علماء الدين لدينا تلك العلاقة الحميمة لله مع مخلوقاته ، إنهم يخوّفوننا دائماً من غضب الله وسخطه ، يخوّفوننا من العقاب دائماً ، لا يزرعون في قلوبنا عاطفة حب الله والتّعلق به ، إنما الخوف ، والخوف فقط ، خافوا الله ، فإن عقابه يأتي بغير سابق إنذار ( ) ، وأن الله وإن كان يمهل كثيراً ( ) ، لكن انتقامه شديد ، خافوا أيها الناس ، خافوا ، خافوا من عذاب الروح ، خافوا من عذاب القبر ، خافوا من حساب الملائكة الذين يحملون " المرزبّات " . لقد زرع علمـاء الدين في قلوب الناس الخوف من الإسلام .
ما زلت أذكر أن كبار السن في الماضي كانوا يقولون أن الإسلام طريقة بسيطة سهلة تعتمد على أمرين وهما : أن تعيش ، وتدع الآخرين يعيشون ، وأن تريح وتستريح . والأمر الأول هو أن تقرّ من قلبك بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه القادر المطلق ، وأن محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين . والأمر الثاني هو أن تؤدي حقوق العباد ، وأن تخدم الناس ، وأن تعطف عليهم ( ) ، وأن تخصص للفقراء جزءاً من دخلك ( ) ، وأن تصوم رمضان ، وتمثل بين يدي الله ساجداً خمس مرات في اليوم ، وإن وفقك الله تزور مكة والمدينة ، وتؤدي مناسك الحج .
سألت أحد الكبار قائلاً : يا سيدي ، إن كانت هذه هي الأركان الخمسة للإسلام ، فهو إذاً دين بسيط وسهل . قال : هذا صحيح . فسألته : وما هو أهمّ ركن بين هذه الأركان الخمسة ؟. قال : إننا نعتقد أن الإسلام يبدأ بخدمة خلق الله ، وينتهي بخدمة خلق الله أيضاً .

القرآن الكريم

وفي حديثه عن القرآن الكريم يؤكد " ممتاز مفتي " على أن القرآن الكريم ليس كتاباً دينياً مثل الكتب الدينية الأخرى كما يعتقد عامة الناس ، وإنما هو كتاب حياة ، ولا يخاطب المسلمين فقط ، وإنما يخاطب الناس جميعاً . يقول :
كنت أظن أن القرآن الكريم كتاب ديني فيه تبيان لعظمة الله تعالى ، وإرشادات تتعلّق بالصراط المستقيم ، لكني وجدت في القرآن عالماً بأكمله ، إنه لا يقتصر على الدين فقط ، إنه مجمع للمعرفـة ، يضم موضوعات كثيرة تعود إلى ما قبل التاريخ المكتوب ، وإشارات عن خلق الكائنات ، وموضوعات عن العلوم المتعلقة بالنباتات والحيوانات والجمادات ، موضوعات في الحكمة ، موضوعات في الصحة ، موضوعات في الأدوية ، عن الشمس والقمر والنجوم والأرض والفضاء ، حديث في كل موضوع ، وباختصار فإن ما ظننته نهراً اتضح أنه بحر .
حين يتحدث القرآن عن الأخلاق يبدو كأنه كتاب أخلاقيات فقط ، إنه يتحدث عن الجوانب المختلفة للعلاقات الإنسانية : ما هو السلوك الذي ينبغي على الشخص اتباعه تجاه والديه ، وتجاه ضيفه ، وتجاه عدوّه ، وعلى الحاكم تجاه رعاياه ، وعلى الرعايا تجاه الحاكم . وبالتالي فإن القرآن لا يخاطب المسلمين فقط ، وإنما يخاطب بني الإنسان جميعاً ( ) . إنه كتاب عمره أكثر من ألف وأربعمائة عام ( ) ، ومع ذلك لا تجد به ما يشعرك بأنه قديم ، أو يجعلك تقول أن ما جاء به كان يعتقد بصحته في الماضي فقط . ولغة القرآن غاية في الروعة والجمال ، بها من " الموسيقية " والتأثير الصوتي ما يجعل حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن التأثير الصوتي يتمايلون وجداً لسماعه . أمّا أسلوبه فيتّسم بالروعة والتجدّد ، والتوافق والتناغم مع معطيات العلم في أيامنا هذه . والأمر الآخر المحيّر في القرآن الكريم هو أن أسلوبه ليس تحكّمياً ، إذ أن الكتب الدينية بشكل عام تصدر الأحكام للناس بأن افعلوا كذا ، أو احذروا أن تفعلوا كذا ، أو افعلوا بهذا الشكل ، ولا تفعلوا بهذا الشكل . بينما يتفق العلماء والباحثون على أن أسلوب القرآن الكريم ليس تحكّمياً هكذا ، ولا يمنع من التفكير والتدبّر واستخدام العقل ، فأسلوب القرآن الكريم إذاً مختلف تمام الاختلاف عن أسلوب الكتب الدينية الأخرى .

