المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة " ميت على المشاع " بعد التنقيح



إبراهيم محمد إبراهيم
09/07/2007, 08:29 AM
أعتذر للسادة القراء لأنني كنت قد نشرت قبل أيام ترجمة فصة " ميت على المنشاع " للكاتب كرشن جندر من الأدب الأردي ، ثم اكتشفت بعدها أنني نشرت الترجمة قبل المراجعة والتنقيح ، فأعتذر عن هذا الخطأ وأعيد نشرها هنا ثانية بعد التصحيح والتنقيح
ميت علي المشاع
عندما دخلت " بهكوتى " حجرة زوجها " بهاركو" حوالي الساعة الرابعة والنصف عصرا لتقدم له الشاي وجدته ملق على السرير وقد فارق الحياة ، يبدو أنه مات أثناء قيلولته بعد تناول الغداء في الوقت الذي كانت فيه زوجته " بهكوتى " داخل حجرتها مشغولة في خياطة بلوزتها على ماكينة الخياطة، كان " بهاركو" مريضا بالقلب منذ فترة، ومنذ ذلك الحين يرى الأطباء أن حالته حرجة ، ومع ذلك فقد عاش بعدها في هذه الحالة سـنوات طوال حتى أن زوجته " بهكوتى" لم تكن تصدق أبدا أنه سيموت اليوم هكذا وفجأة .
كان أول شيء فكرت فيه " بهكوتى" هو أن تطلق صرخة مدوية ، وتقلق الحي كله ببكائها وعويلها ، ولكنها تذكرت مفتاح الخزينة التي كان يحتفظ بها زوجها دائماً في جيبه ، ولم يحدث أن سلمه لها أبدا.كان لـ " بهاركو " أربعة أبناء ، اثنان منهما يعيشان في إنجلترا ، واثنان يعيشان في بلد أفريقي ، وقد أعطى من تحويشة عمره لكل ولد من أولاده الأربعة مبلغ مائتي وخمسين ألف روبية ، وما تبقى معه أخذه ورحل إلى مدينة " بومباي " ، وفى " بومباي " اشترى شقة بمبلغ خمسة وعشرين ألف روبية في عمارة " أوشا " التي تقع في ضاحية جديدة من ضواحي منطقة "باندر" ، واستقر فيها هو وزوجته " بهكوتى " ، هذا ولم يقتنع أولاده الأربعة بما قام به والدهم ، فقد كانوا يريدون أن يقوم أبوهم بتقسيم ثروته كلها عليهم ، ثم يعيش بقية حياته مع أبنائه واحدا تلو الآخر ، إلا أن هذا الكلام لم يعجب " بهاركو " ولا " بهكوتى " ، ولهذا ساء ظن الأولاد بأبيهم ، وأقنعوا أنفسهم بالمبلغ الذي حصلوا عليه ، وتركوا والديهما في حالهما.
وبعد لمحات من الصراع الصامت تخلت " بهكوتى " عن فكرة الصراخ والعويل هذه ، وأول شيء قامت به هو أنها أخرجت مفتاح الخزينة من جيب " بهاركو " واستولت عليه ، كانت يداها ترتعشا حين كانت تخرج المفتاح من جيب زوجها ، لأن " بهاركو " كان مثل زوجته ، خسيسا ومحتاطا غاية الاحتياط وخاصة فيما يتعلق بالفلوس ، فلم يكن أي منها يثق في الآخر. وللحظة شعرت " بهكوتى " عندما كانت تخرج المفتاح من جيبه وكأن يد " بهاركو " ستتحرك وتمتد لتسدد لها صفعة قوية على وجهها جزاء تجرؤها ووقاحتها هذه . ولكن عندما أخرجت المفتاح وظلت يد " بهاركو " بغير حراك ، وعندما فتحت الخزينة بالمفتاح وعدت رزم الأوراق المالية ، ولم ينهض " بهاركو " ويتقدم ليمنعها ، تأكدت " بهكوتى " أن زوجها مات بالفعل ، فأغلقت الخزينة وربطت المفتاح بشدة في " دكة " شلوارها، ثم همت أن تطلق صرختها ، لكنها تراجعت عنها ثانية في آخر لحظة ، لأنها تذكرت الخاتمين الثمينين اللامعين في يد زوجها الميت ، واحد بفص أزرق ، وواحد آخر . قالت " بهكوتى " لنفسها : بعد قليل سيتجمع أهل الحي وسأكون مشغولة بالنحيب والعويل ، في مثل هذا الهرج والفوضى والربكة لن أتمكن من ملاحظة الخاتمين في أصابع زوجي ،ولهذا سأخلعهما الآن . وبسرعة خلعت " بهكوتى "الخاتمين من أصابع زوجها ووضعتهما في الخزينة ، وبعدها حلت شعرها ، ورفعت يديها إلى أعلى وأطلقت صرخة مدوية ، وضربت صدرها بقوة ، وأخذت تندب زوجها وتنوح عليه ، وعلى الفور فُتحت أبواب الشقق المجاورة ، وهرعت النساء والرجال منها إلى شقة " بهاركو " ، ولما رأت " بهكوتى " أن عددا لا بأس به من الرجال والنساء قد تجمع في الشقة جرت أمام الجميع باكية منتحبة إلي شرفة شقتها محاولة الانتحار، وبالطبع أحاط بها الموجودون ومنعوها من الانتحار .
إن مناسبات الأفراح والمآتم في " بومباي " لا تستغرق سوى ساعات قليلة ، فقد كست وجوه الناس مسحة من الحزن والدهشة والعجب لدقائق ، بعدها تدفق الناس لفترة على الشقة لتقديم واجب العزاء،بينما كانت " بهكوتى " تجلس علي البلاط " الموزايكو " الفاخر نصف ممددة وهي تنوح وتندب ، قام الحاضرون بوضع جثة " بهاركو " ممددة علي البلاط ،وألقوا عليها مفرشاً كبيراً ثم غادروا المكان وهم يتمتمون بكلمات تعبر عن الحزن والألم والأسف ، كان الظن ، بل المؤكد أن أقارب " بهكوتي " وأقارب " بهاركو " سيصلون إلى المكان بعد عدة ساعات ، وسوف يقومون بما يلزم لإيصال الجثة إلي مثواها الأخير ، وبناءً علي هذا اليقين غادر الناس المكان عائدين إلي شققهم ، وماذا كان في استطاعتهم أن يفعلوه غير هذا ، إن حياة الشقق هكذا ، لا علاقة لأحد بأحد ، ثم إن هذه ضاحية جديدة ، لا يعرف فيها أحد أحداً ، ولهذا لا يفعل أحد شيئا سوى تقديم المواساة الشكلية .
ومع ذلك فقد أصاب البعض القلق حقيقة ومنهم أنا ، لأن جثة " بهاركو" في الحجرة التي تقع فوق حجرة الطعام في شقتي مباشرة ، وكنت أشعر عندما أتناول الطعام في هذه الحجرة وكأنني آكل وأنا أحمل فوق كتفي جثة ، لكنني كنت قلقاً لسبب آخر أيضا ، وهو أنني انتقلت إلي " بومباي " حديثا ، وإلا فإن كل شئ ممكن في حياة الشقق في " بومباي " ، فقد كان حمام الشقة المجاورة للشقة التي تقع فوق شقتي يقع فوق حجرة نومي مباشرة ، وكثيراً ما كنت استيقظ من نومي علي صوت " السيفون " المفاجئ في الشقة العلوية فأشعر عندها وكأن أحداً يقضي حاجته فوق رأسي ، وبالطبع لا يحق لي أن أشكو من هذا الأمر ، ذلك لأن حمامي لا بد أنه يقع هو الآخر فوق حجرة نوم أحد آخر ، ولهذا ينبغي أن أكون معتاداً علي هذه الأمور ، أما الآن فإن هناك جثة ترقد فوق حجرة طعامي ، فليكن ، وأنا مالي ، سيأتي أقارب " بهاركو " ويقومون باللازم تجاهها ، وإلي أن يحضر هؤلاء لماذا لا أفتح الثلاجة وأتناول حبتي " مانجو " باردتين ، إنني أشعر بجوع شديد ، وقد لاحظت أنني كلما سمعت بخبر موت أحد شعرت بجوع شديد ، ربما يدل هذا علي رغبتي في البقاء حياً ، تلك الرغبة التي تظهر في شكل الإحساس بالجوع الشديد ، ربما ، علي أية حال تأملت كثيراً وأنا آكل " المانجو " في عادتي هذه.
وممن أصابهم القلق غيري الصيدلي " مكن بهائي " ، وذلك لأن باب شقته كان في مقابل باب شقة " بهاركو " تماماً ، وطبعاً الباب مفتوح دائماً للدخول والخروج ، وكانت زوجته وأطفاله يستطيعون رؤية جثة " بهاركو " وهي ممددة علي أرضية حجرة السفرة علي بعد خطوات قليلة منهم ، واتفق أن انحدر الرداء قليلاً عن جثة " بهاركو" فانكشف شعر ه الأشعث، وشحمة إحدى أذنيه ، فخيمت علي أطفاله سكتة عجيبة لرؤية هذا المنظر ، كما أصابت زوجته نوبة من القيء ، فالجثة تمثل تذكيراً مستمراً للموت ، ومن ذلك الذي يحب هذا التذكير الدائم به ، لهذا كلما تم التخلص من الجثة سريعاً كلما كان ذلك أفضل .
وفي حوالي الساعة السابعة مساءً حضر أحد أخوال " بهكوتي " ، كان خالها هذا بوجهه المصفر يشبه حبة الجوافة ، وكان هو الآخر مريضاً بالقلب ، فلم يستطع البقاء كثيراً عند الجثة ، ولهذا قدّم واجب العزاء لـ " بهكوتي" ثم أخذ منها عناوين أولادها ، ووعد بأن يرسل إليهم تلغرافياً ، ويتصل بأقارب " بهاركو" في " أحمد آباد " ، ثم ترك أحد رجاله عند " بهكوتي " ، وغادر المكان عائداً إلي حيث جاء ، واعتقدنا نحن أنه ذهب ليتدبر أمر تكفين الميت وتجهيزه ، ولكن عندما دقت الساعة العاشرة ليلاً ولم يعد خال " بهكوتي " هذا ثانية ، سألنا عنه الرجل الذي تركه في الشقة ، والذي كان يجلس بالقرب من الجثة ، فهز رأسه في أسف قائلاً : لا أعرف شيئاً عن أمر الميت ، لقد أجلسني العمدة هنا قائلاً : إنني سأجلس هكذا الليل بطوله ، حتى إذا جاء أحد أقارب المتوفى كشفت له عن وجهه ليراه ، ثم أعيد تغطيته ثانية ، وقد أعطاني مقابل هذا عشرة روبيات ، وسوف أذهب من هنا في السادسة صباحاً .