الدين والعلم

وفي معرض حديثه عن العلم يؤكد " ممتاز مفتي " على أن المقصود بلفظ العلم في القرآن الكريم ليس العلم الديني ، وإنما علم الدنيا ، لكن هذا العلم ينبغي أن يكون كما يريد الله تعالى ، وهذا هو العلم الذي يؤكد الإيمان ويحفظه . يقول :
الحقيقـة أن سوء فهمنا هو الذي روّج لفكرة الصراع فيما يتعلق بالعلم ، فلقد اعتقدنا أن " العلم التجريبي " علم كامل ، في حين أن هذا " التجريب " في أيامنـا ما هو إلاّ محاولة عشوائية غير مكتملة لفهم حكمة الله تعالى ، وليس له هدف بعينه . لقد بدأ المسلمون البحث التجريبي هذا ، وكان ذلك في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش عصراً من الجهالة ، وكان المحرك لهذا البحث التجريبي لدى المسلمين هو خالق الكائنات ، ولم يكن هناك هذا النوع من الانتشار المضطرب للبحث التجريبي الموجود الآن ، وكان للكائنات هدف واحد ، ونظام واحد ، وخطة واحدة ، ومقصد واحد ، ولهذا فإننا نجد إشارات القرآن الكريم في كتابات علماء المسلمين التجريبيين . ثم كان من سوء الطالع أن ابتعد اهتمام المسلمين عن التفكير في الكائنات ، واقتصر على المشاغل الدينية فقط ، وهكذا اتنقل البحث التجريبي إلى أيدي الباحثين الأوروبيين الذين اتسموا بالإخلاص والكفاءة في كل شيء ، إلاّ شيئاً واحداً ، وهو أنهم لا ينظرون إلى الكائنات كما يريد الخالق ، وإنما ينظرون إليها كما يريد المخلوق فقط ، وإن لم تنظر إلى الكائنات كما يريد الخالق تحوّلت هذه الكائنات إلى غابة ، ولم يبق لها هدف أو مقصد ، ولا خطة أو نظام ، ومن هنا يضطرب البحث العلمي .
والحقيقة أن الشخص الذي لا يعرف شيئاً عن الاتساع المثير للكائنات ، لايمكن أن يفهم معنى عظمة الله وجبروته ، والسبب فيما نحن فيه من خلط هو فهمنا للفظ " علم " ، إذ أن علماء الدين لدينا يفهمون المقصود من لفظ " العلم " على أنه " علم الدين " ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال " اطلبوا العلم ولو في الصين " لم يكن المراد منه سوى العلوم الطبيعية ، إذ أن مركز العلوم الدينية حينئذ كان هو المدينة المنورة ، وبالتالي لا مجال أصلاً للسفر خارجها من أجل تحصيل العلوم الدينية ( ) .
وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع متفرقة منه فضل العلم والعلماء ، وكلها تشير في مفهومها إلى العلوم الطبيعية والعلوم الخاصة بالكائنات والمخلوقات ، وطالما لم نحصل على العلوم المتعلقة بمخلوقات الله ، فإننا لا نستطيع فهم عظمته تعالى ، واتساع كائناته ، وجمال نظمها ، ودقة نسقها ، وبالتالي لا نستطيع أيضاً أن نفهم معاني القرآن الكريم ، أو حتى عظمة القرآن الكريم ذاته . ومن هنا فإن العلوم الدينية بغير الحصول على العلوم الدنيوية تصبح كسيارة بغير إطارات تسير عليها . وأستطيع أن أقول إن إيماني بالقرآن هو إيمان القلب ، لأني أؤمن بكل كلمة وردت في القرآن دون أن أعرفها ، وليس للإيمان العقلي دخل فيه ، أما أولئك الذين يعرفون العلوم المتعلقة بالكائنات ، فإن إيمانهم مضاعف ، وأكثر نضجاً ، وهو ما نسميه " حق اليقين " ، لأن لعقولهم وأذهانهم دخلاً في هذا الإيمان .

تسامح الإسلام

ويتناول " ممتاز مفتي " الاتهام الذي اعتاد أهل الغرب توجيهه إلى المسلمين من أنهم لا يعرفون التسامح ، ويتسمون بالعنف والوحشية ، فيفند هذا الاتهام بأسلوب منطقي سليم . يقول :
عندما حقّق المسلمون انتصاراتهم الباهرة أيام الحروب الصليبية بدأ القساوسة النصارى في إطلاق شائعات تسيئ إلى الإسلام والمسلمين ، منها أن مجاهداً مسلماً يتفوّق على عشرة جنود مسيحيين لا لشيء إلاّ لأن المجاهدين المسلمين في الخقيقة متوحشون ، قساة القلوب ، ظالمون قتلة ، سفاكون للدماء ، وليسوا من بني الإنسان . ثم أشاعوا أن المسلمين ضيّقوا الأفق ، محرومون من سعة القلب ، وأنهم لا صبر لهم . وهكذا قدّم القساوسة صورة مشوّهة للإسلام ، والتاريخ يشهد على أن قدر التسامح الموجود في الإسلام لا نجد له مثيلاً في أي دين آخر .
لقد حكم المسلمون " أسبانيا " ردحاً طويلاً من الزمن ، ويؤكد المؤرخون على أن حكم المسلمين لهذه البلاد كان حكماً مثالياً ، لكن قساوسة النصارى ومبشّريهم أغفلوا دائماً هذا الجانب المشرق للحكام المسلمين ، وضخموا الأمور إظهاراً لقسوة المجاهدين وعنفهم ، وبالغوا في وصف ذلك أي مبالغة .
يقولون أنه عندما دخل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القدس فاتحاً ، وحان وقت الصلاة ، تبادر إلى الأذهان سؤال وهو : ترى أين يصلي ؟!. وتحدّث المسلمون مع المسيحيين في هذا الأمر ، فقال المسيحيون : تستطيعون يقيناً الصلاة في كنيستنا . لكن سيدنا عمر رضي الله عنه رفض أداء الصلاة في الكنيسة قائلاً : لو فعلت هذا فسيقول الناس أن المسلمين احتلوا كنيسة المسيحيين عنوة ، والإسلام لا يجيز هذا ، ولا بدّ لنا أن نحترم دور العبادة لدى غير المسلمين .
وهناك عبارة منقوشة في أماكن متعددة على جدران " قصر الحمراء " في " أسبانيا " تقول : " لا غالب إلاّ الله " ، وكان هذا هو شعـار المسلمين حين فتحوا " أسبانيا " ، وقصة هذا الشعار أنه عندما فتح المسلمون " أسبانيا " ، ودخل الفاتحون مدينة " غرناطة " ، استقبلهم الناس من كل جانب بترحاب كبير ، ولقبوا الحاكم المسلم بلقب " الغالب " ، فردّ عليهم الحاكم المسلم قائلاً : لست فاتحاً ، ولا غالباً ، إنما الفاتح والغالب هو الله .
والتاريخ الإسلامي مليئ بمثل هذه الأحداث ، ولا أدري كيف يقال اليوم أنه لا تسامح لدى المسلمين ، وأنهم لا صبر لهم .
وأخيراً يؤكد " ممتاز مفتي " على أن الإنسان ليس شراً كله ، بل على العكس من ذلك هو خير في غالبه ، وأن هذا الخير في الإنسان هو الذي يسير الحياة إلى اليوم . يقول :
لا أعرف لماذا يرى علماء الدين لدينا في الإنسان تجسيداً للشّر ، غارقاً في الذنوب ضالاً عن الطريق . سادتي : إن كنتم تعتقدون أن الله تعالى جعل الإنسان أشرف المخلوقات ، وأنه تعالى نفخ في هذا الإنسان من روحه ، وقدّر له تسخير الكائنات ، فكيف يكون الإنسان تجسيداً للشر ؟!!. وأنا أعتقد أنه في اليوم الذي تزيد فيه نسبة الشر في الإنسان عن نسبة الخير فيه ، ستنتهي عندئذ هذه الحياة وهذه الدنيا ، إذ أن هذا العالم يسير بقوة عاطفة الخير لدى بني الإنسان .
إنك لو نظرت إلى هذه الدنيا نظرة سطحية ، لبدت لك كأنها مليئة بالشرور ، في حين أن الحياة بمثابة البحر ، لا يكون المدّ والجزر فيه إلاّ على سطحه ، وعلى سطحه فقط تثور الأمواج الهادرة ، ويتطاير رذاذها ، ويكثر زبدها ، بينما يسود الهدوء التام أعماق هذا البحر ... سكون لا نهائي ، وهكذا المجتمع الإنساني ، يتطاير رذاذ الشر على سطحه الخارجي فقط ، بينما يعمره الهدوء من الداخل ( ) .
ولا بد أن نعترف أيها السادة بأن اقتراف الذنب ليس بالأمر اليسير أبداً ، إنه مثل ارتكاب الجريمة تماماً ، وحين يقبل الشخص على ارتكاب جريمة ما ، يخرج عن أطواره الطبيعية ، ويشعل بداخله نيران الغضب ، ويزيد نيران الانتقام اشتعالاً ، ويؤجّج لهيب الكراهية والنفور ، بمعنى أنه يولّد بداخله حالة من الجنون حتي يستطيع ارتكاب الجريمة . وهكذا الذنب أيضاً ، فمثلاً إذا أردت أن تكذب فإن ذلك أمر غاية في الصعوبة ، وأنا هنا لا أتحدث عن المجرمين المحترفين ، وإنما أتحدث عن الأشخاص العاديين ، في هذه الحالة يكذب اللسان فقط ، بينما لا تؤيده في هذا باقي أعضاء الجسد ولا تسايره ، بل إنها على العكس من ذلك تحتجّ عليه قائلة : هذا كذب ، هذا كذب ، وغالباً ما يتعثّر اللسان ويتلعثم أيضاً . والإساءة إلى أحد ، أو خداع أحد ، ليس بالأمر السهل هو الآخر ، وهكذا باقي الأمور ، وبالتالي إذا افترضنا أن الواحد منا يقوم بخمسين عمل في اليوم الواحد ، فقد يكون من بينها عملان فقط يندرجان تحت عنوان الشر ، بينما تكون الأعمال الثمانية والأربعون الباقية خيراً .