سأله السيد "مكن" : وهل ستبقي الجثة هكذا في العمارة طول الليل ؟ . فأجاب الرجل بغضب : لا أعرف ، وهل أنا من أقارب الميت ؟ إنني أتقاضي عن الليلة الواحدة عشرة روبيات ، وفي المقابل من يأتي للعزاء أريه وجه الميت ، إذا كنت تريد رؤيته فتفضل ، ولا داعي للكلام الفارغ .
وذهب الرجل في السادسة صباحاً ، وقد حاولنا كثيراً إبقاءه ، لكنه لم يوافق ، سألناه عن عنوان خال " بهكوتي " فلم يعطنا إياه ، وقال : لا أعرف ، لقد اتصل العمدة في الدكان وطلبني ، وعليّ أن أذهب الآن . سألته : تذهب إلي أين ؟ . قال : إلي ميت آخر!! .
علي أية حال مضي الليل كيفما اتفق ، ولكن من الصعب جداً أن يمضي النهار أيضاً هكذا ، فالجو صيف ، وإذا لم يتم التصرف بسرعة في موضوع الجثة هذا فسوف تتعفن ، ولهذا عندما دقت الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ، ولم يأتي أحد من أقارب " بهكوتي " أو " بهاركو " لتدبر أمر الميت ، سرى القلق إلي نفوسنا جميعاً ، وتجمع سكان العمارة أمام شقة " بهاركو " .
قالت " بهكوتي " : إن خالها لم يعد منذ الليل ، فأخذنا منها رقم تليفونه واتصلنا به ، فعرفنا أنه متوعك قليلاً ، وأنه لن يستطيع الحضور ، كما أن ولدي " بهكوتي " اللذان يعيشان في إنجلترا لن يستطيعا الحضور كذلك ، وليس هناك أمل في حضور أحد من أقارب الزوج من " احمد آباد " ، فقد كان بينهم خلاف حول أمور مادية كما قالت " بهكوتي " .
في هذا الصباح اكتشف سكان العمارة أن عليهم أن يتدبروا أمر هذا الميت بأنفسهم ، ورغم أن السكان كانوا في حالة من القلق من البداية ، إلا أن موجة من الاطمئنان سرت بينهم فجأة ، وترك كل منهم عمله وانهمك في الإعداد لأمر الميت ، فالمسكينة " بهكوتي " امرأة ، لا تعرف شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن يسألها عن شيء ، فلقد فقدت زوجها ، وتورمت عيناها من البكاء طيلة النهار حتى احمرت كجمرتين من نار ، ولهذا تم تشكيل لجنة لإتمام هذا العمل ، واختاروني أنا سكرتيراً لها ، وتم اختيار " شرف الدين بوهره " أغني رجل في العمارة مسئولاً مالياً للجنة ، هذا بالإضافة إلي ثلاثة رجال آخرين لمعاونتنا وهم البانديت " ديارام براشر " ، وهو برهمي عجوز ذو خبرة في هذا المجال ، وقد تولي أمر عشرات الحالات مثل حالتنا هذه حتى الآن ، و " المهاشا بهولا ناتهـ " باعتبار أنه في بيته تليفوناً ، والصيدلي " مكن بهاي " باعتبار أنه أكثرُنا رغبة في الخلاص من موضوع الجثة هذا نظراً لوقوع شقته أمام شقة " بهاركو" تماماً ، أما أنا فقد اختاروني سكرتيراً لأنني كثيراً ما يتم اختياري سكرتيراً في كل لجنة ، ولأنني أمتلك ابتسامة عطوفة ترتسم دائماً علي وجهي ، ويستطيع كل عضو في أي لجنة أن يستنتج منها ما يناسبه هو ، ومن الضروري للسكرتير الناجح أن تكون لديه المقدرة علي الابتسام مثل " الموناليزا " .
لكني في موضوع تجهيز الموتى هذا لا أفقه شيئاً ، ولهذا أخبرني البانديت " ديا رام براشر " أن علينا أولاً الرجوع إلي أحد الأطباء لاستخراج شهادة طبية منه ، وإلا لن نستطيع إحراق الجثة (1) .
سألت " بهكوتي " مراراً عن الطبيب الذي كان " بهاركو " يعالج عنده ، لكن المسكينة كانت مستغرقة في العويل والبكاء فلم تستطع أن تخبرني بشيء يمكن الاعتماد عليه ، ولم أعرف منها سوي أن المرحوم كان قد ترك العلاج قبل وفاته بعدة أيام ، وقبل ذلك كان يعالج عند الدكتور " شاباني " .
ركبنا سيارة " شرف الدين بوهره " ، واتجهنا إلي عيادة الدكتور " شاباني " الذي ما أن سمع اسم " بهاركو " حتى ثار غاضباً ، وقال : لن أصدر شهادة طبية له أبداً ، إنه لم يسدد لي فاتورة علاج ثلاثة أشهر ، مائتين وخمسين روبية .
حاول السيد " شرف الدين بوهره " طمأنته قائلاً: ستأخذ فلوسك كاملة ، كان المرحوم رجلاً غنياً ، الآن سنأخذ الفلوس من زوجة المرحوم ، يعني أرملته ، وسنعطيك إياها .
· أولاً فلوس الثلاثة أشهر أولاً ثم نتكلم في موضوع الشهادة الطبية .
ورجعنا في السيارة ، ودخلت إلي السيدة " بهكوتي " ، واستفسرت منها عن الموضوع ، فأخذت المسكينة تئن باكية وتقول : آه ، إني أرملة فقيرة ، ومع ذلك فإن الناس يريدون سرقتي ، أنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر ، ويا ويلتي ، لقد تحطمت حياتي ، ومع ذلك فإن الناس يطلبون مني فلوساً .
وظلت لنصف ساعة هكذا منحنية علي أرضية الحجرة تولول وتنوح ، لكنها لم تخرج مليماً واحداً من الخزينة ، فاضطر سكان العمارة إلي دفع مساهمات من جيوبهم ، ودفعوا مستحقات الدكتور " شاباني " ، ثم اصطحبوه معهم إلي شقة " بهاركو " حيث عاين الجثة ثم قال : لا شك أن المرحوم مات بالسكتة القلبية ، وسأكتب شهادة طبية بهذا .
سعدت كثيراً لهذا ، وكاد "مكن بهائي " يطير فرحاً ، لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " عبس بوجهه قائلاً : هذه الشهادة لن تنفع . فقال له البانديت " ديا رام براشر " : لماذا لن تنفع ؟!.
وقد عرفت فيما بعد أن البانديت " ديا رام براشر " هندوسي " محافظ " ، والمهاشا " بهولا ناتهـ " ينتمي إلي طائفة " آرية سماج " ، وبينهما خلاف دائم ، لكنه غير معلن .
قال المهاشا " بهولا ناتهـ " : عندنا هنا في بومباي إذا كتب في الشهادة سكتة قلبية فإنهم لا يسمحون بإحراق الجثة قبل إحالتها إلي الطب الشرعي لتشريحها . فقال البانديت " ديا رام براشر " في دهشة : لكن ليس عندنا مثل هذا في " سركودها " . ردّ عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " قائلاً : هذه ليست " سركودها " ، هذه " بومباي " . فقال " شرف الدين بوهره " : كلامك صحيح يا سيد مهاشا ، كلامك صحيح ، هذا هو قانون " بومباي " . عندئذٍ قال الدكتور " شاباني " : هذا يعني أن عليّ أن أكتب شهادة مزورة . فسألته : لماذا مزورة ، لقد مات " بهاركو " ، وجثته أمامك . فقال الدكتور " شاباني " : ولكن هكذا سيكون عليّ أن أكتب شيئاً غير صحيحاً حتى لا تحال الجثة إلي الطبيب الشرعي . فقال السيد "مكن بهائي " : هذا صحيح . عندئذٍ صرح الدكتور" شاباني " بقوله : إذاً سيكون لهذا رسوم أخرى،خمس عشرة روبية .
دخلت إلي السيدة " بهكوتي " وطلبت منها خمس عشرة روبية ، ولكنها لم تفتح فمها ، وإنما ظلّت تئن وتشهق وتبكي ، وبالطبع لم تعطني الخمس عشرة روبية ، فدفعتها من جيبي حتى كتب الدكتور" شاباني " الشهادة الطبية ، وعندئذٍ سألني المهاشا " بهولا ناتهـ " : أين ستحرق الجثة . قلت : في المحرقة !!. قال متسائلاً : أعرف أنه في المحرقة ، ولكن أية محرقة ، إن أفضل محرقة هي التي تقع في شارع " ميرين درايف " ، وكبراء المدينة وأغنياؤها يحرقون موتاهم هناك ، فماذا تنوي " بهكوتي " أن تفعل ؟!
وعندما سألنا " بهكوتي " في هذا الأمر لم تزد علي أن رفعت صوتها بالبكاء ، ثم قالت : آه ، إذا كانت حياتي قد تحطمت فما الفرق بين الأحسن والأسوأ ، احرقوه أينما تريدون ، وإن استطعتم احرقوني أنا أيضاً معه .