إبراهيم محمد إبراهيم
05/07/2007, 10:26 AM
قضايا فكرية
في كتاب " تلاش : بحث "
لممتاز مفتي
د . إبراهيم محمد إبراهيم
ممتاز مفتي واحد من كبار أدباء اللغة الأرديـة الباكستانيين في القرن العشرين ، ولد عام 1905م ، وتوفي عام 1995م ، وله مؤلفات عديدة من أهمها " الكهـ نكرى " ، و " لبيك " ، و " تلاش " موضوع البحث ، ويتميز إبداع " ممتاز مفتي " بتبني قضايا فكرية تمس المجتمعات الإنسانية بصفة عامة ، والمجتمعات الشرقية المسلمة بصفة خاصة ، وتتسم كتاباته الفكرية بعمق موضوعاتها وملامستها للواقع المعاش ، كما تتسم بأنها من القضايا التي يتجنب الكثيرون من المفكرين المسلمين الكتابة فيها بشكل صريح ، خوفاً من التعرض للنقد الشديد ممن يتناولونهم في كتاباتهم ، وخاصة الموضوعات التي تتعلق بالدين ، وفي بلد مثل باكستان يحتل فيه رجال الدين مكانة مؤثرة . وقد لا نتفق في قليل أو كثير مع ما يراه " ممتاز مفتي " من رأي في الموضوعات التي يتناولها ، خاصة وأنه يطعم فكره بالأدب ، ويصبغ أدبه بالفكر ، وهي معادلة صعبة تحتاج إلى مقدرة وتمكن من طرفيها " الفكر والأدب " ، ومع ذلك فإننا لا نستطيـع إنكار أهمية إبداعات " ممتاز مفتي من الناحيتين " الأدبية والفكرية " أيضاً .
وكتاب " تلاش : بحث " يتناول عدداً من مثل هذه القضايا الفكرية منها الخطاب الديني في باكستان ، وفارق الأجيال ، وصراع الأفكار ، والعلاقات الإنسانية ، والدين بصفة عامة ، والتركيز على الدين الإسلامي ، والقرآن الكريم ، وعلاقة الإسلام بالعلم ، ومفهومه لمصطلح " العلم " ، وهل المقصود بطلب العلم في القرآن الكريم هو العلم الديني أم العلم التجريبي . وكما هواضح من اسم الكتاب فهو رحلة من البحث عن الحقيقة في أي موضوع يتم تناوله ، وبالتالي هي حقائق متعددة ، وليست حقيقة واحدة بعينها ، أو كما يقول " ممتاز مفتي " نفسه عن الكتاب بأنه " مجرد بحث وفقط ، بل إن الشيئ الذي يبحث عنه ليس محدداً ..... ربما كان بحثاً عن المسلم ، وأحياناً يتصور الذهن أنه ربما كان بحثاً عن حقيقة العصر الحاضر ، وأحياناً يبدو وكأنه بحث عن الحقيقة ... ليس عن الحقيقة المطلقة ، وإنما عن حقائق بسيطة متعددة .. حقائق الأفكار ، حقائق الأعمال ، حقائق الإيمان ، حقاق السلوك والمعاملات ... حقائق عادية ... حقائق قديمة ... وحقائق جديدة .
ويؤكد ممتاز مفتي في أول الكتاب على أنه حاول أن يقول رأيه بقدر ما يعرف ، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، فيقول : هذا الكتاب سيتحدث عن الإسلام في أماكن متفرقة منه ، لكن هذا لا يعني أن تعتقد أن المؤلف يفهم الإسلام . صحيح أنه درس الإسلام وقرأ عنه ، وعكف على مطالعة كتب العلماء لعدة سنوات ، ودرس تفاسير رجال الدين كذلك ، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يفهم شيئاً !!. على أية حال كان لهذه الدراسة والمطالعة فائدة هامة وهي التعرّف على أولئك الذين لا يفهمون الإسلام ويعتقدون أنهم يفهمونه .
ويتسم أسلوب " ممتاز مفتي " في كتابه هذا بنوع ما من الحدة التي تصل في بعض الأحيان إلى التحامل ، الذي يصل إلى حد التجاوز أيضاً ، لكن معظم ما يقول – إن لم يكن كله – لا يخلو من الحقيقة ، حتى وإن كانت حقيقة مرة قد لا يقبلها المتلقي لأول وهلة ، لكنه بعد تأمل وإحاطة بخلفية الموضوع ككل يجد نفسه مضطراً لإعادة النظر في موقفه ، ومناقشة ما يراه " ممتاز مفتي " . يقول " ممتاز مفتي " عن كتابه هذا في مقدمته :
هذا الكتاب يؤكد على أن الإسلام الشائع بيننا له فائدتان ، الأولىأنه يمكن من خلاله الحصول على الثواب ، والثانية أنه يمكن توظيفه واستغلاله ، والحصول على الثواب هو الآخر صورة من صور توظيف الإسلام واستغلاله . على أية حال الناس يوظفون الإسلام كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . فالحكام يوظفونه للإبقاء على كراسيهم ، والسياسيون يوظفونه لتجميل سياستهم ، ورجال الدين في مقدمة من يوظفونه لتحقيق مآربهم الشخصية ، إذ حوّلوا الدين - الذي هو في الأصل عمل من أوله إلى آخره – إلى " علم " ، كي ينالوا به لقب " عالم " ( ) ، يضعون فوق رؤوسهم العمامة ، ويلبسون الجبّة ، ويكتحلون ، ويخضّبون بالحنّاء لحاهم ، بل ويأملون في سدّة الحكم أيضاً .
وأول القضايا التي تناولها " ممتاز مفتي " في كتابه قضية الفارق بين الأجيال ، واختلاف الأفكار بين كل جيل اختلافاً يصل إلى حد الصراع والتصادم ، وهو يرى أن الجيل الأكبر هو المسئول أولاً وأخيراً عن هذا الصدام ، وذلك لأنه ينظر إلى الجيل الجديد نظرة اتهام لا تقدير فيها ، ويرفض أن يعيش أبناء كل جيل واقعهم وعصرهم ، ويريد أن يفرض عليهم عصره وواقعه هو الذي يراه دائماً هو الأفضل ، وفي هذا الإطار تناول " ممتاز مفتي " علاقة الأب بأبنائه ، باعتبارها علاقة بين جيلين مختلفين تأكيداً ، يرضى فيها الأب بأن يلقى احتراماً ظاهرياً من الأبناء ، ويفقد في الغالب حبهم ، وبالتالي يفشل الأب في احتواء الابن ، والاعتراف بكيان خاص به ، وبالتالي ينقطع الحوار بينهما ، وتتباعد المسافات وتتسع ، وتكون النتيجة في النهاية صراع لا ينتهي ، وصدام لا يتوقف ، حتى وإن كان الظاهر ينم عن احترام ووقار ، ومن هنا يحمّل " ممتاز مفتي " عاطفة الاحترام الظاهري هذه مسئولية البرود العاطفي في العلاقات بين الآباء والأبناء . يقول ممتاز مفتي تحت عنوان " عاطفة الاحترام " :

عاطفة الاحترام

يقول الحكماء : الاحترام جدار يحول بين المحترم ومن يحترمه لا يسمح بالتقارب بينهما ، لأنه يولّد الخوف ، والخوف ليس عاطفة إيجابية ، وإنما عاطفة سلبية ، والاحترام يقلّل من فرص الحب المتبادل . خذ على سبيل المثال علاقة الأب بابنه ؛ الواجب على الابن أن يحترم الأب ، ولهذا لا يستطيع أي منهما التقارب مع الآخر . ما أحسن ما قال حكيم : إن رأيت شخصين جالسين معاً ، وليس لدى أحدهما ما يقوله للآخر ، فاعلم أنهما ابن وأبوه .
ويتعجب " ممتاز مفتي " من هذا قائلاً : إلى هذا الحد قرب من حيث العلاقة ، وبعد من حيث السلوك !! وهذا من كرامات الاحترام ، ولا أدري لماذا يتحول الأب إلى محترم ويبتعد الأبناء عنه !!!. وكانت نتيجة هذا البعد أن تولّدت عاطفة الخوف من الأب ، وبسبب هذا النوع من علاقة الحب نواجه اليوم مشكلة الفراغ والتباعد بين الأجيال .

القرآن الكريم :

ويرى " ممتاز مفتي " أن عاطفة الاحترام هذه كان لها تأثير سلبي على علاقتنا بديننا ، وخلقت بيننا وبين أساسه المتين وهو القرآن الكريم جداراً حال بيننا وبين فهمه وتدبره ، وضرب لذلك مثالاً بواقع عاشه في بيته ، وتعيشه الأغلبية المسلمة في شبه القارة الهندو باكستانية فيقول :
لقد بلغت من العمر ثمانية وثمانين عاماً ، لكني لم أعرف ما هي الرسالة التي أرسلها الله لبني الإنسان !!. وذلك لأنني لم أستطع قراءة القرآن الكريم حتى اليوم ، والسبب هو عاطفة الاحترام لدى زوجتي . لا بدّ أنك سوف تضحك مما أقول . أؤكد لك أنني أؤمن من كل قلبي أن القرآ وحي منزّل ، وأعرف – بل إنني على يقين – من أنه لا يوجد في الدنيا كلها دين أفضل من الإسـلام ، ولديّ إيمان كامل بأن علماء الدنيا كلهم ومفكّريها وحكماءها في القرن الحادي والعشرين سيتأكدون من هذه الحقيقة ، وسيعترفون بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يناسب العصر الحاضر ، وبالرغم من ذلك فإنني إلى اليوم لم أدرس القرآن الكريم بسبب عاطفة الاحترام لدى زوجتي .. لم أستطع أن أدرسه !!.
إن زوجتي سيدة صالحة ، مواظبة على الصلاة ، كما أنها مواظبة على قراءة القرآن بلا انقطاع ، لا بهدف فهمه ، وإنما بهدف الحصول على الثواب . وعاطفة احترام القرآن الكريم في قلبها قوية للغاية ، لذلك فهي تلفّ المصحف في حافظة مصنوعة من قطعة من الحرير ، لا ، ليست قطعة واحدة ، وإنما عدة قطعات ، وبعد ذلك تضعه فوق أعلى رفّ في الدولاب ، فإذا وضعه أحد فوق الرّف الأوسط مثلاً اعتبرت ذلك منافياً تماماً للاحترام ، وإذا وضعت أنا المصحف على المنضدة فإنها تغضب قائلة : المنضدة ليست مكاناً طاهراً إلى هذا الحد حت تضع عليه المصحف !.
كم أودّ أن أجعل من المصحف كتاباً كذلك الكتاب الذي نطلق عليه " كتاب ما قبل النوم " ، أقرأه كل ليلة قبل أن أنام ، ثم أضعه تحت الوسادة ، وكلما أتيح لي وقت فراغ استلقيت على السرير وقرأت فيه .. قراءة ليست بترتيب السّور والصفحات التي توقفت عندها آخر مرة ، وإنما أقرأ فيه من حيث أفتحه كل مرة ، لأنني أعتبر القرآن كتاب علم وحكمة ، وأريد أن أقرأه قائماً وجالساً ومستلقياً ، لكن ماذا أفعل مع زوجتي وهي لا تسمح لي بذلك . سادتي ! إعلموا أن كل هذا يحدث بسبب عاطفة الاحترام والتبجيل . إن عاطفة الاحترام والتبجيل هذه عنيفة لدينا لدرجة أنها :
· لم تدعنا نقرأ القرآن .
· لم تسمح بحب الآباء .
لقد سجن المسلمون القرآن الكريم احتراماً وتبجيلاً في الأغلفة الحريرية ، وحرموا المسلمين من قراءته . جعلوا منه تمثالاً ، وأغلقوا عليه الدواليب .