واتصل المهاشا " بهولا ناتهـ " بمحرقة " ميرين درايف " فعرف أن المحرقة مكتملة العدد ، وأنها محجوزة لحرق جثث أخرى حتى الليل ، وليس بها مكان واحد خال ، وبالتالي لم يكن أمامنا إلا الذهاب إلي محرقة " سانتا كروز " ، فركبنا سيارة " شرف الدين بوهره " واتجهنا إليها ، وهناك علمنا أن محرقة " سانتا كروز " هي الأخرى مكتملة ، وليس بها مكان واحد خال . عندئذٍ قال " شرف الدين بوهره " في ملل شديد : أنتم أيضاً أيها الهندوس لديكم أشياء عجيبة . كان كل أعضاء اللجنة من الهندوس ما عدا " شرف الدين بوهره " هذا ، ولهذا غضبوا بشدة مما قاله ، لكنهم تمالكوا أنفسهم نظراً لأننا نجلس في سيارته .
وعدنا من محرقة "سانتا كروز" إلي محرقة " باندره " التي تقع في محيط محطة السكة الحديد ، وكان علينا لكي نصل إليها أن نعبر في طريقنا " مزلقانين " لا يفتح القائمون عليهما أبوابهما إلا برغبتهم ، وغالباً ما تبقي هذه الأبواب مغلقة ، ولهذا استغرقت المسافة من محرقة " سانتا كروز " إلي محرقة " بانده " حوالي الساعة ، وبصعوبة شديدة وافق المحرقجي علي قبول جثتنا ، حيث قال في البداية: المحرقة مزدحمة جداً اليوم . فرجوته قائلاً : أرجو أن تقبل جثتنا بأي شكل من الأشكال ، فإنها تتعفن منذ الليل . قال المحرقجي وهو ينظر إليّ بنظرات ذات معنى : أين المكان الذي أضع فيه جثتكم ، ألا تري .
عندئذٍ أخذه البانديت " ديا رام براشر " في جانب بعيداً ، وظل يحدثه في صوت خافت لعدة دقائق حتى وافق في النهاية ، ثم عادا إلينا ، وكان وجه البانديت " ديا رام براشر " يتهلل فرحاً بنجاحه في إقناع المحرقجي فقال : انتهي الأمر .
هزّ المحرقجي رأسه قائلاً : هاتوا جثتكم ، ولكن بعد ساعتين مفهوم ، إذا جئتم بها قبل ذلك فلن أسمح بدخولها أبداً .
وعندما انتهينا من هذا الاتفاق جلسنا في سيارة " شرف الدين بوهره " . قال لنا البانديت " ديا رام براشر " إن المحرقجي سيرسل النقالة الخاصة بالمحرقة لحمل الجثة إليها،فسألته: كيف هذه النقالة .
· نقالة ، لها أربع عجلات ، يحملون عليها الموتى .
سألته : إننا نحمل الموتى علي أكتافنا ،أليس كذلك ؟ !
عندئذٍ قال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو ينظر إلي البانديت " ديا رام براشر " في تفاخر : ربما كان هذا في" سركودها " ، ولكن ليس في " بومباي " .
اغتاظ البانديت " ديا رام براشر " فقال : ما أعجب مدينتكم " بومباي " هذه ،فلا طقوس دينية صحيحة،ولا احترام للبشر ، حتى المحرقجي لم يوافق علي إرسال النقالة إلا بعد أن أخذ أربع روبيات رشوة .
تغير وجه المهاشا " بهولا ناتهـ " مما سمع ، فكأن البانديت " ديا رام براشر " بإعطائه المحرقجي أربع روبيات صفعه علي وجهه ، ولكنه لابد أن ينتقم لنفسه ، ولهذا انتظر قليلاً .
وعدنا جميعاً إلي العمارة ، كانت الساعة عندئذٍ تدق الواحدة ظهراً ، وقد فاحت رائحة الجثة في العمارة كلها كأنها رائحة السمك مما أزعج السكان جميعاً من رجال ونساء وأطفال ، فخرجوا من شققهم ، ووقفوا مجموعات حول العمارة في قلق بالغ ، وما أن وصلت سيارتنا إلي العمارة حتى هرع الجميع إليها ينظرون إلينا بنظرات مستوحشة قائلين:
· ماذا حدث ؟ .
· متي سيغادر المتوفى المكان ؟ .
· إن بطنه تنتفخ .
· أمر عجيب يا أخي ،أنا أعرف أنه حين لا يأتي أحد من أقارب المتوفى فإننا ببساطة ينبغي أن نتصل بالبوليس ونسلمه إليهم .
· ليس البوليس ، وإنما البلدية هي التي يجب أن تتسلمه ، شيء عجيب ، واحد يموت ، ويتعذب الآخرون .
كان الجميع في حيرة واضطرب ، ويلوحون بأيدهم وهم يتحدثون ، كان يبدو أنهم في غضب شديد ، ولكن حين أخبرناهم بحجز المحرقة ، وتدبير أمر إحراق الجثة تنفسوا الصعداء .
قال البانديت " ديا رام براشر " : وإلي أن تصل النقالة علينا أن نجهز باقي الأشياء المطلوبة . سألته باضطراب : وماذا بقي الآن ، عندما تصل النقالة نضع الميت عليها ونأخذه إلي المحرقة ونحرقه . نظر إليّ المهاشا " بهولا ناتهـ" مبتسماً كأنه يضحك من حماقة طفل صغير ، وقال بأسلوب متعاطف : يا بني ، أين نحن من موضوع الحرق هذا ، لقد بقي الكثير علي موضوع الإحراق هذا . ثم قال البانديت " ديا رام براشر " مضيفاً إلي معلوماتي بحب شديد : أولاً ستأتي الورود من أجل الجنازة .