العصر الحاضر :

ويرى " ممتاز مفتي " أن نظرة المجتمع ، وفي مقدمته رجال الدين إلى الجيل الجديد والعصر الحاضر نظرة سلبية ينبغي تغييرها ، فالجيل الجديد جيل مظلوم يستحق الاهتمام وليس التجاهل والتهميش . يقول " ممتاز مفتي " :
قدم إلى المدينة التي أعيش بها عالم دين كبير ، قمت بزيارته ، وقبل أن أوجه إليه سؤالاً بدأ هو بالحديث عما في عصرنا الحاضر من ابتعاد عن الدين ، بل وانقطاع عنه . كان كلامه في معظمه صحيحاً ويستحق الاهتمام ، لكن كان يبدو مما يقول وكأن العصر الحاضر من اختراع الجيل الحالي ومن صنع يديه ، وكأن الجيل الحالي قد تآمر عامداً متعمداً ضد الدين ،وقام بتشكيل العصر الحاضر بقدر كبير من التخطيط والتنفيذ . كنت أريد أن أقول للشيخ : يا سيدي ، إن العصر الحاضر ليس من صنع جيلنا الحالي ، وأن الظروف العالمية هي التي حمّلت جيلنا الحالي مسئولية هذا العصر الحاضر . إن الجيل الحـالي لم يوقع بنا هذا الظلم ، بل إنه على العكس من ذلك جيل مظلوم ، ويستحق الاهتمام والعطف من قبل علماء الدين ، ولكن كيف أقول هذا لعالم الدين وهو لم يتوقف عن الكلام أصلاً . إنه في الحقيقة لم يكن يتكلم ، إنما كان يخطب .
سادتي ! يقـول الحكماء : إذا أردت أن تؤثر على أحد ، وأن يسمع الآخر ما تقول باهتمام ، فإنه يجب عليك أولاً أن تصير مثل هؤلاء الذين تريد أن تؤثر عليهم ، تصير مثلهم حتى يعتقدوا أن هذا الشخص منهم . وعلماء الدين لا يستوعبون هذا الشيئ البسيط ، وهو أن عليهم أن يستميلوا إلى الدين تلك الطبقة التي لا يعترفون بها ، إنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر هو الحال بالنسبة لنا ، وسرعان ما يصبح مستقبلنا . إنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر موج لا يمكن إيقافه ، ولا يمكن أن تقام في طريقه السدود ، وإنما يمكن توجيهه وترويضه فقط .
ويرى " ممتاز مفتي " أنه على رجال الدين أن يتعلموا من رجال التصوف أصول الدعوة الصحيحة ، إذ أن رجال التصوف لم يكونوا يقيمون حدوداً ومسافات بينهم وبين الناس ، وإنما كانوا يتقربون منهم ، ويعملون بشتى الطرق ليشعر المسلم العادي أنهم منه ومثله . يقول :
على العكس من هؤلاء اتخذ المتصوفة الكرام من المساواة طريقاً لهم . كانوا يعرفون أن عليهم أن يصيروا مثل أولئك الذين يريدون التأثير عليهم حتى يظنوا أنهم منهم ، وغير متميزين عنهم . كان المتصوفة الكرام يقطعون مئات الأميال قادمين من وسط آسيا إلى الهند ، حتى إذا ما وصلوا إليها اتخذوا من أرضها وطناً ، ومن سكانها أهلاً ، فتكلموا لغتنا ، ولبسوا ملابسنا ، وعاشوا مثلنا ، ودانوا بعاداتنا وتقاليدنا ، وبعدها تحدثوا إلينا . كانوا يعرفون حقيقة أنهم إن لم يصيروا مثلنا ، فلن يصل إلينا كلامهم . وحين اندمجوا فينا تماماً أخذوا يكتبون حكاياتنا الشعبية بلغتنا ، ويبثون في ثناياها رسالتهم إلينا ، واتسمت مؤلفاتهم هذه بقربها من الناس ، حتى حفظوها ، وأخذوا يقرأونها بشوق في المناسبات والمحافل ، ويسمعونها متمايلين في وجد .
لم يقم المتصوفة الكرام بالدعوة إلى الدين أبداً ، لم يناقشوا أحداً ابداً أو يجادلوه ، ولم يلقوا خطباً أو كلمات ، إنهم لم يتخذوا من الإسلام وظيفة ، إنما كانوا يحيون للإسلام فقط ، كان لديهم سلاحان هما الأخلاق وحسن السير والسلوك ، وكانت المساواة هي حدّ هذين السلاحين ، وهو حدّ أسنّ من حدّ السكين .
لم يخطر ببالنا أبداً أننا حين نهاجم الجيل الجديد ونرفضه فإننا بذلك نهاجم مستقبلنا ونرفضه ، إننا لم نعترف أبداً بأن الجيل الجديد هو مستقبلنا ، رفضناه على خط مستقيم ، لم نعترف أبداً بأن الجيل الجديد هو نتاج الواقع المعاصر ، ولم نسلّم أبداً بحقيقة أن تدرّج الإنسان من الطفولة إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الرجولة ، إنما هو تدرّج طبيعيّ واقع لا محالة ، تدرّج طبيعي ينبغي على الفرد فيه أن يعيش كل فترة من فترات عمره ، يعيشها من كل قلبه ، ويصير جزءاً منها ، وإن لم يفعل ذلك فلن يكبر أبداً ، ولن يكتمل أبداً ، ومع أن كل أب يرغب دائماً في أن يكبر ابنه ويصير مثله .. لكن كل أب أيضاً يعتقد أن " الفترة " التي عاشها كانت أفضل من " الفترة الحالية " ، وأن كل " فترة قادمة " هي الأسوأ . لم يخطر ببال أحد من الآباء أن عليه أن يشكّل ابنه بحيث تتولّد فيه إمكانية الحياة بما يتناسب مع " الفترة القادمة " .
نحن الكبار نعتقد أن العصر الحديث ما هو إلاّ فتنة أثارها شبابنا ، لكن هذا سوء فهم منا ، فهذه الفتنة لا تقتصر علينا فقط ، وإنما هي عاصفة تجتاح العالم كله . نحن نعتقد أن هذه العاصفة من صنع الغرب ، وربما كان في اعتقادنا هذا شيئ من الصحة ، لكننا لا نعرف أن الغرب نفسه يعاني من هذه العاصفة ، وأنه مصاب أكثر منّا ( ) ، فأهل الغرب أنفسهم في حيرة مما يحدث ، ولماذا يحدث ، وكيف يحدث . إنهم عاجزون عن استيعاب الأمر كله . نحن نعتقد أن هذه النار تحرقنا نحن فقط ، وهذه حماقة منا ، إذ أن أكثر من تحرقهم هذه النار هم أهل الغرب ، وأهل الغرب يعرفون تماماً أن هذه النار تحرق بيتهم ، ويتشاورون فيما بينهم في كيفية مواجهة هذه المشكلة والتعامل معها ، يفكرون ، ويتخذون خطوات عملية . أما علماء الدين لدينا فإنهم يعتقدون أن هذه المصيبة ستنزاح عنهم بترديد " لا حول ولا " ، ولهذا فإنهم لا يتوقفون عن خطبهم . يقولون : أيها الناس ، اقرأوا " لا حول ولا " على الغرب ، على الجيل الجديد ، على العصر الحاضر .