وقال المهاشا " بهولا ناتهـ " وهو يغيظني : ثم نأتي بالزيوت من أجل الحرق .
ثم قال البانديت " براشر " وهو يضع يده كتفي : نحتاج إلي الورود ، والحلوى الخاصة بهذا الأمر ، واللوز ، والبلح المجفف ، وبعض الفلوس .
· لماذا كل هذا ، ولماذا النقود .
· عندما تسير الجنازة سننثر عليها بعض النقود .
· ونحتاج إلي قلة من الفخار ، حيث ستكسر أمام المحرقة .
قلت لهم : ومن أين آتي بنقود لكل هذه الأشياء ، لقد أسهمت كل شقة بمبلغ عشر روبيات . حدق الجميع في وجهي بنظرة متوعدة ، وكأن لسان حالهم يقول بأسلوب يملؤه الأمل : لقد جمعت النقود منا مرة ، حاول ثانية وستري .
فقلت لا بأس سأتدبر الأمر ، وأخذت نفساً عميقاً ، ثم دخلت شقة " بهاركو " كانت هناك رائحة نتنة بالداخل ، وكانت الجثة ملقاة علي أرضية حجرة الجلوس وحدها ، بينما أحاطت النسوة بزوجة " بهاركو " في الحجرة محاولين إقناعها بأن تشرب اللبن ، وكانت هي ترفض شاهقة : لا ، لن أشرب ، سأموت ، ولكن لن أشرب اللبن ، لن أشربه أبداً .
فقالت العمة " كوهالويف " لزوجة البانديت " ديا رام براشر " : المسكينة لم يدخل جوفها شيء منذ الأمس .
وهكذا أمسكت السيدتان بساقي المسكينة " بهكوتي " ، وأمسكت أخرى بذراعها ، ورابعة بالذراع الآخر ، ثم تقدمت خامسة ووضعت كوب اللبن علي فم " بهكوتي " ، كانت المسكينة تقول : لا ، لا ، وفي نفس الوقت تشرب اللبن ، وأفرغت في جوفها كوباً يزن ما يقرب من الكيلو ، كوباً من أكواب " اللسي " (2) البنجابي ، أفرغته في لحظات .
وحين دخلت عليهن ، وذكرت لهن الأشياء المطلوبة التي ينبغي أن نشتريها من السوق والتي نحتاج إلي نقود إلي شرائها أخذت " بهكوتي" تبكي بشدة وهي تقول : آه ، لقد ضعت ، تحطمت حياتي ، ليس لي أحد هنا ، لو كان أولادي هنا لتدبروا الأمر ، أين اذهب أنا الآن ، ممن اطلب نقوداً ، لماذا لم يأخذني معه هذا الذي مات .
أحنيت رأسي وخرجت من الشقة ، ورآني في هذه الحالة من الحزن رجل جاء علي ما أظن من عمارة أخرى بغرض تقديم واجب العزاء ، فتقدم مني وقد أرخي شفتيه حزناً ، وعقد بين يديه ، محاولاً استحضار حشرجة في صوته ودمعة في عينيه وقال : حزنت كثيراً لوفاة أبيك .
نهرته قائلاً : إنه ليس أبي أيها التعس ، إنه التعس " بهاركو " الذي خرب حياتي بمشاجراته وصراخه المستمر طالما كان حياً ، كان صوته كصوت من انحشر في حلقه طعام جاف ، فهمت ؟! هذا التعس لم يتركني في حالي بعد وفاته أيضاً .
وأخذت أشد شعر رأسي من شدة غضبي وثورتي ، عندئذٍ خجل الرجل وتركني ، وفي تلك الأثناء جاء " شرف الدين بوهره " وقال : لقد أسهم سكان العمارة بخمس روبيات أخرى لكل شقة ، والآن يقوم البانديت " ديا رام براشر " والمهاشا " بهولا ناتهـ " بتجهيز الأشياء الباقية ، لماذا تبدو مضطرباً هكذا .