الدين الإسلامي

هناك فهم خاطئ للدين بأنه مسألة شخصية ، وهذا الفهم الخاطئ ظهر كنوع من الفرار من الدين أصلاً ، وقد ظللت أنا أيضاً فترة من فترات حياتي أعتقد أن الدين أمر شخصي ، ولم أفكر أبداً في أنه إذا كان الإسلام أمراً شخصياً ، فكيف يكون واحداً لدى الجميع ، إذ أن هذا يعني أن يكون لكل فرد إسلامه الخاص به ، وهذه الأفكار الخادعة تأتي من الغرب ، وتنبهر بها أنظار شبابنا . والحقيقة أن الإسلام جعل الله يمتزج بقلوب المسلمين مثلما يمتزج الماء بالعجين . أتعرف من فعل كل هذا وكان سبباً فيه ؟!. إنهم المتصـوفة ، لقد أدخلوا الله في " اللاشعور " ، ونحن دون أن نشعر نحمد الله ونثني عليه ، دون أن نشعر ندعو الله ، دون أن نشعر نبني آمالنا عليه . ولا يقتصر الأمر على اللاشعور فقط ، بل إن الله لا يفارق شعورنا أيضاً . إننا قد نظن أن الإسلام ينفّذ بالقانون ، وهذا خطأ منا ، فالإسلام لا ينفّذ بالقانون ، وإنما بالثقافة ... بالعواطف ... باللاشعور .
إن الله ممتزج تماماً في كل عاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا مثلما يمتزج بياض اللبن به ، وأقول لكم شيئاً أيها السادة ، وعليكم أن تعقلوه جيداً ، وهو أن لله خصلة ، وهي أنه يتمكن حيث يحلّ ، ويستحيل بعد ذلك زحزحته مهما استماتت المحاولات .
ولا أدري لماذا لا يرى علماء الدين لدينا تلك العلاقة الحميمة لله مع مخلوقاته ، إنهم يخوّفوننا دائماً من غضب الله وسخطه ، يخوّفوننا من العقاب دائماً ، لا يزرعون في قلوبنا عاطفة حب الله والتّعلق به ، إنما الخوف ، والخوف فقط ، خافوا الله ، فإن عقابه يأتي بغير سابق إنذار ( ) ، وأن الله وإن كان يمهل كثيراً ( ) ، لكن انتقامه شديد ، خافوا أيها الناس ، خافوا ، خافوا من عذاب الروح ، خافوا من عذاب القبر ، خافوا من حساب الملائكة الذين يحملون " المرزبّات " . لقد زرع علمـاء الدين في قلوب الناس الخوف من الإسلام .
ما زلت أذكر أن كبار السن في الماضي كانوا يقولون أن الإسلام طريقة بسيطة سهلة تعتمد على أمرين وهما : أن تعيش ، وتدع الآخرين يعيشون ، وأن تريح وتستريح . والأمر الأول هو أن تقرّ من قلبك بأن الله واحد لا شريك له ، وأنه القادر المطلق ، وأن محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين . والأمر الثاني هو أن تؤدي حقوق العباد ، وأن تخدم الناس ، وأن تعطف عليهم ( ) ، وأن تخصص للفقراء جزءاً من دخلك ( ) ، وأن تصوم رمضان ، وتمثل بين يدي الله ساجداً خمس مرات في اليوم ، وإن وفقك الله تزور مكة والمدينة ، وتؤدي مناسك الحج .
سألت أحد الكبار قائلاً : يا سيدي ، إن كانت هذه هي الأركان الخمسة للإسلام ، فهو إذاً دين بسيط وسهل . قال : هذا صحيح . فسألته : وما هو أهمّ ركن بين هذه الأركان الخمسة ؟. قال : إننا نعتقد أن الإسلام يبدأ بخدمة خلق الله ، وينتهي بخدمة خلق الله أيضاً .

القرآن الكريم

وفي حديثه عن القرآن الكريم يؤكد " ممتاز مفتي " على أن القرآن الكريم ليس كتاباً دينياً مثل الكتب الدينية الأخرى كما يعتقد عامة الناس ، وإنما هو كتاب حياة ، ولا يخاطب المسلمين فقط ، وإنما يخاطب الناس جميعاً . يقول :
كنت أظن أن القرآن الكريم كتاب ديني فيه تبيان لعظمة الله تعالى ، وإرشادات تتعلّق بالصراط المستقيم ، لكني وجدت في القرآن عالماً بأكمله ، إنه لا يقتصر على الدين فقط ، إنه مجمع للمعرفـة ، يضم موضوعات كثيرة تعود إلى ما قبل التاريخ المكتوب ، وإشارات عن خلق الكائنات ، وموضوعات عن العلوم المتعلقة بالنباتات والحيوانات والجمادات ، موضوعات في الحكمة ، موضوعات في الصحة ، موضوعات في الأدوية ، عن الشمس والقمر والنجوم والأرض والفضاء ، حديث في كل موضوع ، وباختصار فإن ما ظننته نهراً اتضح أنه بحر .
حين يتحدث القرآن عن الأخلاق يبدو كأنه كتاب أخلاقيات فقط ، إنه يتحدث عن الجوانب المختلفة للعلاقات الإنسانية : ما هو السلوك الذي ينبغي على الشخص اتباعه تجاه والديه ، وتجاه ضيفه ، وتجاه عدوّه ، وعلى الحاكم تجاه رعاياه ، وعلى الرعايا تجاه الحاكم . وبالتالي فإن القرآن لا يخاطب المسلمين فقط ، وإنما يخاطب بني الإنسان جميعاً ( ) . إنه كتاب عمره أكثر من ألف وأربعمائة عام ( ) ، ومع ذلك لا تجد به ما يشعرك بأنه قديم ، أو يجعلك تقول أن ما جاء به كان يعتقد بصحته في الماضي فقط . ولغة القرآن غاية في الروعة والجمال ، بها من " الموسيقية " والتأثير الصوتي ما يجعل حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن التأثير الصوتي يتمايلون وجداً لسماعه . أمّا أسلوبه فيتّسم بالروعة والتجدّد ، والتوافق والتناغم مع معطيات العلم في أيامنا هذه . والأمر الآخر المحيّر في القرآن الكريم هو أن أسلوبه ليس تحكّمياً ، إذ أن الكتب الدينية بشكل عام تصدر الأحكام للناس بأن افعلوا كذا ، أو احذروا أن تفعلوا كذا ، أو افعلوا بهذا الشكل ، ولا تفعلوا بهذا الشكل . بينما يتفق العلماء والباحثون على أن أسلوب القرآن الكريم ليس تحكّمياً هكذا ، ولا يمنع من التفكير والتدبّر واستخدام العقل ، فأسلوب القرآن الكريم إذاً مختلف تمام الاختلاف عن أسلوب الكتب الدينية الأخرى .

الدين والعلم

وفي معرض حديثه عن العلم يؤكد " ممتاز مفتي " على أن المقصود بلفظ العلم في القرآن الكريم ليس العلم الديني ، وإنما علم الدنيا ، لكن هذا العلم ينبغي أن يكون كما يريد الله تعالى ، وهذا هو العلم الذي يؤكد الإيمان ويحفظه . يقول :
الحقيقـة أن سوء فهمنا هو الذي روّج لفكرة الصراع فيما يتعلق بالعلم ، فلقد اعتقدنا أن " العلم التجريبي " علم كامل ، في حين أن هذا " التجريب " في أيامنـا ما هو إلاّ محاولة عشوائية غير مكتملة لفهم حكمة الله تعالى ، وليس له هدف بعينه . لقد بدأ المسلمون البحث التجريبي هذا ، وكان ذلك في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش عصراً من الجهالة ، وكان المحرك لهذا البحث التجريبي لدى المسلمين هو خالق الكائنات ، ولم يكن هناك هذا النوع من الانتشار المضطرب للبحث التجريبي الموجود الآن ، وكان للكائنات هدف واحد ، ونظام واحد ، وخطة واحدة ، ومقصد واحد ، ولهذا فإننا نجد إشارات القرآن الكريم في كتابات علماء المسلمين التجريبيين . ثم كان من سوء الطالع أن ابتعد اهتمام المسلمين عن التفكير في الكائنات ، واقتصر على المشاغل الدينية فقط ، وهكذا اتنقل البحث التجريبي إلى أيدي الباحثين الأوروبيين الذين اتسموا بالإخلاص والكفاءة في كل شيء ، إلاّ شيئاً واحداً ، وهو أنهم لا ينظرون إلى الكائنات كما يريد الخالق ، وإنما ينظرون إليها كما يريد المخلوق فقط ، وإن لم تنظر إلى الكائنات كما يريد الخالق تحوّلت هذه الكائنات إلى غابة ، ولم يبق لها هدف أو مقصد ، ولا خطة أو نظام ، ومن هنا يضطرب البحث العلمي .
والحقيقة أن الشخص الذي لا يعرف شيئاً عن الاتساع المثير للكائنات ، لايمكن أن يفهم معنى عظمة الله وجبروته ، والسبب فيما نحن فيه من خلط هو فهمنا للفظ " علم " ، إذ أن علماء الدين لدينا يفهمون المقصود من لفظ " العلم " على أنه " علم الدين " ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال " اطلبوا العلم ولو في الصين " لم يكن المراد منه سوى العلوم الطبيعية ، إذ أن مركز العلوم الدينية حينئذ كان هو المدينة المنورة ، وبالتالي لا مجال أصلاً للسفر خارجها من أجل تحصيل العلوم الدينية ( ) .
وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع متفرقة منه فضل العلم والعلماء ، وكلها تشير في مفهومها إلى العلوم الطبيعية والعلوم الخاصة بالكائنات والمخلوقات ، وطالما لم نحصل على العلوم المتعلقة بمخلوقات الله ، فإننا لا نستطيع فهم عظمته تعالى ، واتساع كائناته ، وجمال نظمها ، ودقة نسقها ، وبالتالي لا نستطيع أيضاً أن نفهم معاني القرآن الكريم ، أو حتى عظمة القرآن الكريم ذاته . ومن هنا فإن العلوم الدينية بغير الحصول على العلوم الدنيوية تصبح كسيارة بغير إطارات تسير عليها . وأستطيع أن أقول إن إيماني بالقرآن هو إيمان القلب ، لأني أؤمن بكل كلمة وردت في القرآن دون أن أعرفها ، وليس للإيمان العقلي دخل فيه ، أما أولئك الذين يعرفون العلوم المتعلقة بالكائنات ، فإن إيمانهم مضاعف ، وأكثر نضجاً ، وهو ما نسميه " حق اليقين " ، لأن لعقولهم وأذهانهم دخلاً في هذا الإيمان .