وحتى الساعة الثالثة ظهراً كان كل شيء جاهزاً ، وصلت النقالة ذات الأربع عجلات المطاطية ، ووصلت الورود للجنازة ، ولكن نسي الجميع بعض أعواد الخيزران التي نحتاجها لتزيين الجنازة ، وعلي وجه السرعة استقل الصيدلي " مكن بهائي " سيارته وأحضر أعواد الخيزران التي ثبتناها حول النقالة من الجوانب الأربعة ، وبعد ذلك احتجنا إلي صمغ لتثبيت الورق الملون علي أعواد الخيزران ، وحين وجدنا الصمغ لم يتذكر أحد أننا نحتاج إلي حبال لتثبيت الجثة علي النقالة ، وبالفعل حدثت ربكة كبيرة ، ولكن أفضل شيء الآن هو أن كل فرد من سكان العمارة كان مكلفاً بالقيام بعمل ما ، هذا بالإضافة إلي أعضاء اللجنة طبعاً ، كل فرد يعمل بحماس شديد وبسرعة فائقة ، ولو أن الجميع عملوا بمثل هذا الإخلاص والحب في تنفيذ الخطط القومية للدولة لاكتملت أية خطة خمسية وتحققت في سنة واحدة بدلاً من خمسة . لقد كنا جميعاً في مشكلة عجيبة ، فالوقت يمر بسرعة ، والميت ينتفخ ، لهذا غسّلناه باحتياط شديد ، ربما لم يحظ أي " أمير مغولي " بغسل كهذا ، لأننا كنا خائفين للغاية من أن تنفجر بطن الميت والتي لم تتوقف عن الانتفاخ ، وحين غسلنا الميت وبدأنا نخرج به من الشقة أطلقت " بهكوتي " صرخة مدوية ، وأخذت تهدد " بهاركو " أنها ستحرق نفسها معه (3) إن خرج من هنا ، وبالطبع لم يتأثر الميت بشيء . كانت أكثر النساء يبكين بغير دموع ، أما اللاتي كانت في عيونهن دموع فإنها كانت بسبب الرائحة النتنة .
حمل رجلان الميت من ناحية الرأس ، ورجلان من ناحية القدمين ، ورجلان من الوسط وبدأنا نخرج من الشقة خطوة خطوة ، وعندئذٍ قال البانديت " ديا رام براشر " : اخرجوا الجثة من ناحية الرأس أولاً .
فرد عليه المهاشا " بهولا ناتهـ " : كلا من ناحية القدمين .
فقال البانديت : إن الميت يخرج من البيت دائماً باتجاه الرأس .
لكن المهاشا " بهولا ناتهـ " قال في غلظة : خطأ، بالتأكيد خطأ ، الأقدام أولاً ، ثم استشهد البانديت " ديا رام براشر " بجملة من كتاب " شاستر " المقدس قائلاً : روح الرجل تكون في رأسه.
فقال المهاشا " بهولا ناتهـ " : لكنه سيضطر للمشي علي قدميه حتى يصل إلي الجنة . صرخ البانديت " ديا رام براشر "في وجه المهاشا قائلاً :هل تعلمني أنت ،لقد أصبح عمري خمسة وسبعون عاماً. وكم أحرقت جثثاً من مشارب مختلفة ومن كل مكان ،أقصد من أماكن مختلفة ، فماذا يمكن أن تعلمني أنت ، إنني أقول إن الميت سيخرج من هذا البيت برأسه ، يعني سيخرج برأسه. وعليه ضرب المهاشا " بهولا ناتهـ " يداً بيد وقال : كلا ،سيخرج من ناحية قدميه !!! .
عندئذٍ تدخل "شرف الدين بوهره" قائلاً :لماذا تتشاجران ،لنقترع علي هذا الأمر،وبعد بحث وجدال شديدين تقرر أن يخرج الميت من حجرة الجلوس بقدميه أولاً،ولكنه سيخرج من الطرقة إلي سلالم العمارة من ناحية رأسه،وبهذه الطريقة يسهل النزول به علي السلالم،ورضي الفريقان بهذا الاتفاق وخرج الميت من الشقة حتى وصل إلي السلالم ،لكن كانت هناك صعوبة شديدة في نزول السلالم،لأن سلالم عمارات بومباي لم تشيد للأموات،وإنما للأحياء فقط،ولا يستطيع أن يصعدها أو ينزل عليها سوي فرد واحد في آن واحد،بينما يحمل ستة رجال ميتنا هذا،اثنان من ناحية الرأس ،واثنان من ناحية القدمين ،واثنان من الوسط، بينما لا تسع السلالم إلا فرداً واحداً، وبشرط أن يكون حياً يمشي علي قدمين، ماذا نفعل الآن ؟.
قال السيد "برشاد ": هذه مشكلة كبيرة،أظن أن حكاية الجنازة هذه أصبحت موضة قديمة، ولهذا ينبغي الآن أن نفصل رأس الميت ورجليه وذراعيه عن جسده،ونضعها في جوال،ثم نلقي بها في البحر،هذه أكثر الطرق علمية.
قلت له: هناك كثير من الناس في بومباي يفعلون هذا،ولكن لهم اسم خاص بهم
· ما هو ؟.
· القتلة !.
لاذ السيد "برشاد" الطيار بالصمت بعدما سمع ردي هذا،وبطريقة أو بأخرى نزلنا بالجثة إلي أسفل العمارة،وثبتناها علي النقالة،وغطيناها برداء من حرير وزينا الجنازة بالورود،وأخذنا نتقدم بالنقالة سريعاً إلي الشارع مُشيعين الجنازة قائلين:في حفظ الإله ، إذ كان الجو حاراً ، وليس لدينا مزيد من النقود لنثرها فوق الجنازة ،وما كان معنا من النقود بالفعل نثرناها بمليء راحتينا من حين لآخر علي الجنازة في الطريق،وتجمع عدد كبير من الصبية حول الجنازة لجمع النقود ، فتزاحم كل عشر صبية تقريباً علي شلن واحد ، وجرح عدد كبير منهم ، أما الذي ثبت وكافح فقد استطاع حتى منتصف الطريق الحصول علي ما يكفيه لدخول السينما ومشاهدة فلم " المتوحش " لشمي كا بور .
وفي الطريق كان أحد المزلقانات مغلقاً ، واضطررنا إلي التوقف والانتظار حوالي ربع الساعة حتى تم فتح بوابة المزلقان بعد أن عمرّنا جيب حارس المزلقان ، وتقدمت الجنازة حتى وصلت أمام المحرقة ، وهناك توقفنا وأحضرنا القلة الجديدة المليئة بالماء،فنثرنا الماء حول الجنازة من الجهات الأربع ، ثم كسرنا القلة ، ودفعنا بالنقالة إلي داخل المحرقة .
كان في المحرقة مكان لحرق ست جثث ، ستة حفر نارية كبيرة بحجم الإنسان يحيط بكل منها سور حديدي ، وتحتها قاعدة من الحديد والمسلح ، حتى لا تتناثر الأخشاب هنا وهناك أثناء عملية الإحراق ، وحتى يمكن إحراق الجثة بأقل قدر من الخشب .
سأل المهاشا " بهولا ناتهـ" المحرقجي : كم نحتاج من الأخشاب لحرق الجثة؟ .
عاين " المحرقجي " الجثة ، وقال في لهجة شاكية: إنه بدين للغاية.
ولأن الصيدلي " مكن بهائي " كان بديناً هو الآخر،لهذا صرخ فيه قائلاً :ماذا تقصد؟
فقال " المحرقجي " بهدوء وملل: أقصد أن المتوفى بدين للغاية،إن الميت العادي يحترق بكومة واحدة من الخشب، لكن هذا الميت لن يحترق بكومة واحدة.
سألته: كم وزن كومة الخشب الواحدة.
قال " المحرقجي " :أربعمائة كيلو .
سأله السيد "براشر ": كم ثمن كومة الخشب .
اثنتان وثلاثون روبية
وضع السيد "براشر " يديه أذنيه علي قائلاً: يا إلهي، في سركودها تكفي سبع روبيات لحرق الميت.
وعندئذٍ قال المهاشا "بهولا ناتهـ " بتفاخر للسيد " براشر " : ألم أقل لك إن هذه ليست سركودها ، هذه بومباي . تضايق " براشر " ، فجلس في ظل شجرة ، وكانت أعداد كبيرة من النسور تجلس علي أغصانها ، ولا تزال الجثة خارج عيون المحرقة.
قلت له بصوت خافت : النقود التي معي تكاد تكفي بصعوبة لشراء كومة واحدة من الخشب .
فردّ علي المهاشا "بهولا ناتهـ " قائلاً : كومة واحدة تكفي .
عندئذٍ قال" المحرقجي " بضيق : كما تحب ، سنضع الميت في كومة واحدة ونشعل فيه النار ، فإذا احترق نصفه ، ولم يحترق كاملاً فسنتركه كما هو.
سألته بتعجب : كيف سنتركه كما هو؟
· وماذا أفعل ، منذ يومين فقط جاءت عجوز فقيرة ومعها ميتها ، أشعلنا فيه النار ، فاحترق نصفه ، ثم هطلت الأمطار فانطفأت النيران ، وبقيت الجثة نصفها محترق ، والنصف الآخر غير محترق ، ولم يكن لدي العجوز نقود ، أخذت المسكينة تدور هنا وهناك إلي أن جاء رجل طيب القلب مع ميته عند الليل ، فدفع نقوداً للعجوز حتى يمكن إحراق ميتها أيضاً ، وميتكم هذا بدين جداً.
عندئذٍ قال له " شرف الدين بوهره " منهياً هذا النقاش الحاد : يعني أنت تريد ثمن كومتين ، خذ ثمن كومتين ، ولكن تضمن لنا أن الميت سيحترق تماماً .
فقال " المحرقجي " وهو يجهز ميزان الأخشاب : كيف يا سيدي ، بكومتين من الأخشاب سيحترق هذا الميت احتراقاً يجعل عظامه كمثل الكحل.
وفي تمام السادسة مساءاً عندما عدنا من المحرقة منهكين خائري القوى ،أخبرتنا نساء العمارة أنه بعد ثلاثة أيام سيعقد ما يسمي باليوم الرابع للميت ،وهو أيضاً يكلف مالاً كثيراً .
وما أن سمعت هذا الخبر حتى قدمت استقالة علي الفور من سكرتارية لجنة الموتى هذه .

هوامش
1 - الميت هندوسي ، والهندوس يحرقون موتاهم في طقوس معينة .
2 - اللسي هو المشروب الوطني لأهل البنجاب في باكستان والهند ، ويصنع من اللبن الرايب بضربه بطريقة معينة ، ثم يضاف إليه الملح أو السكر حسب الرغبة ، ويصب بعد ذلك في أكواب كبيرة الحجم . ويكثر تناول اللسي في الصيف نظراً لأنه مرطب وملطف للجسم .
3 - طبقاً لعادة الـ " ستي " ، وهي أن تحرق المرأة الهندوسية نفسها مع زوجها إذا مات عنها ولم يترك لها ولداً ، وهي عادة قديمة ، وربما تكون قد انتهت الآن .