تسامح الإسلام

ويتناول " ممتاز مفتي " الاتهام الذي اعتاد أهل الغرب توجيهه إلى المسلمين من أنهم لا يعرفون التسامح ، ويتسمون بالعنف والوحشية ، فيفند هذا الاتهام بأسلوب منطقي سليم . يقول :
عندما حقّق المسلمون انتصاراتهم الباهرة أيام الحروب الصليبية بدأ القساوسة النصارى في إطلاق شائعات تسيئ إلى الإسلام والمسلمين ، منها أن مجاهداً مسلماً يتفوّق على عشرة جنود مسيحيين لا لشيء إلاّ لأن المجاهدين المسلمين في الخقيقة متوحشون ، قساة القلوب ، ظالمون قتلة ، سفاكون للدماء ، وليسوا من بني الإنسان . ثم أشاعوا أن المسلمين ضيّقوا الأفق ، محرومون من سعة القلب ، وأنهم لا صبر لهم . وهكذا قدّم القساوسة صورة مشوّهة للإسلام ، والتاريخ يشهد على أن قدر التسامح الموجود في الإسلام لا نجد له مثيلاً في أي دين آخر .
لقد حكم المسلمون " أسبانيا " ردحاً طويلاً من الزمن ، ويؤكد المؤرخون على أن حكم المسلمين لهذه البلاد كان حكماً مثالياً ، لكن قساوسة النصارى ومبشّريهم أغفلوا دائماً هذا الجانب المشرق للحكام المسلمين ، وضخموا الأمور إظهاراً لقسوة المجاهدين وعنفهم ، وبالغوا في وصف ذلك أي مبالغة .
يقولون أنه عندما دخل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القدس فاتحاً ، وحان وقت الصلاة ، تبادر إلى الأذهان سؤال وهو : ترى أين يصلي ؟!. وتحدّث المسلمون مع المسيحيين في هذا الأمر ، فقال المسيحيون : تستطيعون يقيناً الصلاة في كنيستنا . لكن سيدنا عمر رضي الله عنه رفض أداء الصلاة في الكنيسة قائلاً : لو فعلت هذا فسيقول الناس أن المسلمين احتلوا كنيسة المسيحيين عنوة ، والإسلام لا يجيز هذا ، ولا بدّ لنا أن نحترم دور العبادة لدى غير المسلمين .
وهناك عبارة منقوشة في أماكن متعددة على جدران " قصر الحمراء " في " أسبانيا " تقول : " لا غالب إلاّ الله " ، وكان هذا هو شعـار المسلمين حين فتحوا " أسبانيا " ، وقصة هذا الشعار أنه عندما فتح المسلمون " أسبانيا " ، ودخل الفاتحون مدينة " غرناطة " ، استقبلهم الناس من كل جانب بترحاب كبير ، ولقبوا الحاكم المسلم بلقب " الغالب " ، فردّ عليهم الحاكم المسلم قائلاً : لست فاتحاً ، ولا غالباً ، إنما الفاتح والغالب هو الله .
والتاريخ الإسلامي مليئ بمثل هذه الأحداث ، ولا أدري كيف يقال اليوم أنه لا تسامح لدى المسلمين ، وأنهم لا صبر لهم .
وأخيراً يؤكد " ممتاز مفتي " على أن الإنسان ليس شراً كله ، بل على العكس من ذلك هو خير في غالبه ، وأن هذا الخير في الإنسان هو الذي يسير الحياة إلى اليوم . يقول :
لا أعرف لماذا يرى علماء الدين لدينا في الإنسان تجسيداً للشّر ، غارقاً في الذنوب ضالاً عن الطريق . سادتي : إن كنتم تعتقدون أن الله تعالى جعل الإنسان أشرف المخلوقات ، وأنه تعالى نفخ في هذا الإنسان من روحه ، وقدّر له تسخير الكائنات ، فكيف يكون الإنسان تجسيداً للشر ؟!!. وأنا أعتقد أنه في اليوم الذي تزيد فيه نسبة الشر في الإنسان عن نسبة الخير فيه ، ستنتهي عندئذ هذه الحياة وهذه الدنيا ، إذ أن هذا العالم يسير بقوة عاطفة الخير لدى بني الإنسان .
إنك لو نظرت إلى هذه الدنيا نظرة سطحية ، لبدت لك كأنها مليئة بالشرور ، في حين أن الحياة بمثابة البحر ، لا يكون المدّ والجزر فيه إلاّ على سطحه ، وعلى سطحه فقط تثور الأمواج الهادرة ، ويتطاير رذاذها ، ويكثر زبدها ، بينما يسود الهدوء التام أعماق هذا البحر ... سكون لا نهائي ، وهكذا المجتمع الإنساني ، يتطاير رذاذ الشر على سطحه الخارجي فقط ، بينما يعمره الهدوء من الداخل ( ) .
ولا بد أن نعترف أيها السادة بأن اقتراف الذنب ليس بالأمر اليسير أبداً ، إنه مثل ارتكاب الجريمة تماماً ، وحين يقبل الشخص على ارتكاب جريمة ما ، يخرج عن أطواره الطبيعية ، ويشعل بداخله نيران الغضب ، ويزيد نيران الانتقام اشتعالاً ، ويؤجّج لهيب الكراهية والنفور ، بمعنى أنه يولّد بداخله حالة من الجنون حتي يستطيع ارتكاب الجريمة . وهكذا الذنب أيضاً ، فمثلاً إذا أردت أن تكذب فإن ذلك أمر غاية في الصعوبة ، وأنا هنا لا أتحدث عن المجرمين المحترفين ، وإنما أتحدث عن الأشخاص العاديين ، في هذه الحالة يكذب اللسان فقط ، بينما لا تؤيده في هذا باقي أعضاء الجسد ولا تسايره ، بل إنها على العكس من ذلك تحتجّ عليه قائلة : هذا كذب ، هذا كذب ، وغالباً ما يتعثّر اللسان ويتلعثم أيضاً . والإساءة إلى أحد ، أو خداع أحد ، ليس بالأمر السهل هو الآخر ، وهكذا باقي الأمور ، وبالتالي إذا افترضنا أن الواحد منا يقوم بخمسين عمل في اليوم الواحد ، فقد يكون من بينها عملان فقط يندرجان تحت عنوان الشر ، بينما تكون الأعمال الثمانية والأربعون الباقية خيراً .